التعريف بموضوع الكتاب:
الخلافُ الفِقهيُّ الذي جرى بين أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومَن جاء بَعدَهم من أئمَّة الإسلامِ؛ كانت له آثارٌ كثيرةٌ في شتَّى مناحي الحياةِ على تعاقُبِ الأزمانِ واختلافِ البلدان، وتتمثَّل هذه الآثارُ في تجديدِ الفِقه وتفريعِه، وتنوُّع مدارِسه، وظهور عِلم أصولِ الفِقه، الذي كان من أكبرِ أهدافِه ضبطُ الخلاف الفقهيِّ، وتسديدُ عمليَّة الاجتهادِ في النَّوازل والأحكام، وكان من أجوَدِ تلك الآثارِ وأكثَرِها فائدةً توسعةُ الرأي والاجتهادِ، وعَدَمُ حَصْره في رأيٍ أو قولٍ واحد؛ إذ لا يخفى ما في تنوُّعِ المذاهِب واختلافِها مِن السَّعَة والتيسيرِ ورَفعِ الحَرَج، وذلك ظاهرٌ فيما يُبتلى به القُضاةُ والْمُفتونَ من الوقائِع والنَّوازل؛ إذ يكون لديهم مخارجُ لِما يُبتَلَون به من الشَّدائد والمَضايِق من غير أن يَخرِموا شرعًا، أو ينتهكوا حدًّا، ما دام للخلاف دليلٌ مُعتبَر، وتعليلٌ سائغٌ مِثلُه في النَّظَر.
إذن فالخلافُ الفقهيُّ له شأنٌ في التَّشريع، وتتعلَّق به مسائلُ وأحكامٌ، لا يسَعُ طالبَ العِلم أن يجهَلَ حُكمَ الشَّرع فيها، ومِن أَوْلى من ينبغي له أن يعتنيَ بالخلافِ ومسائِلِه وآثاره، الفقيهُ المُجتهِدُ الذي بُلِيَ بمنصِبِ القضاء؛ ذلك لأنَّ الخلافَ الفِقهيَّ له تأثيرٌ عامٌّ في فَصلِ الخُصومات، سواءٌ كان الأثَرُ مُنصبًّا على ذات الحُكم، أو على نظَر القاضي في الواقعةِ قُبيل إصدارِ الحُكم، وهو في بعضِ أحوالِه يُكوِّن شُبهةً تُدرَأُ به الحُدودُ، وقد يَكون مُسَوِّغًا للتيسيرِ في تقرير الأحكام القضائيَّة، فيما لو كان التيسيرُ هو الملائمَ لطبيعةِ الواقعة، والموافِقَ لمقاصِد الشَّريعة.
فإذا كان كذلك، فينبغي للقاضي أن يفقَه آثارَ الخِلاف الفقهيِّ، ليكونَ مُسايرًا لِمَقاصدِ الشَّريعة في ضَمانِ الحُقوق وتنفيذ الأحكامِ؛ لأنَّ نَظَر القاضي في مجلِس الحُكم يختلِفُ عن نظَرِ الفَقيه والمُفتي.
لكنَّ ثمَّة أمورًا يكتنِفُها شيءٌ مِن الإجمالِ تَفرِضُ نفسَها في هذا الصَّددِ، ولا بدَّ لها من جوابٍ، وهي:
1- ما الخلاف الذي يؤثِّر في الحكم القضائي؟
2- ما نوع التَّأثير الذي يقتضيه مثل هذا الخِلاف؟
3- هل يكون القاضي مُلزمًا بمراعاة مثل هذا الخِلافِ في فصل الخصوماتِ، وإقامة الحُدود، أو أنَّه يحكم بما بدا له ولا غضاضةَ عليه؟
4- وأخيرًا ما الأسُس التي يُستنَدُ إليها في تقريرِ هذا الأصلِ؟
فهذه أسئلةٌ مُفتقرةٌ إلى بيانٍ؛ ومن أجل ذلك أقدَمَ الباحثُ -كما ذكر في مقدِّمة البحث- على الكتابةِ في هذا الموضوع مُدعَّمًا بالأدلَّةِ والبَراهينِ.
