البراهينُ الجَلِيَّة في الدِّفاعِ عن أُصولِ المدرسةِ السَّلَفيَّة
نقضٌ لأصولِ الأفكارِ الواردةِ في كتابِ (حُجِّيَّة فَهْم السَّلَفِ) لسَعد العَجَمي
الجزءُ الأوَّلُ والثَّاني معًا
د. سلطان بن عبد الرَّحمن العميري
(الجزء الأوَّل)
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرف الخَلقِ... وبعد:
فقد كتب الأستاذُ الفاضلُ سعد العَجَمي كتابًا عن حُجِّيَّة فَهْم السَّلَف، ينتقِدُ فيه تقريراتِ السَّلَفيَّة المُعاصِرةِ في تعامُلِها مع مبدأ (الإلزام بفَهمِ السَّلَفِ)، وقد كتبتُ تقريرًا مختصَرًا عن كتابه، ضمَّنتُه عددًا من الأغلاط المنهجيَّة التي وقع فيها، مُبيِّنًا وجهَ غلَطِه، بقدرٍ مِن الاستدلالِ الإجماليِّ، ولم أقصِدْ إلى النَّقدِ التَّفصيليِّ لِما في الكتاب، مع أنِّي قد أشرتُ إلى أنِّي سأقومُ بذلك.
ثمَّ كتَب -سلَّمه الله- تعقيبًا على قِراءتي النَّقديَّة لكتابه، وقد تضمَّن تعقيبُه عددًا من الأغلاطِ في الفَهمِ، والخروجَ عن الموضوعِ، والدُّخولَ في موضوعاتٍ أخرى ليست هي المقصودةَ بالكلامِ المطروحِ، وتضمَّن عددًا من الأفكارِ الصَّائِبةِ.
وقد افتتحَ تعقيبَه بكلامٍ طويلٍ عن كتابِه، وأنَّه كان من أكثَرِ الكُتُبِ مَبيعًا في بعضِ المعارضِ، وأنَّ النَّاسَ أقبلوا عليه إقبالًا كبيرًا.
وذكر أنَّ ((سُيوفَ الرُّدودِ مُشرَعةٌ على الكتابِ مِن أكثَرَ من بروفيسور وأستاذٍ جامعيٍّ وباحثٍ وطالبِ علمٍ!))، وكان هذا في سياقِ الثَّناءِ على كتابِه وبيانِ أهمِّيَّتِه!
ولم يكتفِ بذلك، بل صوَّر أنَّ أتباعَ المذهَبِ السَّلَفيِّ يعيشون حالةً مِن الاضطرابِ والقَلَقِ مِن كتابه؛ (فهُم بين ناقدٍ وناقمٍ، وغاضبٍ وشاتمٍ)!!
وبغَضِّ النَّظَرِ عن دِقَّةِ وَصفِه ومُطابقتِه للواقِعِ، فإنَّ كثرةَ الرُّدودِ على بحثٍ ما ليست دليلًا على أهمِّيَّتِه، ولا على قُوَّتِه العِلميَّةِ، وإنَّما في أحيانٍ كثيرةٍ قد تكونُ راجِعةً إلى طبيعةِ الموضوعِ، وهذه الطَّبيعةُ لا فَضلَ للباحِثِ فيها إلَّا أنَّه شارك فقط، وقد تكونُ راجعةً إلى أُسلوبِه المُستفِزِّ، وعباراتِه الاستعلائيَّةِ، أو غيرِ ذلك!
ولو كانت كثرةُ الرُّدودِ دليلًا على أهميَّةِ بحثٍ ما وقوَّتِه العِلميَّةِ، لكان كتابُ (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرَّازق، مِن أقوى الكُتُبِ وأكثَرِها تماسُكًا، والحقيقةُ أنَّ الأمرَ ليس كذلك!
ولو أنَّ الباحِثَ تَرَك مِثلَ هذه المقدِّمة التي تدُلُّ في الحقيقةِ على أحدِ أمرينِ: إمَّا استِعلاءٍ لا يليقُ بباحثٍ عن الحقِّ، وإمَّا شَكٍّ وتردُّدٍ في قيمةِ ما جاء به؛ وتَرَك الحُكمَ للنَّاسِ- لكان ذلك أكمَلَ وأحسَنَ!
وحتى لا يكونَ الكلامُ دائرًا حول آراءٍ ومقالاتٍ خارجةٍ عن صُلبِ الموضوع، اخترتُ أن يكونَ تعقيبي عليه هذه المرَّةَ مُتعلِّقًا بالموضوعاتِ نَفسِها، من غيرِ وقوفٍ مع أغلاطِه التَّفصيليَّةِ التي وقع فيها في تعقيبِه الأخيرِ، ومع ذلك سأعلِّقُ على كلِّ ما يستحِقُّ التَّعليقَ، ولكِنَّ ذلك سيكونُ بالتَّبَعِ لا بالقَصدِ.
وأكَرِّرُ ما قلتُه عن الكتابِ مِن قَبلُ: فالكِتابُ بالنِّسبةِ للجادِّينَ في البحثِ العِلميِّ يُمثِّلُ صَدمةً وخَيبةَ أملٍ؛ فهو لم يقَدِّمْ بَحثًا مُثرِيًا للقضيَّةِ المَركزيَّةِ التي تناولَها، وإنَّما قدَّم تَصوُّرًا سَطحيًّا عن مَفهومِها وحدودِها وأدلَّتِها عند المؤسِّسينَ لها، وحديثًا طويلًا عن فُروعٍ مُتعلِّقةٍ بها لا أثَرَ لها في صُلبِها.
وسيكونُ الحديثُ في هذه الورقةِ مُركَّزًا على إثباتِ هذه الحقيقةِ، وذلك عَبرَ الأمورِ التَّاليةِ:
الأمرُ الأوَّلُ: فهمُ السَّلَفِ بين المِعياريَّةِ واستِعمالِ المُعاصِرينَ
تُعدُّ قضيةُ فَهمِ السَّلَفِ قَضيةً مِحوريَّةً في المدرسةِ السَّلَفيَّةِ في القديمِ والحديث، وليس المعاصِرة فقط؛ فهي من الأصولِ الكبرى التي تميَّزت بها عن غيرِها من المدارس، فكما أنَّ المدرسةَ الكلاميَّةَ تُميَّزُ عن غيرها من المدارسِ بقضيَّةِ تقديمِ العَقلِ على النَّقلِ، ومحاكمة النَّقل إلى الأصولِ العقليَّةِ؛ فإنَّ المدرسةَ السَّلَفيَّةَ تُميَّزُ بالتَّسليمِ لِفَهمِ السَّلَفِ، والانطلاقِ منه في فَهمِ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ.
ومُقتضى هذا أنَّ القاصِدَ إلى نقدِ السَّلَفيَّة في أصلِها الذي امتازت به يجبُ عليه أن يتتبَّعَ ذلك الأصلَ، ويحرِصَ على الوقوفِ على أهمِّ ما قيل فيه، وأن يحِّررَ مقالاتِ أئمَّةِ السَّلَفيَّة فيه، ويحدِّدَ أصولَ أدلَّتِهم؛ لأنَّهم المُؤسِّسون لهذا الأصلِ المِحوريِّ، وذلك لا يكونُ إلَّا بجمعِ مقالاتِ أئمَّةِ السَّلَفِ المتقدِّمين، ومقالاتِ ابن تيميَّةَ وابنِ القيِّم في هذه القضيَّة، وتحليلِها، ثم بعد ذلك تكونُ المحاكَمةُ للمُعاصِرين تصويبًا وتخطئةً.
ولكِنَّ الباحِثَ لم يصنَعْ ذلك في كتابٍ يزعُمُ أنَّه أقوى كتابٍ في نقدِ مبدأِ فَهمِ السَّلَفِ عند المدرسةِ السَّلفيةِ! وإنَّما اقتصر على تقريراتِ عدَدٍ مِن المعاصِرينَ، ولا شكَّ أنَّ قَدرًا منهم يُعَدُّ من الرُّموزِ المؤثِّرينَ، وحاول أن يُصوِّرَ ذلك المبدأَ من خلالِ ما يقولونَه.
وهذا خَلَلٌ في دراسةِ المدارسِ الضَّخمةِ في مسائلِها المِحوريَّةِ؛ إنَّ مَثَلَ الأستاذِ العَجَمي مَثَلُ رجلٍ أراد أن ينتقِدَ مَبدأَ تقديمِ العَقلِ على النَّقلِ عند الأشاعِرةِ؛ فذهب إلى المُعاصِرين وجمَع نفرًا منهم، بعضُهم من الرُّموز المؤثِّرين، وبعضُهم ليس كذلك، وجمع أقوالَهم وقام بتحليلِها، ولم يحرِّرْ رؤيةَ المؤسِّسينَ للمذهبِ في هذه القضيَّةِ، ولم يقِفْ معها، ولم يجمَعْ أدلَّتَهم ولم يناقِشْها، ثمَّ طفِقَ يقولُ: نقدتُ المدرسةَ الأشعريَّةَ في أصولِها، وبيَّنتُ تهافُتَها! فكيف إذا جَمَع مع ذلك الخطأَ في دراسةِ ما عليه المُعاصِرون، والقُصورَ الشديدَ في تحليلِها، كما صنع الأستاذُ العَجَمي في السَّلَفيَّةِ؟! فإنَّ الخَلَلَ سيكونُ كبيرًا لا محالةَ، وهذا ما نراه في كتابِ فَهمِ السَّلَف.
وحين أثَرْتُ عليه هذه القضيَّةَ حاول الخروجَ مِن هذا الخللِ الكبير بأنَّه نصَّ على أنَّ دراستَه للسَّلفيَّةِ المعاصِرة؛ لأنَّه قال في العُنوانِ الفرعيِّ للكتاب: ((دراسةٌ أصوليَّةٌ لأهمِّ أُصولِ المدرسة السَّلَفيَّةِ المعاصِرة))، ثمَّ قال: ((فالدِّارسةُ -كما هو ظاهِرٌ- في أصولِ المدرسةِ السَّلَفيَّة المعاصِرة، فبالتأكيدِ سيكونُ الحديثُ مُطوَّلًا عن أقوالِ المعاصِرين المنتَسِبين لهذه المدرسةِ)).
ولكنْ هذا لا ينفَعُه ولا يُزيلُ الخللَ المَنهجيَّ الذي وقع فيه؛ وذلك لأمرينِ:
الأمر الأوَّل: أنَّا لا ننازِعُه في أنَّه يَدرُس حالةَ السَّلَفيَّة المعاصِرة، ولكنَّه يَدرُسُها في أهمِّ أصلٍ مِن أصولِها، فكان الواجِبُ المنهجيُّ عليه: أن يحرِّرَ هذا الأصلَ ومكانتَه في المدرسةِ من حيثُ الأساسُ، ويجمعَ الأدلَّةَ التي اعتمَدَت عليها في نسبةِ هذا الأصلِ إلى أئمَّةِ السَّلَفِ، ويُناقِشَها؛ فمن المعلومِ أنَّ المدرسةَ السَّلَفيَّة المُعاصِرة لم تبتكِرْ هذا الأصلَ، وإنَّما هو مُستقِرٌّ شائعٌ منذ العصورِ الأولى، وهناك شواهدُ كثيرةٌ على ذلك، حرَص أتباعُ المدرسة السَّلَفيَّة على جمعِها ورصْدِها، وهي تتطلَّبُ نقاشًا ممن يقصِدُ إلى الرَّدِّ على السَّلَفيَّة، فهل قام به الأستاذ العَجَمي؟!
إنَّ مَثَلَ ما قام به العَجَمي مَثَلُ ذلك الذي درَس المذهبَ الأشعريَّ في أهمِّ أصلٍ من أصولِه، وفرَّط في بيانِه عند المؤسِّسين للمذهَبِ، وأعرَضَ عن الشواهِدِ التي اعتمدوا عليها في نسبةِ ذلك الأصلِ إلى المؤسِّسين، وحين اعتراضِنا عليه قال: أنا قلتُ في العُنوانِ الفرعيِّ للكتابِ: (دراسةٌ أصوليَّةٌ لأهمِّ أصلٍ مِن أصولِ المدرسةِ الأشعريَّةِ المعاصِرة)؛ فإنَّ هذا لا يُغنيه، خاصَّةً إذا عَلِمَ أنَّ مُعاصري الأشاعرةِ لا يُساوون المتقدِّمينَ في التَّحريرِ والضَّبطِ والوُضوحِ، وأنَّ المعاصِرين يذكُرونَ شواهِدَ من كلامِ أئمَّتِهم على أصلِهم!
الأمر الثَّاني: قولُه: (( فبالتَّأكيد أن يكون الحديثُ مُطوَّلًا عن المُعاصِرين)) خروجٌ عن محلِّ البحث؛ فنحن لا ننقُدُ عليه كثرةَ الحديث عن المعاصِرين، فهذا شأنُه، وإنَّما ننقُدُ عليه تفريطَه في تحرير رؤية أئمَّةِ السَّلَف المتقدِّمين، فأوهم القُرَّاءَ بتعليقِه ذلك أنَّنا ننقُد عليه كثرةَ النَّقل عن المُعاصِرين، وهذا خللٌ في الفهمِ!
الأمر الثَّاني: المرادُ بفَهمِ السَّلَف عند المُتقدِّمين:
لم يستخدِمْ أئمَّةُ السَّلَف المتقدِّمون جملةَ (فهم السَّلَف)، وإنَّما استعملوا عبارات أخرى، كقولِهم: (ما عليه الصَّحابةُ، ما عَمِل به السَّلَفُ، ما قاله أئمَّةُ الهدى)، ونحوها من العبارات.
ومع ذلك فتحديدُ المراد بفَهمِ السَّلَف عند المتقدِّمين من أئمَّة السَّلَف مُهمٌّ في نقاشنا للأستاذ العَجَمي؛ لأنَّه يكرِّرُ مِرارًا أنَّ السَّلَفيَّة المُعاصِرة أتت بمعنًى جديدٍ لفَهمِ السَّلَف ليس موجودًا عند المتقدِّمين؛ فإثباتُ أنَّ أئمَّةَ السَّلَف يقرِّرون هذا الأصلَ، وأنَّهم يقصِدون به الإجماعَ: ينقضُ أصلًا من الأصولِ الأساسيَّةِ التي بنى عليها نَقدَه!
والاحتجاجُ بفهم أئمَّة السَّلَف وما كانوا عليه من الفَهم للدِّين، والاستدلالُ عليه: قديمٌ؛ فقد تشكَّل في زمنِ الصَّحابة -رضي الله عنهم -، ودعا إليه عددٌ من الصَّحابة ومَن بعدهم، وكلَّما ظهر جيلٌ ذَكَر الجيلَ الذي قبلَه.
ومن أشهر الأقوال في ذلك قولُ ابنِ مسعود -رضي الله عنه-: ((إنَّ الله نظَرَ في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمَّدٍ خيرَ قلوبِ العباد، فبَعَثه برسالته، ثمَّ نظر في قلوبِ العبادِ بعد قلبِ محمَّدٍ، فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوبِ العباد، فاختارهم لصُحبةِ نبيِّه ونُصرةِ دينه؛ فما رآه المسلمون حَسَنًا فهو عند الله حَسَنٌ، وما رآه المسلِمون قبيحًا فهو عند اللهِ قبيحٌ))([1]).
ومن المعلومِ أنَّ ابنَ مسعود -رضي الله عنه- لا يقصِدُ أفرادَ الصَّحابة، وإنَّما يقصِدُ ما كان عليه مجموعُهم إمَّا اتِّفاقًا أو سُكوتًا (الإجماع السكوتي)، بدليلِ أنَّ بعضَ الصَّحابة كان يردُّ على بعضٍ، ويخطِّئ بعضُهم بعضًا، وهذا ما قرَّره ابنُ القيِّم؛ فإنَّ ظاهِرَ شَرحِه لوجهِ الدَّلالة من الأثر متعلِّقٌ بالإجماعِ السكوتي.
وقال حذيفةُ بن اليَمان -رضي الله عنه-: ((كلُّ عبادةٍ لم يتعبَّدْها أصحابُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم فلا تَعبَّدوها؛ فإنَّ الأوَّلَ لم يدَعْ للآخِرِ مَقالًا؛ فاتَّقوا اللهَ يا مَعشرَ القُرَّاءِ، وخذوا بطريقِ من كان قبلَكم))([2]).
