فِقْه نَوازِلِ الصِّيام
د.عبدالله بن حمد السكاكر
النازِلةُ الأُولى: بَخَّاخُ الرَّبْوِ
ما الـمَقصودُ ببَخَّاخِ الرَّبْوِ؟ وكيف يُستَعمَلُ؟ وإلى أين تَذهبُ مَوادُّه؟ وكَلامُ أهلِ العِلْمِ في هل يُفطِرُ به الصائمُ أو لا يُفطِرُ؟
بخَّاخُ الرَّبْوِ: هو عُبوَّةٌ مَضغوطةٌ تَحتَوي على ثلاثةِ أُمورٍ، أو أشياءَ:
الأوَّلُ: الـماءُ.
والثاني: غازُ الأُكسُجين.
والثالثُ: الـموادُّ العِلاجيَّةُ التي يُقصَدُ أنْ تَصِلَ إلى الجِهازِ التنَفُّسِيِّ؛ فالعُبوَّةُ هذه تَحتَوي على هذه الأُمورِ الثلاثةِ، النِّسبةُ الكُبرى فيها لِلماءِ، والباقي على الأُكسُجينَ، والـمَوادِّ العِلاجيَّةِ، واستِعمالُها كما هو مَعروفٌ هو بأنْ يَضَعَ الإنسانُ هذا البخَّاخَ في فَمِه، ثم يأخُذُ شَهيقًا عَميقًا، وفي هذه الأثناءِ يُطلِقُ بَخَّةً واحِدةً يَستَنشِقُها أو يتنَفَّسُها مع الشَّهيقِ، هذه البخَّةُ أين تَذهَبُ حينما تستَنشِقُها أو تتنَفَّسُها؟ هذه البخَّةُ في أغلبِها وعامَّتِها وأكثَرِها -إلَّا ما نَدَرَ- تَذهَبُ إلى الجِهازِ التنفُّسيِّ، بدَأَ بالفَمِ، ثم ما يُسمَّى البلعومَ، ثم القَصباتِ الهوائيةِ، ثم يَذهَبُ إلى الرِّئةِ أغلبُ هذه الـمادةِ الـمُستَنشَقةِ، يَذهَبُ بهذا الاتجاهِ، لكنَّ هناك جُزءًا يَسيرًا جدًّا مِن هذه الـمَوادِّ يَعلَقُ بِجُدرانِ ما يُسمَّى البلعومَ، والبلعومُ هو أعلى الجهازِ الهَضميِّ، يَعلَقُ به، ورُبَّما الإنسانُ يَبتَلِعُ شَيئًا منه، فيَذهَبُ إلى الـمَعِدةِ، أيْ أنَّ جُزءًا يَسيرًا جدًّا يَعلَقُ في البلعومِ، وجُزءًا ممَّا يَعلَقُ في البلعومِ يَذهَبُ إلى الـمَعِدةِ، والـمَعِدةُ هي الجَوفُ -على الصَّحيحِ مِن أقوالِ أهلِ العِلْمِ، فهذا الجُزءُ اليَسيرُ يَذهَبُ في هذا الطَّريقِ، وأغلَبُ هذا الغازِ، أو الـمادةِ الـمُستَنشَقةِ يَذهَبُ إلى الجهازِ التَّنفُّسيِّ، وننتَقِلُ إلى: هل يُفطِرُ الصائمُ إذا تعاطى هذه الـمادةَ، أو لا يُفطِرُ؟ اختَلَفَ الـمُعاصِرون مِن أهلِ العِلْمِ الذين بَحَثوا هذه الـمَسألةَ على قَولَيْنِ: فذهَبَ أكثَرُ أهلِ العِلْمِ مِنَ الـمُعاصِرين إلى أنَّ الصائمَ لا يُفطِرُ عنْدَ تعاطيه لهذه الـمادةِ أو الغازِ وهو صائمٌ وممَّن قال هذا القَولَ مِنَ الـمَشايخِ الشيخُ عَبدُ العَزيزِ بنُ بازٍ، والشيخُ محمدُ بنُ صالحٍ العُثيمين، والشيخ عَبدُ اللهِ بن جبرين، والشيخُ محمدٌ الصديقُ الضريرُ، واللجنةُ الدائمةُ لِلإفتاءِ في الـمَملكةِ العربيةِ السعوديةِ، وقد رَجَّحَ هذا القَولَ الشيخُ أحمدُ الخليلُ في بَحثِه الـمُفطِرات الـمُعاصِرة، قال هؤلاء: إنَّه لا يُفطِرُ بهذا البخَّاخِ، وذهَبَ فَريقٌ آخَرُ مِن أهلِ العِلْمِ إلى أنَّه يُفطِرُ به؛ فإنَّ الأصلَ أنَّه لا يَجوزُ له أنْ يتعاطاه، فإنِ احتاجَ إلى تعاطيه، تعاطاه، وقَضى يومًا مَكانَه، هذان هما قَوْلا أهلِ العِلْمِ في هذه الـمَسألةِ، الذين ذَهبوا إلى أنَّ هذا البخَّاخَ لا يُفطِّرُ الصائمَ، وهم الأكثَرُ، ومعهم مَن ذَكَرتُ لكم في هذه الـمسألةِ، قالوا:
إنَّ الأصلَ صِحَّةُ الصيامِ، ولا يُترَكُ هذا الأصلُ وهذا اليَقينُ إلا بيَقينٍ مِثلِه، ووُصولُ شَيءٍ مِن هذا الرَّذاذِ وهذه الـمادةِ إلى الـمَعِدةِ أمْرٌ مَشكوكٌ فيه؛ لِأنَّ الأصلَ أنَّ هذه الـمادةَ تَذهَبُ إلى الجِهازِ التنفُّسيِّ، فوُصولُ شَيءٍ منها إلى الـمَعِدةِ أمْرٌ مَشكوكٌ فيه، واليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ، وبالتالي نَقولُ: إنَّ الصيامَ يَبقى صَحيحًا حتى يَثبُتَ عِندَنا يَقينُ أنَّ جُزءًا مِن هذه الـمادةِ وَصَل إلى الـمَعِدةِ، وكما قُلتُ قَبلَ قَليلٍ؛ فإنَّ الأطباءَ يَقولون: إنَّ جُزءًا يَسيرًا قد يَصِلُ إلى الـمَعِدةِ، قال مَن قال بأنَّ بخَّاخَ الرَّبْوِ لا يُفَطِّرُ: وعلى فَرْضِ أنَّ جُزءًا مِن هذه الـمادةِ وَصَل إلى الـمَعِدةِ فإنَّه قَدْرٌ يَسيرٌ، يُعْفى عنه، ولا يَحصُلُ الفِطرُ به؛ قياسًا على أمرَيْنِ:
الأوَّلُ: ما يَبقى بعْدَ الـمَضمَضةِ؛ فإنَّ الأطباءَ وأهلَ العِلْمِ يقولون: إنَّ الإنسانَ إذا تمَضمَضَ وهو صائمٌ فإنَّه يَصِلُ إلى مَعِدَتِه مِنَ الـماءِ قَدْرٌ أكثَرُ ممَّا يَصِلُ إلى الـمَعِدةِ إذا استَنشَقَ هذا البخَّاخَ؛ لِأنَّ القَدْرَ الذي يصلُ إلى الـمَعِدةِ -لو وَصَل مِن هذا البخَّاخِ- قَدْرٌ ضَئيلٌ جدًّا جدًّا؛ فإنَّ هذه العلبةَ -علبةَ بخَّاخِ الرَّبْوِ- مِقدارُ ما فيها تقريبًا عَشَرةُ ملليلترات مِن هذا الـمَحلولِ، وهذه العُبوةُ قد أُعدَّتْ لِتُطلِقَ مِئتَيْ بخَّةٍ، أيْ أنَّ كُلَّ بخَّةٍ واحِدةٍ مِن هذا البخَّاخِ يَبلُغُ مِقدارُها واحِدًا على عشرين 1/20 مِنَ الـملليلتر الواحِدِ، هذا الجُزءُ مِن عِشرين جُزءًا مِنَ الـملليلتر عامَّتُه يَذهَبُ إلى الجهازِ التنفُّسيِّ، إذَنْ ما يَعلَقُ في البلعومِ جُزءٌ يَسيرٌ جدًّا مِن هذه الكميةِ، ثم الذي يَعلَقُ في البلعومِ ليس كُلُّه يَصِلُ إلى الـمَعِدةِ، وإنَّما الذي يَصِلُ إلى الـمَعِدةِ جُزءٌ يَسيرٌ ممَّا يَعلَقُ في البلعومِ، يقولون: إنَّ هذا القَدْرَ الذي يصلُ إلى