انتقادُ "القَول التَّمَام "
الشيخ الدكتور إبراهيم بن عبد الله الحماد
الحمدُ للهِ وَحْدَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن لا نبيَّ بَعْدَه، وبعدُ:
فهذا عرضٌ وجيزٌ لبعض ما اشتمل عليه كتاب "القول التمامِ بإثبات التفويضِ مذهبًا للسََّّلَف الكرام" من أخطاء وتلبيسات ومغالَطات:
1- كشَفَت تقريظاتُ بعض المشايخ والدُّعاة لهذا الكتابِ أنَّ الدعوى العريضةَ التي يدَّعيها بعضُهم في الحِرْصِ على وَحْدة المسلمين، واجتماعِ كَلِمتِهم، والبُعْدِ عَمَّا يفَرِّق بينهم؛ خاصةً عند الحديثِ عن مسائلِ العقيدةِ- هي دعوى لم تأخذْ حظَّها في التطبيق هنا، وأنَّ المناداةَ بذلك إنَّما تكونُ عندما يكونُ الكتابُ المنشور مقرِّرًا للعقيدةِ الصَّحيحةِ، على منهجِ السَّلَفِ الصَّالحِ.
2- عنوان الكتاب فيه تلبيس من جهتَيْن:
أ- فظاهِرُه لا يمنَعُ أن يكون هناك مذهبٌ آخَرُ للسَّلَف غير التفويض -حتى على فرضِ أنَّ التفويضَ هو تفويضُ المعنى- وهذا ما نقله الكاتبُ عن البعض، بل قرَّره هو في بعض المواضِعِ.
ب- عدمُ التصريح بأيِّ أنواعِ التفويضِ هو مذهَبُ السَّلَف.
3- يُقَرِّر الكتاب أنَّ مذهبَ السَّلَف الحقيقيَّ هو تفويض المعنى، لا تفويضُ العِلمِ بالكيفيَّةِ، وأنَّ القَولَ بأنَّ مذهب السَّلف هو تفويضُ العلم بالكيفية، لَم يقلْ به إلا قِلَّةٌ من أهلِ العِلمِ، كابن تيميَّة، وابن القَيِّم.
4- يؤكِّد الكاتبُ أنَّ المرادَ بأهل السُّنَّة عند الإطلاق: يدخُل فيه أهلُ الحديثِ، والأشاعِرةُ، والماتُريديَّة. وهذه من المتناقِضاتِ.
5- يجزمُ الكاتبُ في كتابه بأنَّ ظاهِر بعض الصِّفات -كاليد، والوجْه، والعين، بل والعُلُو- يُوهِمُ النَّقْصَ، فيجب فيه تفويضُ المعنى مع عدَمِ اعتقادِ ظاهِرِه، وأنَّ هذا مجمَعٌ عليه بين السَّلَف!
6- يستدلُّ الكاتبُ بالنُّصوصِ التي جاءت عن السَّلَف بمنْع التفسيرِ لنصوص الصِّفاتِ على أنَّ المرادَ بها عدم التعرُّض للمعنى، مع أنَّ المراد بها عندهم منْعُ التأويل الباطِلِ المذمومِ.
7- التلبيس في المصطَلَحات:
أ- كدعوى التفريقِ بين الحقائِقِ والكيفيَّات.
ب- ودعوى عدمِ التفريقِ بين المماثَلةِ والمشابَهةِ.
ج - ودعوى التفريقِ بين المفهومِ ومصاديقِ المفهومِ.
8- يجزم الكاتِبُ بأنَّ ظاهِرَ بعض الصفات لا يعرَفُ من معانيها إلَّا ما هو مشاهَدٌ في المخلوق؛ كاليد، والنزول، ومَن قال بوجودِ معنًى غير ذلك، فهو مكابٌر عنده!
9- تقسيم الصِّفاتِ تقسيمًا لا يُعرَفُ عند السَّلف، ومِن ثَمَّ يَبْنِي عليه ما يُريدُ إثباتَه من القَولِ بوُجوبِ تفويضِ المعنى أو التأويلِ.