وقال ابنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنه- للخوارج: ((أتيتُكم من عند أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم: المهاجرينَ والأنصارِ، ومِن عند ابنِ عمِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآنُ؛ فهم أعلَمُ بتأويلِه منكم))([3]).
وقال عمر بن عبد العزيز: ((قِفْ حيث وقف القومُ، وقُلْ كما قالوا، واسكُتْ عمَّا سكتوا؛ فإنَّهم عن عِلمٍ وقَفوا، وببصرٍ نافذٍ كَفُّوا، وهم على كَشفِها كانوا أقوى، وبالفَضلِ لو كان فيها أحرى، فلئِنْ كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتُموهم إليه، ولئن قُلتم: حَدَث بعدهم، فما أحدثَه إلَّا مَن سلك غيرَ سبيلِهم ورَغِبَ بنفسِه عنهم، وإنَّهم لهُم السَّابقونَ، ولقد تكلَّموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يَشفي، فما دونَهم مَقصَرٌ ولا فوقهم مَحسَرٌ، لقد قصَّرَ عنهم قومٌ فجَفَوا، وطَمَح آخرون عنهم فغَلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيمٍ))([4]).
ويقول الأوزاعي: ((اصبر نفسَك على السُّنَّة، وقِفْ حيث وقف القومُ، واسلُكْ سبيلَ السَّلَفِ الصَّالح؛ فإنَّه يَسَعُك ما وَسِعَهم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كفُّوا، ولو كان هذا خيرًا ما خُصِصتم به دون أسلافِكم؛ فإنه لم يُدَّخَر عنهم خيرٌ خُبِّئ لكم دونهم؛ لفضلٍ عندكم)) ([5]).
ويقول أبو العالية: ((عليكم بالأمرِ الأوَّلِ الذي كانوا عليه قبل أن يفتَرِقوا)).
ويقول الإمام أحمد: ((أصولُ السُّنَّة عندنا: التمسُّك بما كان عليه أصحابُ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم، والاقتداءُ بهم))([6]).
ويلخِّص اللَّالَكائي جملةَ ذلك فيقولُ: ((أوجَبُ ما على المرءِ: مَعرفةُ اعتقاد الدِّينِ، وما كلَّف اللهُ به عبادَه مِن فَهمِ توحيده، وصفاته، وتصديقِ رسُلِه بالدَّلائلِ واليقين، والتوصُّل إلى طُرُقِها والاستدلال عليها بالحُجَج والبراهين، وكان من أعظمِ مَقولٍ، وأوضَحِ حُجَّةٍ ومَعقولٍ: كتابُ الله الحقُّ المُبينُ، ثمَّ قولُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وصحابتِه الأخيار المتَّقين، ثم ما أجمع عليه السَّلَفُ الصَّالحون، ثم التمسُّكُ بمجموعِها والمُقامُ عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتنابُ عن البِدَع والاستماعِ إليها ممَّا أحدثَها المضِلُّون)) ([7]).
ومعنى هذه الآثار ظاهرٌ بيِّنٌ، فالمقصودُ بها أنَّ الفهمَ الصَّحيحَ لنصوص الكتاب والسُّنَّة: هو الفهمُ الذي كان عليه الصَّحابة -رضوانُ الله عليهم- بمجموعهم، وما اتَّبعه عليه التابعون وأتباعُهم، وأنَّ فَهمَهم لا يخالف الكتاب والسُّنَّة، وأنَّ كلَّ فهمٍ للكتاب والسنة يخالف ما كانوا عليه بمجموعهم، فهو فهمٌ خطأٌ لا محالةَ.
وليس المرادُ أنَّ الصَّحابة والتَّابعين لهم فَهمٌ خاصٌّ خارجٌ عن مُقتَضيات الكتاب والسُّنَّة، وأنَّ هذا الفهمَ مَصدرٌ آخرُ من مصادر الاستدلال، مُستقِلٌّ عن الكتاب والسُّنَّة.
وليس المرادُ أنَّ الفردَ مِن الصَّحابة قولُه حُجَّةٌ مُلزِمةٌ لا يمكِنُ الخروجُ عنها، وأنَّ من خرج عنها وقع في الابتداعِ والضَّلال، والفِسق والانحرافِ.
وممَّا يدلُّ على أنَّ أئمَّةَ السَّلَف يَقصِدون بذلك الإجماعَ وليس قولَ الأفرادٍ: أنَّهم رتَّبوا على مخالفة ما كان عليه الصَّحابةُ الضَّلالَ والتَّفسيقَ، والخروجَ عن السُّنَّة إلى الضَّلالِ والانحراف، بل رتَّبوا في بعض المسائِلِ الكُفرَ الأكبرَ.
فهم لا يقصِدون بذلك أفرادَ الصَّحابة والتَّابعين؛ لأنَّهم لم يحكُموا على من خالف الأفرادَ منهم بالفِسقِ والضَّلال؛ فالإمامُ أحمد مع أخذِه بقولِ الصَّحابيِّ لم يحكُمْ على كلِّ من خالفه في ذلك بالخروجِ عن السُّنَّةِ، والوُقوعِ في الضَّلالِ والتفرُّقِ، كما حكَمَ على من خالفَ إجماعَ الصَّحابةِ في أصولِ الدِّينِ العِلميَّةِ والعَمَليَّةِ.
وممَّن استدلَّ بهذه الآثار وغيرها على حُجِّية إجماع السَّلَف من الصَّحابة والتَّابعين: ابنُ قدامة؛ فإنَّه حين تحدَّث عن وجوبِ اتِّباع السَّلَف ذكَر جملةً من النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وتلك الآثار عن السَّلَف، ثم قال: ((فقد ثبت وجوبُ اتِّباع السَّلَف -رحمةُ الله عليهم- بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع)) ([8])، ثم استدلَّ على ذلك بالعقل والعبرة.
وقد علَّق الأستاذ الكريم على هذه النُّصوص التي ذكرتُها فقال: ((ما نقله الباحثُ عن الإمام أحمد والأوزاعي هي من النُّصوص العامَّة التي تحثُّ على التمسُّك بهديِ ساداتنا الصَّحابة، ومن سار على نهجِهم المبارك، وهو قائمٌ على هديِ الوحيينِ لا خلاف عليه، ونحن نحمِلُ أمثالَ هذه النُّصوص الشَّريفة بما حمَلْنا عليه نصوصَ السُّنَّة النبويَّة الدَّاعية لاقتفاءِ آثار الصَّحابة، كحديثِ العِرباضِ بن ساريةَ -رضي الله عنه-: ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الرَّاشدين المَهديِّين..)) أي: عليكم بسُنَّتِهم التي وافقوا بها سُنَّتي، لا أنَّ لهم سنةً مُستقلَّةً لآحادهم وأفرادهم، أو فهمًا خاصًّا يكونُ بذاته واجبَ الاتِّباع، ويلزمُ كلَّ مجتهدٍ قد استكمل أدواتِ الاجتهاد الأخذُ به، وإن أدَّى اجتهادُه في الدَّليلِ مِن الوحيِ إلى خلافِه)).
والأستاذ الكريم يُصرُّ على خَطئِه الذي بنى عليه كتابَه كلَّه؛ فهو يجعلُ كلامَ الأئمَّةِ عن مرجعيَّةِ فَهمِ الصَّحابةِ، كالكلامِ عن حُجِّية أقوالِ الخُلفاءِ، أو قولِ فردٍ من أفرادِهم! وهذا قَدرٌ عالٍ من الخَلطِ والتَّزييفِ للمسائِلِ؛ فأئمَّةُ السَّلَف يتحدَّثون عن الصَّحابة بجُملتِهم كما هو ظاهِرُ كلامِهم؛ ولهذا يحكُمون على من خالف ذلك بالضَّلالِ والفِسقِ، وهو يصرُّ على أنَّ كلامَهم لا يخرجُ عن الكلام عن حُجِّية فِعل الخلفاء الرَّاشدين الذين هم جزءٌ من الصَّحابة وليسوا كلَّ الصَّحابةِ.
ثم إنَّه لا أحدَ يقول: إنَّ فَهمَ الصَّحابة مُستقِلٌّ عن دَلالة النُّصوص، ولا أحدَ يقول: إنَّه فهمٌ خاصٌّ يكون بذاتِه واجبَ الاتِّباع، وإنَّما غايةُ ما يقال: إنَّ فَهمَهم لا يَخرجُ عن مقصود الشَّريعة، وإنَّ كلَّ فهمٍ يخالفُ فهمَهم فهو باطلٌ.
ثمَّ إنَّ تراكيبَ تلك الآثار وسياقَها يدلُّ على أنَّ المقصودَ بها الإلزامُ، وترتيبُ الأحكام بالفسق والضلال، والخروجِ عن السُّنَّة إلى البدعة، أو عن الإسلام إلى الكُفر؛ لأنَّها جاءت في سياق الردِّ على المبتدِعة في زمانهم، والأصلُ في ذِكرِ ذلك الأصلِ إنَّما هو في الردِّ على المبتدِعة الخارجين عن السُّنَّة في أصولِ الاعتقاد؛ فهذا يدُلُّ على أنَّهم يتحدَّثون عن أصلٍ مُلزِمٍ توجِبُ مخالفتُه الضَّلالَ والخروجَ عن السُّنَّة، وهذا لا يكونُ إلَّا في الإجماعِ.
ثم أورد الأستاذُ كلامًا عن الغزالي والقرافي في الحديثِ عن سُنَّة الخلفاء الرَّاشدين، وكلُّ ذلك خروجٌ عن محلِّ البحثِ؛ فالسَّلَفُ في كلامِهم ذلك لا يقصِدون سنَّةَ الخلفاء الرَّاشدين، وإنَّما يقصِدون فَهمَ الصَّحابة بمجموعِهم لا ببعض أفرادِهم.
ثم إنَّ مجرَّد النَّقل عن مِثلِ الغزالي والقرافي في سياقِ الردِّ على أتباعِ المذهبِ السَّلَفي ليس مُلزِمًا؛ لأنَّهم يخالفونَهما في عدد من الأصول العَقَديَّة، فاختلافُهما معهم في تفسير كلام بعضِ السَّلَف أمرٌ طبيعيٌّ، ولا إلزامَ فيه البتَّةَ، فالنَّقلُ عنهم مجرَّدُ تكثُّرٍ لا أثر له!
ثمَّ ذكر الأستاذُ أنَّ ابن تيميَّةَ وابنَ القيِّم استدلَّا بتلك الآثار على حُجِّيَّة قولِ الصَّحابي بمفرده، وليس على حُجِّيَّة فَهمِ الصَّحابةِ بمجموعهم، وذكر أنَّ هذه ((طامةٌ كبرى تنسِفُ كلَّ ما بناه الأخُ العميري))، وقال: ((أيُّ تناقُضٍ أوقع العميري به نفسَه؛ إذ كان فهمُه لدلالةِ أثر الأوزاعي على النقيضِ من فَهمِ ابن تيميَّة وابن القيم لدَلالته؛ لذلك استدلَّا به على حُجِّيَّة قول الصَّحابي، في الوقتِ الذي استدلَّ به العميري على حُجِّيَّة إجماع السَّلَف؟!)).
وهذا التَّعليقُ غريبٌ حقًّا، وتفخيمٌ لأمر لا حقيقة له، وتهويلٌ لكلامٍ فارغٍ لا معنى له؛ فالأستاذ فَهِمَ أنَّ الاستدلال بذلك الأثر على حُجِّيَّة قول الصَّحابي يُناقِضُ الاستدلالَ به على الإجماع، وفَهِمَ أنَّ استدلال ابن تيميَّة وابن القيم بهذا الأثر على حُجِّيَّة قول الصَّحابي معناه أنَّه لا يمكنُهم أبدًا أن يستدلُّوا به على حُجِّيَّة الإجماع، وهذه أساسُ مشكلته الأساسيَّة في فهم الأدلَّة والتَّعامل معها، وما زال مُصرًّا عليها.
والغريبُ حقًّا أنَّ ابن تيميَّةَ في الموضِعِ نفسِه استدلَّ ببعض الآياتِ على حُجِّيَّة قولِ الصَّحابي، ثمَّ استدلَّ بها في مواضِعَ أخرى على الإجماعِ كما سبق نقلُه قبل قليلٍ؛ فهل معنى ذلك أنَّ ابن تيميَّةَ أوقع نفسَه في التَّناقُض، ووقع في طامَّةٍ كبرى تنسف كلَّ ما أصَّله؟!
وابن قدامة استدلَّ بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] على وجوب اتِّباع الصَّحابة والتَّابعين، واستدلَّ به أيضًا على حُجِّيَّة الإجماع، كما سيأتي نقلُه، فهل ابن قدامة واقعٌ في التَّناقض؟
لا يكونُ هؤلاء العلماء واقعين في التَّناقض إلَّا عند من لا يفهمُ طُرقَ الاستدلال ومسالِكَه، وأمَّا مَن فَهِمَ ذلك فإنَّه يعلَمُ أنَّ استدلالَهم من قَبيلِ الاستدلال بقياسِ الأَولى أو بغيرِه من المسالك.
خلاصة:
النُّقول السَّابقة وغيرُها كثيرٌ ممَّا لم يُنقَل: تدُلُّ على أمرين:
الأوَّل: أنَّ مركزيَّةَ فهمِ السَّلَف ليست خاصَّةً بالسَّلَفيَّة المعاصِرة كما يصوِّرُ الأستاذ الكريم، وإنما هي أمرٌ شائعٌ في المدرسة السَّلَفيَّة عمومًا من عصرِ الصَّحابة ومَن جاء بعدهم.
الثَّاني: أنَّ المرادَ بفهمِ السَّلَف وما ماثله من المصطلحاتِ: إجماعُهم، وليس أفرادهم.
الأمر الثَّالث: المرادُ بفَهمِ السَّلَف عند ابن تيميَّةَ:
تحريرُ رؤية ابن تيميَّةَ في معنى فهم السَّلَف مُهمٌّ جدًّا لِمن أراد أن ينتقِدَ السَّلَفيَّةَ المعاصِرة؛ لأنَّه وإن تقدَّم زمانُه إلَّا أنَّه يُعَدُّ من رموز السَّلَفيَّة المؤثِّرين فيهم جِدًّا، وكثيرٌ من طلبة العلم والشُّيوخ يرجعون إلى كلام ابن تيميَّة أكثرَ مِن رجوعهم إلى رموز السَّلَفيَّة المعاصِرة، وكُتُبه تُقرَأ وتُشرَح أكثرَ من كتُبِ رموز السَّلَفيَّة المُعاصِرة؛ فالتَّفريطُ في تحرير رؤيته حول معنى فهم السَّلَف وضبط أدلَّته، والإعراضُ عنها بحجَّةِ أنَّه ليس مقصودًا بالدِّراسة: خللٌ كبير في البحث، وتهرُّبٌ من الجبال الرواسي التي تُبطِل الاعتراضاتِ الهزيلةَ على أصولِ المدرسة السَّلَفيَّة!
وعلى كلِّ حالٍ فالشأنُ في ابن تيميَّة ظاهِرٌ؛ فإنَّ أقواله متضافرة على القولِ بأن المرادَ بحُجِّيَّة فَهمِ السَّلَف: إجماعُهم وما اتَّفقوا عليه؛ وِمن أقواله في ذلك: ((فمذهبُ أهل السُّنَّة والجماعة: ما دلَّ عليه الكتاب، والسُّنَّة، واتَّفق عليه سلَفُ الأمَّة)) ([9])، ويقول: ((ومذهبُ أهلِ السُّنَّة والجماعة مذهبٌ قديمٌ معروف قبل أن يخلُقَ اللهُ أبا حنيفةَ ومالكًا والشافعيَّ وأحمدَ؛ فإنَّه مذهبُ الصَّحابة الذين تلقَّوه عن نبيِّهم، ومن خالف ذلك كان مُبتدِعًا عند أهل السُّنَّة والجماعة؛ فإنَّهم مُتَّفِقون على أنَّ إجماعَ الصَّحابة حُجَّةٌ، ومتنازِعون في إجماعِ من بَعدَهم))([10]).
