التَّعريفُ بموضوعِ الكتابِ:
إنَّ الهدَفَ الأسمى من قراءةِ التَّاريخِ هو أخذُ العِبرةِ والعظةِ، كما قال ابنُ الجوزيِّ في مقدِّمةِ كتابِه "شُذُورِ العُقُود في تَاريخ العُهُود":
"التَّواريخُ وذِكرُ السِّيَرِ: راحةُ القلبِ، وجلاءُ الهمِّ، وتنبيهُ العقلِ؛ فإنَّه إن ذُكِرت عجائبُ المخلوقاتِ دلَّت على عظمةِ الصَّانعِ، وإن شُرِحت سيرةُ حازمٍ عَلَّمت حسنَ التَّدبيرِ، وإن قُصَّت قصَّةُ مُفَرِّطٍ خوَّفَت من إهمالِ الحَزمِ، وإن وُصِفت أحوالٌ ظريفةٌ أوجَبَت التَّعجُّبَ من الأقدارِ، والتَّنزُّهَ فيما يُشبِهُ الأسمارَ"(1)
وإنَّ تاريخَ الإمامِ ابنِ كثيرٍ الموسومَ بكتابِ "البدايةُ والنِّهايةُ" من كتُبِ التَّاريخِ الجامعةِ، وهو صورةٌ عن ثقافةِ مؤلِّفِه، وقد جمع في هذا الكتابِ علومًا كثيرةً، وبحثَ مسائِلَ متعدِّدةً، ودخل في تخصُّصاتٍ مختَلِفةٍ.
ولمَّا كان الكتابُ مُطوَّلًا ولمكانةِ اختصارِه أهميةٌ بالغةٌ، بادر الأستاذُ الدُّكتور محمَّد بن صامل السلميُّ، فهذَّب الكتابَ ورتَّبه على منهجيَّةٍ علميَّةٍ، وبدأ بمقدِّمةٍ، ثمَّ ترجمةٍ موجَزةٍ للحافظِ ابنِ كثيرٍ، وبيانِ منهجِه ومصادِرِه في كتابِ "البداية والنهاية" على سَبيلِ الإجمالِ.
ثمَّ بيَّن أنَّ المنهجَ الذي سلكه الحافظُ ابنُ كثيرٍ في ترتيبِ كتابِه ابتداءً من السنةِ الأولى من الهجرةِ النَّبويَّةِ هو التَّرتيبُ الحوليُّ للحوادثِ التَّاريخيَّةِ، وهو منهجٌ سلكه قبله خليفة بن خيَّاطِ، والإمامُ الطَّبريُّ، والمؤرِّخُ ابنُ الأثيرِ مع تعديلٍ يسيرٍ، والإمامُ ابنُ الجوزيِّ، وغيرُهم، وهو منهجٌ في التَّرتيبِ له فوائدُ، كما أنَّ له سلبيَّاتٍ.
وجاء تهذيبُ الكتابِ في خمسةِ مجلَّداتٍ:
المجلَّدُ الأوَّلُ: عن عصرِ الخلافةِ الرَّاشدةِ
ولأهميَّةِ هذه الحِقبةِ فقد أولاها المهذِّبُ عنايةً فائقةً على النَّحوِ التَّالي:
- بدأ بالتَّرتيبِ الموضوعيِّ، فجعل خلافةَ كلِّ واحدٍ من الخلفاءِ الرَّاشدين في عددٍ من الفصولِ بحسَبِ الموضوعاتِ الجامعةِ لكلِّ فصلٍ، فعقد فصلًا في ترجمتِه وفضائلِه، وآخَرَ في استخلافِه، وثالثًا في الفتوحاتِ في عصرِه.
وبهذا جمع الموضوعاتِ المتشابهةَ بعضَها إلى بعضٍ من مواطِنَ متفَرِّقةٍ من الكتابِ، ثمَّ جعل لها عناوينَ، وأحال في الهامِشِ إلى مواضِعِها في الأصلِ؛ وذلك لتيسيرِ مراجعةِ الأصلِ.
