رسالةٌ إلى أئمَّة المساجد بمناسبةِ شهر رمضانَ المباركِ
الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين..
أما بعدُ:
فهذه رِسالةٌ سطَّرتُها موجَّهةً إلى من وفَّقه الله تعالى وتشرَّف بإمامة المصلِّين عمومًا، وفي هذا الشَّهرِ الفضيل خصوصًا، دوَّنتُ فيها ما رأيتُ أنَّ الحاجةَ داعيةٌ إلى بيانه حسَب ما سمعْتُ وعلمتُ من الملاحظات التي ظهرت وتظهر على كثيرٍ من الأئمَّة في زمانِنا هذا، إنْ أُريدُ إلَّا الإصلاحَ ما استطعْتُ وما توفيقي إلا باللهِ.
أولًا: من شعائِرِ شهرِ رمضانَ المبارك قراءةُ القرآنِ في صلاةِ التراويح؛ يقولُ شيخ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: (سنَّةٌ باتفاقِ المسلمين، بل من جُلِّ مقصودِ التراويحِ قراءةُ القرآن فيها؛ ليسمع المسلمون كلامَ الله؛ فإنَّ شهر رمضان فيه أُنْزِلَ القرآنُ، وفيه كان جبريلُ يدارسُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم القرآنَ) (1).
وعليه فينبغي للإمامِ ملاحظةُ ما يلي:
1- أن تكون قراءتُه سَمْحةً لا تكلُّفَ فيها ولا تصنُّع ولا تقليدَ؛ لأنَّ النفوسَ تَقبَلُ القراءةَ السَّهلةَ وتستحليها؛ لموافقتِها الطبعَ وعدم التكلُّف، أمَّا ما لا يحتاجُ إلى شيءٍ من ذلك فقد كَرِهَه سَلَفُ هذه الأمَّةِ وعابوه؛ يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: (وأنصحُ كلَّ مسلمٍ قارئٍ لكتاب الله تعالى- وبخاصَّةٍ أئمَّةُ المساجد- أن يكفُّوا عن المحاكاةِ والتقليد في كلام ربِّ العالَمين؛ فكلامُ الله أجلُّ وأعظَمُ من أن يَجْلِبَ له القارئُ ما لم يُطلَب منه شرعًا، زائدًا على تحسينِ الصوت حسَبَ وُسْعِه، لا حسَب قدرَتِه على التقليدِ والمحاكاة، وقد قال اللهُ عن نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، ولْيجتهِدِ العبدُ في حضورِ القَلبِ، وإصلاحِ النيَّة، فيقرأ القرآنَ محسِّنًا به صوتَه من غير تكلُّف، ولْيجتنبِ التكلُّفَ من الأنغام، والتقعُّرَ في القراءةِ، والممنوعَ مِن حرمةِ الأداءِ) (2).
ولا بأسَ بقراءةِ الحَدْرِ، وهي إدراجُ القراءةِ مع مراعاةِ أحكامِها، وسُرعتها بما يوافِق طبْعَ القارئ ويَخِفُّ عليه.
أمَّا السُّرعةُ المفرِطَة، أو هذُّ القرآنِ كهذِّ الشِّعرِ؛ فإنَّه لا يتأتَّى معه تدبُّرٌ بحالٍ، وقد يصِلُ ذلك إلى التحريمِ إذا كان فيه إخلالٌ باللَّفْظِ؛ لأنَّه تغييرٌ للقرآنِ.
فإن كانت السُّرعةُ ليس فيها إخلالٌ باللَّفظِ، بإسقاطِ بعض الحروف أو إدغامِ ما لا يصِحُّ إدغامُه، فلا بأس بها؛ لأنَّ من النَّاسِ من يَسهُل على لسانِه لفْظُ القرآنِ.
2- لقد أثنى اللهُ تعالى على أهلِ الخشوعِ عند تلاوةِ كِتابِه، فقال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] فبكاءُ الخوفِ والخشيةِ مطلوبٌ بلا تكلُّفٍ، وهو لا يكونُ إلا بعد الخُشوعِ، والخُشوعُ: هو التذلُّلُ والتطامُنُ، وهو يكونُ في القَلبِ، أو في البَصَرِ، أو الصَّوتِ؛ قال النووي: (البكاءُ عند قراءةِ القرآنِ صِفةُ العارفينِ، وشعارُ عِباد الله الصَّالحين) (3).