ويقول: ((الذي يجبُ على الإنسان اعتقادُه في ذلك وغيرِه: ما دلَّ عليه كتابُ الله، وسُنَّةُ رسوله صلَّى الله عليه وسلم، واتَّفق عليه سَلَفُ المؤمنين الذين أثنى الله تعالى عليهم وعلى من اتَّبَعهم، وذمَّ مَن اتَّبع غيرَ سبيلهم)) ([11]).
وقال بعد أن ذكَرَ جُملةَ أصول أهل السُّنَّة في العقيدة الواسطيَّة، وذكر مصادِرَ الاستدلال المعتمَدِ عندهم، فذكر الكتابَ والسُّنَّة، ثم قال: ((والإجماعُ هو الأصلُ الثَّالثُ الذي يُعتمَدُ عليه في العِلمِ والدين، وهم يَزِنون بهذه الأصولِ الثَّلاثة جميعَ ما عليه النَّاسُ من أقوالٍ وأعمال باطنةٍ أو ظاهرةٍ ممَّا له تعلُّقٌ بالدِّين، والإجماعُ الذي ينضبط هو ما كان عليه السَّلَفُ الصَّالح؛ إذ بَعدَهم كَثُر الاختلافُ وانتشرت الأمَّةُ)) ([12]).
فهذا القولُ يفسِّرُ مرادَه بفهم السَّلَف، وأنَّه الإجماعُ، ويُبَيِّنُ أنَّه يقصِدُ إجماعَ القرون الثَّلاثة.
ويقول مُصرِّحًا بذلك: ((ولا يجوز لأحدٍ أن يَعدِلَ عمَّا جاء في الكتابِ والسُّنَّة، واتَّفق عليه سلفُ الأمة وأئمَّتُها، إلى ما أحدثَه بعضُ النَّاسِ ممَّا قد يتضمَّنُ خلافَ ذلك، أو يوقِعُ الناسَ في خلاف ذلك، وليس لأحدٍ أن يضَعَ للنَّاسِ عقيدةً ولا عبادةً من عندِه، بل عليه أن يتَّبِعَ ولا يبتدِعَ، ويقتديَ ولا يبتدئَ))([13]).
ويزيدُ الأمرَ وضوحًا أنَّه طرح على نفسِه سُؤالًا حاصِلُه: إذا كان أئمَّة السَّلَف (أهل الحديث) لا يتَّفِقون على خلافِ الصَّحابة، فلماذا لم يَذكُر إجماعَهم في أصولِ الفقه؟ وأجاب عنه؛ حيث يقول: ((لم يجتمِعْ قطُّ أهلُ الحديث على خلافِ قولِه في كلمةٍ واحدة، والحقُّ لا يخرُجُ عنهم قطُّ، وكُلُّ ما اجتمعوا عليه فهو ممَّا جاء به الرَّسولُ، وكلُّ من خالفهم مِن خارجيٍّ ورافضيٍّ، ومعتزليٍّ وجهميٍّ وغيرِهم من أهل البدع: فإنما يخالِفُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم...
فإنْ قيل: فإذا كان الحقُّ لا يخرجُ عن أهل الحديثِ، فلِمَ لم يذكرْ في أصولِ الفِقهِ أنَّ إجماعهم حُجَّة، وذكر الخلافَ في ذلك، كما تكلَّم على إجماع أهل المدينة وإجماعِ العِترة؟
قيل: لأنَّ أهلَ الحديثِ لا يتَّفقون إلَّا على ما جاء عن الله ورسولِه، وما هو منقولٌ عن الصَّحابة، فيكونُ الاستدلالُ بالكتاب والسُّنَّة وبإجماعِ الصَّحابة مُغنيًا عن دعوى إجماع يُنازِعُ في كونِه حُجَّةً بعضُ النَّاسِ)) ([14]).
وبيَّن ابنُ تيميَّة أنَّ إجماعَ السَّلَفِ الملزِمَ يَشملُ ما كان منصوصًا وما كان مُستنبَطًا منهم؛ حيث يقول: ((فما ثبت عنه من السُّنَّة فعلينا اتِّباعُه، سواءٌ قيل: إنَّه في القرآن، ولم نفهمه نحن، أو قيل: ليس في القرآن؛ كما أنَّ ما اتَّفق عليه السَّابقون الأوَّلون والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ، فعلينا أن نتَّبِعَهم فيه، سواءٌ قيل: إنَّه كان منصوصًا في السُّنَّة ولم يبلُغْنا ذلك، أو قيل: إنَّه ممَّا استنبطوه واستخرجوه باجتهادِهم من الكتاب والسُّنَّة))([15]).
وبيَّن أنَّ أصولَ أهل السُّنَّة الاستدلالية ثلاثة؛ حيث يقول: ((فالأصولُ الثَّابتة بالكتاب والسُّنَّة والاجماع: هي بمنزلة الدِّين المشترَك بين الأنبياء، ليس لأحدٍ خروجٌ عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الاسلام المحضِ، وهم أهل السُّنَّة والجماعة)) ([16]).
فابنُ تيميَّة واضِحٌ جدًّا في تحديد مرادِه بفَهمِ السَّلَف الذي يعدُّه حُجَّةً مُلزِمةً، وهو الفَهمُ الإجماعيُّ بينهم، فهو يكرِّرُ كثيرًا أنَّ ما عليه السَّلَفُ بمجموعهم هو مرجعيَّةُ أهل السُّنَّة التي يحكُمون من خلالها على المخالِفين لهم: بالضَّلالِ والخروجِ من السُّنَّة، ولم يجعل قولَ الصَّحابة الفردَ معيارًا، ولا أصلًا قائمًا بذاته من أصول أهل السُّنَّة!
فإن قيل: ابنُ تيميَّة يصرِّح بحُجِّية قولِ الخُلفاء وقول الصَّحابي.
قيل: نحن لا نُنكِرُ ذلك، وهما مسألتان مختلفتان عند ابن تيميَّة في الحقيقةِ وفي الحكم؛ فإنَّ ابنَ تيميَّة مع قولِه بحُجِّيَّة قول الصَّحابي الفردِ بشروطٍ وقيودٍ يذكرُها: لا يحكُمُ على من خالفه بالفسق والضَّلال والخروجِ من السُّنَّة إلى الانحرافِ، كالتجهُّم، والرَّفض وغيرِهما، وإنَّما يحكُمُ عليه بالخطأِ ومخالفةِ الدَّليل، وأمَّا المخالِفُ لفهمِ السَّلَف الإجماعيِّ فإنَّه يحكمُ عليه بالأحكامِ المتعلِّقة بمخالفة الإجماع، وهي كثيرةٌ متعدِّدةٌ.
والمشكِلُ أنَّ الأستاذ العَجَمي لم يفرِّق بين مراتبِ الحُجج، وتعامَل معها بدرجةٍ واحدة، فحين وجدَ بعضَ العلماء يقولون بحجيَّة قولِ الصَّحابي أو الخلفاء الرَّاشدين، توهَّم أنَّهم يساوون بينها وبين حُجِّية فَهمِ السَّلَف الإجماعيِّ في الحُجِّيَّة وفي الأحكامِ المترتبة عليه، وهذا قصورٌ شديدٌ في التَّصوُّر والفَهم!
وظهر من خلال الأمرينِ السَّابقينِ أنَّ السَّلَفيَّة المعاصِرة ليست مُتفرِّدةً في جعل فَهمِ السَّلَف شِعارًا لها، ولا في جعله مِعيارًا في فَهمِ الكتاب والسُّنَّة، والحُكمِ على من خالف مدلولَها، كما يوهِمُ كلام الأستاذ العَجَمي، بل ذلك عامٌّ عند أئمَّة السَّلَف المتقدِّمين والمتوسِّطين.
وقد قال الأستاذ العَجَمي: ((مقصودُنا من ذلك أن نردَّ على القولِ الذي قالت به المدرسةُ السَّلَفيَّةُ المعاصِرة في قولها بوجوب اتِّباعِ فَهمِ السَّلَف، ولَمَّا كان هذا القولُ جديدًا لم يقُلْ به أحدٌ من أئمَّة المذاهِبِ المتَّبَعةِ...))([17]).
فهو إن قصَدَ أنَّ فَهمَ السَّلَف بإجماعِهم لم يقُلْ به إلَّا المُعاصِرون، فهذا غيرُ صحيحٍ، والتقريرُ السَّابقُ يبيِّنُ بُطلانَ دعواه، وإنْ قصَدَ فَهمَ السَّلَف بأفرادِهم، فهذه دعوى عريضةٌ منه سيأتي ما يدُلُّ على بُطلانِها.
الأمر الرَّابع: المرادُ بفَهمِ السَّلَف عند رُموز السَّلَفيَّة المُعاصِرة:
تحدَّث رموزُ السَّلَفيَّة المُعاصِرة عن مرجعيَّةِ ما كان عليه السَّلَفُ كثيرًا، ولكنَّ التعبيرَ بلفظ (فَهْم السَّلَف) ليس مُستعمَلًا عند جميعِهم، ومن أكثر من استعمله الألبانيُّ -رحمه الله-.
وهم في كلامِهم لا يخرُجون عما قرَّره أئمَّةُ السَّلَف المتقدِّمون ولا ما قرَّره ابنُ تيميَّة؛ فمقصودُهم بفَهمِ السَّلفِ الملزِم الذي توجِبُ مخالفتُه الوقوعَ في الضَّلالِ: ما كانوا عليه من الفهم للنُّصوص الشَّرعيَّة بمجموعِهم لا بأفرادِهم.
ويدلُّ على ذلك أمور:
الأمر الأوَّل: تراكيبُهم الدَّالَّةُ على أنَّ المقصودَ الإجماعُ، وقد نقل الأستاذُ العَجَمي قدرًا منها، ولكِنَّه أساء فَهمَها.
يقولُ ابن باز: ((عقيدةُ الوهَّابيَّة: هي التمسُّكُ بكتاب الله وسُنة رسوله صلَّى الله عليه وسلم، والسَّيرُ على هَدْيه وهَدْيِ خلفائه الرَّاشدين، والتَّابعين لهم بإحسان، وما كان عليه السَّلَفُ الصالح وأئمَّةُ الدين والهدى؛ أهلُ الفِقه والفتوى في باب معرفة الله، وإثباتِ صفاتِ كماله ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتابُ العزيز، وصحَّت بها الأخبار النَّبويَّة، وتلقَّتْها صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالقَبول والتَّسليم؛ يُثبِتونها ويُؤمنون بها ويُمِرُّونها كما جاءت، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ويتمسَّكون بما درج عليه التَّابعون وتابِعوهم من أهل العلم والإيمانِ والتقوى))([18]).
فهذه التَّراكيبُ تدلُّ على أنَّه يتحدَّثُ عن حالة إجماعهم، وما درجوا عليه، وليس عن حالة أفرادِهم.
وكثيرًا ما يكرِّرُ ابنُ باز أنَّ الصَّحابةَ والتَّابعين أجمعوا على كذا وكذا، ومن ذلك قولُه: ((أهلُ السُّنَّة والجماعة من أصحاب الرسول صلَّى الله عليه وسلم والتَّابعين لهم بإحسان: مُجمِعون على أنَّ الله في السَّماءِ، وأنَّه فوق العَرشِ))([19]).
وأمَّا العثيمين فقد تابع ابنَ تيميَّة في أنَّ الإجماع الذي ينضبط هو إجماعُ القرونِ الثَّلاثة، وبيَّن أنَّ هذا هو مرجِعُ أهل السُّنَّة وأصلُهم الذي ينطلقون منه.
وذكر المؤلِّف (ص113) أنَّ الفوزان قدَّم لكتاب يقرِّرُ فيه مؤلِّفُه أنَّ منهجَ السَّلَف هو ما أجمعوا عليه، وأنَّه استدلَّ على قولِه بالنُّصوص الواردة في الإجماع، والغريبُ أنَّ المؤلِّفَ لم يقفْ عند هذا الأمرِ؛ ليراجِعَ فَهمَه لكلامِ المعاصِرين!
وأمَّا الألباني فالأمرُ عِندَه واضِحٌ جليٌّ؛ فإنَّه من أكثر من تحدَّث من رموز السَّلَفيَّة المعاصِرة عن فَهمِ السَّلَف، وفسَّره مراتٍ كثيرةً بأنَّ المقصودَ به جماعتُهم وإجماعُهم وما هم عليه بجُملتِهم، ومن ذلك قولُه: ((قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((وأصحابي)) هذا الحديثُ وهذا اللفظ تفسيرُه بالرِّواية الأخرى، وهي الأشهرُ والأقوى سَندًا، وهي التي تقولُ جوابًا عن سؤال السَّائلين عن الفرقة النَّاجية؛ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((هي الجماعةُ))، هي الجماعةُ، فقولُه هذا تفسيرٌ للآيةِ السابقة، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فسبيلُ المؤمنين هي الجماعةُ، والجماعةُ هي سبيلُ المؤمنين))([20]).
ويقول الألباني: ((دعوتُنا -هنا الشَّاهدُ وهنا بيتُ القصيد- تقومُ على ثلاثة أركان: على الكتاب، والسُّنَّة، واتِّباع السَّلَف الصَّالح، فمن زعم بأنَّه يتِّبِع الكتابَ والسُّنَّة، ولا يتَّبع السَّلَف الصَّالح، ويقول بلسانِ حاله، وقد يقولُ بلسان قالِه وكلامِه: هم رجالٌ ونحن رجالٌ!! فإنَّه يكونُ في زيغٍ وفي ضلالٍ، لماذا؟ لأنَّه ما أخذ بهذه النُّصوصِ التي أسمعناكم إيَّاها آنفًا، لقد اتَّبع سبيلَ المؤمنين؟ لا. لقد اتَّبع أصحابَ الرسول الكريم؟ لا. ما اتَّبع؟ اتَّبَع إن لم أقُلْ هواه، فقد اتَّبع عَقلَه، والعَقلُ معصوم؟ الجوابُ: لا. إذن فقد ضَلَّ ضلالًا مُبينًا)) ([21]).
الأمر الثَّاني: أنَّ بعضَهم ذكر أنَّ فَهمَ السَّلَف معصومٌ؛ فقد نقل الأستاذُ عن الألبانيِّ أنَّه قال: ((الانتسابُ إلى السَّلَفيَّة يعني الانتسابَ إلى العِصمةِ))، فهذا يدلُّ بوضوحٍ على أنَّه يقصِدُ الإجماع؛ لأنَّه من المستبعَدِ أنَّ الألبانيَّ يقصِدُ أفرادَ الصَّحابةِ أو الخُلفاء الرَّاشدين؛ لأنَّ الألبانيَّ خالفهم في عددٍ من المسائلِ، ولأنَّ اعتقادَ عصمة أحدٍ مِن أفراد الصَّحابةِ قولٌ باطِلٌ لا يخفى على الألباني ولا غيرِه من العلماء السَّلَفيين.
الأمر الثَّالث: أنَّ بعضَ رُموز السَّلَفيِّين المُعاصِرين صرَّحوا بردِّ عددٍ من الأقوال التي قالها بعضُ الخلفاء الرَّاشدين أو بعضُ الصَّحابة، مع علمِهم بقولهم بها، ومن ذلك صنيعُ الألباني مع الأذان الأوَّل الذي فعله عثمانُ، وقد ذكره المؤلِّف (425)، ومن ذلك موقِفُ الألباني والعثيمين من عددِ ركعات صلاة التَّراويح -وقد ذكره المؤلِّف (454)- وغيرها من الأمثلة.
فهذه المواقِفُ تدلُّ على أنَّ ما يقرِّره رموزُ السَّلَفيَّة المُعاصِرة من حُجِّيَّة فَهمِ السَّلَف لا يقصِدون به أفرادَهم؛ إذ لو كانوا يقصِدون أفرادَهم لَما خالفوهم في مثل هذه المسائلِ، مع علمِهم بأنَّه قولٌ لهم! ويوضِّحُه أنَّ السَّلَفيين المُعاصِرين الآخَرين الذين أخذوا بما رُويَ عن أفراد الصَّحابة لم يُضلِّلوا المخالِفين لهم من أصحابِهم، ولم يحكُموا عليهم بالضَّلالِ والفِسق؛ وذلك لأنَّهم يعلمون أنَّ حُجِّيَّةَ فَهمِ السَّلَف لا تشمَلُ هذه المسائِلَ، ولأنَّهم يعلمونَ أنَّ المخالَفة لفَهمِ السَّلَف بإجماعِهم لا تتساوى مع مخالفةِ أفرادِ الصَّحابة.