وهذا البَحثُ يدورُ في مُجمَلِه حولَ دراسةِ آثارِ الخِلاف الفقهيِّ على حُكم القاضي، وبعبارةٍ أخرى موقِف القاضي من البتِّ في المسائل الخلافيَّة، وهي دراسةٌ تهدِفُ إلى التأصيل لمبدأ مراعاةِ الخلاف في المجال القضائي، ويمكن إبرازُ أهمِّ الجوانب التي تعرَّض لها البحث في الآتي:
1- التأصيل لمبدأ مراعاة الخلاف في الواقعة القضائيَّة.
2- إبراز آثارِ الخِلاف الفقهيِّ على الحُكم القضائي.
3- ربط الأحكام القضائيَّة بمقاصد الشريعة لا بالآراء والأقوال المجرَّدة عن اعتبارِ الحُكم والمقاصد.
4- بيان مسالِك الاجتهاد القضائيِّ، ودراستها دراسة مفصَّلةً.
5- دراسة العوامِل المؤثِّرة في الوقائع القضائيَّة دراسةً مفصَّلة.
بدأ المؤلِّفُ بحْثَه بمقدِّمةٍ، ذكر موضوعَ الدراسة، وأهميَّة الدراسة، والدِّراسات السابقة، وأسباب اختياره الموضوع، والصُّعوبات التي واجَهَته أثناء بحثِه.
ثم ذكر بعد ذلك منهجَه في البحث، مبيِّنًا أنَّه اعتمد في هذه الدِّراسة في مجمَلِها على المنهج التحليليِّ الوصفي، والاستنباطي، وبيَّنَ الإجراءاتِ التي اتَّبَعها في إعدادِ بحثِه وتنظيمِه.
بعد ذلك عرَّج على ذكر الخُطَّة، وختم المقدِّمة بشكرٍ واعتذارٍ.
اشتملت هذه الدراسة بعد المقدِّمة على تمهيدٍ، وبابينِ، وخاتمة.
التمهيد: وذكر فيه التعريفَ بالخلاف الفقهي والحُكم القضائيِّ.
واحتوى على فصلين:
الفصل الأول: التعريفُ بالخِلافِ الفقهيِّ؛ ماهيَّته، أنواعه، نشأته، وأسبابه.
الفصل الثاني: التعريفُ بالحُكم القضائي وأنواعه، وحكم تقنينِه والإلزام به.
ثم أعقبه الباب الأول: وهو عن أثَرِ اختلاف الفُقَهاءِ في الوقائع القضائيَّة وطُرُق الإثبات وموقِف القاضي منه. وفيه فصلان:
الفصل الأول: موقف القاضي من البتِّ في الوقائع المُختَلَف فيها. وبدأَه بتَعريفِ الواقعة، وأنواعِها، وأهميَّةِ الواقعة القضائيَّة، وأنواعها، ثم ذكر اجتهادَ القاضي في مسائِلِ الخلاف، حُكم اجتهادِ القاضي، ومجالات الاجتهادِ القضائي، كما بيَّن مسالِكَ الاجتهادِ القضائي في مسائِلِ الخلاف.
وحصْرُ هذه المسالِكِ اجتهادٌ مِن الباحِث- ومن المسالِك والضَّوابط التي أوردَها ما يلي: مراعاةُ الضَّوابِط العامَّة في الترجيح. الجَمعُ بين النَّظَر في القواعِدِ الكليَّة والأدلة الجزئية. مراعاة التوسُّط والاعتدال. اعتبارُ النَّوايا والمقاصد. وغيرها من المسالك.
ثم أعقب هذه المسالِك بذِكر مراعاةِ العَوامِل المؤثرة في القضايا وهي: العُرف والعادة. سدُّ الذرائع. رفعُ الحَرَج. المصلحةُ. ثم ختم الفصلَ بالحَديثِ عن القضاءِ بالمذهَبِ المقَلَّد، والقضاء بخلافِ مَذهَبِ الخُصوم، والقضاء بالقَولِ المرجوح، والقضاء بالرُّخصة الفقهيَّة.
وتناول في الفَصلِ الثاني: الآثارَ المترتِّبة على الخلاف الفِقهيِّ في الوقائِعِ القضائيَّة وطُرُق الإثبـات. ذكرَ فيه الآثارَ المترتِّبة على الخلافِ الفقهيِّ في الوقائِعِ القضائيَّة، كالتيسيرِ في الأحكام، وإسقاط الحدودِ بشبهةِ الخلاف، وغيرها.