10- عدمُ التفريقِ بين اللَّفظِ المطْلَق، واللَّفظِ المقَيَّد، والمعنى المشترَكِ الكُلِّيِّ، والمعنى المقيَّد في الصِّفات، التي يزعُمُ بأن ظاهِرَها يوهِمُ التشبيهَ؛ كاليد، والعين، والوَجْه، بينما يفرِّق بين تلك الأمورِ في الصِّفاتِ التي يرى أنَّ ظاهِرَها لا يوهِمُ التشبيهَ؛ كالسَّمعِ، والبَصَرِ، والعِلمِ.
11- يدَّعي الكاتبُ الاحتكامَ إلى قوانينِ اللُّغة، ثم ينقلُ من كتُبِ اللُّغةِ ما يؤيِّد قولَه فقط، ويتركُ ما لا يدُلُّ على قَولِه، كما فعلَه في عَدَمِ التفريقِ بين المماثلة والمشابهة، وكذا تعريفُ الجِسمِ والحدِّ.
12- لا يُفَرِّقُ الكاتبُ بين القولِ بأنَّ نَفْيَ صِفاتِ النَّقصِ ابتداءً ليس من طريقةِ القرآنِ ولا منهَجِ السَّلف، وبين نَفْيهم النَّقصَ عن الله في مَعرِضِ التنزيهِ، ويرى أنَّ مَن فرَّق بينهما فهو متناقِضٌ، فلا مانِعَ عنده أن يُقالَ عن الله ابتداءً: ليس بمجنون، ولا غَبيٍّ، ولا بخيلٍ، ولا كذَّابٍ، ونحو ذلك، وبين نفْيه عنه في مَعرِضِ تنْزيهِه عمَّا يَصِفُه الظَّالِمون المعانِدون.
13- أكثر الكاتِبُ مرارًا أنَّ مذهَبَ السَّلَفِ قاطِبةً هو نفيُ الجِسمِ عن اللهِ، ثم ينقل عباراتِ من هو معدودٌ من السَّلف في بابِ الصِّفاتِ، ومَن عنده اضطِرابٌ ظاهِرٌ، ويجعَلُها في سياقٍ واحدٍ، وهذا تلبيسٌ؛ إذ إنَّ المُرادَ من نَفيِ الجِسمِ من السَّلَفِ نفيُ التشبيهِ، بينما مرادُ من نفى الجِسمَ من غيرِهم هو نفيُ الصِّفاتِ، وهذا ظاهِرٌ في سياقِ النُّصوصِ التي نقلها.
14- ينقُلُ النُّصوصَ الحاكية لإجماعِ السَّلَف، ثم يتصرَّفُ في بيانِ المرادِ بهذا الإجماعِ؛ ليُدَلِّل على ما ذهب إليه، مِثلُ نَقْلِه حكايةَ الإجماع على أنَّ تفويضَ المعنى هو مَذهَبُ السَّلَفِ.
15- ينافِحُ الكاتب كثيرًا عن المؤوِّلة ومذْهب التأويل، ويرى بأنَّه منهجٌ لا ينبغي ذمُّه؛ لأنَّ له ما يؤيِّدُه من مجازات اللُّغة.
16- عقَد الكاتبُ الفَصلَ الثَّالِثَ من كتابه لبيانِ أقوالِ أهلِ العِلمِ في تقريرِ مَذهَبِ السَّلف، ثم ساق 111 قولًا لِمَن هو معدودٌ من السَّلَفِ في باب الصِّفاتِ، ولِمن عُرِف عنه الاضطرابُ في هذا الباب، بل وفي غيره من أبوابِ الاعتقاد، وجعل ذلك كله دليلًا على أنَّ مذهَبَ السَّلفِ هو تفويضُ المعنى! والنُّصوصُ التي ساقها عن السَّلَفِ المعتَبَرين في ذلك لا تساعِدُه عند التحقيقِ والنَّظَرِ.
17- وجَّه الكاتبُ مقالةَ الإمامِ مالِكِ بنِ أنسٍ -رحمه الله- والتي تهدم مذهَبَيْ تفويضِ المعنى والتأويلِ، توجيهًا لا يساعِدُه فيه سياقٌ ولا لغةٌ، فقال إنَّ المرادَ بقَولِه: "غيرُ مجهول": يعني: ورودَه في الشرْعِ!