والغريبُ حقًّا أنَّ المؤلِّفَ يعلمُ ذلك جيدًا، ولكنَّه يُصرُّ على جعلِه تناقُضًا من السَّلَفيِّين المُعاصِرين، ولو كان مُدرِكًا لحقيقة ل قولِهم ومنهجِهم، لعَلِمَ أنَّ هذا الصَّنيعَ دليلٌ على أنَّهم يقصِدون بفهم السَّلَف إجماعَهم لا أفرادَهم!
الأمر الرَّابع: أنَّ كلامَ الأئمَّة المؤسِّسين والمؤثِّرين في السَّلَفيِّين المُعاصِرين، وخاصةً ابن تيميَّة: ظاهِرٌ جدًّا في بيان أنَّ المقصودَ بحُجِّية فَهمِ السَّلَف: ما كانوا عليه من الإجماعِ؛ فمن المستبعَدِ أن يُطبِقَ رموزُ السَّلَفيِّين المُعاصِرين على مخالفة ذلك، ومن المستبعَد أنَّ الشُّيوخ، وكبارَ طلبة العلم في الجامعات والدروس، والمختَصِّين في العقيدة: على مخالفةِ ذلك.
نعم، قد يخطئُ بعضُ الرموز أو بعضُ الشُّيوخ في الفهم والإدراك لذلك الأصل، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، أمَّا تعميم الحكم على السَّلَفيَّة المُعاصِرة، وبغير دليلٍ إلَّا فُهُومًا خاطئةً لبعض الأدلة: فهذه مجازفةٌ في الحكم، وخَللٌ في التَّفكيرِ!
الأمر الخامس: أنَّ بعضَ رموزِ السَّلَفيَّة المُعاصِرة نصَّ على أنَّ ما قاله الخلفاء الرَّاشدون لا يؤخَذُ به إذا خالف الكِتابَ والسُّنَّة؛ يقولُ عبد الرحمن البرَّاك: ((قولُه صلَّى الله عليه وسلم ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الرَّاشِدين)) يدلُّ على اتِّباع الخلفاء الرَّاشدين في سُنَّتِهم؛ فما سنَّه أبو بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي -رضي الله عنهم- ما لم يختلفوا فيه، ولم يخالِفْ دليلًا من الكتاب والسُّنَّة: فهو سُنَّة ماضيةٌ، نحن مأمورون باتباعِهم، واتِّباعُهم في هذا هو تحقيقُ اتِّباعِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم)) ([22]). فلو كان قولُ أفراد الصَّحابة حُجَّةً مُطلَقةً معصومةً دائمًا، لَما قال هذا القولَ، وأحسَبُ أنَّ هذا هو قولُ جمهور رموز السَّلَفيَّة المُعاصِرة.
ثمَّ إنَّ البرَّاك أخذ في شرحِ ما يعتقِدُه، فذكر كلامًا طويلًا يدُلُّ على أنَّه يعتقدُ أنَّ الحُجَّة الملزِمةَ التي توجِب مخالفتُها الخروجَ من السُّنَّة، والوقوعَ في الضَّلالِ: إنَّما هي فيما كان عليه الصَّحابةُ بإجماعِهم فِعلًا وتركًا، وليس فيما كان عليه أفرادُهم.
الأمر السَّادس: أنَّ بعض المُعاصِرين من السَّلَفيِّين صرَّح بأنَّ المرادَ بفَهمِ السَّلَف إجماعُهم، وهو ما صنعه الشيخُ الدميجي، وقد نقل المؤلِّف كلامَه مِرارًا.
وقولُ الشَّيخ الدميجي: ((وهذا يقتضي إجماعَهم)) ليست زيادةً من الشَّيخ الكريم ولا تقييدًا، وإنَّما هي توضيحٌ وزيادةُ بيانٍ؛ فلا أحدَ يخالِفُه في ذلك، وهو لم يَدَّعِ أنَّه خالف أحدًا، وكتابُه له أكثَرُ من سبع سنوات، وقرأه آلاف السَّلَفيِّين، فلم ينكِرْ عليه أحدٌ ذلك.
والشيخ الدميجي ليس مجرَّدَ أكاديميٍّ -كما يصوِّرُ الأستاذُ العجمي-، وإنَّما هو من كبار شيوخِ السَّلَفيَّة المُعاصِرين، وله دروسٌ وطلَّابٌ وكتُبٌ، وتخرَّج على يديه عشراتُ الطُّلَّابِ، وكتابُه عن فَهمِ السَّلَف قرأه مئات بل آلافُ طلبةِ العلم.
وكثيرٌ من الشُّيوخ السَّلَفيِّين الذين يَشرَحون الكتُبَ ويحاضِرون ويؤلِّفون: يُقَرِّرون ما ذكره الشيخُ الدميجي، من غيرِ نكيرٍ منهم!
وقد حاول الأستاذُ العَجَمي أن يَلمِزَ من صَرَّح بهذه الزِّيادة من المُعاصِرين الأكاديميِّين، فقال: ((أمَّا الباحِثون الأكاديميُّون المنتَسِبون للمَدرسة السَّلَفيَّة، وبما تُمليه عليهم شُروطُ البحث العِلميِّ المُعاصِر والجامعاتُ الحديثةُ؛ مِن استغراقِ البحثِ في أيِّ مسألةٍ لجميع المصادِرِ والمراجِعِ القديمة: اضطرَّهم ذلك للنَّظَرِ في كتاباتِ كبارِ أئمَّةِ هذا العلم، وهنا حينما نظَروا في الكتابات الأصوليَّةِ لم يُسعِفْهم هذا العِلمُ في إيجادِ المباحِثِ الخاصَّةِ بهذا العلم، فنظروا إلى أقربِ ما يُوافِقُه، فقالوا بهذا القولِ، مِن أنَّ المرادَ بفهم السَّلَفُ هو إجماعُهم!!)) ([23]).
فهو يُصوِّرُ حالَ مُعاصِري السَّلَفيِّين الأكاديميِّين بأنَّهم مُضطرُّون لذلك، وأنَّهم إنَّما فعلوا ذلك؛ استِغلالًا لبعضِ تقريراتِ الأصوليِّينَ، وليس لأنَّهم يعتَقِدون ذلك فِعلًا، وليس لأنَّهم يَعتَقِدون أنَّ أئمَّةَ المتقدِّمين يُقرِّرون ذلك المعنى!
وهذا فضلًا عن أنَّه صنيعٌ قَبيحٌ؛ لكونه دُخولًا في النِّيَّاتِ، فهو قائمٌ على سوءِ فهمٍ لِمراد المدرسةِ السَّلَفيَّةِ في القديمِ والحديثِ بحُجِّيَّةِ فَهمِ السَّلَف!!
نقدُ تفسير المُؤلِّفِ لمعنى فهمِ السَّلَفِ عن المدرسةِ السَّلفيَّةِ:
في ابتداءِ الحديثِ عن هذه النُّقــــــطةِ لا بُدَّ من التَّـأكيدِ على أنِّي نَسَبتُ إلى الأستــاذِ العَجَميِّ أنه يَنسِبُ إلى السَّلفيَّةِ المُعاصِرة أنَّها تَجعلُ فَهمَ السَّلفِ في إجماعِهم، والحقيقةُ أنه لم يقُلْ ذلك، وإنَّما نَسَب هذا القولَ إلى بعضِ السَّلفيةِ المُعاصِرِ، فأنا أعتذِرُ منه أولًا، وأعتذِرُ من الإخوةِ القُرَّاءِ ثانيًا، مع أنه في الحقيقةِ لم يَنفِ ذلك عن رُموز السَّلفيةِ صراحةً، وغايةُ ما فعَلَ أنه زعَمَ بأنهم يستدلُّون على فهمِ السَّلفِ، وقولِ الصحابيِّ، وقولِ الخُلفاءِ الراشدين بأدلَّةٍ واحدةٍ، فنسَبَ إليهم أنها شيءٌ واحدٌ.
ولكنَّ تلك النِّسبةَ، وإنْ كانت خطأً منِّي إلا أنها لا تُساوي الأخطاءَ التي وقَعَ فيها الأستاذُ العَجَميُّ في تعامُلِه مع تقريراتِ السَّلفيةِ المُعاصرةِ مع فهمِ السَّلفِ؛ فقد أخطَأَ في تصويرِ قولِهم، وفي أدلَّتِهم، وحكَمَ عليهم بالتناقُضِ والاضطراب؛ نتيجةَ سوءِ فَهمِه لِما يقولونه.
وبيانُه فيما يلي:
ذكَرَ الأستاذُ العَجَميُّ أنَّ رُموز السَّلفيةِ المُعاصرةِ يَرَونَ أنَّ فَهْمَ السَّلَفِ هو ((ما عَلِمه وفَقِهه واستنبَطَهُ الصَّحابةُ، والتَّابعون، وأتباعُهم من مجموعِ النُّصوصِ الشرعيَّةِ أو آحادِها مُرادًا للهِ تَعالى، ولرسولِهِ؛ ممَّا يتعلَّقُ بمسائِلِ الدِّينِ العِلميَّةِ والعَمَليَّةِ؛ ممَّا أُثِر عنهم من قولٍ أو فِعلٍ أو تقريرٍ)) ([24]).
فأنتَ ترى أنَّ هذا التعريفَ الذي اختاره، وذكَرَ أنَّ رُموز السَّلفيةِ يُقرِّرونَهُ ليس فيه تمييزٌ؛ هل المقصودُ به ما فَهِمه أفرادُهم، أمْ ما كان عليه جماعتُهم وإجماعُهم؟
ولكنَّه ذكَرَ أنَّ رُموز السَّلفيةِ المُعاصرةِ يستدِلُّون على حُجِّيَّةِ فهمِ السَّلَفِ بالأدلَّةِ الواردةِ في حُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ، والخُلَفاءِ الراشدين، ثم قرَّر أنَّ ذلك يعني أنهم يجعلون هذه المسائِلَ قضيَّةً واحدةً!!
يقول الأستاذُ العَجَميُّ: ((لقد اكتشفتُ وأنا أبحثُ في كتاباتِ المُنْتسِبين للمدرسةِ السَّلفيةِ حول حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ أنَّ مدارَ احتجاجِهم على هذا الأصلِ لا يخرُجُ عن أدلَّةِ القائلين بحُجِّيَّةِ اتفاقِ الخُلَفاءِ الراشدين... ولا عن أدلَّةِ القائلين بحُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ النَّقليةِ والعَقليَّةِ... ثم ذكَرَ نُقولًا عن عددٍ من رُموز السَّلفيةِ، ثم قال: إنَّ هذه الحقيقةَ التي سُقتُها في إثباتِ التَّرابُطِ الوثيقِ عند المُنْتسِبين للمدرسةِ السَّلفيةِ -عَلِموا أو لم يَعلَموا- بيْنَ قولِهم بحُجيةِ فهمِ السَّلَفِ، وبيْنَ القولِ بحُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ، والقولِ بحُجيةِ اتفاقِ الخُلَفاءِ الراشدين، التي اعتَبَرها حقيقةً واضحةً جليَّةً بالغةً... إذَنْ فأدلَّةُ وُجوبِ اتباعِ السَّلَفِ، وفَهمِهم عند السَّلَفيينَ هي عيْنُ أدلَّةِ حُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ؛ لذلك استدلَّ هذا الباحِثُ السَّلَفيُّ بما عَقَده ابنُ القيِّمِ للاستدلالِ على حُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ؛ فدلَّ ذلك على اتحادِ عَيْنِ المسألتينِ عند السادةِ السَّلَفيينَ)) ([25]).
فهذا التَّقريرُ من الأستاذِ العَجَميِّ يدلُّ بوُضوحٍ أنه لم يجِدْ كلامًا صريحًا لرُموز السَّلفيةِ المُعاصرةِ يُصرِّحون فيه بأنَّ مُرادَهم بفَهمِ السَّلَفِ ما كان عليه أفرادُهم، ولم يجِدْ دليلًا على ذلك إلا نوعَ الأدلَّةِ التي اعتمدوا عليها في تقريرِ هذا الأصْلِ، ولهذا جعَلَ ما فَهِمه اكتشافًا!!
فلمَّا وجَدَها لا تخرُجُ عن أدلَّةِ حُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ، وقولِ الخُلَفاءِ الراشدين نسَبَ إليهم أنهم يَجعَلون فهمَ السَّلَفِ في أفرادِهم.
وفي الحقيقةِ أنَّ الأستاذَ الكريمَ وقَعَ -بصنيعِه هذا- في مُغالطةِ "رَجُلِ القَشِّ"؛ فإنه صوَّرَ قولَ مُخالفيهِ تصويرًا مُخالِفًا لحقيقةِ حالِهم، ثم طَفِق يرُدُّ عليهم، فهو في الحقيقةِ يرُدُّ على أُناسٍ وَهْمِيِّينَ؛ فالسَّلَفيُّون فلا يُفسِّرون فهمَ السَّلَفِ الذي يجعلونه حُجَّةً ومِعيارًا في فهمِ النُّصوصِ بأفرادِهم، وإنَّما بإجماعِهم كما سبَقَ بيانُه بأدلَّتِهِ.
وهذا الصنيعُ من الأستاذِ هو أساسُ الخطأِ الذي أقام عليه كِتابَه، ومَنبعُ جُلِّ الأغلاطِ التي وقَعَ فيها، وسنُبيِّنُ ما في كلامِهِ من غَلَطٍ بالأمورِ التاليةِ:
الأمرُ الأولُ: أنه اختزَلَ أدلَّةَ السَّلَفيين على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ، وجَعَلَها ((لا يخرُجُ عن أدلَّةِ القائلين بحُجيةِ اتفاقِ الخُلَفاءِ الراشدين... ولا عن أدلَّةِ القائلين بحُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ النَّقليةِ والعَقليَّةِ)).
ويقولُ في مَوطِن آخَرَ: ((المُنْتسِبون للمدرسة السَّلفيةِ لم يخرُجوا عن أدلَّةِ هاتينِ المسألتينِ في استدلالِهم لحُجيةِ فهمِ السَّلَفِ))([26]).
ولكنَّه خفَّف العبارةَ في مَوضِع آخَرَ من الكتابِ فقال: ((جُلُّ استدلالاتِهم على هذا الأصلِ..)) ([27]).
وعلى كِلا الأمرينِ فما قام به الأستاذُ خطأٌ شنيعٌ في تصويرِ مقالاتِ الناسِ وأدلَّتِهم، فإنَّ من أشهَرِ الأدلَّةِ التي اعتمَدَ عليها السَّلَفيون (غيرُ الأكاديميين الذين يُصرِّحون بالإجماعِ) في تثبيتِ حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ النُّصوصَ الواردةَ في الإجماعِ، واستدلالُهم بهذا النوعِ من الأدلَّةِ مُنتشِرٌ وكثيرٌ في القديمِ والحديثِ، والغريبُ أن الأشخاصَ الذين نقَلَ عنهم الأستاذُ ذَكَروا هذا في كُتُبهم، ولا أدري لماذا أغفَلَ المُؤلِّفُ التعليقَ عليها، هل لأنها لا تخدُمُ فكرتَهُ أم ماذا؟
ومن أشهَرِ الأدلَّةِ التي اعتمدوا عليها قولُه تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
ومن أشهَرِ مَن صنَعَ ذلك الألبانيُّ -وهو من رُموز السَّلَفيين الذين لا يَحصُرون فهمَ السَّلَفِ في الإجماعِ عند الأستاذِ- فإنه لا يكادُ يذكُرُ قضيةَ فهمِ السَّلَفِ إلا ويستدِلُّ عليه بتلك الآيةِ، فقد استدلَّ بها عَشَراتِ المراتِ، ومن ذلك قولُه:"مَنشأُ الخلافِ هو أنهم خالفوا سبيلَ المؤمنين؛ فربنا عزَّ وجلَّ حينما ذكَرَ سبيلَ المؤمنين في قولِه تعـــالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] كان يُمكِن أنْ يُقال: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)، لكنه لحكمةٍ بالغةٍ عطَفَ على مُشاقَقةِ الرسولِ قولَه عز وجل: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} والحكمةُ واضِحةٌ جدًّا أنَّ هؤلاء المؤمنين همُ الذين بيَّنوا لنا القُرآنَ والسُّنةَ؛ ولذلك قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم في بيانِهِ لمِثلِ هذه الآيةِ، وجوابًا عن سؤالِ السَّائِل حينما ذكَرَ عليه السَّــــلامُ أنَّ الفِرقةَ النَّاجيةَ هي واحدةٌ من بيْنِ ثلاثٍ وسبعين فِرْقةً، لمَّا سُئِل ما هي الفِرْقةُ النَّـــاجيةُ؟ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((ما أنا عليه وأصْحابي))، ما قال ما أنا عليه فقط، وإنَّما أضاف إلى ذلك "وأصْحابي"))([28]).