أمَّا ما كان مُستَدْعًى مُتَكَلَّفًا فهو التباكي، والمحمودُ منه ما استُجْلِبَ لرقَّةِ القَلبِ، وخشيةِ الله تعالى، لا لقَصْدِ الرِّياءِ والسُّمعةِ، وعلامةُ المحمودِ في الغالِبِ صلاحُ القَلبِ، واستقامةُ الجوارح على الطَّاعةِ. وينبغي للإمامِ مغالبةُ نفسِه بحيث لا يُسمَع له صوتٌ، ولا يُرى له دمعٌ، لا أن يفرَحَ بذلك بقصْدِ إظهارِه للنَّاسِ، ونحن نُحسِن الظنَّ بالأئمَّة، وحسْبُ المسلِمِ الأسوةُ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقد ورد عن مطرِّف بن عبد الله عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: رأيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُصلِّي، وفي صَدرِه أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ؛ من البكاءِ (4).
ثانيًا: السُّنَّةُ في صلاة التراويح أن تكون إحدى عشرةَ ركعةً، يُسلِّم من كلِّ ركعتينِ، ويُوتِر بواحدةٍ؛ لقولِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يزيدُ في رمضانَ ولا في غيرِه على إحدى عشرةَ ركعةً؛ يصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حُسنِهنَّ وطولِهنَّ، ثم يصلِّي أربعًا، فلا تسألْ عن حُسنهنَّ وطولِهنَّ، ثم يصلِّي ثلاثًا)(5).
وفي رواية: (كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلِّي فيما بين أن يفرُغَ من صلاةِ العشاءِ -وهي التي يدعوها الناسُ: العَتَمَةَ- إلى الفَجرِ إحدى عشرةَ ركعةً؛ يسلِّم من كلِّ ركعتين، ويوتِرُ بواحدةٍ) (6).
قال محمدُ بنُ نَصرٍ المَرْوزيُّ في بيان أفضليَّة ذلك: (لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا سُئِل عن صلاةِ اللَّيلِ أجاب بأنَّ صلاةَ الليلِ مَثْنى مَثْنى، فاخترْنا ما اختار هو لأمَّته، وأجَزْنا فِعْلَ من اقتدى به ففَعَلَ مثلَ فِعلِه؛ إذ لم يُرْوَ عنه نَهيٌ عن ذلك، بل قد رُويَ عنه أنَّه قال: ((مَن شَاءَ فَليُوتِر بِخَمسٍ، ومن شاء فيوتر بثلاثٍ، ومن شاء فيوتر بواحدةٍ...))(7).
وظاهِرُ حديثِها الأوَّل أنَّه يصلِّي الأربعَ بتسليمٍ واحدٍ، لكنَّه ليس بصريحٍ في ذلك، بل يُحتمَل أنَّه يُصلِّيها مفصولةً؛ لقَولِها -كما تقَدَّم-: (يُسلِّمُ من كلِّ ركعتين).
وفي حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم (كان يصلِّي باللَّيلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً) (8)، وقد تكونُ الركعتان الزائدتانِ على الإحدى عشرةَ ما كان يفتتِحُ به صلاةَ الليلِ، كما في حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ رَضِيَ الله عنه، الذي ساقَه مسلمٌ بعد هذا الحديثِ، أو سنَّة العِشاء (9). واللهُ أعلَمُ.
وصَحَّ عن عُمَرَ رَضِيَ الله عنه أنَّه أمَرَ تميمًا الداريَّ وأُبيَّ بنَ كعبٍ أن يقوما للنَّاسِ بإحدى عشرةَ ركعةً (10). وأمَّا ما ورد أنَّ النَّاسَ على عهدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه (كانوا يصلُّون ثلاثًا وعشرين) (11)، فهو ضعيفٌ لا تقومُ به حجَّة؛ لوجوهٍ ليس هذا محلَّها (12)، ولا متمَسَّكَ فيه لمن ينتصِرُ لهذا العَدَدِ.
