التعريف بموضوع الكتاب
من المعلومِ أنَّ الحديثَ عن قواعدِ التأصيل ومناهجِ التحصيلِ أمرٌ في غايةِ الأهميَّةِ لطلاب العلمِ، لا سيما في العصرِ الحاضرِ الذي جرفَ تيارُه الكثيرَ منهم، وحاد بهم عن مسالكِ التلقِّي الصحيحةِ.
وبين أيدينا كتاب (مدارج التعلُّم بين التأصيل واستكمالِ التكوينِ) الذي يعالج بين طيَّاته السببَ الرئيسَ في ضعفِ التأصيلِ والتأخُّرِ العلميِّ، ألا وهو شَتاتُ المرحلة الأوليَّةِ التأصيليَّة، وعدمُ استكمالِ التكوينِ العلميِّ.
وقد قسَّم المؤلِّفُ الكتابَ إلى مقدِّمةٍ وعناوينَ رئيسة، هي كالأبواب الآخذِ بعضُها برقابِ بعضٍ.
فبدأ بذِكر عنوان حقائق العلم، وذكرَ فيه أنَّ حقيقةَ العلمِ تدورُ حول أمرينِ، هما:
الإعانةُ على طاعةِ اللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واجتنابِ المعصية.
تثبيتُ العبدِ أمام طوفان الفِتَن والشُّبُهات.
ثم أتبعَ ذلك بأربعةِ قوانينَ، هي:
قانون الرعاية: وهو القانون الذي يُعنى بتصحيح المقصِد والغرضِ، والتنبيهِ على أنَّ (العلمَ للرِّعايةِ لا محضِ الرِّواية)، وأنَّ طالِبَ العلمِ مفتقِرٌ إلى رعايتين:
رعايةُ العمل بالعلم: وفيه ذكَرَ قَولَ ابن تيمية : (...العبادةُ ترقِّقُ القلبَ، وإذا كان القلبُ رقيقًا ليِّنًا كان قَبولُه للعلم سهلًا يسيرًا، ورسخ العلمُ فيه وثبت وأثَّر، وإذا كان قاسيًا غليظًا كان قَبولُه للعلم صعبًا عسيرًا، ولا بدَّ مع ذلك أن يكونَ زكيًّا صافيًا سليمًا حتى يزكوَ فيه العلمُ ويُثمِرَ فيه ثمرًا طيِّبًا).
رعايةُ استعمالِ مادةِ العلمِ: وفيه أشار المؤلِّفُ إلى أنَّ استعمالَ مادة العلمِ وقواعدِه بأدواتِه في المسائِلِ والنوازِلِ: هي غايةُ العلمِ ومَقصِدُه الأعظمُ .
قانون الاجتهاد الشخصي: وفيه نبَّه المؤلِّفُ على أنَّ العِلمَ لا يُنالُ فقط بالاقتصارِ على المجالسِ، بل هو مفتقرٌ أيَّما افتقارٍ إلى جُهدٍ شخصيٍّ يبذُلُه الطالِبُ لإدراكِ العلمِ وفَهمِه.
قانون الحسِّ التعبُّدي: وألمح فيه إلى أنَّه من تضافُرِ الأدلَّة الحاثة على طلبِ العلمِ والأمرِ به والثَّناءِ على طالبِه، صار العلمُ عبادةً، وعليه ترتَّبَ أنَّ مِن مقاصدِ طلبِ العلمِ كونَه وسيلةً إلى العبوديَّة؛ فغايةُ أمرِ العلمِ أن يكونَ دالًّا وهاديًا إلى عبادة ربِّ العالَمين سُبحانه.
قانون الحسِّ الأخلاقي: وذكر فيه أنَّ أَولى من يجِبُ أن يظهَرَ فيهم السَّمتُ الحسَنُ والخُلُق القويمُ: هم طلَّابُ العلم، وارِثو علمِ النبوَّةِ .
وتحت عنوان (مدارجِ التعلُّم) تعرَّض بالشَّرحِ والبيانِ لأهميَّةِ التدرُّجِ في مراحلِ الطلبِ، وذكر في كلِّ مرحلةٍ منها أهميَّتَها:
ففي المرحلة الأولى (التأصيل العلمي) ذكرَ أنَّ الحاجةَ إليه تظهَرُ من خلال عدةِ أمورٍ، منها:
أنَّ العلمَ دروبٌ متشابكةٌ، وسالكُها بلا تأصيلٍ كهائمٍ في ليلٍ طويلٍ دون دليلٍ، وأنَّ فاقدَ التأصيل الكليِّ يحصُلُ له التلفيقُ والتناقُضُ.
