التعريفُ بموضوعِ الكِتابِ:
إنَّ مِن أعظَمِ الرَّزايا التي ابتُلِيت بها الأمَّةُ الإسلاميَّةُ ظهورَ الفِرَقِ الضَّالَّةِ التي تدَّعي انتسابَها للإسلامِ، بينما هي في حقيقتِها تُشَوِّهُ تعاليمَ هذا الدِّينِ القويمِ، وتهدِمُ أركانَه، وتُقَوِّضُ بنيانَه. ولا ريبَ أنَّ فرقةَ الباطنيَّةِ الإسماعيليَّةِ كانت من أسوأِ تلك الفِرَقِ المنحَرِفةِ التي ظهرت منتَسِبةً إلى الدِّينِ الإسلاميِّ، بينما هي حربٌ ضِدَّه، وهدفُها الأساسيُّ هو القضاءُ على الإسلامِ ومحاربتُه، وتكمُنُ خطورتُها في جانبينِ مُهمَّينِ:
الأوَّلُ: طبيعةُ مذهبِهم؛ حيث إنَّهم يكيدون ويخطِّطون في الأستارِ، ودينُهم محاطٌ بالأسرارِ، ومعلومٌ أنَّ العَدُوَّ الذي لا تراه يكونُ أخطَرَ مِن العَدُوِّ المرئيِّ.
الجانبُ الثَّاني: أن هذا المذهَبَ لا يزالُ حيًّا منتَشِرًا في زمانِنا هذا، له تأثيرُه وتسَلُّطُه على عبادِ اللهِ في بعضِ بلدانِ العالَمِ الإسلاميِّ.
ولهذا كان واجِبًا على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ أن تُعِدَّ العُدَّةَ وتستَعِدَّ للمواجهةِ؛ فهذا العدوُّ لا ينفعُ معه إلا ذلك، ومِن ضِمنِ أساليبِ المواجَهةِ جِهادُ الكَلِمةِ واللِّسانِ، والرَّدِّ والبيانِ، وقد جاهدهم بذلك أئمَّةُ الإسلامِ، والعلماءُ الأعلامُ، ومن أشهَرِهم: القاضي أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ الطَّيِّبِ الباقِلَّانيُّ المتوفَّى سنة 403هـ، فكان هذا الكتابُ هو نتيجةَ ذلك، وقد صار كتابُه هذا دُرَّةَ الكُتُبِ في هذا الموضوعِ، وأتى برَدٍّ هو واسطةُ عِقدِ المصَنَّفاتِ في هذا البابِ، بل ومَرجِعُها ومُقَدَّمُها، فجاء بـ (كَشْفُ الأسرارِ وهَتْكُ الأستارِ) فشَرَح صدورَ المؤمنين، وأقرَّ عُيونَ الموحِّدين، فجزاه ربُّ العالمين خيرَ ما جزى عبادَه الصَّالحين، ولَمَّا كان هذا الكتابُ بهذه الأهميَّةِ، اختار المحقِّقانِ هذا الكتابَ؛ ليكونَ أساسَ رِسالتَيهما العِلميَّةِ.
وقد ألمح الباحِثُ في الجزءِ الأوَّلِ إلى بعضِ الصُّعوباتِ التي واجهَتْه في هذا العَمَلِ الشَّائِكِ:
والتي منها: أنَّ هذا التحقيقَ وهذا العَمَلَ قام على نسخةٍ واحدةٍ؛ لعدَمِ وجودِ غيرِها -بعد البحثِ والتقَصِّي-، ولا يخفى على شريفِ علمِ القارئِ ما يعانيه الباحِثُ من الصُّعوباتِ التي تواجِهُه، وخاصةً عندما تلتَبِسُ بعضُ الكلماتِ وتصعُبُ قراءتُها، فلا توجَدُ نسخةٌ أُخرى يستطيعُ مِن خلالهِا الباحِثُ أن يقابِلَها عليها، ويفُكُّ غموضَ كَلِماتِها، خاصَّةً مع غموضِ كَلِماتِ الباطنيَّةِ؛ فإنَّ الأمرَ يُصبحُ أشدَّ غموضًا وأكثرَ تعقيدًا.