وحين قرَّر حُجيةَ فهمِ الصَّحــابةِ ناقِلًا عن ابنِ القيِّمِ قال: ((هذا ليس من الاستنباطِ، ولا هو من الاجتـــــــهادِ الذي يقبلُ احتـمالَ أن يكونَ خطأً، وإنَّما هو اعتـــمادٌ على كتـــــابِ اللهِ، وعلى حديثِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم، أمَّا الكِتابُ: فقولُ ربنا عز وجل في القُرآنِ الكريم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]))([29])، ثم أطالَ في شرحِ دَلالةِ الآيةِ.
ويقولُ عن المُنحرِفين: ((هُم يقولون بالكِتابِ والسُّنةِ لكنْ يُخالفون ما كان عليه السَّلَفُ الصالحُ، هذا السَّلَفُ، هُمُ المَعْنيُّون بقولِهِ تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فسبيلُ المؤمنين: هم السَّلَفُ الصالحُ))([30]).
لماذا أغفَلَ الأستاذُ هذه الآيةَ التي هي من أصولِ الأدلَّةِ التي اعتمَدَ عليها الألبانيُّ في تأسيسِ حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ، ومن أكثرِها اعتمادًا عنده.
فإذا سلَّمْنا أن الألبانيَّ لم يُبيِّنْ مُراده بفهمِ السَّلَفِ، وسلَّمْنا للمُؤلِّفِ بأن طبيعةَ الأدلَّةِ هي التي تُحدِّد المرادَ بفهمِ السَّلَفِ، فلماذا لم يذكُرْ هذه الآيةَ التي هي بناءً على منهجِهِ قويةُ الدَّلالةِ في بيانِ المرادِ؟!
وقد أحال الأستاذُ (ص77) إلى كتابِ "ما هي السَّلفية"، للدكتور عبدِ اللهِ البُخاري، والدكتور قد استدلَّ بهذه الآيةِ أيضًا على حُجيةِ فَهمِ السَّلَف، وكذلك استدلَّ بها سليمٌ الهلاليُّ في كتابه "لماذا اخترتُ السَّلفيةَ"، وغيرُهما كثيرٌ.
بل الاستدلالُ بهذه الآيةِ ليس خاصًّا بالسَّلفيةِ المُعاصِرة، وإنَّما هو قديمٌ، وممَّن استدلَّ بها أبو حاتمٍ؛ فإنَّه يقولُ بعد أنْ بيَّنَ فضلَ الصَّحابةِ: ((فكانوا عُدولَ الأُمَّةِ، وأئمَّةَ الهُدى، وحُججَ الدِّينِ، ونَقَلةَ الكِتابِ والسُّنةِ، وندَبَ اللهُ عز وجل إلى التمسُّكِ بهَدْيِهم، والجَريِ على مِنهاجِهم، والسُّلوك لسَبيلهم، والاقتداءِ بهم فقال: (وَمَنْ ([31]) يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى))) ([32]).
وممَّن استدلَّ بها ابنُ قُدامةَ، حيث يقولُ: ((البابُ الثاني في بيانِ وُجوبِ اتباعِهم، والحثِّ على لُزومِ مذهبِهم، وسُلوكِ سبيلِهم، وبيانُ ذلك من الكتابِ، والسُّنةِ، وأقوالِ الأئمَّةِ، وأمَّا الكتابُ؛ فقولُ اللهِ تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] فتوعَّدَ على اتباعِ غيرِ سبيلِهم بعذابِ جهنَّمَ، ووعَدَ مُتَّبِعَهم بالرضوانِ والجنَّةِ، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] فوعَدَ المُتَّبِعين لهم بإحسانٍ بما وعَدَهم به من رضوانِهِ، وجنَّتِهِ، والفوزِ العظيمِ))([33]).
فإذا كانت طبيعةُ الأدلَّةِ تدلُّ على معنى فهمِ السَّلَفِ، فإنَّ هذه الآيةَ من أقوى الأدلَّةِ التي تدلُّ على مُرادِهم بفهمِ السَّلَفِ، فلماذا أغفَلَها الأستاذُ؟
والأستاذُ الكريمُ يرى أنَّ الاستدلالَ بهذه الآيةِ على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ يُناقِضُ الاستدلالَ بها على حُجيةِ عُلماءِ الأُمَّةِ، وفهُمُه خطأٌ سيأتي بيانُه في الجزءِ الثاني، ولكنَّه أوهَمَ القُرَّاءَ أنه لم يستدِلَّ بهذه الآيةِ إلَّا الأكاديميُّون الذي صرَّحوا بالإجماعِ، والحقيقةُ أنَّ الاستدلالَ بها مُنتشِرٌ في القديمِ والحديثِ.
والأستاذُ يُصوِّر أنه لم يستدِلَّ بهذه الآيةِ على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ إلا مَن صرَّحَ بأنَّ فهمَ السَّلَفِ هو إجماعُهم([34])، وبناءً على كلامِهِ هذا، فالألبانيُّ ليس ممَّن استدلَّ بها، والحقيقةُ أنَّ الأمرَ ليس كذلك كما سبَقَ بيانُه.
وحتى لا يأتيَ الأستاذُ ويقولَ: بل ذكرتُ الآيةَ وناقشتُها.. فنقولُ من الآنَ: نَعَمْ ذكرتَها، ونِقاشُك لها خطأٌ ظاهِرٌ، ولكنَّ نقدَنا لك هنا أنَّك لم تذكُرْها في أدلَّةِ رُموزِ السَّلَفيين الذين اختزلتَ أدلَّتَهم على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ.
الأمر الثاني: أقام الأستاذُ كلامَه على أنَّ الاتحـــادَ في الأدلَّةِ يَستلزِمُ الاتحادَ في عَينِ المسائِلِ، حيث يقولُ: ((أدلَّةُ وُجوبِ اتباعِ السَّلَفِ، وفَهمِهم عند السَّلَفيين هي عَينُ أدلَّةِ حُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ؛ لذلك استدلَّ هذا البـاحِثُ السَّلَفيُّ بما عقَدَه ابنُ القيِّمِ للاستدلالِ على حُجيةِ قولِ الصَّــحابيِّ، فدلَّ ذلك على اتحادِ عَينِ المسألتينِ عندَ السَّادةِ السَّلَفيين)).
وهذا قُصورٌ شديدٌ في التحليلِ والفهمِ، فليس لدَى الأستاذِ إلَّا خِيارانِ، إمَّا أنْ تختلِفَ أدلَّةُ المسائِلِ، وإمَّا أنْ تكونَ مُتَّحِدةً في حقيقتِها، ولكنَّه أغفَلَ خياراتٍ أخرى أشدَّ وُضوحًا وبيانًا، ومنها: الاستدلالُ بقياسِ الأوْلى، فقد استدلَّ بأدلَّةِ مسألةٍ ما على مسألةٍ أخرى مُختلِفةٍ عنها في عددٍ من المُقْتضياتِ بقياسِ الأوْلى.
وهذا الذي صنَعَه أتباعُ المدرسةِ السَّلفيةِ، فإنَّهم استدلُّوا بالنُّصوصِ الواردةِ في فضلِ الصَّحابةِ، وفي حُجيةِ قولِ الخُلَفاءِ الراشدين، وقولِ الصَّحابيِّ بقياسِ الأوْلى، وحاصِلُه أنه إذا كان حالُ بعضِ الصَّحابةِ كذلك، فحالُهم إذا أجمَعوا أقوى وأكمَلُ، وكذلك صَنَعوا في النُّصوصِ الواردةِ في الإجماعِ.
وسواءً وافَقَ الأستاذُ العَجَميُّ على هذا الاستدلالِ أو انتَقَده، فلا إشكالَ، ولكن ذلك لا يُسوِّغُ له ألبتةَ الادِّعاءَ بأنَّ أتباعَ المدرسةِ السَّلفيةِ يجعلون تلك المسائلَ المختلِفةَ شيئًا واحدًا في الحقيقةِ والأحكامِ المترتِّبةِ عليها.
وقد أثرتُ هذه القضــيةَ على الأســتاذِ، فقال في الجوابِ عنها: ((فما الذي يَقصِـدُهُ باشتراكِ المســـائلِ في الأدلَّةِ، هل يقصدُ أنَّ هذه النُّصوصَ التي يذكُرُها عُلَماءُ السَّلفيةِ المُعاصرةِ في استدلالِهم على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ، هل يقصدُ أنها نُصــوصٌ قابلةٌ لأنْ يُستدلَّ بها على الشَّيءِ ونَقيضِه، فيُستدلُّ بها على حُجيةِ إجماعِ السَّلَفِ الذي لا خِــلافَ فيها، ويُستدلُّ بها أيضًا على حُجـــيةِ أقوالِ الخُلَفاءِ، وقولِ الصَّـــحابيِّ المُختلِفةِ في حُجيتِهما؟)).
وهذا يُؤكِّدُ أنه لم يفهمْ كلامَ مَن يقومُ بنَقدِهم، مع أنه نقَلَ بعضَ الأقوالِ التي تُفسِّرُ طريقَهم في الاستدلالِ، فهم حين استدلُّوا بالنُّصوصِ الواردةِ في حُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ، والخُلَفاءِ على حُجيةِ إجماعِ الصَّحابةِ إنَّما اعتمدوا على قياسِ الأوْلى، فإذا ثبتتِ الحُجةُ لأفرادِهم، فثُبوتُها في مجموعٍ أقوى وأظهَرُ، ولهم مسالِكُ أخرى في الاستدلالِ.
وأُكرِّرُ مرَّةً أخرى أنَّ البحثَ ليس في مُناقشةِ الأستاذِ في مَوقِفِه من هذا الاستدلالِ، وإنَّما في بيانِ أنه لم يفهمْ وجهَ استدلالِهم، ولا طَريقتَهم، فوقَعَ في خطأٍ كبيرٍ أضرَّ بكُلِّ بحثِهِ، وهو تصورُّه أنهم يجعلون المسألتينِ مَسألةً واحدةً.
الأمرُ الثالثُ: يَلزمُ على طريقةِ الأســــتاذِ في تحليلِ الأقوالِ أن يكونَ قولُ الصَّــــحابيِّ عند ابنِ تيميةَ من قبيلِ الإجماعِ المُلزِم؛ لأنَّ ابنَ تيميةَ استدلَّ على حُجيةِ قولِهِ ببعضِ النُّصــوصِ الواردةِ في الإجماعِ، فإنه اســتدلَّ في كتابِ " تَنبيهُ الرَّجُلِ العاِقِل " (2/576) بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] على حُجيةِ قولِ الصَّحابيِّ، واستدلَّ بها في مَجموعِ الفتاوى (28 / 125) على حُجيةِ الإجماعِ.
فبناءً على منهجيةِ الأستاذِ الغريبةِ يجوزُ لنا أن نُقــــــرِّرَ بأنَّ ابنَ تيميةَ يرى أنَّ قولَ الصَّحابيِّ والإجماعَ شيءٌ واحدٌ، وأنهما مُتَّحِدانِ في الحقيقةِ، والأحكامِ المترتِّبةِ عليهما.
خاتِمةٌ: تَعقيباتٌ مُختَصرةٌ
في هذه الخاتمةِ سأُعلِّقُ على عددٍ من التعليقاتِ التي قام بها الأستاذُ العَجَميُّ، وقد أخطَأَ فيها.
التعليقُ الأولُ: ذكرتُ في قراءتي النَّقديةِ بأنِّي سأقتصِرُ على رُؤوسِ الأفكارِ من غيرِ دُخولٍ في التَّفاصيلِ، وذِكرِ الأدلَّةِ.
وكُلُّ قارئٍ لتلك الورقةِ يعلمُ أنَّ القصدَ منها بيانُ أصولِ الأغلاطِ إجمالًا، وليس تتبُّعَ كُلِّ ما في الكتابِ.
ولكن ماذا فعَلَ الأسـتاذُ الكريمُ؟ أخَذَ يقولُ : إني إنَّما تركتُ الدُّخـــولَ في الأدلَّةِ؛ لأنَّه لا يُمكِن أن يَرُدَّ على ما قام به.
وهذا من التَّضخيمِ الذي لا يزالُ صاحِبُنا الأستاذُ يُكرِّره عن نفسِه، وعن الكتابِ، فكُلُّ أحدٍ يُفرِّق بيْنَ النقدِ الإجماليِّ الذي يقتصِرُ على بيانِ أصولِ الغَلَطِ في الفَهمِ والاستدلالِ، وبيْنَ النقدِ الذي يقصِدُ إلى تتبُّعِ كُلِّ التفاصيلِ والأدلَّةِ.
وأمَّا النقدُ التفصيليُّ لما ذكره من الاعتراضاتِ المُتعلِّقةِ بصُلبِ الموضوعِ، فسيكونُ في الجزءِ الثاني، فلا يَستعجِلُ ما سيَأتيهِ.
التعليقُ الثاني: قُلتُ: ((لو كان الباحثُ صاحِبَ منهجيَّةٍ عِلميَّةٍ دقيقةٍ، ومُلتزِمًا بمناهِجِ الحِجاجِ والجَدَلِ لتركَّزَ حديثُه على ثلاثةِ أُمورٍ)).
فعلَّقَ يقولُ: أنا ذكرتُ تلك الأمورَ، وأطالَ في الكلامِ، وهذا خلَلٌ في الفَهمِ منه، فالنقدُ الذي قدَّمتُ ليس راجعًا إلى عِدمِ ذِكرِه، وإنَّما هو راجِعٌ إلى أنه لم يُركِّزْ عليها؛ لأنها صُلبُ الموضوعِ ولُبُّه، وإنَّما ركَّزَ على أُمورٍ، وأطالَ فيها جدًّا.
فإنْ أراد أنْ يعترِضَ على نَقْدي هذا، فعليه فِعلُ واحدٍ من أمرَينِ:
الأولُ: أن يُبيِّنَ بأنه ركَّزَ على تلك الموضوعاتِ، وأعْطاها حقَّها من البحثِ والتحليلِ والاستدلالِ.
الثاني: أن يُثبِتَ بأنها ليست مركزيةً، ولا تستحِقُّ التركيزَ.
أمَّا أن يُعلِّقَ بأنه ناقشَها وبحَثَها، فهو يتحدَّثُ في غَيرِ محلِّ النقدِ.
التعليقُ الثالثُ: ذكرتُ في قراءتي النقديَّةِ تنبيهًا أشرتُ فيه إلى أنه ناقَشَ بعضَ الأمورِ التي دَعوتُه إلى التركيزِ عليها، فقال الأستاذُ العَجَميُّ مُعلِّقًا على ذلك التنبيهِ: ((هنا يُقِرُّ العُمَيريُّ بما جَحَده آنفًا من أنِّي لم أتعرَّضْ لهذه القضيةِ التي يراها مَركزيَّةً في البحثِ)).
وهذا فهمٌ غَريبٌ جدًّا من الأستاذِ الكريمِ، فأنا لم أقُلْ: إنه لم يتعرَّضْ، وإنَّما قُلتُ: إنه لم يُركِّزْ، وثمَّةَ فَرقٌ كبيرٌ بيْنَ الأمرينِ، فقد قُلتُ: ((فلو قام الباحثُ بهذه الأمورِ لكان لبَحثِهِ أثرٌ في مُعالجةِ هذه القضيةِ المركزيَّةِ، ولكنَّه للأسفِ لم يُركِّزْ حديَثه على تلك القضايا، وإنَّما صوَّر قولَ مُخالفيه بطريقةٍ خاطئةٍ، ثم شرَّقَ وغرَّبَ في مسائِلَ لا أثَرَ لها في نُصرةِ قَولِهِ أو إبطالِ قولِ مُخالفيهِ)).
