التعريفُ بموضوعِ الكتابِ
لا شَكَّ أنَّ موضوعَ الاختلافِ بين السَّلَفِ في التفسيرِ من الموضوعاتِ المُهمَّة في عِلْم أصولِ التَّفسيرِ، التي يجبُ على كلِّ دارسٍ الاهتمامُ بها، والعِنايةُ بِضَوابِطها وأصولِها، ومِنْ هنا كانت أهميَّةُ دراسةِ هذا الموضوعِ؛ للوقوفِ على خِلافِ السَّلَفِ في التفسيرِ، وبيانِ خصائِصِه، وكيفيَّةِ التَّعامُلِ معه.
وكتاب هذا الأسبوع يتناولُ فيه المُؤلِّف الاختلافَ بينَ السَّلَفِ في التفسيرِ، ومواضِعَ اختلافِهم ووِفاقِهم، ومواطِنَ نِزاعِهم وإِجماعِهم، وتحديدَ سببِ الخلافِ ونَوْعِه.
وقد قسَّم المُؤلِّف كتابَه هذا إلى مُقَدِّمة، وتمهيدٍ، وبابَيْنِ، وخاتمةٍ
وقد أَوْضَحَ في المقدِّمة بيانَ أهميَّة البحثِ، وأسبابَ اختيارِه للمَوْضوعِ، وخُطَّةَ البحثِ، ومَنْهَجَه فيه؛ ومن أهم الأمور التي يقوم عليها منهج الدراسة ما يلي:
- حصر أقوال السلف المختلفة أو التي ظاهرها الخلاف الواردة عنهم في كلمة أو جملة أو آية من خلال تفسيري الطبري وابن أبي حاتم.
- بيان نوع الخلاف من حيث كونه خلاف تنوع أو تضاد
- دراسة الأقوال وبيان ما كان منها تفسيرًا بالعموم أو باللازم أو بالمثال أو بجزء المعنى
- الترجيح عند عدم إمكان الجمع أو صعوبته وبيان ترجيح أحد الأقوال وعلل اختياره
أمَّا التمهيدُ فقد بيَّنَ فيه مفهومَ ( الخِلاف- السَّلَف- التَّفْسيرِ) في اللُّغَةِ والاصطلاحِ.
وكان البابُ الأوَّلُ للحديث عن الدِّراسَةِ النَّظريَّة للبحث، وضَمَّنَهُ أربعةَ فُصولٍ:
الفصل الأول: خصائِصُ وأساليبُ تفسيرِ السَّلَف؛ تَحدَّث فيه عن أهميَّة تفسيرِ السَّلَفِ، مشيرًا إلى أنَّ هذه الأهمِّيَّة تتجلَّى من خلالِ:
1- قُرْب السَّلَف مِن عَصْرِ النُّبُوَّة
فكلَّما كان العَهْدُ بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم أقربَ، كان الصوابُ أغْلَبَ، وقد كان لوجودِ الصَّحابَةِ في العَصْرِ النَّبويِّ أثَرٌ بالِغٌ في فَهْمِهم للقرآنِ؛ فهو يُبَيِّنُ لهم ما يحتاجونَ إليه مِنْ معاني القُرآنِ، ويُوضِّحُ لهم ما أُشْكِلَ عليهم.
2- مُعاينَة الصَّحابةِ لكثيرٍ من الوقائِعِ ومُعايَشَتهم لكثيرٍ من الأحداثِ التي نزل فيها القُرآنُ:
فصِحَّةُ الفَهْمِ للنصوصِ مُرتبطٌ بفَهْمِها على ضوءِ الواقِعِ الذي نزلَتْ فيه، والأحداثِ التي واكَبَتْها.