لكنْ من يُفتي من أهل العلم بالثَّلاثِ والعشرين يستدلُّ بما في حديثِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا سُئلَ عن صلاة اللَّيلِ لم يحدِّدْ عددًا معيَّنًا، مع أنَّ المقامَ مقامُ بيانٍ، وهذا الاستدلالُ لا بأسَ به، لكنَّ الأفضلَ اتِّباعُ سنَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي داوم عليها، وعَمِل بها أصحابُه مِن بعده، ومنهم الخليفةُ الرَّاشِدُ عمرُ بن الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو أفهمُ منَّا لنصوص الشَّرعِ، وأكثرُ إدراكًا لمقاصِده، فجَمَعَ الناسَ على ما فَعَلَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في تهجُّده، وهو إحدى عشرة ركعةً، ووافَقَه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم في ذلك، ولم يجتهِدْ في استنباطِ ما زاد على هذا العددِ مِن حديث ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فالاستدلالُ على الإحدى عشرة بفِعْله صلَّى الله عليه وسلَّم أقوى من الاستدلالِ على الثلاثِ والعشرين بهذا الحديثِ أو غيرِه من العُموماتِ.
لكنْ من زاد على إحدى عشرةَ ركعةً، فهو مأجورٌ إن شاء اللهُ حسَب نيَّتِه وقصْدِه، واللهُ تعالى لا يُضيعُ أجْرَ من أحسَنَ عملًا. يقول ابنُ عبد البَرِّ: (قد أجمع العُلَماءُ على أنَّه لا حدَّ ولا شيءَ مُقدَّرًا في صلاة الليل، وأنَّها نافلةٌ، فمن شاء أطالَ فيها القيامَ وقلَّت ركعاتُه، ومن شاء أكثَرَ الركوعَ والسُّجود)(13)
ثالثًا: ينبغي للإمامِ في صلاة التراويح أن يُعنَى بصلاتِه، فيصلِّي صلاةَ الخاشعين؛ يرتِّلُ القراءة، ويطمئنُّ في الرُّكوعِ والسُّجودِ، ويحذَرُ من العَجَلة؛ لئلَّا يُخِلَّ بالطُّمأنينةِ، ويُتعِبَ مَنْ خلْفَه من الضُّعَفاءِ وكبارِ السِّنِّ، ونحوهم؛ يقول السَّائبُ بن يزيدَ: (أمَرَ عمرُ بن الخطَّابِ أُبيَّ بن كعبٍ وتميمًا الدَّاريَّ أن يقوما للنَّاسِ بإحدى عشرة ركعةً. قال: وقد كان القارئُ يقرأُ بالْمِئِينَ، حتى نعتَمِدَ على العِصِيِّ مِن طُولِ القيامِ، وما كنَّا ننصرِفُ إلَّا في فُروعِ الفجْرِ) (14).
رابعًا: على الإمامِ في دعاءِ القنوتِ في رمضانَ مراعاةُ ثلاثةِ أمورٍ:
الأوَّلُ: أن يحرِصَ على الأدعيةِ الواردةِ في الكتاب والسُّنَّة، وأن يجتَنِبَ السَّجعَ والتكلُّف، والدُّعاءَ المخترَع، والتفاصيلَ الدقيقةَ التي تجعَلُ الدعاءَ إلى الوَعظِ والترهيبِ أقرَبَ، وإن دعا بما يناسِبُ الأحوالَ العارضة كالاستغاثة وقْتَ الجدْب، أو الدُّعاء بنُصرة المسلمين عند تسلُّطِ الأعداءِ؛ فحَسَنٌ.
الثاني: ألَّا يُطيلَ في دُعاءِ القُنوتِ إطالةً تَشُقُّ على المأمومينَ؛ تؤدِّي إلى فتورِهم وتُسَبِّب شكواهم، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا أطال في صلاةِ الفريضةِ ((أفتَّانٌ أنت يا معاذُ؟)) فكيف بالإطالةِ في دعاءِ القنوتِ، بل في أدعيةٍ مخترَعةٍ وأساليبَ مسجوعةٍ؟!