- حذَفَ الاستطراداتِ والأحاديثَ الضَّعيفةَ والرِّواياتِ والقِصَصَ التي في متونِها شذوذٌ أو ألفاظٌ مُنكَرةٌ، كما حذف التَّراجِمَ التي يذكرُها ابنُ كثيرٍ في نهايةِ كلِّ سَنةٍ في عصرِ الخلفاءِ الرَّاشدين وخلافةِ معاويةَ -رضي الله عنهم- فقط؛ وذلك لكثرتِهم، ولوجودِ مصنَّفاتٍ خاصَّةٍ بتراجمِهم.
- تجاوَز قِصَصَ الأنبياءِ والسِّيرةَ النَّبويَّةَ؛ حيث قد خدَمها كثيرٌ من الباحثين.
- خرَّج الأحاديثَ والآثارَ من مصادرِها، وقابلها مع تلك المصادِرِ لتصحيحِها وضبطِها.
- ضبطَ الأعلامَ والألفاظَ المحتاجةَ إلى ضبطٍ، وعرَّف الأماكنَ من كُتُبِ البُلدانِ، وشَرَح الغريبَ من كتُبِ اللُّغةِ.
- حافَظ على عبارةِ المصنِّفِ ولم يغيِّرْ منها شيئًا سوى مواطنَ يسيرةٍ جِدًّا؛ لغرَضِ ربطِ العباراتِ والجُمَلِ بعدَ حذفِ الاستطراداتِ، أو جمعِ المتشابهِ في موضعٍ واحدٍ.
- وضَع عناوينَ للفُصولِ والمباحِثِ والفِقراتِ.
وقسَّم هذا الكتابَ إلى أربعةِ أبوابٍ:
البابُ الأوَّلُ: عن الخليفةِ الأوَّلِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللهُ عنه.
والبابُ الثَّاني: عن الخليفةِ الثَّاني الفاروقِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي اللهُ عنه.
والبابُ الثَّالثُ: عن خلافةِ ذي النُّورينِ عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي اللهُ عنه، جَلَّى فيه موضوعَ الفتنةِ وما صَاحَبَها من أهواءٍ وعِلَلٍ ونوازعَ لنوابتِ الضَّلالِ وأهلِ الإفسادِ.
ونظرًا لأهميَّةِ وحساسيةِ موضوعاتِ هذا البابِ، فقد بذل جُهدًا مضاعَفًا في تحقيقِ النُّصوصِ وتخريجِها والتَّعليقِ عليها، وكذا في التَّبويبِ والتَّرتيبِ؛ ممَّا يُسهِّلُ على القارئِ إدراكَ الصُّورةِ الواقعيَّةِ لأحداثِ هذه الفترةِ ومُجرياتِها، وتتَّضحُ له براءةُ عثمانُ رضي اللهُ عنه، وبراءةُ جميعِ الصَّحابةِ من المشاركةِ في الأحداثِ والوقائعِ التي أدَّت إلى الفتنِة، وتجليةَ موقِفِ عثمانَ رضي اللهُ عنه وبطولتِه الفذَّةِ في وقايةِ الأمَّةِ وصيانتِها عن سَفكِ الدِّماءِ، وتقديمِ رُوحِه الطَّاهرةِ دونَ دماءِ الأمَّةِ وأرواحِها، مع كثرةِ أعمالِه الصَّالحةِ وحِفظِ كتابِ اللهِ من التَّبديلِ والتَّحريفِ يومَ أن كَتَب المصاحِفَ العثمانيَّةَ بمشورةِ الصَّحابةِ رضي اللهُ عنهم.
والبابُ الرَّابعُ: مخصَّصٌ لخلافةِ الخليفةِ الرَّابعِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه، وقد ألحق أيَّامَ ابنِه الحَسَنِ رضي اللهُ عنه حتَّى اصطلح مع معاويةَ بنِ أبي سفيانَ -رضي اللهُ عنهما- أوائِلَ عام (41هـ).
