خَسارةُ العالَـمِ بانحِسارِ السَّلَفيَّة
الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي
13 من ربيع الأول 1437هـ
كانت القُرونُ الثَّلاثةُ الأُوَلُ بعد هجرةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، هي عصرَ سِيادةِ عقيدةِ السَّلفِ -رِضوانُ اللهِ عليهم- وفِقهِهم، وفيما بعدَها بدأتْ مَذاهِبُ البِدعة ترتفِعُ مِن هنا وهناك، حتى جاء القرنُ الخامسُ الهِجريُّ، حيثُ بدأتِ الدولةُ السلجوقيَّةُ في عهدِ آخِرِ مُلوكها الأقوياءِ ألْب أرسلان، وابنِه ملِك شاه، ووزيرِهما نِظام المُلك [ت ٤٨٥]؛ ففي ذلك العصرِ كانت عنايةُ الدولةِ عظيمةً بالعلومِ الشرعيَّةِ، فأُنشِئت المدارسُ في جميعِ أنحاءِ الدولةِ المنتشرةِ مِن الصِّينِ شرقًا، وحتى فِلَسطين غربًا، إلَّا أنَّ هذه النهضةَ العِلميَّةَ صاحَبَها انحِسارٌ لِعقيدةِ السَّلَف؛ حيثُ ظهرَتِ البِدعةُ في عددٍ من القضايا المهمَّة؛ كصفاتِ اللهِ تعالى، والقَضاءِ والقَدَر، وتوحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ في عبادَتِه؛ فقد كان الوزيرُ نِظام المُلك -رحمه اللهُ- على فَضلِه وعِلْمِه أشعريًّا متعصِّبًا، فكان أنْ أدَّى فرْضُه المَذهبَ الأشعريَّ في المدارسِ، وقَصْرُ وظيفةِ التَّدريس فيها على الأشاعرةِ إلى أمرَيْنِ خَطيرَينِ:
الأوَّل: انحِسارُ عَقيدةِ السَّلَف، وانتِشارُ عَقيدةِ أهلِ الكلامِ مِنَ الأشاعرةِ والماتُريديَّة، واتِّخاذُهم مِن أهلِ السُّنَّة لَقبًا لِأنفُسِهم، وتَلقيبُ أتباعِ السَّلفِ بالحَشْويَّة.
الثاني: أنَّه ترتَّب على اعتِناقِ العُلماءِ لِلعقائدِ الأشعريَّة انفِتاحُ البابِ أمامَ الخُرافاتِ الصُّوفيَّة، وشِرْكيَّاتِ القُبوريِّينَ؛ لِتصِلَ إلى المَساجِد والخَلَوات، حتى كثُرَتِ الأضرحةُ وأصحابُ الطُّرُقِ والمُتدرْوِشَةُ، وضعُفَتِ الهَيبةُ مِن الابتداعِ في الدِّينِ، وتقلَّصَتْ مكانةُ أهل العِلمِ والعَقل والاتِّباع، وأصبح التقدُّمُ والتقديرُ للمنتسبينَ للخِرَق[جمع خِرْقَة]، والأحوالِ والخوارق، وكان ذلك خَسارةً عظيمةً، ليس مِن جِهةِ ضَعفِ الالتزام الصَّحيحِ بالعقائِد والسُّلوك الإسلاميِّ وحَسْبُ، بل تقلَّصتْ أيضًا علومُ الفَلَك والصِّناعاتِ والكيمياءِ والفيزياء ِوالطِّبِّ؛ إذ لم يَعُدِ المَشرقُ الإسلاميُّ في مِثل هذه العلومِ كما كان في القُرونِ الثلاثةِ وما أعقَبَها، حتى انحِسارِ السَّلفيَّةِ، أمَّا مِصرُ وبَرْقةُ وطَرابُلُسُ والقَيْرَوانُ وما حَولَها، فكان انحِسارُ مَذهبِ السَّلفِ فيها أسبَقَ، وغلبَةُ البِدعةِ فيها أعنَفَ؛ بسببِ خُضوعِها لِدولةِ بني ميمون القدَّاح، المعروفة بالفاطميَّة، التي كانتْ أيضًا العونَ لأوربَّا في إسقاط إمارةِ المُسلمينَ في صِقِلِّيَّةَ، وجَنوبِ إيطاليا، وجزيرة كِريتَ.
ولم يَتأخَّرْ كثيرًا بقاءُ قوَّةِ عُلوم الصناعات، وما شابهها مِنَ المَعارفِ في المَغربِ الإسلاميِّ، وأخُصُّ الأندَلُسَ؛ فقد أُكْرِه العُلماءُ على العَقيدة الأشعريَّة، وحاربتْ دولةُ الموحِّدين عقائدَ السَّلَفِ، وكانتْ أكثرَ توغُّلًا في مسالِكِ الخُرافةِ مِن دُوَلِ المَشرقِ.