وفي المرحلة الثانية (استكمال التكوين العلمي) ذكر أنَّ أهميَّةَ هذه المرحلة تبرُز من خلال أمورٍ، منها:
أنَّ الخائِضَ في منهجٍ تأصيليٍّ دون استكمالِ التكوينِ العلميِّ هو جامِعٌ مِن كُلِّ فَنٍّ بطَرفٍ، فهو مثقَّفٌ لا يخدمُه عِلمُه عند ورودِ شبهةٍ أو ظهورِ إشكالٍ.
وفي المرحلة الثالثة (البحث العلمي والتصنيف) ذكر من أهميَّتِه لطالب العلم أنَّه يفتُقُ عقلَ طالبِ العلمِ وأُفقَه، ويسلِّمُه من الجمودِ والعصبيَّة، ويُطلِعُه على دقائقِ العلمِ وحقائقِه.
وتحت عنوان (أركان التعلم) ذكر أربعةَ أمورٍ هي:
الركن الأول: النيةُ الخالصةُ. وأشار إلى أنَّ النيةَ هي أوَّلُ العلمِ ووسَطُه وآخرُه، وهي ركنٌ مصاحبٌ وثمرةٌ حلوةٌ يجنيها المخلِصُ إذا لقيَ اللهَ تعالى؛ وأشار إلى أنَّ الحاجةَ تشتَدُّ إلى النيةِ في مواطِنَ، منها:
عند خروجِه من بيته متوجهًا لطلب العلم، وعند العمَلِ بالعلم، وعند المناقشة والمحاورة.
الركن الثاني: الهمة العالية. وفيه ذكر قولَ ابن عزوز المالكي: (فإنَّ المحقِّقين ما نالوا حقائِقَ العلومِ إلَّا بالشوقِ إليها والنَّهمةِ فيها بحُرقةٍ تجمَعُ أطرافَ الفِكرِ إلى ما هو بصَددِه، وهي حرقةُ نورٍ، لا حُرقةُ نارٍ).
الركن الثالث: المعلِّم الناصح. وفيه ذكر قول سحنون: (يؤخَذُ هذا العلمُ مِن الموثوقِ بهم في دينِهم، المحسوسِ بخيرِهم؛ فإن أخَذوا بالتشديدِ فعَنْ عِلمٍ، وإن أخذوا بالرُّخَصِ فعن علمٍ).
الركن الرابع: المنهج العلمي المتقَن. وذكر فيه شروطَ المنهج العلمي، وهي:
التماسُ المعلِّمِ ذي المنهجيَّةِ الواضحة الصحيحة، وأن يكونَ المنهجُ وَفقَ الإمكانيَّاتِ لا الآمالِ الطامحة، وأن يكون موضوعًا لمراتب المتعلِّمين ومدارجِ التلقِّي.
وتحت عنوان: (أستاذية الكتب ما لها وما عليها) أشار المؤلِّف إلى صور التلقِّي عن الكتب، وهي:
الصورة الأولى: الاعتمادُ على الكتُبِ والاستغناءُ عن إفادة المشايخِ، ونبَّه إلى أنَّ هذه الصورةَ مذمومةٌ؛ لأنَّه قلَّما يسلَمُ مِن معاثرها وأخطائِها مَن سلكها مكتفيًا بها.
الصورة الثانية: أخذُ مرحلةِ التأصيلِ العلميِّ على المشايخِ، ثمَّ الاعتمادُ على الكتُبِ، وذكر أنَّ هذه الصورةَ هي المعتمدةُ، وعليها سَيرُ العُلَماء.
الصورة الثالثة: الاستغناءُ عن الكتُبِ والاكتفاءُ بالسَّماعِ على المشايخِ، وأشار إلى أنَّ هذه الطريقةَ لا تصنَعُ طالِبَ علمٍ بالمعنى المتعارَفِ عليه.
وتجدُرُ الإشارةُ هنا إلى ما وجَّه به المؤلِّفُ العبارةَ المشهورة (من كان شيخُه كتابَه غلَبَ خطؤُه صوابَه)، حيث ذكر أنَّ في العبارةِ تعدِّيًا وتجاوُزًا، وأنَّ الأسلمَ أن تُنزَّلَ على:
المبتدئ في الطلب.
أو بعضِ العلومِ المفتَقِرة إلى ضَبطٍ ومجالسةٍ، كالقراءاتِ.