ومن المعلومِ أنَّ موضوعاتِ هذا البابِ تتَّسِمُ بكثيرٍ من المشكلاتِ التي تحتاجُ إلى بيانٍ ومعالجةٍ؛ حيث كثُرت الرِّواياتُ المدسوسةُ التي تشوِّهُ الواقعَ التَّاريخيَّ للجيلِ الأوَّلِ، مستغلَّةً مثلَ تلك الأحداثِ المؤسِفةِ والفِتنِ التي يقودُها الرَّعاعُ والسُّفَهاءُ، ولا يحكُمُها أهلُ العلمِ العُقلاءُ، ولا يتَّضحُ الموقفُ فيها إلَّا بعد انقضائِها.
لذلك فقد أخذ إعدادُ هذا البابِ من المهذِّبِ وقتًا طويلًا وجُهدًا كبيرًا، حتى خرج بهذه الصُّورةِ التي نرجو أن تكونَ معينةً للدَّارسين والباحثين في تجليةِ واقعِ تلك الفترةِ من تاريخِنا الإسلاميِّ المجيدِ، وبيانِ المواقفِ الصَّحيحةِ لذلك الجيلِ الفريدِ في التَّاريخِ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذين اختارهم اللهُ لصحبةِ نبيِّه، وحمْلِ رسالتِه، ونشرِها في الخافقَينِ.
المجلَّدُ الثَّاني: عن العصرِ الأُمويِّ (41-86هـ)، ويشمَلُ خلافةَ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ رضي الله عنه، وابنِه يزيدَ، وحفيدِه معاويةَ بنِ يزيدَ، ثمَّ خلافةَ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ رضي اللهُ عنه، وما صاحبها من الأحداثِ حتى استقرَّت الخلافةُ لعبدِ الملِكِ بنِ مروانَ.
المجلَّدُ الثَّالثُ: بدايةُ تاريخِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ: تضَمَّنَ تاريخَ قرنٍ كاملٍ مائةِ سنةٍ (132-232هـ) من تاريخِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ، من بدايةِ الدَّعوةِ لإسقاطِ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ إلى خلافةِ المستكفي باللهِ عبدِ اللهِ بنِ المكتفي؛ آخِرِ خُلفاءِ العصرِ العبَّاسيِّ الثَّاني.
المجلَّدُ الرَّابعُ: من العَصرِ العبَّاسيِّ الثَّالثِ إلى العصرِ العبَّاسيِّ الخامسِ (334هـ - 656هـ)، وفيه بدايةُ الحِقبةِ التي كانت السُّلطةُ والنُّفوذُ فيها لبني بُوَيهِ الشيعيَّةِ، منذُ قَدِم مُعِزُّ الدَّولةِ البُويهيُّ بغدادَ، وحتى تلاشي سُلطتِهم على أيدي السَّلاجقةِ.
المجلَّدُ الخامِسُ: يبدأُ من عصرِ دولةِ المماليكِ البحريَّةِ (648هـ - 784هـ)، وقد سعى سلاطينُ المماليكِ إلى إقامةِ الخلافةِ العباسيَّةِ في مصرَ، وقد تداول منصِبَ الخلافةِ في خلالِ أربعةٍ وتسعين عامًا ثلاثةُ خلفاءَ فقط، أمَّا السَّلاطينُ فعددُهم ثلاثةَ عَشَرَ سُلطانًا.
وأضاف مُهَذِّبُ الكتابِ ما تبقَّى من الحوادثِ والوَفَياتِ من سنةِ (768هـ - 772هـ) من كتابِ "وجيز الكلامِ في الذَّيلِ على دُوَلِ الإسلامِ" للإمامِ السَّخاويِّ.
ثمَّ أكمل بقيَّةَ الحوادِثِ والوَفَياتِ من سنةِ (773هـ - 784هـ) من كتابِ "إنباءِ الغُمْرِ بأنباءِ العُمرِ" للحافِظِ ابنِ حَجَرٍ.
والكتابُ ننصَحُ باقتنائِه، وهو مفيدٌ في بابِه، ويستغني به غيرُ المتخَصِّصِ عن الأصلِ، بل هو أَولى منه.
------------------
(1) ((كتاب شذور العقود في تاريخ العهود)) (ص: 33) لعبد الرحمن بن الجوزي الناشر: مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث. الطبعة: الأولى، 1428هـ