التعريف بموضوع الكتاب :
منذ القرن الثالث الهجري وإلى يومنا هذا، لا تزال نتائج إدخال كتب الفلسفة اليونانية الإغريقية، تؤثر في كثير من المسلمين، ولا يزال أثر هذه الفلسفة مستشرياً بأمة الإسلام، وما ذاك إلا لبعدهم عن منهج الإسلام الصحيح، وميلهم إلى فلسفات زعموا أنها أصوليات لابد من معرفتها لفهم الدين فهماً سليماً، وقد ابتلي العالم الإسلامي بكثير من العلماء – إن صح وصفهم بذلك – الذين ابتلوا ببلية المنطق والفلسفة وجاهدوا حياتهم لنصرتها ونشرها، وليس ابن سينا وابن الفارض والفارابي، عن أذهان الناس ببعيد، ولا يزال هذا التيار يُوْرَثُ صاغراً عن صاغر، وكان من بين هؤلاء في هذا العصر (عبدالرحمن بدوي بدوي محمود) المؤرخ والفيلسوف المصري المشهور، وقد أراد الباحث في رسالته هذه أن يكشف لنا من خلال عرض ونقد فكر هذا الفيلسوف ما تؤول إليه هذه الترهات والهرطقات.
ولنشرع في التعريف بكتاب مؤلفنا، مستعينين بالله العلي المتعال.
لقد بدأ المؤلف أولاً بالتعريف بعبدالرحمن بدوي بمولده ونشأته وحالته الاجتماعية ثم ذكر آراء البعض فيه سلباً وإيجاباً، ثم ذكر الوظائف التي شغلها، وأخيراً وفاته، التي كانت في مصر في 16/5/1423هـ
ثم فصَّل لنا المؤلف عقيدة (بدوي)، وذكر ما يدل على إلحاده من كلامه هو عن نفسه، وأنه ينتسب للوجودية الملحدة، ثم بيَّن لنا المؤلف مفهوم الإسلام عنده وأنه يعتبر كل من انتسب للإسلام أو استشهد بآية أو حديث مهما كان زنديقا فهو في دائرة الإسلام.
ولكنّ الله تعالى منَّ على بدوي بالعود الحميد إلى الإسلام، وهذا ما أفرد له المؤلف مبحثا يدلل به على هذا الأمر، وذكر للرجل بعض الكتب التي دافع فيها عن الإسلام عندما كان في إلحاده، ومنها كتاب (دفاع عن القرآن ضد منتقديه) و(دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره) وهو كتاب فضح فيه المستشرقين وكبار فلاسفة أوربا وبيَّن عدم أمانتهم العلمية وعداوتهم وحقدهم.
وليست هذه الكتب التي ألفها دفاعاً عن الإسلام هي سبب إسلامه، بل إن إسلامه إنما كان قبل موته بشهر فنقل المؤلف الحوار الذي أجري معه قبل وفاته بشهر وصرح فيه بأنه عاد إلى الإسلام وأنه ندم على ما كان منه في كل تلك السنوات ورجع عن فلسفته تلك عازما على أن يكون مدافعاً كبيراً عن الإسلام تعويضاً عما سبق في الباطل، وقد نشرت هذا الحوار مجلة الحرس الوطني بتاريخ 1/10/2002م عدد (244)،
وإكمالا لترجمة عبدالرحمن بدوي، فقد جاءت الفصول اللاحقة في هذا الكتاب،
فذكر تخصصه وما يعتني به، من الفلسفة وهي تخصصه الأول حتى لقبه البعض بالمؤسسة الفلسفية، وكان يعظمها تعظيماً كبيراً، وكذلك برع في التاريخ وخاصة تاريخ الفلسفة، وكان حريصاً في أي مكان ينزل فيه أن يؤرخ له تأريخاً عميقاً، كما برع في الشعر والأدب وكان اعتناؤه بها من نعومة أظفاره، كما اعتنى بالفن والمتاحف والمسرح، والموسيقى.
ثم ذكر المؤلف أساتذة بدوي ورحلاته وأعماله ومحاضراته ومؤلفاته، ويذكر أن طه حسين كان من أكبر المؤثرين عليه، وبالفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند، أما رحلاته فهي كثيرة كان أولها إلى أوربا وهو ابن عشرين عاما، أما جهوده في التدريس وإلقاء المحاضرات، فقد كان ذا همة عالية وجد كبير، فقد درَّس في مصر وفي لبنان وفي أكثر من بلد أوربي، وألقى محاضرات في كثير من بلاد العالم شرقها وغربها، أما مؤلفاته فقد قاربت المائة وخمسين كتابا، منها مائة واثنان وثلاثين منها بالعربية بين تأليف وترجمة وتحقيق، وأربعة عشر باللغة الفرنسية.