18- عَدَمُ التفْريقِ بين تفويضِ الكيفيَّةِ، وتفويض العِلْم بالكيفيَّة، وبناءً على هذا نَفْي الكَيْف عن صفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وساقَ من نصوص بعض العُلَماءِ ما يزعُمُ أنَّ المرادَ به نفيُ الكيفيَّةِ عن صفاتِ اللهِ، لا نفيُ العلْمِ بالكيفيَّةِ، وهذا مِن أبطَلِ الاستدلالاتِ، وأبلَغِ الشَّناعاتِ.
19- بالغ الكاتِبُ في التشنيعِ على مَن أثبت العلوَّ الحقيقيَّ لله، وأبدل لفظ الحقيقيِّ بالحِسِّي؛ مبالَغة في التشنيعِ، ثم استدَلَّ على نفْيه عن اللهِ بألفاظٍ مجمَلة، تحتَمِل معانيَ حقَّة وباطلة؛ كلَفظِ الحَدِّ والجِهة، وخَصَّ بالتشنيع في هذا المقام شيخَ الإسلام ابنَ تيميَّة -رحمه الله- وتوجيهه لكلام الإمام أحمد -رحمه الله- في إثبات لفْظ الحَدِّ، وفي ثنايا هذا التشنيع تَشَمُّ رائحة التحامُلِ والحَطِّ من قدْرِ شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله. والقائلون بنفيِ العُلوِّ الحقيقيِّ عن اللهِ -سبحانه- يقفون حائرين عاجزين عن الإجابة تجاه ثلاثةِ أُمورٍ:
أوَّلُها: الفِطرةُ الخَلْقيَّة والضَّرورة الحِسِّيَّة التي يجِدُها كُلُّ إنسانٍ في الاتِّجاه للعُلو حالَ الشِّدَّةِ للمكروبين، وحالَ الرَّخاءِ للصَّالحين؛ إذ إنَّه أمرٌ عجزَ عن الإجابة عنْه أساطينُ المتكَلِّمين وفُحولُهم، وهذه فطرةٌ لا يُمكِنُ لأحدٍ إنكارُها.
ثانيها: قَولُه تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، فهذا السِّياقُ القرآنيُّ لا يُسعِفُ المؤَوِّلةَ فيه أيُّ أسلوبٍ من أساليب العرَبِ؛ لصَرْفه عن العُلُوِّ الحقيقيِّ.
ثالثُها: العُروجُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يمكِنُ القولُ فيه بغيرِ العُلُوِّ الحقيقيِّ، وإلَّا كان مكابرةً للعُقولِ السَّليمة الخالية من داء الهوى والمكابرة، فلا يقولُ أحدٌ هنا: إنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صَعِد إلى السَّماءِ حتى بلغ سِدرةَ المنتهى، ثم ما شاء اللهُ مِن العُلا، إنَّ المراد: عُلُوُّ المُلْك والسُّلطان، فمُلكُ الله وسُلْطانه في كلِّ مكانٍ، وليس فيما عَرَج إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقط.
20- جَاهَد الكاتِبُ في التمويه بأنَّ نفيَ العلوِّ الحقيقيِّ لا يستلزم نفيَ العُلوِّ المطلَقِ، لكنَّه اعترف بعد ذلك أنَّ العلوَّ المطْلَقَ عنده هو علوُّ المُلْك والسُّلطان، وهذا مِن غايةِ التلبيس والتدليس، وهل أنكر أحدٌ من الخَلْقِ ذلك العلوَّ؟ !
21- ما ذَكَره الكاتِبُ في الفصل الذي عقدَه عن المرادِ بالتجسيمِ تهويلٌ حَرَص من خلاله على بيانِ أنَّ إثباتَ شيءٍ من الصِّفاتِ التي يزعُمُ أنَّ ظاهِرَها يُفيدُ التشبيهَ هو نفسُه التجسيمُ الذي ذمَّه العلماء، وحكموا على قائلِه بالكُفرِ، وفي هذا من التلبيسِ والتمويهِ والمخادعةِ ما لا يَخْفَى، وما حكاه مِن كلامِ بعضِ العُلَماءِ في هذا الفَصلِ يَنقضُه ما لَم ينقُلْه عنهم ممَّا هو مسطَّرٌ في كُتبهم، كنقلِه عن الإمامِ أحمد.