الثالثُ: أن يدعوَ الإمامُ بصوته المعتادِ؛ فإنَّه أقربُ إلى الإخلاص والتضرُّع، وأعظمُ في الأدَبِ والتعظيم، وأدلُّ على إحساسِ الداعي بقُرْبه من ربِّه، وعليه أن يبتعدَ عن كلِّ ما ينافي الضراعةَ والابتهالَ، أو يدعو إلى الرِّياء والإعجابِ وتكثيرِ المصلِّين خلْفَه؛ من التلحينِ والتطريبِ، أو التمطيطِ، أو تكلُّفِ البُكاءِ، ونحو ذلك ممَّا ظهر على بعضِ الأئِمَّةِ في هذا الزَّمانِ. واللهُ المستعانُ.
خامسًا: على الإمامِ أن يختارَ الجوامِعَ من الأدعيَةِ؛ لقَولِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: (كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستحِبُّ الجوامِعَ من الدُّعاءِ، ويَدَعُ ما سوى ذلك) (15). وإنْ بَدَأَه بحمدِ الله تعالى والثَّناءِ عليه، ثم الصَّلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهو أَوْلى (16)؛ لحديث فَضالةَ بن عبيد رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سَمعَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم رجلًا يدعو في صلاتِه؛ لم يُمَجِّدِ اللهَ تعالى، ولم يصلِّ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عَجِلَ هَذَا)) ثم دعاه فقال له أو لغيره: ((إِذا صلَّى أحدُكم فلْيبدأْ بتحميدِ ربِّه جلَّ وعزَّ والثناءِ عليه، ثم يصلِّي على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم يدعو بَعْدُ بما شاء)) (17).
واعلمْ أنَّه لم يصحَّ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قنَتَ في الوتْرِ، والقنوتُ أمرٌ ظاهِرٌ؛ لأنه دعاءٌ ورفعُ يدينِ، فلو كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعَلُه دائمًا أو غالبًا لنَقَلَه مَن كان ملازمًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. واللهُ أعلَمُ.
وإنَّما أُخِذَتْ سُنيَّةُ القنوت من تعليمِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحسَنَ بنَ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه الدعاءَ المأثورَ: (اللهمَّ اهدني فيمن هَدَيت، وعافني فيمن عافَيْت، وتولَّني فيمن تولَّيت، وبارِكْ لي فيما أعطَيْتَ، وقِني شَرَّ ما قضَيْتَ؛ إنَّك تقضي ولا يُقضَى عليك، إنَّه لا يَذِلُّ مَن والَيْت، ولا يعِزُّ مَن عادَيْت، تباركْتَ ربَّنا وتعالَيْت) (18) - على القولِ بثبوت لفظة: «قُنوت الوتر»- قال الحافظ في "التلخيص": "قال الخلَّال عن أحمد: لا يصحُّ فيه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم شيءٌ، ولكنَّ عُمَرَ كان يقنُتُ"(19)، وقال الإمام ابنُ خُزَيمة: "ولستُ أحفظ خبرًا ثابتًا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في القُنوتِ في الوِترِ..."(20).
وقد ثبت عن بعض الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّهم كانوا يقنُتون؛ فقد ورد عن عطاءٍ، وقد سئِلَ عن القنوت، قال: كان أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يفعلونَه (21). وكان ابنُ عُمَرَ لا يقنُتُ إلَّا في النِّصفِ الآخِر من رمضانَ (22). وقال الإمامُ الزُّهْري: لا قنوتَ في السَّنة كلِّها إلا في النِّصف الآخِرِ من رمضانَ (23). وقال الإمامُ أبو داود: قلتُ لأحمد: القنوتُ في الوِترِ السَّنَةَ كلَّها؟ قال: إن شاء، قلتُ فما تختارُ؟ قال: أمَّا أنا فلا أقنُتُ إلَّا في النِّصفِ الباقي، إلَّا أن أصلِّيَ خلْف الإمامِ فيقنُتُ، فأقنُتُ معه (24).
وعلى هذا فمداومةُ أئمَّة المساجِدِ على القُنوتِ في رمضانَ بحيث لا يتركونَه إلَّا قليلًا: يحتاجُ إلى دليلٍ.