ثم انتقل المؤلف بعدها ليلقي الضوء على مذهب عبدالرحمن بدوي وآرائه الفلسفية، فبيَّن أن مذهبه الفلسفي كان هو الفلسفة الوجودية، ويبدو أن السبب في ذلك أنها كانت الفلسفة السائدة في ذلك الوقت على ما قاله المؤلف، ثم عرض بعد ذلك آراءه الفلسفية في المعرفة والوجود وفي الأخلاق والدين وبين أن عبدالرحمن بدوي يعتبر أول من كتب في مسألة الأخلاق والمذهب الوجودي، وقرر بكل صراحة أنه لا يمكن قيام أخلاق وجودية، وكذلك مذهبه في حرية العقائد، حيث كان يدعو إلى الحرية في جانب العقائد ويميل إلى الحرية المطلقة، وكذلك دعوته إلى الحرية في الحكم والسياسة والتشريع، ودعوته إلى حرية المرأة والمساواة بينها وبين الرجل في كافة الحقوق والواجبات.
بعد هذا العرض لفكر وآراء بدوي، نقلنا المؤلف ليوضح لنا منهج الرجل في دراسة المذاهب، من خلال مؤلفاته الخاصة مثل (مذاهب الإسلاميين) ومن خلال ترجماته وتحقيقاته.
فأهل السنة والجماعة والفرقة الناجية عنده هم الأشاعرة، وأما في دراسته عن المعتزلة والأشاعرة، فقد كان مجرد عرض لها على حد قوله، من خلال دراسته لأهم أعلام كل فرقة، ولكن مما يؤخذ عليه كما ذكر المؤلف أنه يبث أثناء كلامه تعظيم الفلسفة، وكذلك دفاعه عن علم الكلام المذموم، وإقحامه نفسه فيما لا شأن له به كتضعيف الأحاديث والكلام عليها، ويؤخذ عليه أيضا عدم دراسته ومعرفته عقيدة الفرقة الناجية.
أما منهجه في دراسة المذاهب الباطنية، فكان كسابقه في المعتزلة والأشعرية، مجرد عرض مع بعض التداخلات كتلخيصه لبعض النقول والمقارنة مع المذاهب الفلسفية، ومما يؤخذ عليه في دراسته تلك هو جعله التأويل ضرورة في الإسلام، وإنكاره لظهور المهدي.
أما عن جهوده في دراسة الصوفية والتصوف، وذكر المؤلف أن مما جعل بدوي يدرس هذه الفرقة بشكل أعمق هو الصلات العميقة في المبدأ والمنهج والغاية بين التصوف وبين النزعة الوجودية، وهذا ما جعل المؤلف يخصص مبحثا في أوجه التلاقي بين الصوفية والوجودية كما يراها بدوي، فصلها في تسع صلات مبينا وجه كل صلة، أما المؤاخذات التي أوردها المؤلف على دراسة بدوي للتصوف فكان أهمها في تعريف التصوف عند بدوي وتقريره إمكان الاتحاد بين الصوفي والله، وكذلك نفيه لعقيدة الولاء والبراء، ومع تلك السلبيات كان هناك بعض الإيجابيات في تلك الدراسة مثل تبرئته للكتاب والسنة من عقيدة الحلول والاتحاد وبين أن أهل السنة يكفرون من يقول بذلك.
كل ذلك كان من المؤلف من خلال النقول لأقواله بأمانة، مثنيا على ما يستحق الثناء من عمل بدوي كأمانته في نقل النصوص وفهمه الجيد – غالبا – لتلك النصوص وتحليلها، والحكم عليه بدون اتباع للهوى، بل تحكيم كل ذلك إلى العقيدة الصحيحة.
ثم ختم المؤلف الرسالة بخاتمة بين فيها أهم نتائجها في أربعة عشر نقطة.
إن هذا الكتاب وكذلك الكتب التي على نفس النسق النقدي لبعض الأعلام، ليس هدفها التشهير أو التعيير، بل هدفها تقديم نموذج لتلك الانحرافات التي تصيب المسلمين وتبيين أسبابها حتى يكون من بعدهم على دراية وحذر، وليس عيبا أيضا أن يكون هناك بعض الجوانب الإيجابية التي يمكن أن تكون حافزا للقارئ للجد والاجتهاد، وخاصة عندما يرى تفاني أولئك في نشر أفكارهم على ضلالها وباطلها.
وأخيراً نسأل الله تعالى أن يجزي المؤلف خيراً على ما بذل من جهد، وأن يتقبل توبة عبده عبدالرحمن بدوي ويحشره في زمرة المسلمين، والحمد لله رب العالمين.