الثانيةُ: أنَّ هذا الموضوعَ موضوعٌ خَفِيٌّ وسِرِّيٌّ، حتى على الباطنيِّين أنفُسِهم، فتجِدُ عندهم غموضًا في بعضِ عقائِدِهم، وسِرِّيَّةً وخفاءً فيها، وتسَتُّرًا على بعضِ أعلامِهم ورموزِهم، فمن الأجنحةِ والمأذونين إلى الأئمَّةِ المستورينَ، ومن حُجَجِ النَّهار ِإلى حُجَجِ اللَّيلِ، ومن المستجبيين إلى النُّطَقاءِ، ومن الدُّعاةِ إلى المأذونين، ومن تأويلِ الحروفِ إلى تأويلِ الأعدادِ، وهكذا {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
احتوى الجزءُ الأوَّلُ من الكتابِ على الدِّراسةِ وجزءٍ من تحقيقِ الكتابِ، قام به الباحِثُ: إبراهيم البيحي، فبدأ بعد الإهداءِ بتنبيهٍ يُبَيِّنُ فيه ما الذي يميِّزُ هذه الدراسةَ، ويوضِّحُ أنَّها ليست حَشْوًا ولا تَكرارًا لدراساتٍ سابقةٍ، ذاكرًا بعضَ المميِّزاتِ التي تطَرَّق لها البحثُ ولم يُسبَقْ إليها، أو سُبِقَ، لكن كان التطَرُّقُ لها ممَّن سبقه بشكلٍ موهِمٍ. وممَّا ذكره:
1- التقسيمُ والتفصيلُ لمصنَّفاتِ القاضي أبي بكرٍ، وذِكرُ المطبوعِ وأنواعِ طبَعاتِه، وذِكرُ المخطوطِ وأماكنِ تواجُدِه، وذِكرُ المفقودِ، بفوائدَ وفرائدَ بديعةٍ، قد لا تجِدُها في غيرِه.
2- التفصيلُ والتحريرُ في عقيدةِ القاضي الباقِلَّانيِّ، والأمورُ التي وافق فيها السَّلَفَ، والتي خالف.
3- التفريقُ بين القرامطةِ والإسماعيليَّةِ، والرأيُ الصَّحيحُ في تأريخِ ظهورِها.
4- حصرُ أبرزِ المؤلَّفاتِ في مذهَبِ الباطنيَّةِ، ومقارنتُها بـ "كشف الأسرارِ".
5- التحقيقُ والإثباتُ في إنكارِ نَسَبِ الإسماعيليِّين الباطنيِّين للإمامِ جعفرِ بنِ محمَّدٍ الصَّادِقِ، وأنَّهم أدْعِياءُ، وإنَّما نَسَبُهم لميمونَ القَدَّاحِ، وأنَّ هذا الإنكارَ ليس قولًا قالت به علماءُ السُّنَّةِ وَحْدَهم، بل وافقهم على ذلك بعضُ الباطنيِّين.
6- التحقيقُ أنَّ كتابَ القاضي الباقِلَّانيِّ من أقدمِ المصادرِ في الرَّدِّ على الباطنيَّةِ، وأنَّه وكتابَ ابن رزام الطَّائي في عصرٍ واحدٍ، ولا عِبرةَ بما ذهب إليه بعضُ الكُتَّابِ في تقديمِه على: كَشْف الأسرارِ.
وغيرُ ذلك ممَّا ذكره من مميِّزاتِ دراستِه.
قسَّم المحقِّقُ للجزءِ الأوَّلِ كتابَه إلى قسمينِ رئيسينِ: الأوَّلُ: قِسمُ الدِّراسةِ، والثاني: النَّصُّ المحقَّقُ من كتابِ كَشفِ الأسرارِ.
فبدأ بقِسمِ الدِّارسةِ، واستهلَّها بمقدِّمةِ التحقيقِ، وأسبابِ اختيارِ الموضوعِ، موضِّحًا أنَّه اعتمد على نسخةٍ وحيدٍة غريبةٍ فريدةٍ، وُجِدَت بعد أن كانت مفقودةً. تلا ذلك بمنهجِه في التحقيقِ.
