التعريف بموضوع الكتاب:
مِن أَكْثرِ القضايا التي شَغَلت حيِّزًا كبيرًا في كتاباتِ وأبحاثِ كثيرٍ من المُشتغلين بعِلْم الكلام؛ قضيَّةُ (التفويض) وإثباتُ نِسْبتها إلى أئمَّة السَّلَفِ، والتي تعني أنَّ معانيَ الصِّفات الإلهيَّةِ لا يُدْرِكها البشرُ، ولا يعلمون عنها شيئًا، وحَشَدوا لإثبات ذلك كثيرًا من أقوال أئمَّة السَّلَف التي ظَنُّوا دَلالتَها على ما يَرومون إثباتَه.
وكتابُ هذا الأُسْبوع: (مقالةُ التَّفويضِ بين السَّلَفِ والمتكلِّمين) تتبُّعٌ دقيقٌ لهذه الدَّعوى ورَصْدٌ لتاريخها وأسبابها ونقضٌ لأصولها ومُنْطلقاتِها، وقد تَضمَّن الكتابُ الردَّ على أحد أهمِّ الكتب التي تناولتْ قضيَّةَ التَّفويضِ، والمُعنون بـ (القول التَّمام بإثبات التَّفويض مذهبًا للسَّلَفِ الكِرام).
وقد قسَّمَ المؤلفُ كتابَه إلى مقدِّمة وخمسةِ فُصولٍ وخاتمةٍ.
فتناوَلَ في الفصلِ الأوَّلِ شَرْحَ مذهب السَّلَفِ في الصفات، وأشار إلى أنَّ صفاتِ اللهِ توقيفيَّة؛ أي: إنَّها موقوفةٌ على النَّصِ فلا يَثْبُتُ منها إلا ما أَثْبَته اللهُ لنَفْسِه أو أَثْبَته له رسولُه صلى الله عليه وسلم.
ثم تكلَّم عن موقف السَّلَفِ من الأدلَّةِ النَّقليَّةِ، والذي أكَّد فيه أنَّ اعْتِمادَ السَّلف في إثباتِ أسماء الله وصِفاتِه على الدَّليل النَّقلي مُتواترًا كان أَمْ آحادًا، فما جاء في الكتاب أو صَحَّتْ به السُّنةُ فإنه مُعْتَمَدُهم ، وأشار أنَّ هذا مستفيضٌ عن السَّلفِ، ونَقَل عددًا من النُّصوص عنهم تؤكُّد ذلك.
ثم عرَّج على مسألةِ إثباتِ السَّلَفِ للصِّفات الاختياريَّةِ، وهي المتعلِّقة بمشيئة الله وقُدْرته إن شاء فَعَلها وإن شاء لم يَفْعلْها، كالخَلْقِ والاسْتِواء والضَّحِكِ ونَحْو ذلك، وأكد أنَّ السَّلَفَ مُطْبِقون على إثباتِ هذه الصفات كغيرها، ولا يُمْكِنُ نَقْل حرفٍ واحدٍ عنهم في إنكارها، وأنَّ أولَ مَنْ أَنْكَرَ هذه الصفاتِ أبو محمد عبدُ الله بن سعيد بن كُلابٍ
ثم ذَكَر عددًا من الأدلَّةِ على إثباتِ الصِّفة الاختياريَّةِ والفِعْلِ الاختياريِّ.
ثم تكلَّم عن قاعدة القول في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في البعض الآخَر، وأنها من قواعد ضَبْطِ هذا الباب وأن السَّلَفَ مُتَّفِقون على مضمونها، وأنه لا فَرْقَ عندهم بين صفة وأخرى من جِهةِ الإثبات، فكلُّ ما جاء في القرآن أو صَحَّ به الحديثُ وَجَب إثباتُه.
وكذلك تَكلَّم عن قاعدةِ إجراء نُصوص الصِّفاتِ على ظاهرها، وأنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقون على إثباتِ الصفاتِ الواردة في الكتابِ والسُّنَّة وإثباتِ معانيها اللائقةِ بالله تعالى مع تفويضِ الكيفيَّةِ، وحَمَلوا نُصوصَها على الحقيقةِ، وأَجْرَوها على ظاهرِها.
ثم تناوَلَ الموقفَ من الألفاظ المُجْملةِ، وأشار أنَّ الأصْلَ في المنهجِ السَّلَفيِّ الإعراضُ عن الألفاظ المُجْملةِ المُوهِمةِ، بل الإعراضُ عن الألفاظ المُحْدَثةِ بعامَّة؛ مثل: الجَوهرِ والعَرَض والجِهةِ والحَيِّز ...وغير ذلك من المسائل التي تناوَلَها في هذا الفَصْلِ.
ثم كان الفصل الثاني والذي أَفْرَده المؤلفُ لبَحْثِ مَذْهب المُفوِّضةِ.