22- يسوقُ الكاتبُ كلامَ ابنِ الجوزي -رحمه الله- في كتابِه "دفع شُبَه التشبيه"؛ للتشنيعِ على مَن يُثبِت الصِّفاتِ على ظاهِرِها، وهو يعلَمُ أنَّ ابن الجوزي -رحمه الله- مضطربٌ مذهبُه في الصِّفاتِ، لكنَّه على سبيلِ التنفيرِ من القَولِ بتفويضِ العِلم بالكيفيَّة يأتي بمِثلِ هذه النقولاتِ التي يعرف أدْنَى مَن له اطِّلاعٌ على أقوالِ الأئمَّة المعتَبَرين في بابِ الصِّفاتِ بُطلانَها.
23- أجاب الكاتِبُ عن الاعتراضِ الوارد على القوْلِ بتفويض المعنى "بأنَّه حينئذٍ نكون قد تعبَّدْنا بفَهْم ما لم نعلمْ معناه" بجوابٍ لا يقبَلُه عقلٌ ولا نَقلٌ، فذَكَر أنَّ قولنا هو: أنَّ لنصوصِ الصِّفات معانيَ لا يعلمها إلَّا اللهُ، وهل في هذا جوابٌ عن ذلك الاعتراضِ؟!
24- أثبتَ الكاتبُ أمرًا لم أرَ مَن سبقه إليه؛ حيث جعل لنصوصِ الصِّفات معنيَيْن؛ أحدهما: قطعيٌّ، وهو: المعنى العامُّ، وآخَرُ ظَنِّي، وهو: المعنى الخاصُّ، ثم مثَّل لذلك بصفتَي اليد والأصابع، وجاء فيهما بكلامٍ حاصلُه التشنيعُ على مَن أثبت هاتين الصفتَينِ على ظاهرِهما!
25- يَنقُلُ عن ابنِ قُدامة -رحمه الله- القولَ بأنَّه لا حاجةَ لنا إلى عِلمِ معنى ما أراد الله -تعالى- مِن صفاته، ثم يحمِلُ هذا الكلامَ على أنَّ المراد المعنى لا الحقيقةُ، وهذا من التلبيسِ، ولا يقولُه مَن تأمَّل كلامَ ابنِ قدامة -رحمه الله- بتمامِه.
26- أراد الكاتبُ الجوابَ عن القوْلِ بأنَّ تفويضَ المعنى فيه تجهيلٌ للسَّلف، بإيرادِ بعض النُّصوصِ عن العُلماء التي تحثُّ على وجوبِ الإيمانِ بصِفاتِ اللهِ، وأنَّ ذلك هو المأمورُ به، وما سوى ذلك فهو تَكلُّفٌ، ومِثلُ هذا لا يدفَعُ عن ذلك المذهبِ الشَّنيعِ هذه الشُّبهةَ.
27- جاهَدَ الكاتبُ في إثباتِ أنَّ القائلينَ بتفويضِ العِلم بالكيفيَّة قالوا بالتأويلِ في بعضِ الصِّفاتِ، وساق مثالَيْن على ذلك، هما نصوصُ صِفةِ المعيَّة، وصفةِ الوَجهِ، وساق لتقريرِ ذلك كلامَ الرَّازي -رحمه الله-، ويَكفي للدَّلالةِ على التلبيس التعليقاتُ التي ساقَها على كلامِ الرازي في هذا الموضِعِ؛ فإنَّه يريدُ أن يجعَلَ كلامَ الرَّازي فقط موجَّهًا للقائلين بتفويضِ العِلم بالكيفيَّة، لا تفويضِ المعنى.
28- عَقَد الكاتبُ فصلًا مُستقلًّا عن سببِ تأويلِ الخَلَف، والذي يظهَرُ لي - والله أعلمُ- أنَّ هذا الفصل مِن أعظمِ مقاصِدِ تأليف الكتابِ؛ لأنَّ فيه دفاعًا عن القائلين بالتأويل من الأشاعرة والماتُريديَّة على وجهِ الخُصوصِ، وأنَّ مَن شنَّع عليهم في تأويلهم، فإنَّما هو لعَدَمِ معرفتِه بأمرين:
أ- عدمُ معرفتِه بلُغة العرب.
ب- عدمُ معرفته بمذهَبِ الأشاعرةِ والماتُريديَّة الذين ذَهبوا إلى التأويلِ؛ إذ هُم نَقَلةُ اللِّسان العربي، ودليل ذلك مؤلَّفاتُهم في اللغة.