ومن أبرزِ الأمورِ التي عَمِلَها غيرَ الأمورِ المعروفةِ في عمل التحقيقِ: التعليقُ على بعضِ المسائلِ التي تحتاجُ إلى ذلك؛ إمَّا بتوضيحِ مسألةٍ، أو بيانِ مخالفةٍ، على قَدْرِ الحاجةِ. وأيضًا توثيقُه لأقوالِ الباطنيَّةِ وعَزْوُها، وتسميةُ أصحابِها، وذلك بالرُّجوعِ لمصادرِها، مع أنَّه -كما قال- يصعُبُ الحصولُ عليها في بعضِ الأحيانِ؛ ممَّا تطَلَّب منه مجهودًا للوصولِ لِمُبتغاه.
وكانت الدِّراسةُ متضَمِّنةً ثلاثةَ فُصولٍ، تحت كلِّ فصلٍ مباحِثُ، تتفرَّعُ عنها مطالِبُ.
الفصلُ الأوَّلُ: عن المصنِّفِ (حياتُه وعَصرُه)، قدَّم فيه دراسةً وافيةً ومستفيضةً عن الباقِلَّانيِّ ، فتكلَّم عن عصرِه أوَّلًا، من خلالِ الحياةِ السياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والعِلميَّةِ. ثمَّ تكلَّم عن حياتِه في نقاطٍ هي: نسَبُه، ونشأتُه وطلَبُه للعِلمِ، وشيوخُه، وتلاميذُه، ومصنَّفاتُه، ووفاتُه.
وكان من أبرَزِ النِّقاطِ التي تطَرَّق لها الباحِثُ في هذا الفَصلِ: مذهبُ الباقِلَّانيِّ في الأصولِ والفُروعِ، وكلامُ بعضِ العلماءِ فيه. وقد أبدع المؤلِّفُ في الحديثِ عن مذهبِه في الأُصولِ، وأتى بما خالف التصَوُّرَ السَّائِدَ عن الباقِلَّانيِّ، وأثبت أنَّه يخالِفُ جمهورَ الأشاعرةِ المتأخِّرين، مع أنَّه يُعَدُّ مِن أئمَّتِهم المتقَدِّمين، ووافق منهجَ السَّلَفِ في كثيرٍ مِن مسائِلِ الاعتقادِ، ومن ذلك أنَّه يثبِتُ صفاتٍ للهِ تعالى لم يُثبِتْها له جماهيرُ الأشاعرةِ، ولا يقتَصِرُ على إثباتِ الصِّفاتِ السَّبعِ، ولا يُفَرِّقُ بين الصِّفاتِ العَقليَّةِ والخَبَريَّةِ، كما فعل ذلك الأشاعِرةُ المتأخِّرون، كما أنَّه يقسِّمُ الصِّفاتِ إلى صفاتِ ذاتٍ: وهي التي لم يزَلِ اللهُ ولا يزالُ موصوفًا بها، وصفاتِ فِعلٍ: وهي المتعَلِّقةُ بالإرادةِ والمشيئةِ، وقد وافق بذلك جماهيرَ أهلِ الحديثِ وسَلَفَ الأمَّةِ، كذلك يُثبِتُ الباقِلَّانيُّ صفةَ الاستواءِ على العَرشِ، ويرُدُّ على الذين يؤوِّلونه بالاستيلاءِ، ويُثبِتُ أيضًا اليدينِ لله تعالى ويرُدُّ على من أوَّلهما بالنِّعمةِ أو القُدرةِ، متَّبِعًا في ذلك أئمَّةَ السَّلَفِ وأهلَ الحديثِ.
والفصلُ الثَّاني: كان عن الباطنيَّةِ، فأورد مقَدِّماتٍ عن الباطنيَّةِ: وتطَرَّق للتعريفِ بهم، وبأسمائِهم وألقابِهم، ونشأتِهم، ومصادِرِ الفِكرِ الباطنيِّ، كما ذكر أهَمَّ آراءِ الباطنيَّةِ في الإلهيَّاتِ، والنبُوَّةِ والإمامةِ، وفي المعادِ واليومِ الآخِرِ، وفي التأويلِ.
والفصلُ الثَّالِثُ: خَصَّصه للكتابِ: (كَشْف الأسرارِ وهَتْك الأستارِ)، فعَرَض مسائِلَ الكتابِ ودراسةَ بعضِها: ومن ذلك اسمُ الكتابِ، والاختلافُ فيه، ومعنى ودَلالاتِ الاسمِ.