أو ما كان قبل عصرِ الطباعةِ، حيث الكتابةُ باليدِ وكثرةُ التصحيفِ، وتصرُّفُ النسَّاخِ، ممَّا احتاج إلى مزيدِ ضَبطٍ وعنايةٍ.
وقد ذكر المؤلِّفُ أنَّ الكتبَ تنقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسام:
كتب التخرُّج: وهي التي يحصُلُ بها تأصيلُ الطالبِ عِلميًّا عبرَ منهجٍ مُنتقًى ومرَتَّب على جادَّةٍ مطروقةٍ.
كتب استكمال التكوين: وهي الكتُبُ التي يُتِمُّ بها المتعلِّمُ طرُقَ التعلُّم؛ ليحصُلَ على صورةٍ كاملةٍ للعلمِ، ومن أمثلتها:
(تفسير الطبري، والتحرير والتنوير، والكتب الستة وشروحها، والمُغني لابن قدامة والمجموع، ومقدِّمة ابن الصلاح وشروحها، وتدريب الراوي). ونحوُها من الكتُبِ.
كتب الترويح الذهني والإثراء المعرفي: وهي الكتُبُ التي يحصِّلُ بها الطالِبُ إثراءً معرفيًّا في غيرِ منهجٍ مَطروقٍ.
وتحت عنوان (العوائق والعلائق) التي عرفها بأنَّها: ما حبَسَ الطالِبَ عن الأهمِّ في مدارجِ العلمِ، أو ثبَّطه أو شغَلَه. فذكر أربعة عشر عائقًا، منها:
التنمُّر بالألقاب العلمية: وهي من الظواهرِ التي اشتهرت بين طلَّابِ العلم في هذا الزمنِ، ووجهُ كونِ التنَمُّرِ عائقًا عن التعلُّمِ، هو أن التنمُّرَ يقلِّلُ بركة العلم ويمحَقُ خيرَه، وأنَّ صاحبَه لا يستقيمُ أمرُه على شيءٍ غالبًا.
التمنطق وقوة الجدل: فقد كان أهلُ العلم ينأَون عن الخوضِ في الجدالِ إلَّا لفائدةٍ، وبالتي هي أحسَنُ، لكن يظهرُ الأثرُ السيئُ المترتِّبُ على هذا الأمرِ في كونِه خروجًا عن جادَّةِ السَّلَف في التحصيلِ، وسببًا لارتعاشِ فِقهِ الطالبِ وعدمِ وجودِ مسائِلَ متَّفَقٍ عليها في ذهنِه، وهو وأدٌ لعمُرِ الطالبِ، وضياعٌ لمشروعِه العلميِّ.
الغرور العلمي: وفيه ذكر مقولة الشافعي: (اعلَموا أنَّ ذا العلمِ والحصافةِ لا تُبطِرُه المنزلةُ الرفيعةُ، ولا تعجِبُه نفسُه بالعِزِّ الكامل، كالجبَلِ لا يتزعزعُ وإن اشتدَّت به الرياحُ العواصِفُ؛ والخفيفُ السَّخيفُ مِن النَّاسِ تبطِرُه أدنى منزلةٍ يصيرُ إليها، وأيسَرُ ولايةٍ ينالُها، فهو مِثلُ الحشيشِ تحرِّكُه أضعفُ الرِّياحِ).
ومن الأمورِ التي أفردها المؤلِّفُ بعناوينَ خاصَّةٍ: (المهاراتُ الذهنيَّةُ لطالب العلمِ)، وذكر فيها: مهارة التقصِّي والاكتشاف، مهارة التخريج والافتراض، مهارة الاستقراء. شارحًا ومبيِّنًا لكلِّ مهارةٍ، وكيفيَّة اكتسابِها واستعمالِها .
وفي نهاية الكتابِ ذكرَ المؤلِّفُ مخطَّطًا لمرحلتي التأصيل العلمي واستكمال التكوينِ.
وقد ختم المؤلِّفُ الكتابَ بخاتمةٍ فيها تذكيرٌ للطالبِ، جاء فيها:
أنَّ العلمَ دينٌ، وتحصيلَه منوطٌ باجتهادِ الطالبِ وأمانتِه وتعظيمِه لجنابِ العلمِ.
أنَّ العلمَ هو ما أخذ بيدِ الطالبِ إلى صلاحِ نفسِه وصلاحِ غيرِه.
أنَّ العلمَ الحقيقيَّ هو ما أخرج من الشُّبُهاتِ لا ما أدخَلَ فيها.
والكتاب جيد ومفيد في بابه.