ولا يَخفى ما في هذا الكلامِ من تضليلٍ وتلبيسٍ؛ لأنَّ الاعتذارَ عنهم بالأمرِ الأوَّلِ: فيه تنقُّصٌ لِمَن تَرَك التأويلَ من سَلَف الأمَّة، وأنَّهم على عَدَمِ معرفةٍ بلُغةِ العَرَبِ.
وأمَّا الثاني: فمِمَّا لا يُنكِرُه أحدٌ أنَّ مِن أئمَّةِ المعتزلةِ مَن يتفوَّق في تصنيفاتِه اللُّغويَّة على بعض المصنِّفين من الأشاعِرة، فبراعةُ الزَّمخشري والقاضي عبد الجبَّار المعتزلي في اللُّغة لا تكونُ سببًا لقَبول ما ذهبوا إليه في تأويلِ النُّصوصِ.
29- خَتَم الكاتبُ كتابَه في التعليق على مقالة: "مذهب السَّلف أسلمُ، ومذهب الخلَفُ أعَلُم" ببيان أنَّها لا تعني الإزراءَ بالسَّلَفِ والقَدْح فيهم، ونَقَل بعضَ النُّصوصِ التي يظنُّ أنَّها تؤيِّده في دفْعِ الشَّناعة عن هذه المقالة، كنقلِه عن ابن عاشور -رحمه الله- أنَّ المرادَ الطريقةُ لا أصحابها، وهذا لا يُغيِّرُ من الحقيقة شيئًا، فمَدْحُ طريقةِ الخَلَف بأعظمَ مِن مدْحِ طريقةِ السَّلَف فيه تنقُّصٌ للسَّلَفِ، وهذا لا مِريةَ فيه.
30- تَلمِسُ في الكِتابِ تشنيعًا على بعض العلماء، بأنَّ فيهم ميلًا لقولِ المُجسِّمة؛ كحديثِه عن الإمامِ الدَّارمي، والشيخ ِمحمَّد خليل هرَّاس -رحمهما الله- وكذا ما نقله عن محمَّد عيَّاش الكبيسي مِن نَقْدٍ لكلامِ الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- والشيخ صالح الفوزان -حفظه الله.
31- في ظنِّي أنَّ هذا الكِتابَ جُزءٌ من سلسلةِ الهَجمةِ على العقيدة السَّلفيَّة الصَّحيحة، وتَبعٌ لكتاباتِ المشنِّعين عليها من خلالِ اختيار عناوينَ للكُتُبِ يُشعِر ظاهرُها بالدِّفاع عن عقيدةِ السَّلَفِ، بينما هي مشحونةٌ في داخِلِها بالطَّعْن على مذهَبِ السَّلَفِ، من أمثالِ كتاب "الصفات الخبرية عند أهل السنة" لمحمد الكبيسي، والذي يُعتبَرُ كتاب سيف العصري تَكرارًا لكثيرٍ ممَّا جاء فيه.
تنبيه مهم:
1- احتفَى الكاتبُ كثيرًا بكلام الرَّازي -رحمه الله- ونَقَل عنه في مواضعَ متعدِّدةٍ في مَعرِضِ التقريرِ والاستشهادِ والتأييدِ، مع ما عُرِفَ عن الرازي -رحمه الله- مِن شدَّة الاضطرابِ في هذا البابِ على وَجهِ الخُصوصِ، اضطرابًا جَعَله يعترف أنَّ مناهِجَ المتكلِّمين في هذا البابِ -بل وغيره- لا تَرْوي غليلًا، ولا تَشفي عليلًا، ومِن أعجَبِ تلك المواضع التي نَقَل فيه الكاتِبُ عن الرازي على وَجهِ التأييد: النَّقلُ في تفسيرِ قَولِه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، حيث نَقَل عن الرازي -رحمه الله- كلامَه في تعَقُّبِه للإمام ابنِ خُزَيمة -رحمه الله- ووصْفِه له بالجاهِلِ، وأنَّه من العوامِّ، وأنَّ ما نقله في كتابه إنَّما هو خُرافاتٌ، وأنَّ كتابَ التوحيد لابن خزيمة -رحمه الله- هو في الحقيقة كِتابُ الشِّرْك! واكتفى الكاتبُ بالتعليق على هذه العباراتِ الشنيعةِ بقولِه: "أغلظَ"، وقوله: "هذه مبالغةٌ لا يُقَرُّ عليها"، وهل تَكفي مثلُ هذه العبارات لردِّ مِثْل تلك الشَّناعاتِ؟!