ولم تَمْضِ سَنواتٌ بعدَ ارتفاعِ رايةِ البِدْعةِ إلا وقد نَجَم الخِلافُ بَيْنَ المُسلمين في أسوأِ صُوَرِه، وتقطَّعَتْ دولةُ السَّلاجقة قِدَدًا، وانْهار النَّاسُ، وأصبحوا مُضمَحلِّينَ في عقيدةِ الجَبْرِ؛ ما بَيْنَ قانطٍ مِن رَوْحِ اللهِ، وذاهبٍ في خُرافاتِ أصحابِ الطُّرُقِ، وذاهلٍ في أمرِ دُنياه، وهو الوضعُ الذي مَكَّن جَحافِلَ الصَّليبيِّين مِن أن تَقْدَمَ مِن وَسَط فرنسا وأُوربا، وتصِلَ مُنهَكَة في غايةِ ما يَكونُ مِن الإعياءِ؛ فلا تَكادُ تَتجاوزُ أسوارَ أنطاكِيةَ حتى تَتساقَطَ تَحتَ سَنابِكِ خُيولِهم مُدنُ سواحِلِ الشَّامِ مدينةً بعدَ مدينةٍ، حتى استَوْلَوْا على القُدس في ٢٢ من شعبانَ عام ٤٩٢هـ، أي بَعْدَ سبعةِ أعوامٍ مِن وفاةِ الوَزيرِ نِظام المُلك -رحِمه الله-، الذي كانتِ الدَّولةُ في عَهدِه قويَّةً مُتماسكةً مِن سواحلِ فلسطين، حتى ولايةُ كاشغار في الصين الحاليَّة، إلَّا أنَّ التفريطَ بعقيدةِ الأُمَّة من أجْلِ مصالحَ سِياسيَّةٍ، وإنْ تبادَرَ إلى الوهمِ أنها أنفَعُ للدَّولةِ؛ فإنَّ حَقيقةَ الأمرِ أنَّ سُنَّةَ اللهِ تعالى قد تَستَبقي المُتَاجِرَ بمنافِع الدُّنيا، لكنَّها لا تَستَبقي المُتاجِرين بالعقائِد، مهما عَظُمَ فَضلُهم، وحَسْبُنا بنظامِ المُلك، والسلطان ملك شاه، وأبيه ألْب أرسلان مَثلًا.
وبعد هذا الاستبعادِ لعقيدةِ السَّلف، وما حلَّ بسبَبِه مِن نكَباتٍ سياسيَّة وعسكريَّة واجتماعيَّة ودِينيَّة وأخلاقيَّة، ظلَّ العِلمُ الشرعيُّ مِن فِقهٍ وحديثٍ وأصولٍ معها قويًّا، بل مُشَرِّفًا، بسببِ المَدارسِ والأوقافِ التي أُنشِئَت له، إلَّا أنَّ الانحرافَ في العقائدِ والسُّلوكِ ظلَّ يَزدادُ يومًا بعدَ يومٍ، وللأسفِ فقد حصَلَتْ فُرصٌ قويَّة جدًّا للإصلاحِ، لكنَّها لم تُستَثمَرْ، ومن ذلك عهدُ السلطان عِماد الدِّين زنكي [ت ٥٤١] وعَهدُ السُّلطان صلاح الدِّين الأيوبي [ت ٥٨٩]؛ فقد ذهَب عصرُ الرَّجُلَيْنِ ولم يُكمِلا فيه إصلاحَهما العَقديَّ، فما حقَّقاه من عَودةٍ بالأُمَّة نَحوَ الجهادِ والانتصارِ على الصَّليبيِّين وإسقاطِ دولةِ الباطنيِّين في مصرَ، كان حريًّا أن يُستَكمَلَ، وتتمَّ العودةُ إلى كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُفارقةُ ما جنَحَت إليه الأُمَّة مِنَ البِدعة والخُرافة، إلَّا أنَّ ذلك لم يكُن! وكان مِن عواقِبِه اضْمِحلالُ سَلْطَنة السَّلاجقةِ والأيوبيِّينَ بأقلَّ مِن مِقدارِ عُمُرِ رَجُلٍ واحدٍ، لِيعقُبَه الشَّرُّ العظيم، والبلاءُ المُبينُ، وهو اجتياحُ المَغولِ لِبلاد المسلمين في سنواتٍ معدوداتٍ.