سادسًا: لم يثبُتْ في مشروعيَّة دعاءِ الخَتمِ في آخِرِ رمضانَ شيءٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا عن أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم، وأفضلُ العبادات -كما يقولُ ابنُ تيمية- ما وافق هدْيَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهَدْي أصحابِه (25). وليس مع من استحبَّه دليلٌ يُذكَر سوى أنَّه مِن عَمَلِ أهل المِصْرَينِ: مكَّة، والبصرة، والسُّنَّةُ لا تُثبَت بمثل ذلك، لا سيمَّا أنَّه مُنقَطِعٌ عن عصر الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم، وتوارُثُ العملِ إنَّما يكون في موطِنِ الحجَّةِ؛ حيث يتَّصل بعصر التَّشريع، فإن لم يكن كذلك فلا. ورحم اللهُ الإمامَ مالكًا -وهو عالم المدينة في زمانه- حيث قال: (ما سمعْتُ أنَّه يدعو عند خَتْم القرآنِ، وما هو مِن عَمَلِ النَّاسِ) (26). وقد اشتُهِرَت هذه المسألة عند الحنابلةِ في رواياتٍ عن الإمام أحمد ذَكَرَتْها كتبُ المذهَب، وقد جاء في رواية حنبل، قال: سمعتُ أحمَدَ يقولُ في خَتْم القرآن: إذا فرغْتَ من قراءةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفَعْ يديكَ في الدُّعاء قبل الركوعِ، قلتُ: إلى أيِّ شيء تذهبُ في هذا؟ قال: رأيتُ أهلَ مكَّة يفعلونَه.
وهذا دليلٌ على أنَّه لو كان عند الإمام أحمدَ رحمه الله سنَّةٌ ماضيةٌ مرفوعةٌ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو متَّصِلة إلى بعضِ الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم؛ لاعتَمَدها في الدَّلالةِ، وهو رحمه الله من أربابِ الإحاطةِ في الرِّوايةِ (27).
ويُعجِبني في هذا المقام كلمةٌ قيِّمة لشيخِ الإسلام ابن تيميَّة؛ حيث يقول: (وليس لأحدٍ أن يحتجَّ بقَولِ أحَدٍ في مسائِلِ النِّزاعِ، وإنما الحجَّةُ النَّصُّ والإجماعُ، ودليلٌ مستنبَطٌ من ذلك تُقَرَّر مقدِّماتُه بالأدلَّة الشرعية لا بأقوالِ بعض العُلماءِ؛ فإنَّ أقوالَ العلماء يُحتَجُّ لها بالأدلَّة الشرعيَّة، لا يحتجُّ بها على الأدلَّة الشرعيَّة، ومن تربَّى على مذهبٍ قد تعوَّده واعتقد ما فيه وهو لا يحسِنُ الأدلَّةَ الشرعيَّة وتنازُعَ العلماءِ؛ لا يُفَرِّقُ بين ما جاء عن الرَّسولِ وتلقَّتْه الأمةُ بالقَبولِ -بحيث يجب الإيمانُ به- وبينَ ما قاله بعضُ العلماءِ ويتعسَّر أو يتعذَّر إقامةُ الحُجَّةِ عليه، ومن كان لا يفرِّقُ بين هذا وهذا لم يَحْسُنْ أن يتكلَّمَ في العلمِ بكلامِ العلماءِ، وإنَّما هو من المُقَلِّدةِ الناقلين لأقوالِ غيرِهم؛ مِثلُ المحدِّث عن غيره والشَّاهِدِ على غيره؛ لا يكونُ حاكمًا، والنَّاقِلُ المجرَّد يكونُ حاكيًا لا مُفتيًا) (28).
ثم إنَّه قد تقرَّر في قواعِدِ الأصوليِّين في التُّروكِ النبويَّة: أنَّ ما تَرَكَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الأفعالِ يكونُ تَرْكُه حجَّةً إذا وُجِد السَّبَبُ المقتضي لهذا الفِعلِ، وانتفى المانعُ، وهذا أصلٌ عظيمٌ وقاعدة جليَّةٌ؛ به تُحفَظ أحكامُ الشريعةِ، ويُوصَد به بابُ الابتداعِ في الدِّينِ(29).
وقد ترتَّبَ على هذه الختمةِ أمورٌ:
1- الإطالةُ على المأمومينَ بدعاءٍ متكلَّف مسجوعٍ غيرِ مأثور؛ يشغَلُ نحو ساعةٍ من الزَّمَن، يُقرأ بصوتِ التِّلاوةِ وأدائها.