فبدأ بالحديث عن التَّفويضِ ونشأتِه، وشَرَح معنى التفويض لُغةً، وأنَّه في الاصْطِلاح على نوعين:
الأوَّل: تفويض العِلْمِ بكُنْهِ الصفاتِ مع إثبات معانيها لله، وهذا هو مذهب السَّلَفِ.
والثاني: تفويض المعنى والكيف معًا، وهذا مذهبُ جماعةٍ من المتكلِّمين.
ثم أَخَذ المؤلفُ في الحديثِ عن نشأةِ التفويض، وذَكَر أنه لا يُعلم على وَجْه التحديد أوَّلُ مَنْ قال بالتفويض، والذي يَظْهرُ له أنَّه من جُمْلة أقوالِ الجَهْميَّةِ التي كانوا يَتذرَّعون بها لنَفْي الصفاتِ.
بعد ذلك بدأ في ذِكْر الأُسُس التي قام عليها التَّفويض، وذَكَر أنَّ أَهمَّ الأُسُسِ التي قام عليها التَّأويلُ التَّفصيليُّ والتأويلُ الإجماليُّ هي :
- أنَّ الأدلَّةَ النَّقليَّةَ لا تُفيدُ اليقينَ، وأنها إنْ عارضتِ العقلَ وَجَب تقديمُ العَقْل.
- أنَّ الدَّليلَ العَقْليَّ دلَّ على اسْتِحالةِ اتِّصافِ اللهِ بالصفاتِ الخَبريَّةِ ذاتيَّةً أو فِعليَّةً؛ كالوجهِ واليدين والاسْتِواء.
ثم أَخَذ في مناقشتِهم والردِّ عليهم بكلام مُفصَّلٍ، تناوَلَ فيه موقفَ المتكلِّمين من الأدلَّةِ النَّقليَّةِ، والكلامَ على دليلِ الأعراضِ وحُدوثِ الأجسامِ وغير ذلك من المسائل.
وفي نهاية الفصل تكلَّمَ عن العلاقة بين التَّأويلِ والتَّفويضِ، وأشار أنَّ المتأخرين عَقَدوا صُلْحًا بين التَّفويضِ والتَّأويلِ، وسوَّغوا الأخذَ بأيِّ مذهبٍ منهما على خلاف ما كان جاريًا بين أَهْلِ المَذْهبين قديمًا.
أما الفصل الثالث فعَنونَ له المؤلفُ بـ: "براءة السلف من مَذْهبِ المُفوِّضةِ" وأشار إلى أنَّ هذا الفَصْلَ هو أطولُ فُصولِ الكتابِ، وأنَّ ذلك حِرْصًا على تبرئة الأئمَّة الذين نَسَبهم المخالفُ إلى التَّفويض، وإيمانًا بأنَّ دعوى التفويض على السَّلَف أو نفيها ينبغي أنْ تُحْسَمَ من خلال النَّقْلِ الأمين عن السَّلَفِ.
فتَحدَّثَ أوَّلًا عن أَوْجهِ بُطلانِ مقالةِ التَّفويضِ، وأنها مقولةٌ فاسدةٌ في ذاتها، ويُعْلَمُ فسادُها من وجوه، ذَكَر منها:
- أنَّها منافيةٌ للنُّصوص الآمرةِ بتدبُّر القرآن؛ إذ لا يُمْكِنُ تدبُّرُ ما لا يُفْهَمُ معناه، وذَكَر عددًا من النُّصوص، منها قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
- أنَّها منافيةٌ للنصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّ القرآنَ عربيٌّ؛ إذ كونه عربيًّا يَقْتضي أنَّ معانيه مفهومة بلُغَة العرب.
- أنه من المُحالِ أن يكون النبيَّ عَلَّمَ أُمَّتَه كلَّ شيء حتى قضاء الحاجة، ثم يَتْركُ تعليمَهم ما يعتقدونه بقلوبهم في ربِّهم ومعبودِهم.... وغيرها من الأدلَّة.
ثم أشار إلى أنَّ السَّلَفَ بريئون من التَّفويضِ مُصرِّحونَ بإثباتِ المعاني مُعظِّمون للنصوص، وبيَّن ذلك مِن وُجوهٍ عديدةٍ منها:
- أنَّ كثيرًا من أئمة السَّلَفِ صرَّحوا بإثباتِ معاني الصِّفاتِ على ما تَفْهمُه العربُ من لُغَتها.
- أنهم صرَّحوا بإثبات الصِّفات ونفي الكيفِ.
- أنَّ السَّلَفَ فسَّروا من الصِّفاتِ ما يحتاجُ إلى تفسيرٍ؛ كالاسْتِواء والعُجْبِ والنُّزول، وذَكَر المؤلفُ أنَّ هذا الوَجْهَ كافٍ في بُطلانِ نِسْبةِ التَّفويضِ إليهم... وغير ذلك من الوجوه.