التعليقُ الرابعُ: ذكرتُ في معرضِ إثباتي لقُصورِهِ البحثيِّ أنَّ أتباعَ المذهبِ السَّلَفيِّ أثاروا قضايا مُهمَّةً في بحثِه هو لم يتعرَّضْ لها، وذكرتُ مسألةً أثارها ابنُ تيميةَ.
وعلَّقَ عليها بقولِه: ((هذا أنتَ أحدُ أتباعِ المذهبِ السَّلَفيِّ، ولم تذكُرْ لنا ما فائدةُ ذلك))، وهذا تعليقٌ غريبٌ كُلَّ الغرابةِ، ولا قيمةَ له!
والجوابُ الصَّحيحُ: أنْ يُثبِتَ بأنَّه وقَفَ عليها، وأنه لا أثَرَ لها في إثباتِ قُصورِه في البحثِ، أو أنْ يُقِرَّ بأنه لم يكن يَعلَمُها من قبلُ، ويُقِرَّ بالقُصورِ فيما قام به من بَحثٍ.
التعليقُ الخامسُ: نسَبَ الأستاذُ إليَّ أنِّي أقولُ: إنَّ كُلَّ السَّلَفيين يقولون بعدمِ حُجيةِ قولِ الخُلَفاءِ الراشدين، وقولِ الصَّحابيِّ. وهذه النِّسبةُ خطأٌ ظاهِرٌ، فأنا لم أقُلْ ذلك أبدًا، فهذا تقوُّلٌ من الأستاذِ الكريمِ عليَّ.
التعليقُ السادسُ: كرَّر الأستاذُ مرارًا بأنه ناقَشَ أدلَّةَ السَّلَفيين على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ، وبيانِ بُطلانِها، وأشعَرَ القارئَ بأنِّي قد تهرَّبتُ منها.
وهذا يدلُّ بوُضوحٍ على أنه لم يَفهمْ حقيقةَ النقدِ الذي قدَّمتُه لبَحثِهِ، فأنا لا أقولُ: إنَّه لم يُناقِشْ شيئًا من الأدلَّةِ التي اعتمَدَ عليها السَّلَفيون في تأسيسِ فَهمِ السَّلَفِ، وإنَّما أقولُ: إنَّه فَهِمَ كلامَ السَّلَفيين خطأً، وفَهِمَ طريقةَ استدلالِهم ببعضِ الأدلَّةِ خطأً، وحَكَمَ على مواقفَ خطأً، ولم يذكُرْ كُلَّ أدلَّتِهم المُعبِّرة عن حقيقةِ قولِهم، وإنَّما اختَزَلها وشتَّتَها.
وبناءً على ذلك، فتَكرارُه بأنه ردَّ على أدلَّةِ السَّلَفيِّين وناقَشَها لا قِيمةَ له؛ لأنَّ ذلك ليس هو محلَّ النقدِ.
التعليقُ السابع: قُلتُ في التعليقِ: ((وأنا هنا لا أصحِّحُ صنيعَ ما فعَلَه بعضُ أتباعِ المذهبِ السَّلَفيِّ في كثيرٍ من استدلالِهم، وإنَّما أُبيِّنُ أنَّ ما فعَلَه الناقدُ من دَعْوى البناءِ غيرُ صحيحٍ)).
وقد فَهِم الأستاذُ من هذا الكلامِ أنِّي أُوافِقُه في نقدِ السَّلفيةِ المُعاصرةِ، وعرَّضَ بي بأنِّي أُريدُ أنْ أظهَرَ في صورةِ المُدافِعِ.
وهذا فهمٌ غريبٌ للكلامِ، فكَوْني أُخطِّئُ بعضَ أصحابِنا في بعضِ الأدلَّةِ ليس معنى ذلك أنِّي أُخطِّئُه في الأصلِ ذاتِهِ، وهو حُجيةُ فَهمِ السَّلَفِ بإجماعِهم، وليس معناه أنِّي أنسُبُ إليهم أنهم يُفسِّرون حُجيةَ فَهمِ السَّلَفِ بقَولِ الصَّحابيِّ الفَرْدِ؛ فهذا ما لم أقُلْه أبدًا، وهو محلُّ النقدِ لكتابِ الأستاذِ الكريمِ.
لو أنَّ الأستاذَ الكريمَ كان ينتقِدُ بعضَ أدلَّةِ السَّلَفيِّين على حُجيةِ فَهمِ السَّلَفِ لَما قُمتُ بنَقدِه، ولكنه يُقدِّم معنًى جديدًا، ويدَّعي أنه المُمثِّلُ لحقيقةِ قولِهم، وهذا هو محلُّ الاعتراضِ.
ولو أنه ذكَرَ أنَّ ذلك القولَ الذي ينتقِدُه قاله بعضُ السَّلَفيين، لما تشجَّعتُ لنقدِهِ؛ لأنَّ السَّلَفيِّين كُثُرٌ؛ فلا غرابةَ أنْ يقعَ بعضُهم في الخطأِ أو في القُصورِ، ولكنَّه يجعلُ ذلك القولَ هو المُمثِّلُ لمنهج ِالسَّلَفيين.
التعليقُ الثامنُ: لو قـال قـائلٌ: من خلالِ استـقراءِ كلامِ رُموز السَّلفيةِ المُعـاصرين وجدتُ أنَّ جُملةَ (فهمِ السَّلَفِ)، تُطلَقُ على كُلِّ ما نُقِل عن الصَّحابةِ والتَّابعين، ولكنْ ما نُقِل عنهم على مراتبَ، بعضُها إجماعٌ، وبعضُها قولُ أفْرادٍ، فما كان من قبيلِ الإجماعِ، فحُكمُه حُكمُ الإجماعِ حُجةً ومُخالَفةً، وما كان من قبيلِ قولِ الأفرادِ، فحُكمُه حُكمُ الأدلَّةِ المختلفةِ فيها = أقولُ: لو قال ذلك قائلٌ لكان قولُه أقرَبَ من قولِ الأستاذِ الذي يُصِرُّ -بغيرِ أدلَّةٍ صحيحةٍ- على أنَّ رُموز السَّلَفيين يُفسِّرون فهمَ السَّلَفِ بما نُقِل عن أفرادِهم، ثم يجعلون له حُجيةَ الإجماعِ في الإلزامِ والمُخالفةِ.
وفي خِتامِ هذا الجزءِ أسألُ اللهَ لي ولأخي سعدٍ العَجَميِّ التوفيقَ والسَّدادَ، والإخلاصَ في القَولِ والعَمَلِ، وأسأَلُه سُبحانه أنْ يغفِرَ لنا الزَّلَلَ، وأن يعفوَ عن التقصيرِ والذَّنْبِ، إنَّه وليُّ ذلك والقادِرُ عليه.
(الجُزءُ الثاني)
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرَفِ الأنبياءِ، وبعدُ:
فهذا هو الجُزءُ الثاني في الردِّ على كِتابِ "حُجية فَهمِ السَّلَف"، للأستاذ سعدٍ العَجَميِّ، وقد ذكرتُ في الجُزءِ الأولِ معنى فهمِ السَّلَفِ عن أئمَّةِ السَّلَف المُتقدِّمينَ، وعند ابنِ تيميةَ، وعند السَّلَفيين المُعاصِرين، وقدَّمتُ الأدلَّةَ على ذلك، وبيَّنتُ خطَأَ المُؤلِّفِ حين نسَبَ إلى رُموز السَّلَفيين أنهم يجعلون حُجيةَ فَهمِ السَّلَفِ في أقوالِ أفرادِهم، لا في قَولِهم جميعهم، وذكرتُ ما في فَهمِهِ من خطأٍ، وما في استدلالِهِ من غَلَطٍ.
وقد ذكَرَ أنَّ بعضَ الأكاديميِّين السَّلَفيِّين جعَلَ فَهْمَ السَّلَفِ في إجماعِهم، وذكَرَ أنَّ هذا صنيعٌ جديدٌ لا يُعرَفُ عند السَّلَفيين، وخاصَّةً رُموزَهم المعاصِرين، وحاوَلَ أنْ يُثيرَ ضِدَّه عددًا من الاعتراضاتِ، ضخَّمَ منها وأعلى من شأنِها، وهي في الحقيقةِ لا تعدو أنْ تكونَ أغلاطًا في الفهمِ، وانحرافًا في الإدراكِ، وتكلُّفًا في الإيرادِ والحِجاجِ، وفي هذا الجُزءِ سأُبيِّنُ ما في اعتراضاتِهِ من أغلاطٍ وانحرافاتٍ.
فقد اعترض الأستاذُ العَجَميُّ على فَهمِ السَّلَفِ بإجماعِهم بخمسةِ اعتراضاتٍ:
الاعتراضُ الأولُ:
أنَّ لفظَ الفَهمِ لا يدلُّ على معنى الإجماعِ، حيث يقولُ: ((من الناحيةِ اللُّغويةِ، وقد تقدَّمَتْ معنا عند الحديثِ عن مَفهومِ مُفردةِ الفهمِ في الاستعمالِ اللُّغويِّ، وكيف أنها تكادُ تترادفُ مع مُفرداتِ العِلمِ والمعرفةِ والتصوُّرِ والتعقُّلِ، إنَّ هذه الحقائِقَ اللُّغويةَ لِمُفردةِ الفهمِ أبعَدُ ما تكونُ عن حقيقةِ مُفردةِ الإجماعِ، لا من الناحيةِ الاصطلاحيَّةِ الأصوليَّةِ.. ولا من الناحيةِ اللُّغويَّةِ، والتي تأتي بمعنًى مُغايرٍ لمعنى الفهمِ))([35]).
والاعتراضُ على مَن فسَّرَ فهمَ السَّلَفِ بإجماعِهم بهذا المعنى في غايةِ البُعدِ، وهو خـطَأٌ ظاهِرٌ، وغَلَطٌ بيِّنٌ؛ لأنَّ تقريرَ معنى الإجماعِ ليس مأخوذًا من لفظةِ (الفهم) ألبتةَ، ولا عَلاقةَ له بذلك لا من قريبٍ ولا بعيدٍ، ولم يقُلْ أحدٌ من أتْباعِ المدرسةِ السَّلفيةِ: إنَّ إجماعَ السَّلَفِ مأخوذٌ من لفظةِ الفهمِ أو مُتضمَّنٌ فيها، وإنَّما هي مُتضمَّنةٌ في لفظةِ السَّلَفِ، أو مُتضمَّنةٌ في السياقِ، أو مُوضَّحةٌ في الشَّرحِ والتوضيحِ.
فيكونُ معنى تقريرِهم: الفَهْم الذي أجمَعَ عليه السَّلَفُ، أو العِلم الذي أجمَعَ عليه السَّلَفُ، أو التصوُّر الذي أجمَعَ عليه السَّلَف؛ فالتَّقييدُ بالإجماعِ مأخوذٌ من شيءٍ آخَرَ غيرِ لفظةِ الفهمِ.
وهذا التعبيرُ ليس خاصًّا بالسَّلَفيِّين، وإنَّما هو شائِعٌ في لُغةِ العُلَماءِ، فكثيرًا ما يقولُ المُنظِّرون في العُلومِ: فهمُ العُلَماءِ كذا وكذا، أي: أدرَكَ العُلَماءُ في مجموعِهم أو بمجموعِهم كذا وكذا، ويقولون: يجِبُ ألَّا يخرُجَ عن فهمِ العُلَماءِ أو عن فهمِ المُفسِّرين مثلًا، فالمقصـودُ بكلامِهم هذا ألَّا يخرُجَ عن الفَهمِ الذي أجمَعَ عليه العـُلَماءُ أو المُفسِّرين إذا كان حديثًا عن التفسيرِ.
يقولُ أبو حيَّانَ تعليقًا على كلامٍ للزَّمَخشريِّ: ((وما ذهَبَ إليه الزَّمَخشريُّ من تَجويزِ كونِهِ فارِغًا من الهَمِّ إلى آخرِهِ، خِلافُ ما فَهِمه المُفسِّرون من الآيةِ)) ([36])، ومَقصودُه مُخالِفٌ للفَهمِ الذي توارَدَ عليه المُفسِّرون في مجموعِهم أو جميعِهم.
ويقول القُرطبيُّ في التعليق على بعضِ الأحاديثِ المُتعلِّقةِ بعِتقِ الرَّقيقِ: ((فَهِم العُلَماءُ من ذلك تشوُّفَ الشَّارِعِ إلى العِتقِ))([37])، ويقولُ أبو عبدِ اللهِ القُرطبيُّ: ((فَهِم العُلَماءُ من قَولِه تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34] أنه متى عجَزَ عن نفقتِها لم يكن قوَّامًا عليها))([38])، ويقول ابنُ المُلقِّنِ تعليقًا على بعضِ الأحاديثِ: ((الذي فَهِمه العُلَماءُ أنَّ هذا النهيَ ليس على وَجهِ التَّحريمِ، وإنَّما هو من بابِ سدِّ الذَّرائِعِ، والإرشادِ إلى الأصلَحِ))([39]).
فلفظةُ الفَهمِ سواءً كانت مصدرًا أو فِعلًا، لا يُرادُ منها التعبيرُ عن الإجماعِ، وإنَّما يُرادُ بها التعبيرُ عن العِلمِ والإدراكِ، وأمَّا الإجماعُ فهو مأخوذٌ من شَيءٍ آخَرَ كما سبَقَ بيانُه.
ونحن لا نُنكِرُ أنَّ جُملةَ: (فَهِم العلماءُ) قد تُطلَقُ، ويُرادُ بها العُلَماءُ بمجموعِهم لا بجميعِهم، ولكنْ لا أحَدَ من العارفين بلُغةِ أهلِ العِلمِ يقولُ: إنَّها لا تُطلَقُ على الإجماعِ بحالٍ، ولا أحَدَ منهم يقولُ: إنَّ معنى الإجماعِ مأخوذٌ من لفظِ الفهمِ.
ولا أدري كيف فَهِم الأستاذُ العَجَميُّ ذلك الفهمَ؟ وكيف تصوَّرَ أنَّ المُنْتسِبين للسَّلَفيةِ يجعلون الإجماعَ مأخوذًا من لفظةِ الفهمِ، حتى يعترِضَ بذلك الاعتراضِ الغريبِ؟
الاعتراضُ الثاني:
أنَّ إجماعَ أهلِ عُصورٍ ثلاثةٍ مُمتنِعٌ، نَعَمْ قد يُجمِعُ أهلُ عصرٍ واحدٍ على مسألةٍ مُعيَّنةٍ، أمَّا اجتماعُ أهلِ عُصورٍ ثلاثةٍ على مسألةٍ فهو مُمتنِعٌ، يقولُ المُؤلِّفُ بعدَ أنْ ذكَرَ تعريفَ الأُصوليِّينَ للإجماعِ، وأنَّه يقومُ على اتفاقِ أهلِ عصرٍ من العُصورِ: ((تأمَّلْ هنا قولَهم: ((في عصرٍ من العُصورِ)) فلا بُدَّ أن يكونَ هذا الإجمـــاعُ حصَلَ في عصرٍ استــطاعَ المجتَهِدون فيه أنْ يَتَّفِقوا على هذا الحُكمِ الشَّــرعيِّ، أمَّا في هذا التــعريفِ -يَعْني تعريفَ السَّلَفيين لفهمِ السَّلَفِ- فقد جعَلَ هذا الإجماعَ مُتفرِّقًا على ثلاثةِ عُصورٍ -عصرِ الصَّحابةِ، وعصرِ التَّابعين، وعصرِ أتباعِ التَّابعينَ -، فكيف يصِحُّ لأهلِ ثلاثةِ عُصورٍ مُتفرِّقةٍ أنْ يجتَمِعوا ويُجمِعوا على مسألةٍ أو فهمٍ، ثم يُقالُ عن هذا الفهمِ: إنَّه فهمُ السَّلَفِ الذي يقتضي إجماعَهم، إذ هو حُجةٌ، واستحالةُ وُقوع مُسمَّى الإجماعِ على أكثَرَ من عصرٍ واحدٍ أشار إليه ابنُ رُشدٍ الحفيدُ))([40])، ثم نقَلَ لفظَه.