2- البكاءُ والنَّشيجُ وإسبالُ العبرات، مع أنَّ قوارعَ التنـزيلِ وآياتِ الذِّكرِ الحكيمِ تُتلى في ليالي الشَّهر، بل على ممرِّ العامِ، ولا تكاد تسمَعُ ناشجًا، ولا نابسًا ببكاءٍ مِن مأمومٍ وإمامٍ، واللهُ تعالى يقولُ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] (30).
3 – عنايةُ النَّاسِ بهذه الخَتْمةِ والاهتمامُ بها إلى حدِّ تتبُّعِ المساجِدِ لِطَلَبها، ولا سيمَّا النِّساء؛ حتى إنَّ منهنَّ من تسألُ عن حُكم تأخيرِ دَوْرتها الشهريَّة عن موعِدِها؛ حِرصًا على حضور الخَتْمة وعدمِ فواتها. فاللهُ المستعانُ.
سابعًا: ظهر في هذا الزَّمانِ مُكَبِّراتُ الصوتِ، وهي مِن نِعَم الله تعالى على عباِده؛ لِما فيها من المصالحِ العظيمةِ، مِنْ تبليغِ الأذان، وخُطبة الجُمُعة، والعيدين، وغير ذلك، وليست من البِدَع-كما قد يظنُّ بعضُ النَّاسِ- لأنَّ البدعةَ هي الطَّريقةُ المُحدَثَةُ في الدِّينِ مُضاهاةً للشَّريعة الإسلاميَّة، واستعمالُ المكَبِّرات لا يُقصَد به القُربةُ ولا الزيادةُ في الثوابِ، وإنما المقصود تكبيرُ الصَّوتِ؛ حتى يسمَعَه من لا يسمَعُ صوتَ المؤذِّن أو الخطيبِ، بل قد يكونُ قُربَةً من القُرَبِ إذا احتيجَ إلى ذلك (31).
ولا بأْسَ باستعمالِ مكبِّر الصَّوتِ إذا احتاج الإمامُ إلى ذلك لِسَعَةِ المسجِدِ وكثرةِ المُصلِّين، أما بدون حاجةٍ فالأحسنُ تَرْكُه. ومن استعمَلَه فعليه مراعاةُ ما يلي:
1- أن يحذَرَ من التشويش على المساجِدِ والبيوتِ المجاوِرةِ، وهو يحصلُ بفتْح الصَّوتِ على المكَبِّرات في المنارة، ولاسيما إذا كان أهلُ المساجِدِ المجاورة ممَّن يصلُّون في رَحبةِ المسجِدِ وساحته؛ فهؤلاء يكون إيذاؤهم أشدَّ. وقد قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربَّه؛ فلا يؤذينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفَعْ بعضُكم على بعضٍ في القراءةِ))، أو قال: ((في الصَّلاةِ))(32).
2- أنَّ الإمامَ إنَّما يصلِّي بمن كان داخِلَ المسجِدِ، لا بمن كان خارجَه، وحينئذٍ يكون إظهارُ الصَّوتِ من مكبِّرات المنارةِ عديمَ الفائدة(33). وهذا وصْفٌ ينبغي أن تُنَزَّهَ عنه الصلاةُ.
3- أنَّ بعضَ الأئِمَّةِ يبالِغُ في القرْبِ من لاقطةِ الصَّوتِ، فيجعلها مقابِلَ فَمِه، وهذا يؤدِّي إلى حركاتٍ كثيرةٍ عند الركوعِ والسجودِ والقيامِ ليبتعِدَ عنها، وهي حركاتٌ متواليةٌ ليست الصَّلاةُ بحاجة إليها، وبإمكان الإمام وضْعُ اللَّاقطة عن يمينه، ولن يؤثِّرَ هذا في الصَّوتِ ضَعفًا.
4- أنَّه ينبغي أن يكونَ صوتُ المكبِّر داخِلَ المسجد بقدر المصلِّين، ومما يؤسَفُ له أنَّنا نرى كثيرًا من المساجد رُفِعَ فيها ميزانُ المكبِّرِ حتى أصبح يزعِجُ المصَلِّين، ويؤثِّر على متابعتِهم لقراءةِ إمامِهم وخشوعِهم. واللهُ المستعانُ.
------------------------------------------------
(1) الفتاوى: (23 / 122)
(2) بدع القراء ص (55).
(3) التبيان (ص 47).