ولم تتمكَّنْ هذه الأُمَّةُ الغَريبةُ مِن شُعوبِ المسلمين بهذه السُّرعةِ العجيبةِ، لولا انحِسارُ عقيدةِ السَّلَف، وتشتُّتُ قُلوبِ النَّاسِ في المشارِب والأهواء، والاعتقاداتِ الباطلةِ في الأمواتِ، والتعلُّقُ بالصَّالحين مِن الأحياءِ، بدَعْوى وِلايَتِهم وامتلاكِهم قُدراتٍ خفيَّةً على النَّاس، وغير ذلك مِن مزاعِمِ التَّخلُّف والانحطاطِ، ومَن لم يكُن معه شيءٌ من هذه المزاعِم والتخبُّصات في العقائِد؛ فهو إمَّا عالِـمٌ مُنزَوٍ مُفارِقٌ لِمَا عند النَّاس، أو عامِّيٌّ سادرٌ في دُنياه، لا يَدخُلُ مع أحدٍ في صَخَبٍ في مِثْل هذه التُّرَّهاتِ، أو مُتهَتِّكٌ لا ينظُرُ إلى أهلِ التديُّن بعينِ رِضًا.
والقارئُ حين يبحثُ في مُدوَّناتِ تاريخ مصرَ والشَّامِ عن تلك الفترةِ، ويُفَتِّش فيما يمرُّ به مِن أسماءِ القادة والأمراء وكُتَّاب الدَّولة، ويبحثُ فيهم عن أهلِ الشَّامِ ومصرَ مثلًا، فلنْ يجِدَ إلَّا النَّزرَ اليسيرَ، أمَّا الأكثرونَ فهم مِن رجالِ الجنديَّة مِن المماليكِ والأتراك والأكراد، وأمَّا سائرُ النَّاسِ، فأهلُ الدِّيانةِ منهم أقعَدَتْهمُ البِدَع والفِكرُ الصُّوفيُّ بمختَلِف درجاتِه عن بُلوغِ هذه الرُّتَب، وغير أهلِ الديانةِ، كما ذكرتُ آنفًا.
وحين نَصرَ اللهُ المماليكَ في عين جَالُوت [٦٥٨هـ] وحقَّق اللهُ وعدَه بألَّا يُهْلِكَ أُمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسَنَةٍ عامَّةٍ، كانتْ تلك فرصةً مناسبةً ليقودَ العُلماءُ الأُمَّةَ إلى عقيدةِ السَّلَف، وتنطلِقَ من هناك حركةُ الإصلاح الدِّينيِّ، إلَّا أنَّ الأمرَ تأخَّرَ قليلًا، حتى بدأ ابنُ تيميَّة دعوتَه الإصلاحيَّة، ربَّما بعد عين جَالُوت بعشرينَ عامًا [ت ٧٢٨]؛ حيث نجح في بعْثِ عقيدةِ السَّلَف مِن جديدٍ وتعليمِها للنَّاس، إلَّا أنَّه لم يَستطِع إقناعَ الدَّولة بتبنِّيها؛ لذلك بَقِيَت الخُرافةُ والبِدعةُ مَهيمنةً على عُقولِ النَّاسِ، وسبَّب غَرَق المسلمين فيها الانفصامَ الخطيرَ الذي ظلَّتْ تعيشُه بين ما تتعلَّمُه من قرآنٍ وحديثٍ وفِقه، وبين ما تُمليه عليها انحرافاتُها البِدعيَّة، ممَّا ليس في كتابٍ ولا سُنَّة ولا فِقه.
وقد نَجحتِ الدولةُ العُثمانيَّة في بداياتها نجاحًا عسكريًّا وسِياسيًّا، لكنَّها كانتْ هي أيضًا غارقةً في الانحرافِ العَقَديِّ، وكان هذا هو أظهَرَ العوامِل لشُيوعِ الجَهلِ والتخلُّف العلميِّ في سائر ممالك الدَّولة الإسلاميَّة العُثمانيَّة، حتى وَجَدتْ نَفْسَها مع جيرانِها الأوربيِّين التي كانتْ سيِّدَتهم، وهي تشتري أسلِحَتَها منهم لتُقاتِلَهم بها.
وكان الضَّلالُ العَقَديُّ، والإيمانُ بالجَبرِ، والانقيادُ إلى شيوخِ الطُّرُق، والاستِغاثةُ بالموتَى شيئًا من القُيودِ اليسيرةِ التي كبَّلَت الأمَّةُ الإسلاميةُ فيها نفسَها، فلم تشعرْ إلَّا والصَّليبيونَ يعودون مِن جديدٍ، لكنَّهم هذه المرَّة لم يستولوا على سواحِل الشَّام، كما حدَث في أواخِرِ القرنِ الخامِس، بل استولَوْا على جميعِ بلادِ الإسلامِ مِن الصِّين حتى طَنجةَ، وكُلُّ ذلك في أسرعِ عمليَّات احتلالٍ في التاريخِ؛ فقد كانتِ الأُمَّةُ خانعةً ممتلئةً؛ بسبب الغُربةِ عن الدِّين بالقابليَّة للاستِعبادِ، ولم تبقَ أرضٌ لم تطأْها قَدَمُ المستعمِرِ إلَّا تلك الأرضَ في كَبِد جزيرةِ العَرَبِ، التي جعَلَها اللهُ مُنطلَقًا للدَّعوةِ السَّلفيةِ مِن جديدٍ.