ثم خَتَم الفصلَ بنُقُولٍ عن السَّلَفِ وأتباعِهم في إثبات معاني الصِّفات، فذَكَر فيه نصوصًا عن 133 عالمًا من علماء السُّنَّة بَدءًا بالصحابة وانْتِهاء بعلماءَ مُعاصِرين.
ثم كان الفصل الرابع والذي خصَّصه المؤلفُ للردِّ على شُبُهاتِ المُفوِّضة.
وتناوَلَ فيه الجوابَ عن اسْتِدلال المُخالفِ ببعضِ النُّصوص؛ كاسْتِدلاله بقولِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والاسْتِدلال بآية آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، وكذلك جاوَبَ المؤلفُ عن شُبُهاتِ المُفوِّضِ حول التَّجسيم وتفسير الصِّفات والحَدِّ.
وكذلك ردَّ المؤلفُ على شُبْهةِ الحُلولِ في الجِهةِ، ونَقَلَ المؤلفُ كلامَ المُفوِّض بحروفه، والذي وَصَفه المؤلفُ بأنَّه طامَّةٌ عظيمةٌ، أتى فيها الكُفْرَ من حيث لا يَشْعُرُ.
ومما ذَكَره المؤلفُ من وجوهِ الردِّ على شُبْهةِ الحُلولِ في الجِهةِ:
- إجماعُ السَّلَفِ وأَهْلِ السُّنَّةِ على إثباتِ العُلوِّ الذاتيِّ.
- أنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لم يتَّفِقوا على إطلاقِ لَفْظِ الجِهةِ لعدمِ وُرودِها، لكنَّهم اتَّفَقوا على إثباتِ معناها الذي هو عُلوُّ اللهِ فوق جميع ما هو مخلوق.
- أن لا أحدَ من أَهْل السُّنَّةِ يقولُ: إنَّ اللهَ في شيء من خَلْقه أو يُحيطُ به شيء من خَلْقه لا سماء ولا جِهةَ ولا غيرها.
- أن الله تعالى فوق جميع ما هو مخلوق، فالعالَم المخلوقُ له سَطْحٌ وليس فوقه ثَمَّة مخلوقٍ، بل فوقه الخالقُ عزَّ وجلَّ، وبيَّن أنَّ هذا هو معنى قول مَنْ قال: إن الله في جِهةٍ عَدَميَّةٍ؛ فليس فوق العالمِ مكانٌ ولا شيءٌ مخلوقٌ، فالله تعالى ليس في مكانٍ ولا يُحيطُ به مخلوقٌ تعالى الله عن ذلك.
ثم كان الفصل الخامس وهو الأخير والذي عَنونَ له المؤلفُ ببراءةِ شيخِ الإسلام ابنِ تيميةَ وابنِ القيِّمِ من التَّشبيهِ والتَّجسيم، فخصَّصَه لتبرئةِ هذين الإمامين الكبيرين من تُهْمة التشبيهِ والتجسيمِ التي دَأَبَ كثيرٌ من أهلِ البِدَعِ على رَمْي شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ وتلميذِه ابنِ القيِّمِ بها، وأَوْضَحَ أنَّ الحقَّ أنَّ الشَّيخين بريئان من هذه التُّهمةِ الشَّنيعةِ القبيحة، وأنَّ السَّلفيين يَبْرؤون من ذلك، بل يَعْتقدون أنَّ تشبيهَ الله بخَلْقِه كُفْرٌ.
ونَقَل عددًا من النُّصوص عن الشَّيخين من كُتُبِهما فيها تصريحُهما بنَفْي التَّشبيه والتَّجسيم، مِثْل: دَرْءِ تعارُضِ العقل والنَقْل، ومِنهاجِ السُّنَّةِ، ومجموع الفتاوى، وشَرْحِ حديثِ النُّزول وغيرها لابنِ تيميةَ، وكذلك نَقَل عن ابن القيِّمِ من النونيَّةِ وكتابـَي: بدائعِ الفوائدِ، والصَّواعقِ المُرْسلةِ ما يُصرِّحُ فيه ابنُ القيِّمِ بنَفْي التَّشبيهِ والتَّجسيمِ.
ثم قام بنَقْلِ تبرئةِ العلماءِ الأعيانِ للشَّيخين من هذه التُّهمةِ، وممَّن ذَكَرهم من الأعيان الحافظُ ابنُ حَجَرٍ، وبدرُ الدِّين العينيُّ، والبُلْقينيُّ، ومُلَّا قاري الحَنَفيُّ، وجمالُ الدِّينِ القاسِميُّ وغيرهم.
والكتابُ مِنْ أفضلِ ما كُتِبَ في هذا الموضوع، ونَنَصْحُ باقْتِنائه وقِراءته.