وهذا الاعتراضُ لا يختلِفُ عن سابِقِه في الغرابةِ والبُعدِ عن إمكانيةِ الصَّوابِ، فهو يتوهَّمُ أن السَّلَفيين يَعتَقِدون أنَّ عُلَماءَ السَّلَف في القُرونِ الثلاثةِ لا بُدَّ أنْ يَجتَمِعوا في عصرٍ واحدٍ على مسألةٍ شرعيَّةٍ، وهذا التصوُّرُ لا يليقُ بمُشتَغِلٍ بالعِلمِ أنْ يظُنَّه في أجهَلِ طلبةِ العِلمِ، فكيف بمَن يعلمُ أنَّهم مُشتَغِلون بالعِلمِ الشَّرعيِّ، ولهم قَدرٌ كبيرٌ فيه لا يختلِفُ عن حالِ المُعاصِرين لهم أو يُقارِبُه على التنزُّلِ.
وبيانُ ما في اعتراضِ الأستاذِ العَجَميِّ من غَلَطٍ وخَلَلٍ، يُمكِنُ أن يحصُلَ من وُجوهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ كثيرًا من أتباعِ المنهجِ السَّلَفيِّ، وأشهَرُهم إمامُهم ابنُ تيميةَ يُقرِّرون بأنَّ الإجماعَ الذي ينضبِطُ هو إجماعُ الصَّحابةِ، وأنَّ مَن بعدَهم إنَّما هم مُقتَفون له، وناقِلون له لمَن بعدَهم، فهم يُقرِّرون أنَّ الصَّحابةَ إذا أجمعوا فإجماعُهم مُستنِد لإجماعِ مَن يجيءُ بعدَهم من أئمَّةِ التَّابعينَ وأتباعِهم، فليس في الأمرِ اعتِقادُ اجتماعِ أهلِ القُرونِ الثَّلاثةِ في آنٍ واحدٍ لا من قريبٍ ولا بعيدٍ.
الأمرُ الثاني: أتباعُ المدرسةِ السَّلفيةِ ليسوا جَهَلةً بأصولِ الفِقهِ، فهم إذا أطلَقوا لفظَ الإجماعِ في كلامِهم، فإنَّهم يَعْنون به ما هو مُقرَّرٌ في أصولِ الِفقهِ، ومن المعلومِ أنَّ مفهومَ الإجماعِ وشُروطَهُ الأساسيةَ من المعلومِ من عِلمِ الأصولِ بالضَّرورةِ، ليست في حاجةٍ إلى تخصُّصٍ عميقٍ، فإذا أطلَقَ مُشتغِلٌ بالعِلمِ الشَّرعيِّ لفظَ الإجماعِ أو ما يدلُّ عليه، فالأصلُ الذي لا شكَّ فيه أنه يقصِدُ ما هو مُقرَّرٌ في اللُّغةِ العُرفيَّةِ بأصولِ الفِقهِ، ولا يصحُّ أنْ تُنسَبَ إليه التصوُّراتُ الغَريبةُ عن لُغةِ العِلمِ إلَّا إذا صرَّحَ بذلك أو وُجِد في كلامِهِ ما يدلُّ عليه دَلالةً قَويَّةً.
أمَّا الاعتمادُ على مُجرَّدِ العباراتِ العامَّةِ، والتوهُّمُ في الفهمِ، وسوءُ الظَّنِّ القائمُ على التجهيلِ والاستخفافِ، فهذا صُنعٌ خارجٌ عن نهجِ العُلَماءِ، وعن مسالِكِ النقدِ الصحيحةِ.
الأمرُ الثالثُ: أنَّ جِنسَ هذه الإطلاقاتِ ليستْ خاصَّةً بالسَّلَفيين، بل هي طريقةٌ مَعهودةٌ ومَقبولةٌ في كلامِ العُلَماءِ، فكثيرًا ما يقولون: هذا ما عليه إجماعُ الأُمَّةِ، ولا يَعْنون أنَّ الأُمَّةَ كُلَّها باختلافِ قُرونِها اجتمعتْ على هذا القولِ في وَقتٍ واحدٍ، وإنَّما يَعْنون بذلك أنَّ الأُمَّةَ أجمَعَ عُلَماؤها قرنًا بعدَ قرنٍ على ذلك القولِ، ولو أخَذْنا في نقلِ مقالاتِ العُلَماءِ التي استَخدموا فيها تركيبَ: (إجماعُ الأُمَّةِ) أو (إجماعُ العُلَماءِ) لخَرَجْنا عن المقصودِ، ومع ذلك أُحِبُّ ألَّا يخلوَ الكلامُ عن نقلِ بعضِ نُصوصِهم، يقول الباجيُّ: ((إجماعُ الأُمَّةِ على حُكمِ الحادثةِ دليلٌ شرعيٌّ، فيجبُ المصيرُ إلى ما اجتمعتْ عليه، والقطعُ بصِحَّتِهِ خلافًا للإمــاميةِ))([41])، ويقولُ البـاقِلَّانُّي في أثناءِ حديثِهِ عن بعضِ المســائِلِ: ((مِن أقوى الأدلَّةِ على ذلك إجماعُ الأُمَّـةِ على أنَّ اللهَ عز وجل قد خيَّرَ بيْنَ أمورٍ حرَّمَ الجَمعَ بينها))([42])، ويقولُ الجُوَينيُّ: ((القولُ في جوازِ انعقادِ إجماعِ الأُمَّةِ من جهةِ القياسِ والرأيِ ووجهِ الخلافِ فيه))([43]).
فإذا كانت تلك الإطلاقاتُ لا تدلُّ على أنَّ الأُمَّةَ كُلَّها اجتمعتْ في عصرٍ واحدٍ على حُكمِ مَسألةٍ شرعيَّةٍ، ولا تعني أنَّ عُلَماءَ الأُمَّةِ كُلَّهم اجتَمعوا في عصرٍ واحدٍ على حُكمِ مسألةٍ شرعيَّةٍ، فكذلك مَقالةُ (أجمَعَ السَّلَفُ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم) لا تعني أنَّهم اجتَمعوا في وَقتٍ واحِدٍ على مسألةٍ شرعيَّةٍ، وإنَّما غايةُ ما تَعني أنَّهم تتابَعوا قرنًا بعدَ قَرنٍ على حُكمِ تلك المسألةِ.
وأُجدِّدُ مرَّةً أُخرى اعتِذاري للقارئِ الكريمِ؛ لشُعوري بأنِّي أذكُرُ له كَلامًا معلومًا بالضَّرورةِ للمُشتغِلين بالعُلومِ الشَّرعيَّةِ.
الاعتراضُ الثالثُ:
أنَّ هذا الإجماعَ لا فائدةَ منه؛ لأنَّه يُعيَّنُ به إجماعُ عُلَماءِ الأُمَّـــــــة، يقولُ المُؤلِّفُ: ((إذا سلَّمْنا أنَّ المرادَ بفَهمِ السَّلَفِ الذي لا يسَعُ لأحدٍ فَهمُ الكِتابِ والسُّنةِ إلا به: أنه هو الإجماعُ؛ فأيُّ جديدٍ في ذلك , وجماهير أهل السنة والجماعة مذاهبهم الأربعة الفقهية: الحنفية المالكية والشافية والحنابلة كلهم قائلون بحجية الإجماع))([44]).
في ابتداءِ التعليقِ على هذا الاعتراضِ لا بُدَّ من القولِ بأنَّ هذا الاعتراضَ وَجيهٌ، يستحِقُّ الإثارةَ والإجابةَ والمُناقشةَ، ولكنَّ الأستاذَ الكريمَ لم يَتفرَّدْ به من كُلِّ وَجهٍ، وإنَّما طَرَحَ قبلَه ابنُ تيميةَ سُؤالًا مُقـــــــارِبًا له منذ أكثَرَ من سِتةِ قُرونٍ، وأجاب عليه، وذلك الجوابُ يصلُحُ في مُناقشةِ هذا الاعتراضِ، ويُغني عنه.
يقولُ ابنُ تيميَّةَ بعدَ أنْ ذكَرَ بأنَّ أهلَ الحديثِ لم يُجمِعوا على خطأٍ: ((فإنْ قيل: فإذا كان الحـــــــقُّ لا يخرُجُ عن أهلِ الحديثِ، فلِمَ لم يُذكَرْ في أصولِ الفِقهِ أنَّ إجماعَهم حُجةٌ، وذكَرَ الخلافَ في ذلك، كما تكلَّمَ على إجماعِ أهْلِ المدينةِ وإجماعِ العِتْرةِ؟
قيلَ: لأنَّ أهلَ الحديثِ لا يَتَّفِقون إلا على ما جاء عن اللهِ ورَسولِهِ، وما هو مَنقولٌ عن الصَّحابةِ؛ فيكونُ الاستدلالُ بالكِتابِ والسُّنةِ، وبإجماعِ الصَّحابةِ مُغنيًا عن دَعْوى إجماعٍ يُنازِعُ في كونِهِ حُجَّةً بعضُ الناسِ))([45]).
ومعنى كلامِ ابن تيميةَ أنَّ إجماعَ أهلِ الحديثِ القائِمَ على إجماعِ السَّلَفِ لا يختلِفُ في حقيقتِهِ عن إجماعِ الصَّحابةِ، فلا داعيَ لأنْ يُذكَرَ مُفردًا في أصولِ الفِقهِ باعتبارِه قضيَّةً قائِمةً بنفسِها.
فجوابُه يُنبِّهُ على ضرورةِ التَّفريقِ بين حقيقةِ الأمرِ، وبين طريقةِ التعامُلِ معه، فكونُ أمرٍ من الأمورِ لا يُذكَرُ في عِلمٍ من العُلومِ ليس مَعناهُ أنَّه لا قيمةَ له، أو لا اعتبارَ لحقيقتِهِ، وإنَّما لأنَّ غيرَه يُغْني عن ذِكرِهِ.
وزيادةً على ما سبَقَ يُقالُ: إنَّ تخصيصَ إجماعِ السَّلَفِ له فوائدُ مُتعدِّدةٌ:
الفائدةُ الأولى: أنَّ إجماعَ السَّلَفِ إنَّما برَزَ من حيثُ الأصلُ في مُواجَهةِ أهلِ الابتداعِ الذين ظَهروا في العُصورِ الثَّلاثةِ، وخالَفوا السُّنةَ في عددٍ من الأصولِ الشَّرعيةِ، فأبرَزَ أئمَّةُ السَّلَفِ في وُجوهِهم إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابعين، وكرَّروا هذا المعنى كثيرًا؛ لأنه من أقوى المضامِينِ التي تُبيِّنُ انحرافَ أولئك المبتدعةِ عن الجادَّةِ في أصولِ الدِّينِ، وتَكشِفُ عن مَعالِمِ الجادَّةِ المستقيمةِ فيها.
وما زال ذلك الإجماعُ الذي توارَدَ عليه الصَّحابةُ والتابعون وأتباعُهم من أقوى الحُجَجِ المُبيِّنةِ لأصولِ الانحرافِ في أصولِ الدِّينِ، والضابطةِ لأصولِ الاستدلالِ عليها وتقريرِها.
فأضْحى لإجماعِهم خُصوصيَّةٌ من هذه الجهةِ، وهي خُصوصيَّةٌ بالغةُ الأهمِّيَّةِ والأثَرِ، ولأجلِ هذا اهتمَّ بها العُلَماءُ على مرِّ العُصورِ جمعًا ودِراسةً وبيانًا للأهميةِ وتَوصيةً وحثًّا على الالتزامِ بها.
الفائدةُ الثانيةُ: إنَّ لأئمةِ السَّلَفِ هَيبةً في قُلوبِ طوائِفِ الأُمَّةِ، حتى أضْحى كثيرٌ من الطوائفِ تُعلِنُ انتســابَها إليهم، إلا مَن شَذَّ عنهم من الرافضــــةِ وغَيرِهم، فالقــاضي عبدُ الجـبَّارِ المُعتَزِليُّ عقَدَ فصلًا في كتابِهِ (فضلُ الاعتِزالِ) كرَّرَ القولَ فيه بأنَّهم المُتَّبِعون للصَّحابةِ دون غَيرِهم من الناسِ([46])، وكذلك الحالُ في جُلِّ الطوائفِ العَقَديَّةِ الأُخرى.
فذِكرُ إجماعِهم، وإبرازُه، وجَعلُه مِحورَ السِّجالَ يُعطي للإجماعِ المُتحقِّقِ في أصولِ الدِّينِ هَيبةً كبيرةً في النُّفوسِ.
الفائدةُ الثالثةُ: أئمَّةُ السَّلَفِ هُم مُؤسِّسو أصولِ العُلومِ الشَّرعيَّةِ، فلا يكادُ يقعُ الإجماعُ على أصلٍ من أصولِ الدِّينِ دونهم، بل كُلُّ إجماعٍ على أصلٍ من أصولِ الدِّينِ فهُمْ أصْلُه ومَنبَعُه، وهذا المعنى يقلِبُ القضيَّةَ، ويجعلُ ذِكرَ إجماعِ السَّلَفِ بالِغَ الأهميةِ؛ لأنه في الحقيقةِ إرجاعٌ للإجماعِ إلى أصْلِهِ، وتَعبيرٌ عن أساسِهِ، وربْطٌ بمَنبَعِهِ، فذِكرُ إجماعِ العُلَماءِ على أصولٍ من أصولِ الدِّينِ تَبَعٌ لإجماعِ السَّلَفِ، بل إجماعُ السَّلَفِ يُغني عنه.
وبناءً على هذا التقريرِ، يُمكِنُ أنْ يُقال: إنَّ مسائِلَ الدِّينِ نَوْعانِ:
النَّوعُ الأولُ: الأصولُ، وهذه الأصلُ فيها إجماعُ السَّلَفِ، وذِكرُهُ يُغني عنه غيرُه.
النوعُ الثاني: الفروعُ والنَّوازِلُ، وهذه قد لا يكونُ الإجماعُ فيها ظاهِرًا في زمنِ السَّلَفِ، وقد لا تكونُ المسألةُ مَطروحةً في زمانِهم، فذِكرُ إجماعِ العُلَماءِ فيها أوْلى وأحْرى.
فتحصَّلَ مما سبَقَ أنَّ ما أثاره الأستاذُ العَجَميُّ ليس صالِحًا لإبطالِ حُجيةِ إجماعِ السَّلَفِ ولا مُشكِلًا عليه.
وعلى التسليمِ بأنَّ أحدًا ما لم يُسلِّمْ بتلك الفوائدِ، فإنَّ ذلك ليس قادِحًا في حُجيةِ إجماعِ السَّلَفِ في أصولِ الدِّينِ، ولا في إلزاميَّتِهِ لمَن انحرَفَ عن السُّنةِ، ووقَعَ في البِدَعِ والضَّلالِ، لأن العِبرةَ بثبوتِ الإجماعِ منهم وإلزامِهِ، وليس بتسميتِهِ وإفْرادِهِ بمُصطلَحٍ خاصٍّ.
الاعتراضُ الرابعُ:
أنَّ وَصفَ السَّلَفِ عند السَّلَفيين جاء مُطلَقًا غيرَ مُقيَّدٍ بالعُلَماءِ، ومعلومٌ أنَّ الصَّحابةَ والتَّابعينَ وأتباعَهم ليسوا كُلَّهم من أهلِ العِلمِ والاجتهادِ، ولا من أهلِ الاشتِغالِ بالفِقهِ، يقولُ المُؤلِّفُ بعدَ أنْ ذكَرَ أنَّ الأصوليين قيَّدوا الإجماعَ بأهلِ الاجتِهادِ من الأُمَّةِ، وبعدَ أنْ بيَّنَ أنَّ الصَّحابةَ والتَّابعينَ وأتباعَهم مُتفاوِتون في العِلمِ، وأنَّ بعضَهم ليس له اشتِغالٌ به: ((فهل كُلُّ الصَّحابةِ مُجتَهِدون عندَه وعندَ القائلين بحُجيةِ فهمِ السَّلَفِ، فلذلك أطلَقَ عباراتٍ تعريفيَّةً عليهم جميعًا، أمْ إنَّ التَّابعينَ كُلَّهم عُدولٌ ومُجتَهِدون، فيكونُ فَهمُهم وعِلمُهم واستنباطُهم جميعًا حُجةً في دِينِ اللهِ، وبل هو بمنزلةِ الإجماعِ الذي لا يسَعُ أحَدًا خِلافُه، هذا أمرٌ يحتاجُ إلى إعادةِ نَظَرٍ))([47]).