الـمعدةِ مِن هذه الـمادةِ لا يُقارَنُ أبدًا بما يمكنُ أنْ يصِلَ إلى الـمعدةِ إذا تمَضمَضَ الإنسانُ بالماءِ، ومِنَ الـمَعلومِ أنَّ الصائمَ يَجوزُ له أنْ يتمَضمَضَ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: "بالِغْ في الاستِنشاقِ، إلَّا أنْ تَكونَ صائمًا"، معنى ذلك أنَّ الصائمَ يتمَضمَضُ ويستَنشِقُ، والأطباءُ يقولون: لو تمَضمَضَ الإنسانُ بمادةٍ مُشِعَّةٍ تظهرُ في الأشعَّةِ لو تمَضمَضَ، ثم مَجَّ هذا الـماءَ الذي تمَضمَضَ به، أو هذه الـمادةَ، لوَجَد أثَرَ هذه الـمادةِ بعْدَ مُدةٍ يسيرةٍ في الـمعدةِ، معنى هذا أنَّه إذا تمَضمَضتَ يَبقى في الفَمِ شيءٌ، ثم تبلَعُه أنتَ مع الرِّيقِ، فيَصِلُ إلى الـمعدةِ، هذا الذي يصلُ إلى الـمعدةِ مِن بخَّاخِ الرَّبْوِ لا يُقارَنُ أبدًا بما يَصِلُ إليها مِنَ الـمَضمَضةِ، فهؤلاء يقولون: لا يَصلُ شيءٌ مِنَ البخَّاخِ إلى الـمعدةِ، ولو وصلَ فهو قليلٌ مَعفُوٌّ عنه، مُتجاوَزٌ عنه، لا يحصلُ به الفِطرُ؛ قياسًا على ما يمكنُ أنْ يصلَ إلى الـمعدةِ بعْدَ الـمَضمَضةِ بالماءِ، هذا القياسُ الأوَّل.
القياسُ الثاني: القياسُ على ما يمكنُ أن يصلَ إلى الـمعدةِ مِنَ السواكِ؛ فإنَّ هذا السواكَ أثناءَ الاستياكِ به تتحَلَّلُ أجزاءٌ منه، ثم تذهبُ مع اللُّعابِ إلى الـمعدةِ، وفي صحيحِ الإمامِ البُخاريِّ مُعلَّقًا: يقولُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ رَضيَ اللهُ عنه: رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لا أُحْصي يَستاكُ وهو صائمٌ. والحَديثُ وإنْ كان فيه مَقالٌ؛ فإنَّ الأصلَ في الأدلةِ الدالةِ على فَضلِ السِّواكِ والترغيبِ فيه ليس فيها ما يَدُلُّ على أنَّ السواكَ يُرغَبُ فيه في حالةٍ دونَ حالةٍ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "لولا أنْ أشُقَّ على أُمَّتي لَأمَرتُهم بالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ". والصائمُ تمُرُّ عليه ثلاثُ صَلواتٍ وهو صائمٌ: الفَجرُ، الظُّهرُ، العَصرُ، وقال: "لولا أنْ أشُقَّ على أُمَّتي لَأمَرتُهم بالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ وُضوءٍ"، وكان إذا دَخَل داره يَبدَأُ بالسواكِ، وإذا قامَ مِن نَومِه يبدَأُ بالسواكِ، فالأصلُ أنَّ ما كان يَفعَلُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الفِطرِ يَفعَلُه في الصيامِ، ما لم يَثبُتْ دَليلٌ يُخرِجُ ذلك عنه؛ فهذا السواكُ ثَمَّ أجزاءٌ تتحَلَّلُ منه مع اللُّعابِ، فتَصلُ إلى