3- مَعْرِفَتهم بِلُغةِ العَرَبِ وسلامَة ألسِنَتِهم من العُجْمَة:
فالسَّلَفُ كانوا أهلَ اللُّغَةِ وفُرسانَ مَيادِينها؛ لذا كانوا أقْدَرَ النَّاسِ على فَهْمِ القرآنِ، وتَفَهُّمِ معانيه؛ فالعربيَّة طَبيعَتُهم وسَليقَتُهم، والمعاني الصَّحيحَةُ مَرْكوزةٌ في فِطَرِهم وعُقُولهم، يُدْركونَ تلك المعاني من غَيْرِ مُوقِفٍ ولا مُعَلِّمٍ.
ثم كان الفصل الثاني عن الاختلافِ وأنواعِه، وقد جعَل المؤلِّفُ الحديثَ في هذا الفصْلِ في ستة مباحث؛ منها: أنه تحدَّثَ عن نشأةِ الخلافِ في التَّفسيرِ، مُبَيِّنًا أنَّ بدايةَ وقُوعِ الاختلافِ كان له أصْلٌ في العَصْر النَّبويِّ، ثم اتَّسَعَت دائرةُ الخلافِ قليلًا في عَصْر الصَّحابة، واتَّسَعت أكثرَ في عَصْر التابعينَ، واستَشْهَد لذلك بأمثلةٍ، ثم تَحدَّث عن أنواعِ الاختلافِ مُبَيِّنًا أن هناك اختلافَ تَنوُّعٍ، وهناك اختلاف تضادٍّ، وتحدَّثَ عمَّا يُوهِمُ الخلافَ بين المُفَسِّرين، ثم عن التَّمييزِ بينَ اختلافِ المُفَسِّرينَ واختلافِ الفُقَهاءِ.
ثم كان الفصل الثالث عن أسباب الاختلافِ بين السَّلَفِ في التَّفْسيرِ، وممَّا ذكَره المؤلِّفُ منها:
1- احتمالَ النَّصِّ القُرآنيِّ لوُجُوهٍ شَتَّى من المعاني والدَّلالاتِ.
2- قِلَّةَ التَّفاسيرِ الصَّريحَةِ لآياتِ القُرآنِ مِنَ القُرآنِ أو السُّنَّة:
3- بُلوغَ الحديثِ للمُفَسِّر أو عَدَمَ بُلوغِه.
4- اختلافَ وُجُوهِ الإعرابِ.
ثم كان الفصلُ الرَّابعُ عن أسانيدِ التفسيرِ بين إشكاليَّةِ التَّعامُلِ ومَنْهَجِ التَّلقي، وفيه تحدَّث المُؤلِّفُ عن كيفيَّة التعامُلِ مع أسانيدِ التفسيرِ، وأوضحَ أنَّ الناسَ انقسموا فيها إلى فريقينِ: فريقٍ يرَى ضرورةَ إخضاعِ رواياتِ السَّلفِ في التفسيرِ روايةً روايةً لقواعدَ وتطبيقاتِ المُحدِّثينَ والحُكْم عليها بما يناسِبُها، وكذا ضرورة تجريدِ كُتُبِ التفسيرِ من الأحاديثِ الضَّعيفةِ، وفريقٍ آخَرَ يرى أنَّ في هذا هدمًا لعِلْمِ التفسيرِ، ومسخًا له، وردًّا لِمُعْظم مَرْويَّاتِ السَّلفِ في التفسيرِ. ويرى المُؤلِّف أنَّ التعاملَ مع أسانيدِ التفسيرِ بهذه الشِّدَّة فيه مبالغةٌ لا داعِيَ لها، ولا احتياجَ إليها إلا في نطاقِ ما كان له تَعَلُّقٌ بالعقائِدِ والأحكامِ، والحلالِ والحرامِ.