كما أنَّه حَقَّق نسبةَ الكتابِ لمؤَلِّفِه، وذكر منهَجَ المؤلِّف ومصادِرَه في كتابِه، وعَرَّج على أهمِّ مميِّزاتِ الكتابِ: ومنها: أنَّه ردَّ على كتابِ الإسماعيليَّةِ الباطنيَّةِ المقَدَّسِ عندهم، والذي يُدعَى ((البلاغُ الأكبَرُ والناموسُ الأعظَمُ)) لبعضِ قضاةِ الدَّولةِ الفاطميَّةِ، وكذلك من مميِّزاتِ هذا الكتابِ: أنَّه من أوائِلِ الكُتُبِ التي ردَّت على الباطنيَّةِ، وهو معاصِرٌ للمذهَبِ الباطنيِّ، ومُعظَمُ الكُتُبِ التي جاءت بعده إنَّما استفادت منه، كما أنَّه متضَمِّنٌ لبعضِ نصوصِ الإسماعيليَّةِ الباطنيَّةِ الخطيرةِ.
وذكَرَ كذلك أهَمَّ المآخِذِ عليه، ثمَّ المصنَّفاتِ في الرَّدِّ على الباطنيَّةِ، ومقارنتَها بـ"كَشْف الأسرارِ"، وخَتَم بالتعريفِ بالمخطوطِ.
ثمَّ بعد ذلك أورد الجزءَ المحَقَّقَ الذي قام به.
وفي المجَلَّدِ الثَّاني من الكتابِ: كان الجزءُ الذي قام بتحقيقِه: أحمد الدميجي، من المخطوطِ.
مُنتهيًا بخاتمةٍ، فيها النتائجُ التي نتَجَت عن هذا التحقيقِ. ومن أبرزِ تلك النتائجِ المذكورةِ:
أنَّ المصنِّفَ أثبت بأوضَحِ الأدِلَّةِ وأبيَنِ البراهينِ أنَّ دينَ الباطنيَّةِ خارجٌ عن جميعِ شرائعِ المسلمين، بل شرائعِ الأديانِ كُلِّها.
كما أوضح أنَّ لهؤلاءِ طُرُقًا ماكرةً وسُبُلًا غادرةً في دعوةِ المسلمين إلى إلحادِهم وكُفرِهم ونفاقِهم، ودرَجاتٍ وتنظيماتٍ في غايةِ الخطورةِ، كما أظهرَ المصنِّفُ سَبَبَ حِرصِ الباطنيَّةِ الشَّديدِ على إخفاءِ أُصولِهم وكُتُبِهم ورسائِلِهم؛ لأنَّ كَشْفَها مُفضٍ إلى هدمِ دينِهم بالكُلِّيَّةِ. وغيرُ ذلك من النتائجِ المذكورةِ
ثمَّ خُتِمت الخاتمةُ بالتَّوصياتِ، والتي منها:
1- ضرورةُ البحثِ عن نسخةٍ ثانيةٍ للمخطوطِ؛ مِن أجلِ سَدِّ النَّقصِ الحاصِلِ في هذه النُّسخةِ الفريدةِ التي تمَّ تحقيقُ الكتابِ عليها.
2- ضرورةُ الاهتمامِ الشديدِ بدعوةِ مُنتَسِبةِ الإسلامِ، الذين هم في حقيقتِهم خارِجُ نطاقِه، كالباطنيَّةِ.
3- تحصينُ النَّاسِ -عامَّتِهم وخاصَّتِهم- ضِدَّ المدِّ الباطنيِّ السَّرَطانيِّ الخبيثِ المستترِ خَلْفَ التشَيُّعِ لآلِ البيتِ.
ثمَّ كانت الكشَّافاتُ العامَّةُ: كشَّافُ الآياتِ القرآنيَّةِ الكريمةِ، وكشَّافُ الأحاديثِ النبويَّةِ الشَّريفةِ والآثارِ، وثَبَتُ المصادِرِ والمراجِعِ، وفِهْرسُ الموضوعاتِ.
والكتابُ فريدٌ في بابِه، وفيه دراسةٌ عن الباقِلَّانيِّ بديعةٌ وجديدةٌ في طَرْحِها.