الـمَعدةِ، فإذا لم يحصُلِ الفِطرُ بهذه الأجزاءِ التي تتحلَّلُ، فإنَّه لا يَحصُلُ بما هو أقَلُّ منه، وهو ما يكونُ مِن أثرٍ بعْدَ تعاطي بخَّاخِ الرَّبْوِ، هذا هو قَولُ مَن قال: إنَّه لا يُفطِرُ مَن تعاطى البخَّاخَ في أثناءِ الصيامِ، وهذه هي حُجَّتُهم، أظُنُّ أنَّه بمَعرِفةِ هذا القَولِ ودليلِه نَعرِفُ دَليلَ القَولِ الثاني، إذَنْ فالقَولُ الثاني أصبَحَ واضِحًا وجَلِيًّا؛ لِأنَّه إذا قُلْنا: بخَّاخُ الرَّبْوِ جُزءٌ يَسيرٌ منه يَعلَقُ في البلعومِ، وجُزءٌ ممَّا يَعلَقُ في البَلعومِ يَصِلُ إلى الـمعدةِ، فمعنى ذلك أنَّه وَصَل إلى الـمعدةِ، فهذا يُفَطِّرُ، فهذا هو دليلُ مَن قال بأنَّ مَن تعاطى بخَّاخَ الرَّبْوِ في أثناءِ الصيامِ فإنَّه يُفطِرُ بذلك، ودليلُ أصحابِ القَولِ الأوَّلِ جَوابًا عن دليلِ القَولِ الثاني أنَّ وُصولَ هذا الـماءِ إلى الـمعدةِ غَيرُ مُسَلَّمٍ به، وعلى فَرضِ التسليمِ به، فما يَصِلُ يَسيرٌ جدًّا، مَعفُوٌّ عنه؛ قياسًا على ما يَبقى بعْدَ الـمَضمَضةِ، وبعْدَ السواكِ؛ ولهذا نقول: إنَّ الراجِحَ -والعِلْمُ عنْدَ اللهِ- هو القَولُ بأنَّ بخَّاخَ الرَّبْوِ لا يَحصُلُ الفِطرُ به، وهذا -كما مَرَّ معنا- خِلافٌ بيْنَ أهلِ العِلْمِ، وأهلُ العِلْمِ يقولون: الخُروجُ مِنَ الخِلافِ مُستَحَبٌّ، فإذا أمكَنَ لِمريضِ الرَّبْوِ مثلًا أنْ يُؤخِّرَ تعاطيَ هذا البخَّاخِ، ولا يترتَّبَ على ذلك مَشقةٌ ولا ضَرَرٌ، قُلْنا: الأفضَلُ أنَّه يُؤخِّرُه؛ خروجًا مِنَ الخِلافِ، لكنْ إذا احتاجَ إليه فإنَّنا نقولُ: إنَّه لا يَحصُلُ الفِطرُ بذلك، والعِلْمُ عنْدَ الـمَولى سُبحانَه.
النازِلةُ الثانيةُ: الأقراصُ العِلاجيةُ التي تُوضَعُ تَحتَ اللِّسان
يقولُ الأطبَّاءُ: إنَّ منطقةَ ما تَحتَ اللِّسانِ هذه تُعتَبَرُ مِن أسرَعِ الـمَناطِقِ امتِصاصًا لِلعِلاجِ في البَدَنِ، بحَيثُ إنَّ هذه الـمنطقةَ إذا وُضِعَ فيها العِلاجُ يمتَصُّه البَدَنُ بأسرَعِ وَقتٍ؛ ولهذا هناك أقراصٌ صُنِعتْ لِمَرضى القَلبِ؛ لِمَنعِ ما يُسمَّى الذَّبحاتِ الصدريةَ، هذا العِلاجُ صُنِعَ لِمَرضى القَلبِ؛ لِمَنعِ هذه الذبحاتِ أو التجلُّطاتِ في القَلبِ، بحيث إنَّ الإنسانَ يَضَعُ هذه الحَبَّةَ تَحتَ لِسانِه، فما هي إلَّا مُدَّةٌ يَسيرةٌ جدًّا حتى يمتَصَّ البَدَنُ هذه الـمادةَ العِلاجيَّةَ، فتَصلَ إلى القَلبِ عَبْرَ الدَّمِ، ويَنتَفِعَ بها البَدَنُ، هذه هي الأقراصُ العِلاجيةُ التي تُوضَعُ تَحتَ اللِّسانِ، هذه الأقراصُ اتَّخَذَ فيها مَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ الـمُنبَثقُ عن مُنظَّمةِ الـمُؤتَمرِ الإسلاميِّ في دَورَتِه العاشِرةِ الـمُنعَقدةِ في عام 1418هـ، اتَّخَذ فيها الـمَجمَعُ في تلك الدَّورةِ قَرارًا بالإجماعِ -كما أظُنُّ- أنَّها لا تُفطِرُ، لكن بشَرطِ أنَّ ما يتحَلَّلُ مِن هذا القُرصِ لا يبتَلِعُه الإنسانُ، أو يَزدَرِدُّه؛ لِأنَّ هذه الأقراصَ إذا وُضِعتْ تَحتَ اللِّسانِ رُبَّما يتحَلَّلُ شَيءٌ منها يَبقى في اللُّعابِ، فهذا الذي يتحَلَّلُ لا يبتَلِعُه الإنسانُ، وإنَّما يمُجُّه، فإذَنْ لم يبتَلِعِ الإنسانُ ما يتحلَّلُ مِن هذا القُرصِ، وإنَّما كان دُخولُها إلى البَدَنِ عَبْرَ هذه القَنَواتِ التي تَحتَ اللِّسانِ عَبْرَ الدَّمِ؛ فإنَّه لا يُفطِرُ بذلك؛ لِأنَّ الأصلَ صحةُ الصيامِ، ولا نترُكُ هذا الأصلَ إلَّا بيَقينٍ، وهذه الأقراصُ ليست أكلًا ولا شُربًا، ولا في معنى الأكلِ أو الشُّربِ؛ فإنَّها لا تَصِلُ إلى الـمَعدةِ، ولا يَحصُلُ لِلبَدَنِ بها مِنَ القُوةِ والنشاطِ ما يَحصُلُ بالطَّعامِ والشَّرابِ، فهي ليست طعامًا ولا شرابًا ولا في معنى الطعامِ أو الشرابِ؛ ولهذا نقولُ: إنَّ هذه الأقراصَ لا يَحصُلُ بها الفِطرُ، لكن بالشرطِ الذي ذَكَرتُ لكم، وهو أنَّ ما تحلَّلَ منها لا يبتَلِعُه الإنسانُ، لكن لو تحلَّلَتْ في الفَمِ ثم ابتَلَعَها الإنسانُ فحينَئذٍ نَقولُ: إنَّ هذا عبارةٌ عن أكلٍ أو شُربٍ، واللهُ سُبحانَه قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، بمعنى أنَّه إذا تبَيَّنَ الصُّبحُ أمسَكَ الإنسانُ عنِ الطَّعامِ والشَّرابِ، فإذا ابتَلَعَ ذلك فإنَّه يُفطِرُ به.
النازِلةُ الثالثةُ: مِنظارُ الـمَعِدةِ
مِنظارُ الـمَعِدةِ هو عبارةٌ عن جِهازٍ طِبيٍّ مُتَّصلٍ بسِلكٍ أو خَيطٍ أو نَحوِ ذلك، يُدفَعُ في الجهازِ الهَضميِّ لِلإنسانِ عَبْرَ الفَمِ، ثم البلعومِ، ثم الـمريءِ، ثم يصلُ إلى الـمعدةِ، وهذا الجهازُ في الأغلبِ أحيانًا يُستَعمَلُ لِأغراضٍ تَشخيصيَّةٍ، إمَّا تصويرٍ، وإمَّا أخذِ عيِّناتٍ، أو نَحوِ ذلك، ثم بعْدَ انتهاءِ الغَرَضِ يُسحَبُ مرَّةً أُخرى، ويُستَخرَجُ، هذا هو الـمِنظارُ الذي نُريدُ أن نتحَدَّثَ عنه. هل يَحصُلُ به الفِطرُ إذا فَعَله الإنسانُ وهو صائمٌ؟ وقبْلَ ذلك نبحَثُ مَسألةً الخِلافُ فيها يُؤثِّرُ في الـمسألةِ التي بيْنَ أيدينا، هذه الـمسألةُ هي: هل كُلُّ ما وَصَل إلى الجَوفِ بالمعنى الذي رَجَّحناه وهو الـمعدةُ، هل كُلُّ ما وَصَل إليها يُعَدُّ مُفطِرًا، أم لا يُعَدُّ مُفطِرًا إلَّا ما وَصَل إلى الجَوفِ ممَّا يُطعَمُ أو يُشرَبُ أو يَنتَفِعُ به البَدَنُ؟ فمَثلًا إنسانٌ معه خَرَزةٌ أو لُؤلؤةٌ، وهو صائمٌ، ثم وَضَعها في فَمِه وابتَلَعها عَمْدًا، هذا هو مَحلُّ الخِلافِ في هذه الـمسألةِ، هل يُفطِرُ بذلك أم لا؟ مِنَ الـمَعروفِ أنَّكَ إذا شَرِبتَ ماءً أنَّ هذا مُفطِرٌ بالإجماعِ، كما مَرَّ معنا، لكنْ إذا أكَلتَ وأنت صائمٌ حصاةً مثلًا أو لُؤلؤةً ووصَلَتْ إلى الـمعدةِ هل تُفطِرُ بذلك أم لا؟ جُمهورُ أهلِ العِلْمِ يقولون: إنَّه يُفطِرُ بابتِلاعِ أيِّ شَيءٍ، سواءٌ كان ممَّا يُطعَمُ أو يُشرَبُ، أو ممَّا لا يُطعَمُ ولا يُشرَبُ ولا يَتَحَلَّلُ، لوِ ابتَلعتَ حَصاةً عمدًا، قُلْنا: إنَّكَ أفطَرتَ. فإنْ قيلَ: هذه الحَصاةُ لا تَنفَعُ ولا تُغني ولا تُسمِنُ؛ يقولون: الـمُهم أنَّكَ ابتَلَعتَها ووَصَلتْ إلى الـمعدةِ، فأنت تُفطِرُ بذلك. هذا القَولُ قال به الحنفيةُ والـمالكيةُ والشافعيةُ والحنابلةُ، إلَّا أنَّ الحنفيةَ قَيَّدوا هذه الـمسألةَ بشرطٍ، فقالوا -وهُنا يتَّضِحُ أحيانًا فائدةُ وثمرةُ الخيالِ الفِقهيِّ الواسِعِ، رُبَّما ذلك الفَقيهُ الحنفيُّ حينما ذَكَر مِثلَ هذا الأمرِ لم يأتِ في خَلَدِه أنَّه سيأتي بَعْدَ قُرونٍ شَيءٌ يُسمَّى الـمِنظارُ- فالحنفيَّةُ يقولون: إنَّه يُفطِرُ بما وَصَل إلى الـمعدةِ، ولو لم يكنْ مَطعومًا ولا مُتَحَلِّلًا، لكنْ بشرطِ أنْ يستَقِرَّ في الـمعدةِ، فعِندَ الحنفيةِ لو أنَّ الإنسانَ رَبَطَ خَرَزةً مَثلًا مِنَ اللُّؤلؤِ بخَيطٍ، ثم ابتَلَعَها ووصَلَتْ إلى الـمعدةِ، ثم سحَبَها مَرَّةً أُخرى فإنَّه لا يُفطِرُ بهذا في ذلك الوَقتِ. نقولُ إنَّ هذا عبارةٌ عن تَرَفٍ فِقهيٍّ أنَّ الإنسانَ يتخَيَّلُ مسائلَ قد لا تكونُ موجودةً في ذلك الزمنِ، ولا يَخطُرُ في بالٍ أنَّها موجودةٌ، لكنِ الآنَ وُجِدَتْ، فعِندَ الحنفيةِ أنَّ ما يصلُ إلى الـمعدةِ يُفطِرُ به الصائمُ، ولو لم يكُنْ ممَّا يتحلَّلُ أو يَنتَفِعُ البَدَنُ به، لكنْ بشَرطِ أنْ يستقِرَّ. هذا هو القَولُ الأوَّلُ في هذه الـمَسألةِ. القَولُ الثاني في هذه الـمسألةِ ذَهَبَ إليه بعضُ الـمالِكيةِ، واختارَه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، قال أصحابُ هذا القَولِ: إنَّه لا يُفطِرُ بما وَصَل إلى الـمعدةِ إلَّا أنْ يَكونَ ذلك ممَّا يُطعَمُ أو يُشرَبُ. يعني ممَّا يتحَلَّلُ فينتَفِعُ البَدَنُ به، فلو أكَلَ حَصاةً أو قِرشًا، فعِندَ أصحابِ القَولِ الثاني أنَّه لا يُفطِرُ بذلك.