ثم تحدَّثَ عن الآثارِ المترتِّبة على الخلاف الفقهي في طُرقِ الإثبات؛ كاجتهادِ القاضي في تمحيصِ طُرقِ الإثباتِ، والقضاء بالسياسة الشرعيَّة. ثم ختم الفصلَ بذِكرِ الآثارِ المترتِّبة على الحُكم في الواقعةِ المختلف فيها؛ كإبرامِ الأحكامِ القضائيَّة التي يسوغُ فيها الاجتهادُ، وارتفاعُ الخلافِ وتغيُّر الفتوى بعد صُدورِ الحُكم القضائي.
ثم بعد ذلك كان الباب الثاني: وهو بعنوان: أثر اختلاف الفُقَهاء في قواعِد الحُكمِ علـى مسـائل قضـائيَّة.
ويشتمِلُ على فصلين:
الفصل الأول: القواعد التي يُبنى عليها تقرير الأحكامِ القضائيَّة، وتحته خمسةُ مباحث:
ففي المبحث الأول: ذكر قاعدةَ: (لا يُنكَر تغيُّر الأحكامِ بتغيُّر الأزمان) وهذه القاعدةُ مِن القواعد المفرَّعة على قاعدة (العادة مُحكمة)، شرح الباحث معنى هذه القاعدة، وأورد أقوالَ العُلَماء فيها، ثم ذكر أثَرَ الخلافِ الفِقهيِّ في القاعدة، ومثَّلَ له بعدة أمثلة؛ منها: مسألةُ إثبات الحدودِ بالقَرائِن الحديثة، وتحديدُ الزواج بسِنٍّ معَيَّن، وغيرها.
وفي المبحث الثاني: ذكر قاعدة: (ما قَوِي مدركه من مسائِل الاجتهاد يُراعى فيه الخلاف) وتُعَدُّ هذه القاعدة من أهمِّ القواعد الفقهيَّة التي تضبِطُ الخلاف، والقاعدةُ بهذه الصيغة من تصَرُّف الباحث، وهي من حيث المضمونُ صيغةٌ موافِقة لما نصَّ عليه الفقهاءُ بهذا الصدد. وقد بدأ الباحث بشرحِ القاعدة وبيانِ معناها، ثم أورد أقوالَ العُلَماء فيها، ثم بعد ذلك ذكَرَ أثَرَ الخلافِ الفقهي في هذه القاعدة، ومثَّل له بعدة أمثلة؛ منها: مسألة قضاء القاضي بعِلمِه، والقضاءُ بالقافية، وغيرها.
ثم في المبحث الثالث: تناول قاعدة: (اختلاف الفقهاءِ شُبهةٌ تُدرَأُ بها الحدود)، شرح القاعدة، ثم ذكر أقوالَ العلماء فيها، ثم بيَّنَ أثَرَ الخلاف الفقهي في القاعدة من خلال أمثلةٍ أورَدَها، منها: إسقاطُ الحَدِّ عمن وطِئَ في نكاحٍ مُختَلَف فيه، وإسقاط الحَدِّ عن سارقِ نصابٍ مختَلَف فيه، وغيرها.
وفي المبحث الرابع: تكلَّم عن قاعدة: (من سقَطَت عنه العقوبةُ لِموجِبٍ ضُوعِفَ عليه الغُرم) وهذه القاعدة من مفردات المذهب الحنبلي - والقاعدة بهذه الصيغةِ مِن تصرُّف الباحث، وذلك من أجل الاختصار، شرَحَ الباحث القاعدة وبيَّن معناها، وذكر أقوالَ العلماء فيها، ثم ذكر أثَرَ الخلاف الفقهي فيها من خلال مثالين، وهما: تضعيفُ الدِّيَة على المسلم إذا قتَل ذميًّا، وتضعيف الديَة على الصبيِّ إذا قتل عمدًا.