(4) رواه أبو داود (904)، والترمذي في "الشمائل" (316)، والنسائي (3 / 13)، وأحمد (26 / 238 - 239)، وإسناده صحيح. والأزيز: الصَّوتُ، والمِرْجَل: القِدْرُ؛ فإنه عند غَلَيان الماء فيه بالنَّارِ يخرجُ منه صوت.
(5) رواه البخاري (1147)، ومسلم (738).
(6) أخرجه مسلم (736).
(7) "مختصر قيام الليل" ص (83).
(8) رواه البخاري (1138) ومسلم (764).
(9) انظر: فتح الباري (3 – 21).
(10) رواه مالك (1/115) وسنده صحيح.
(11) رواه مالك (1/110) والبيهقي (2/496).
(12) انظر صلاة التراويح للألباني ص (48).
(13) الاستذكار (5 /244).
(14) رواه مالك في الموطأ (1 / 115) وسنده صحيح، وفروعٌ: جمع فرع، وهو أعلى الشيء، يعني بذلك أنَّهم لا يقضون صلاتَهم لطول القيامِ إلا قُربَ الفَجرِ.
(15) أخرجه أبو داود (12/14)، وأحمد (6/148)، والطبراني في "الدعاء" (50)، والحاكـم (1/539)، من طريق الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها به، وهذا سندٌ صحيحٌ؛ الأسوَدُ من رجال مسلم، وأبو نوفل من رجالهما.
(16) انظر: "الوابل الصيب" ص(115).
(17) أخرجه أبو داود (1481)، والترمذي (3477)، والنسائي (3/44)، وقال الترمذي: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
(18) أخرجه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، وليس عنده: «ولا يعزُّ من عادَيْت»، والنسائي (3/248)، وابن ماجه (1178)، وأحمد (3/247)، والحاكم (3/172)، والبيهقي (2/209)، كلهم من طريق أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء، عن الحسن به، ورواه أحمد أيضًا (3/245) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن بُريد... بمثله، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.... ولا نعرف عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في القُنوتِ في الوِترِ شيئًا أحسَنَ من هذا "وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وصحَّحه النووي في "الخلاصة" (1/455)، والألباني في "الإرواء" (2/172)، لكن طعن بعض الحفَّاظ كابن خزيمة في لفظة: «في قنوت الوتر»؛ وذلك لأن شعبة رواه عن بُريد بن أبي مريم كما في "المسند" (3/248-249) ولم يذكر القنوت ولا الوتر، ولفظه: (كان يعلِّمنا هذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت...)، وشعبة أوثق من كلِّ من رواه عن بُريد، كأبي إسحاق وابنه يونس، وعلى قاعدة المحقِّقين في زيادة الثقة يُحكَم على هذه اللَّفظةِ بالشُّذوذ، ولا يكون هذا الدعاء مختصًّا بالقُنوت. انظر: "صحيح ابن خزيمة" (2/152-153)، "التلخيص" (1/264).
(19) "التلخيص الحبير" (2/19).
(20) "صحيح ابن خزيمة" (2/151).
(21) مختصر قيام الليل ص (289).
(22) رواه ابن أبي شيبة (2 / 305)، وانظر مختصر قيام الليل ص 289.
(23) رواه عبد الرزاق (3 / 121).
(24) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص (66).
(25) الفتاوى (24 / 321-323).
(26) المعيار المعرب (11 / 114)، المدخل لابن الحاج (2 / 299).
(27) مرويات دعاء ختم القرآن لبكر أبو زيد ص 66.
(28) مجموع الفتاوى (26 / 202-203).
(29) معالم أصول الفقه ص (129).
(30) مرويات دعاء ختم القرآن ص (69).
(31) انظر: "فتاوى ابن إبراهيم" (2/127)، "فتاوى ابن عثيمين" (13/91).
(32) أخرجه أبو داود (1332)، والنسائي في "الكبرى"(7/288-289)، وأحمد (18/392-393)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وله شاهد من حديث البياضي، أخرجه مالك (1/80)، والنسائي في "الكبرى"(3/386)، وأحمد (31/363)، انظر: "التمهيد"(23/309)، " السلسلة الصحيحة " رقم (1597)، (1603).
(33) انظر: "فتاوى ابن عثيمين" (13/74).