الجمهورُ الذين قالوا بأنَّ ما دخل إلى الـمعدةِ يُفطِرُ الصائمُ به ولو كان ممَّا لا يُطعَمُ ولا يتحَلَّلُ، استَدَلُّوا على ذلك بعَدَدٍ مِنَ الأدلةِ، مِن هذه الأدلَّةِ أنَّه رُويَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه نَهى عن الاكتِحالِ لِلصائمِ، وقالوا: إذا اكتَحَلَ الإنسانُ فإنَّ جُزءًا منه يصلُ إلى البلعومِ، ثم مع الرِّيقِ يَنزِلُ إلى الـمَعدةِ، والكُحلُ ليس ممَّا يَنتَفِعُ به البَدَنُ، فهذا دليلٌ على أنَّه يُفطِرُ بما وصل إلى الـمعدةِ، سواءٌ أكانَ نافعًا أو لم ينتَفِعْ به البَدَنُ، لكنَّ هذا الحَديثَ حَديثٌ مُنكَرٌ لا يَصِحُّ. الأمرُ الثاني: قالوا: إنَّ ابتلاعَ الحصاةِ يُسمَّى أكلًا، ومِن ثَمَّ يَدخُلُ في النصوصِ الشرعيةِ، كما في قَولِه تَعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، فهؤلاء يقولون: إنَّ هذا أكْلٌ، لكنَّ أصحابَ القَولِ الثاني يقولون: هذا هو مَحلُّ النزاعِ، وأهلُ العِلْمِ يقولون: لا يصِحُّ الاستِدلالُ على الخَصمِ بمَحَلِّ النِّزاعِ، فنحن لا نُسَلِّمُ بأنَّ هذا أكْلٌ، الأكلُ إنَّما هو لِمَا يُطعَمُ أو يُشرَبُ؛ ولهذا فإنَّ الأكلَ والشُّربَ وَرَدَ في الآيةِ والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الـمُبَيِّنُ لِكِتابِ اللهِ تَعالى، وقد قال: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِئَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الـمِسْكِ. رَواهُ مُسلِمٌ.
فالحَديثُ يَدُلُّ على أنَّ الأكلَ إنَّما يُعَدُّ أكلًا مُفطِرًا إذا كان مَطعومًا أيضًا، استَدَلَّ الجُمهورُ بما صَحَّ عنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: "إنَّما الفِطرُ فيما دَخَلَ، لا فيما خَرَجَ"، وهذا وإنْ ثَبَتَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ فإنَّه مُقَيَّدٌ كما قُيِّدتِ الآيةُ؛ لِأنَّ الفِطرَ فيما دَخَل ممَّا يُطعَمُ مما يَنتَفِعُ به البَدَنُ، ممَّا يتقَوَّى به البَدَنُ؛ لِأنَّ الحِكمةَ مِن مَشروعيةِ الصيامِ هي حَبسُ النَّفْسِ عن شَهَواتِها، وكَسرُ حِدَّتِها، وتَضييقُ مجاري الشيطانِ، وهو الدَّمُ فيها، وهذا إنَّما يَحصُلُ بتَركِ الـمَطعوماتِ، أمَّا غَيرُ الـمَطعوماتِ فدُخولُها لِلبَدَنِ لا يُقَوِّي البَدَنَ، ولا يُوسِّعُ مَجاري الشيطانِ فيه.