أمَّا عن منهجِ تلقِّي رواياتِ المُفَسِّرين فقد أوضح فيه المؤلِّف أنَّه لَمَّا كان الغالبُ على مرويَّات التفسيرِ الضعفَ فقد كان المفسِّرون الجامعون بين معرفةِ الحديث والتفسيرِ يتغاضَوْن عن ذلك الضَّعْف رَغْم معرفَتِهم به، فقد كان الأصلُ عندَهم هو النَّظرَ إلى المعنى، فإن كان صحيحًا أغْمَضوا عن الضَّعْفِ ما دام ضعفًا محتمَلًا، ولم يكن هذا الضَّعْفُ مانعًا لهم لنسبةِ الأقوالِ لقائِلِيها من السَّلَفِ؛ كابنِ مسعودٍ، وابن عبَّاسٍ، ومجاهدٍ، وعِكْرمَةَ، وغيرهم.
أمَّا البابُ الثاني فقد جعله المُؤلِّفُ للدِّراسةِ التطبيقيَّة على مواطِنِ الخلافِ في تفسيرِ السَّلَفِ،
وكان التطبيقُ من أوَّلِ سورةِ الفاتحةِ إلى آخِرِ الرُّبُع الثالثِ من سورةِ البقرةِ، وقد كان مَنْهجُ المؤلِّفِ في ذلك: أن يذكُرَ الآيةَ، ثمَّ الأقوالَ الوارِدَة في المقصودِ بها، ثم نَوْعَ الخِلافِ، وسَبَبه، ثم التَّرجيحَ؛ فمثلًا في قوله تعالى: {الم } [البقرة: 1] ذكر فيه ثمانيةَ أقوالٍ للسَّلَفِ موضِّحًا أنَّه خلافُ تنوُّعٍ، وسبُبُه اختلافُ التَّمثيلِ لِمَقصِدِ الحروفِ المقطَّعةِ ومَغْزاها، ثمَّ رجَّحَ القَوْلَ القائِلَ بأنَّ هذه الحروفَ ليس لها معنًى وضعِيٌّ،؛ ولكن لها مَقْصِدٌ إعجازيٌّ؛ وذلك لِأمورٍ؛ منها:
1- أنَّ فيه جمعًا بين الأقوالِ ودَفْعًا للتعارُضِ المُدَّعى بينها.
2- أنَّ فيه إعمالًا لأقوالِ السَّلَف من الصَّحابةِ ومَن بَعْدَهم، ولا شَكَّ أنَّ إعمالَ أقوالِهم أَوْلى مِن رَدِّها وإهمالِها.
3- أنَّ فيه بُعدًا عن الخروجِ عن أقوالِ السَّلَفِ بالكُلِّيَّة.
4- أنَّ فيه بُعدًا عن اتِّهامِ الصَّحابةِ ومَن بَعدَهم بالخوضِ في تفسيرِ القُرآنِ بما لا يدُلُّ عليه شَرْعٌ ولا عَقْلٌ ولا لُغَةٌ.
ثم كانتِ الخاتِمَةُ، وقد خلَص المُؤلِّف فيها إلى جملةٍ من النتائجِ، كان أبْرَزَها ما يلي:
1- تفسير السَّلَف أصلٌ أصيلٌ ورُكنٌ ركينٌ من أصولِ التفسيرِ، ولا يجوزُ لطالب الحقِّ إهمالُه أو تَرْكُه.
2- قِلَّة الخطأِ في تفاسيرِ السَّلَفِ خاصيَّةٌ من أهمِّ الخصائصِ.
3- ضرورةُ مَعْرفةِ الباحثينَ لأساليبِ السَّلَف وطُرُقِهم في تفسيرِ الآياتِ.
4- الاختلافُ في التفسيرِ لا حَرَجَ فيه ما دامَ الوصولُ للحَقِّ هو الغايةَ المَرْجُوَّة.
5- قلَّة الاختلافِ كلَّما قَرُبَ الزَّمَنُ من عَصْر النبوَّة، وكَثْرَته كلَّما بَعُدَ.
6- احتمال النَّصِّ القرآنيِّ لمعانٍ متعدِّدةٍ من أهَمِّ الأُسُسِ التي يقوم عليها فَهْمُ الخلافِ بين السَّلَفِ.