والاعتِراضُ بهذا المعنى على حُجيةِ إجماعِ السَّلَفِ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ أتباعَ المنهجَ السَّلَفيَّ لا يَعُدُّون جميعَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم من أهلِ الاجتِهادِ والفَتْوى، بل يُدرِكون أنَّهم على دَرَجاتٍ في هذه الأمورِ.
وتَعبيرُهم بإجماعِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم لا يَعني أنَّهم يَعْنون كُلَّ فَردٍ فَرد منهم، ولا يصحُّ إلزامُهم بهذا، وذلك لأُمورٍ:
الأمرُ الأولُ: أنَّ تخصيصَ الإجماعِ بمَن عُرِف بالعِلمِ والاجتِهادِ فيه ليس من الأُمورِ الخفيَّةِ، وإنَّما هو من الأُمورِ المعلومةِ وُجودُها بالضَّرورةِ في أصولِ الفِقهِ لمَن هو مُشتَغِلٌ بالعُلومِ الشَّرعيةِ، فإذا أطلَقَ أتباعُ المنهجِ السَّلَفيِّ لفظَ الإجماعِ فهُم يَعْنون بلا شكٍّ ولا رَيبٍ أصولَ المضامينِ التي يتضمَّنُها لفظُ الإجماعِ، ومنها شرطُ كونِهِ حاصلًا من المجتَهِدينَ.
ولا يليقُ بدارسٍ أنْ يَستخِفَّ بمَن يقومُ بنَقدِهِ إلى درجةِ أنْ ينسُبَ إلى جماعةٍ كبيرةٍ -فيها مِئاتٌ من العُلَماءِ والأكاديميين والشُّيوخِ- الجَهلَ بوُجودٍ أُمورٍ هي من ضَروريَّاتِ العِلمِ وبَدهياتِه، ولم يعتمِدْ في ذلك إلا على ظُنونٍ وجُمَلٍ في غايةِ البُعدِ عمَّا فَهِمه.
وإنَّ فَرضَ وُجودِ فَردٍ منهم أو أفرادٍ لا يعلمون ذلك، فلا يصحُّ تعميمُ هذا الحُكمِ على جميعِهم؛ لظهورِ خَطَئِهم ومُناقضتِه لما هو معلومٌ وُجودُهُ بالضَّرورةِ في أُصولِ الفِقهِ.
الأمرُ الثاني: أنَّ استعمالَ الجُمَلِ التي يظهرُ فيها نِســـبةُ الإجماعِ إلى جُملةِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم، بل إلى جُملةِ العُلَماءِ، بل إلى جُملةِ الأُمَّةِ، ليس خاصًّا بأتباعِ المنهجِ السَّلَفيِّ، وإنَّما هو أُسلوبٌ شائِعٌ ومُنتشِرٌ في لُغةِ عُلَماءِ الشَّريعةِ.
يقولُ ابنُ عبَّاسٍ في مُحاورتِهِ للخَوارجِ: ((أتَيْتُكم من عِندِ أصْحابِ رسولِ اللهِ))، ولم يقُلْ من عِندِ عُلَماءِ أصْحابِ رسولِ اللهِ.
وكذلك الحالُ في العباراتِ التي أطلَقَها أئمَّةُ السَّلَفِ المُتقدِّمينَ في الدَّعْوةِ إلى اقتفاءِ أثَرِ الصَّحابةِ لم يُقيِّدوها بعُلَمائِهم، قال عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: ((قِفْ حيث وقَفَ القَومُ)) ([48])، ويقولُ الأوزاعيُّ: ((اصْبِرْ نفسَك على السُّنةِ، وقِفْ حيث وقَفَ القَومُ، واسْلُكْ سبيلَ السَّلَفِ الصَّالِحِ)) ([49])، ويقولُ قال أبو العاليةِ: ((عليكم بالأمْرِ الأوَّلِ الذي كانوا عليه قَبلَ أنْ يَفتَرِقوا))، ويقولُ الإمامُ أحمدُ: ((أُصولُ السُّنةِ عندَنا: التمسُّكُ بما كان عليه أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم، والاقتِداءُ بهم)) ([50])، فهؤلاء الأئمَّةُ لم يُقيِّدوا مَن أوصَوْا باتباعِ آثارِهِم بعُلمائِهِم؛ لأنَّ ذلك معلومٌ بَداهةً.
وحين لخَّصَ اللالكائيُّ ما يجبُ على المسلمِ في أصولِ الدِّينِ قال: ((أوجَبُ ما على المرءِ معرفةُ اعتِقادِ الدِّينِ، وما كلَّفَ اللهُ به عبادَه من فَهمِ توحيدِهِ وصفاتِهِ وتَصديقِ رُسُلِهِ بالدَّلائِلِ واليقينِ، والتوصُّلُ إلى طُرُقِها، والاستدلالُ عليها بالحُجَجِ والبراهينِ، وكان من أعظَمِ مَقولٍ، وأوضَحِ حُجةٍ ومَعقولٍ: كِتابُ اللهِ الحقُّ المبينُ، ثم قولُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم، وصحابَتِهِ الأخيارِ المُتَّقين، ثم ما أجمَعَ عليه السَّلَفُ الصَّالِحون، ثم التمسُّكُ بمجموعِها، والمقامُ عليها إلى يومِ الدِّينِ، ثم الاجتنابُ عن البِدَعِ، والاستِماعُ إليها ممَّا أحدَثها المُضِلُّون)) ([51]).
ويقولُ الملطيُّ: ((الذي عندي من ذلك أنْ تَلزَمَ المنهجَ المستقيمَ، وما نزَلَ به التَّنزيلُ وسُنَّةُ الرسولِ، وما مَضى عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، فعليك بالسُّنةِ والجماعةِ تَرشَدُ إنْ شاءَ اللهُ)) ([52]).
ولم يُقيِّدوا ذلك بعُلَماءِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم؛ لأنَّ ذلك مَعلومٌ بالضَّرورةِ عندَ المُشتَغِلين بالعُلومِ الشَّرعيةِ.
وكذلك الحالُ في الأصوليين وغيرِهم، فإنَّهم كثيرًا ما يُطلِقون جُملةَ: (إجماعُ الأُمَّةِ) أو (أجمعتِ الأُمَّةُ)، وهُم بلا شكٍّ لا يَقصِدون كُلَّ فَردٍ فردًا من الأُمَّةِ، وإنَّما يَقصِدون أهلَ الاجتِهادِ منها، فكذلك الحالُ فيمن أطلَقَ إجماعَ السَّلَفِ، أو إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم، فلا شكَّ أنَّهم لا يَقصِدون كُلَّ فَردٍ فردًا منهم، وإنَّما يَقصِدون أهلَ العِلمِ والاجتهادِ منهم.
الاعتراضُ الخامسُ:
أنَّ الاستدلالَ بالنُّصوصِ الواردةِ في الإجماعِ على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ خطأٌ لكَونِهِ مُخاِلفًا للعُمومِ فيها، يقولُ المُؤلِّفُ: ((فأين وَجدوا في هذه الأدلَّةِ الأُصوليَّةِ الدالَّةِ على حُجيةِ الإجماعِ تَخْصيصَها بهذه الحِقْبةِ الزَّمنيَّةِ المُباركةِ (الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم) دون سائِرِ الحِقَبِ، وبأيِّ دليلٍ وحُجةٍ وبُرهانٍ يَنزِعون من الأُمَّةِ حُجيةَ إجماعِها، ويُخصِّصونهُ في السَّلَفِ فقط، وقد أتتِ النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ عامَّةً في جميعِ الأُمَّةِ لا سَلَفِها فقط))([53])، ثم طَفِق المُؤلِّفُ يذكُرُ عُمومَ تلك النُّصوصِ، ويُكثِرُ من نقلِ أقوالِ العُلَماءِ.
وهذا الاعتِراضُ غريبٌ كُلَّ الغرابةِ، فقد فَهِم الأستاذُ العَجَميُّ أنَّ الاستِدلالَ بهذه الآياتِ على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ يقتضي تخصيـــصَها بهم، وبالتالي يتعارَضُ مع الاستــدلالِ بها على حُجيةِ إجمــــــاعِ عُلَماءِ الأُمَّةِ ويتناقَضُ معه، وهذا فهمٌ خاطِئٌ، بل هو شديدُ الخطأِ.
فأتباعُ المدرسةِ السَّلفيةِ لا يحصُرون دَلالةَ تلك الآياتِ في الدَّلالةِ على إجماعِ أئمَّةِ السَّلَف، ولم يَستعمِلوا عباراتٍ تدلُّ على ذلك لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، وإنَّما بيَّنوا بيانًا واضحًا جلِيًّا بأنَّ استدلالَهم بتلك الآياتِ على حُجيةِ إجماعِ السَّلَفِ قائِمٌ على قياسِ الأوْلى، وهذا يقتضي أنَّهم يَنطَلِقون من أنَّها تدلُّ على حُجيةِ إجماعِ الأُمَّةِ، وأنَّ دلالتَها على حُجيةِ فهمِ السَّلَفِ من بابٍ أوْلى.
والغريبُ حقًّا أنَّ الأستاذَ العَجَميَّ نقَلَ كلامَ الشَّيخِ الدميجي في الاستدلالِ بقولِهِ تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]نصًّـا صريحًا على وَجـــهِ دَلالتِها، حيثُ يقولُ: ((مما لا شكَّ فيه أن السَّلَفَ الصَّالِحَ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم بإحسانٍ هم (أوْلى الناسِ) دُخولًا فيمَن سمَّاهمُ اللهُ هنا المؤمنين)) ([54]).
إنَّ هذا التَّقريرَ في غايةِ الوُضوحِ في الدَّلالةِ على أنَّ السَّلَفيين لا يحصُرون دَلالةَ هذه الآيةِ في الدَّلالةِ على إجماعِ السَّلَفِ، وإنَّما يَرَونَ أنَّها تدلُّ عليه بدَلالة الأوْلى، ولكنَّ الأستاذَ العَجَميَّ يقفِزُ على هذا التقريرِ مع أنَّه نَقَلَه في كتابِهِ! ويُصوِّرُ كلامَ السَّلَفيين على غيرِ ما هو عليه، وكفى بهذا خَلَلًا في الفهمِ والتصوُّرِ والحِجاجِ والجدلِ.
ثم يقالُ: مَن لم يُصرِّحْ من العُلَماءِ والسَّلَفيين بدَلالةِ الأوْلى في الاستدلالِ بتلك الآيةِ أو غيرِها على حُجيةِ إجماعِ السَّلَفِ، فليس معناه أنه يعتقِدُ تخصيصَها بهم؛ لأنَّ من مسالكِ الاستدلالِ الصحيحةِ الاستدلالَ بشُمولِ العامِّ لأفرادِه، ولا شكَّ أنَّ أئمَّةَ السَّلَفِ من أفرادِ عُلَماءِ الأُمَّةِ، فمَن استدلَّ بالعامِّ على بعضِ أفرادِهِ ليس معناه أنَّه يحصُرُه فيها ما لم ينصَّ على ذلك، فكيف إذا جمَعَ مع ذلك الاستدلالَ بالنَّصِّ في كُلِّ المقاماتِ، كما صنَعَ ابنُ قُدامةَ وغيرُه، فإنَّهم استدلُّوا بتلك الآيةِ على حُجيةِ الإجماعِ، وعلى حُجيةِ ما عليه السَّلَفُ، وليس هذا تناقضًا منهم، وإنَّما هو إعمالٌ للنَّصِّ في كُلِّ ما يدخُلُ تحته.
وكذلك الحال في كلِّ النصوص التي تدلُّ على فضْل أمَّة الإسلام حين يَستدلُّ بها بعضُ العلماء على فضل الصَّحابةِ وتفضيلهم، فذلك راجعٌ إمَّا إلى قياس الأَوْلى، وإمَّا إلى شمول العموم لأفراده، وهي مسالكُ استدلاليَّة صحيحة مُعتبَرة، وأمَّا دعوى التخصيص والتناقض بين الاستدلال بها على بعض أفرادها، وعلى عموم أفرادها، كما صنَع المؤلِّفُ فهو صنيعٌ خاطئ، خارج عن مسالك الاستدلال المعتبَرة.
فأنت ترَى -أيُّها القارئُ الكريم- حجْمَ الخطأ الذي وقَع فيه الأستاذُ العجمي في اعتراضاته، التي أثارها على منهج السَّلَفيِّين في حُجَّية فَهمِ السَّلَفِ، فلم يعُدْ خافيًا عليك حجمُ الأغلاط التي وقَع فيها، وضَخامة ُالأخطاء التي تلبَّس بها بَحثُه، مع أنه لا يفـتأ يُكرِّر بأنَّه سلك المسالكَ المُعتمَدةَ في أصول الفقه، وأنَّ مَن يقوم بنَقدهم لا يَهتمُّون بتلك المسالك! ومع أنَّه يُضخِّم من كِتابه كما ضخَّمه غيرُه، وصوَّروا للقراء بأنه سيكون كتابًا مُحرِجًا لأتْباع المنهج السَّلَفيِّ! وكل ذلك تهويلٌ لا يقومُ على أساسٍ، كما ظهَر من خلال هذا النقد المختصَر.
أسألُ اللهَ تعالى لي ولأخي سعد العجميِّ التوفيقَ والسداد، وحُسنَ القصد والعمل، وأنْ يجعلنا جميعًا من حُماة دِينه، والذابِّين عنه، والمناصِرين له.
وأُكرِّر اعتذاري الشديد لأخي الأستاذ سَعد عن كلِّ ما يَسوءُه في نقْدي الذي قدَّمتُه لبحثِه؛ فالنقد في أصله ليس مُحبَّبًا للنفوس؛ فكيف إنْ تضمَّن ما يَسوءُها؟!
([1]) أخرجه الطيالسي في مسنده (243) , وصحح الأثر عدد من العلماء , وحسنه بعضهم.
([2]) رواه ابن المبارك في الزهد (47).
([3]) رواه النسائي (8522).
([4]) رواه أبو داود (4612).
([5]) رواه الآجري في الشريعة (294).
([6]) أصول السنة (14).
([7]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/7).
([8]) ذم التأويل (35).
([9]) منهاج السنة النبوية (2/145).
([10]) منهاج السنة النبوية (2/406).
([11]) مجموع الفتاوى (12/235).
([12]) مجموع الفتاوى (3/157).
([13]) مجموع الفتاوى (11/490).
([14]) منهاج السنة النبوية (5/166).
([15]) مجموع الفتاوى (5/163).
([16]) مجموع الفتاوى (19/117).
([17]) فهم السلف (269).
([18]) مجموع الفتاوى (1/228).
([19]) مجموع الفتاوى (2/105).
([20]) موسوعة الألباني في العقيدة (1/266).
([21]) موسوعة الألباني في العقيدة (1/220).
([22]) إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد، ص (29).
([23]) فهم السلف (93).
([24]) فهم السلف (62).
([25]) فهم السلف (73, 77، 78).
([26]) فهم السلف (91).
([27]) فهم السلف (269).
([28]) موسوعة الألباني في العقيدة (6/17).
([29]) المرجع السابق (1/218).
([30]) المرجع السابق (7/723).
([31]) كذا في الأصل، والصحيح (ويتبع).
([32]) الجرح والتعديل (1/8).
([33]) ذم التأويل (28).
([34]) فهم السلف (99).
([35]) حجية فهم السلف (94).
([36]) البحر المحيط (8/290).
([37]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 317).
([38]) الجامع لأحكام القرآن (5/169).
([39]) التوضيح شرح الجامع الصحيح (15/645).
([40]) حجية فهم السلف (95).
([41]) الإشارة في أصول الفقه (71).
([42]) التقريب والإرشاد (2/157).
([43]) التلخيص في أصول الفقه (3/104).
([44]) حجية فهم السلف (96).
([45]) منهاج السنة النبوية (5/166).
([46]) انظر: فضل الاعتزال (185).
([47]) حجية فهم السلف (97).
([48]) رواه أبو داود (4612).
([49]) رواه الآجري في الشريعة (294).
([50]) أصول السنة (14).
([51]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/7).
([52]) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (41).
([53]) حجية فهم السلف (99).
([54]) فهم السلف، الدميجي (91).