2- مِن أشدِّ الأمورِ غَرابةً وعجبًا: أنَّ الكاتِبَ نَقَل في هذا الموضِعِ عن الرازي -رحمه الله- قولَه: "اختلافُ الصِّفات والأعراضِ لا يوجِب اختلافَ الذواتِ، إذا عرفتَ هذا فنقول: الأجسامُ التي منها تألَّف وجهُ الكَلبِ والقِردِ مساويةٌ للأجسام التي تألَّف منها وجهُ الإنسانِ والفَرَسِ، وإنَّما حصل الاختلافُ بسبب الأعراض القائمة، وهي الألوانُ والأشكالُ، والخشونةُ والملاسةُ، وحُصولُ الشُّعورِ فيه وعدمُ حصولها، فالاختلافُ إنَّما وقع بسَبَبِ الاختلاف في الصِّفاتِ والأعراضِ، فأمَّا ذواتُ الأجسامِ فهي متماثلةٌ إلَّا أنَّ العوامَّ لا يعرفون الفرْقَ بين الذَّواتِ وبين الصِّفاتِ، فلا جَرمَ يقولون: إنَّ وجهَ الإنسانِ مخالِفٌ لوَجهِ الحِمار، ولقد صَدَقوا، فإنَّه حصلتْ تلك بسَبَبِ الشكل واللَّوْن، وسائِرِ الصفات، فأمَّا الأجسامُ من حيثُ إنَّها أجسامٌ، فهي متماثِلةٌ متساويةٌ" (27/145).
وأيَّده الكاتبُ، فقال متعقِّبًا الإمامَ ابن خزيمة -رحمه الله- في إثباتِه صِفةَ الوَجهِ لله: "لا يَشكُّ عاقِلٌ بأن وجهَ الإنسان والحيوان -أيًّا كان نوعُ هذا الحيوان- تتشابَه؛ من حيثُ إنَّها جميعًا أجسامٌ لها طُولٌ وإن اختلف الطُّولُ من وَجهٍ إلى وَجهٍ، ولها عَرْضٌ وإن اختلف العَرْضُ من وجهٍ إلى وَجهٍ، وهي شاغلةٌ لحَيِّز من الفراغ، وإن اختلف مِقدارُ الفراغ الذي يشغَلُه وجهُ النملة عن وجه الفيل، وهكذا فمُقوِّمات الجِسميَّة موجودة في كلٍّ، فهي متساويةٌ إذَن في الماهيَّات، وإن اختلفَت في الصِّفاتِ" (ص100 - 101 ).
وهنا يبرز سؤالانِ هامَّان على هذا الكلام:
الأول: هل المقصودُ من هذا الكلام القولُ بأنَّ ذواتِ جميع الأشياء متساويةٌ؟ ومِن ثَمَّ يتمُّ هدمُ قاعدة: القوْلُ في الصِّفاتِ كالقَولِ في الذَّات، كما هُدِمت قاعدة: القولُ في بعض الصِّفاتِ كالقَولِ في البعضِ الآخَرِ.
الثاني: لو قال قائِلٌ: إنَّ ذاتَ رَسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- التي هي أطهرُ ذوات المخلوقين كذاتِ أنجس ذوات المخلوقات، كالكَلْب والخنزير! أو قال: إنَّ الجسميَّة التي يُوصَف بها سيِّد الخَلْق -صلَّى الله عليه وسلَّم- هي نفسُ الجسميَّة التي يُوصَف بها الكلْب والحمار، فبِمَ يُحكَم على هذا القائل؟!
حاشا رَسولنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن مِثلِ هذه الهَرْطقات والسَّفْسطات، وصَدَق الإمامُ أبو يوسف -رحمه الله- حينما قال: "العِلمُ بالكلام هو الجَهْل، والجهْل بالكلامِ هو العِلْمُ".
هذا بعضُ ما تيسَّر على عَجَلٍ من بيانِ ما اشتملَ عليه هذا الكتابُ مِن أخطاءٍ وتلبيساتٍ ومغالطاتٍ.
واللهُ الموفِّق والهادي للصَّوابِ.