وفي المبحث الخامس: تحدَّث عن قاعدة: (الحُكم بنقيض القَصدِ الفاسد) وتُعَدُّ هذه القاعدة من قواعِدِ السياسة الشرعيَّة التي تهدف إلى إصلاحِ نوايا المكلَّفين. شرح الباحِثُ القاعدة وبيَّنَ معناها، وذكر أقوالَ العُلَماء فيها، ثم ذكر أثَرَ الخِلاف الفقهي في هذه القاعدةِ، أورد فيها بعضَ الأمثلة: كحِرمان قاتل مورِّثه من الميراث، وتوريث المطلَّقة في مرض الموت المَخُوف، وغيرها.
وتناول في الفصل الثاني: القواعد المتعلِّقة بطبيعة الحُكم القضائي بعد صُدوره. واشتمل على خمسةِ مَباحث: تحدَّث في المبحث الأول: عن قاعدة: (حُكم الحاكِم لا يزيلُ الشَّيء عن صِفَتِه)؛ وهذه القاعدةُ تُعَدُّ مِن أمهات القواعِد المتعلِّقة بالحكم القضائي، بدأ الباحثُ بشرح القاعدة، وذكر أقوالَ العلماء فيها، ثم أورد أثَرَ الخلاف الفقهي في هذه القاعدة بذكر عدة أمثلةٍ، منها: حُكم القاضي بالنِّكاح المبنيِّ على شهادة الزور، ومسألة تحريم المرأةِ على من شهد بتطليقِها زورًا، وغيرها.
ثم في المبحث الثاني: تناول قاعدة: (الاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد) وهي تعدُّ من أمهَّات قواعِد الفِقهِ، ويندرجُ تحتها ما لا ينحصِرُ من الفروع والمسائل، وقد شرح الباحثُ القاعدة وبيَّن معناها، وأقوال العلماءِ فيها، ثم ذكر أثَرَ الخلاف الفقهي في هذه القاعدة، وأورد أشهَرَ المسائل الخلافية فيها، وهما: مسألة القضاء بشاهِدٍ ويمينٍ في الأموال، ومسألة النكاح بدون وليٍّ.
وفي المبحث الثالث: ذكَرَ قاعدة: (حُكم الحاكِم لا ينفُذ فيمن يُتَّهم به) -القاعدة بهذا اللفظ من عبارة الباحث وتصَرُّفه قصدًا للاختصار، وقد ذُكِرَت بألفاظٍ أخرى- بدأ الباحِثُ بشرح القاعدة وبيَّنَ معناها، وأورد أقوالَ العُلَماء فيها، ثم ذكر الخلافَ الفِقهيَّ في القاعدة من خلال مسألتينِ، ذكرهما وهما: قضاء القاضي لنفسِه وشريكِه، وقضاء القاضي لقَرابَتِه ومَن لا تجوز شهادَتُه لهم.
وفي المبحث الرابع: كان الحديثُ عن قاعدة: (لا ينفُذ الحُكم على الغائِب إلَّا أن يكون ما يُدَّعى به عليه سببًا لازمًا لِما يُدعَّى به على الحاضر) وتعتبر هذه القاعدة من قواعِدِ المذهب الحنفي، ولا يشارِكُه فيها غيرُه من المذاهب. شرح الباحِثُ القاعدةَ، وبيَّن معناها، وأورد أقوال العلماء فيها، ثم ذكر أثر الخلافِ الفقهي في القاعدة مِن خلال أمثلةٍ أوردها، وهي: مسألة القضاء على الغائِبِ في حقوق اللهِ وحُقوق الآدميين، ومسألة القضاءِ على الغائِب فيما يجمَعُ بين حقِّ اللهِ وحَقِّ العبيد.
وفي المبحث الخامس والأخير: ذكر قاعدة: (لا ضمان على القاضي إذا أخطأ في الحُكم)؛ بدأ بشرحِ القاعدة، وأورد أقوالَ العُلَماء فيها، ثم بيَّنَ أثَرَ الخلافِ الفِقهي في القاعدة من خلالِ مسألتين، وهما: تغريمُ بيت المال إذا أخطأ الحاكمُ في حُكمه باجتهادٍ سائغٍ، وتغريم الشُّهود إذا رجعوا عن شهادَتِهم بعد الحُكم إذا تضمَّن إتلافًا. وختم البحث بخاتمة، احتوت الخُلاصةَ والنَّتائجَ.
والكتابُ جَيِّدٌ في بابِه