القولُ الثاني، وهو قَولُ بَعضِ الـمالكيَّةِ، وشيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ، الذين قالوا: إنَّه لا يُفطَرُ بما دَخَل إلى الـمعدةِ إلَّا أنْ يكونَ مَطعومًا، أو مَشروبًا، يتحَلَّلُ فينتَفِعُ به البَدَنُ، فقالوا: لِأنَّ هذه هي الحكمةُ مِنَ الصيامِ؛ لِأنَّ الحِكمةَ مِنَ الصيامِ هي مَنعُ البَدَنِ في هذا الوَقتِ مِنَ الطعامِ والشَّرابِ الذي يَحصُلُ به تَقَوٍّ، وأنتم تعرِفون أنَّ النَّفْسَ إذا شَبِعتْ حصل لها الأشَرُ والبَطَرُ، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ، فإذا جاعَتِ انكسَرَتْ حِدَّتُها، وسورَتُها وذهَبَ الأشَرُ والبَطَرُ، وما يَحصُلُ مِنَ الـمعاني التي تُنافي العُبوديَّةَ، والذُّلُّ والخُضوعُ للهِ عزَّ وجلَّ يَحصُلُ بالإمساكِ عنِ الطعامِ والشرابِ، ويحدُثُ عَكسُه بتعاطي الطعامِ والشَّرابِ، اللذَيْن يتقَوَّى بهما البَدَنُ، أمَّا تعاطي الحصاةِ أو خَرزةٍ أو نَحوِهما فإنَّه لا يُؤثِّرُ في ذلك؛ ولهذا قال أصحابُ هذا القولِ: إنَّه لا يُفطِرُ إلَّا إذا وَصَل إلى الـمعدةِ شَيءٌ ممَّا يتحَلَّلُ وينتَفِعُ به البَدَنُ ويتقَوَّى، وهذا القَولُ رَجَّحَه الشيخُ أحمدُ الخليلُ، في كتابِه: الـمُفطِراتُ الـمُعاصرةُ، وهو الذي يَظهَرُ إنْ شاءَ الله.
بعْدَ ذلك نأتي إلى مَسألَتِنا، وهي مَسألةُ الـمِنظارِ، هل يُفطِرُ به الصائمُ، أو لا يُفطِرُ؟
فنقولُ: الـمِنظارُ له حالتان:
الأُولى: هي أنْ يَقومَ الـمُعالِجُ بوَضعِ مادةٍ هُلاميَّةٍ، أو مادَّةٍ دُهنيَّةٍ، أو نَحوِ ذلك على هذا الـمِنظارِ؛ مِن أجْلِ تَسليكِ وتسهيل عمليةِ دُخولِه، أو يَضُخُّ الطبيبُ عَبْرَه مَحلولَ الـمِلحِ ونَحوَه؛ لِإزالةِ العَوالِقِ عليه؛ لتَسهيلِ عمليةِ التصويرِ، وحِينَئذٍ نقولُ: إنَّه يُفطِرُ الصائمُ بذلك؛ لِأنَّهُ -وإنْ كان الـمِنظارُ لا يتحَلَّلُ ولا يَنتَفِعُ به البَدَنُ- فإنَّ تلك الـموادَّ يمتَصُّها البَدَنُ، ويَحصُلُ له بها نوعُ انتِفاع.
الحالةُ الثانيةُ: أنْ يَقومَ الـمُعالِجُ بإدخالِ هذا الـمِنظارِ بدونِ وَضعِ أيِّ شَيءٍ عليه، أو مِن خِلالِه، وحينَئذٍ فالكَلامُ في الفِطرِ به مُتَفرِّعٌ على الكَلامِ بالفِطرِ بدُخولِ شَيءٍ إلى الـمعدةِ لا يتحَلَّلُ مِثلَ ابتِلاعِ القِرشِ والحَصاةِ ونَحوِ ذلك، فجُمهورُ أهلِ العِلْمِ يقولون: إنَّه يُفطِرُ بذلك؛ لِأنَّه جِسمٌ وَصَل إلى الـمعدةِ؛ فهو في حُكْمِ الأكلِ أو الشُّربِ، والحنفيةُ يقولون: لا يُفطِرُ؛ لِأنَّه لا يستَقِرُّ. وأصحابُ القَولِ الثاني، وهم بَعضُ الـمالكيةِ وشيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ، يقولون: إنَّه لا يُفطِرُ بذلك؛ لِأنَّ هذا ليس مَطعومًا، ولا مَشروبًا ولا يتحَلَّلُ، ولا يَحصُلُ لِلإنسانِ له به قُوةٌ ولا نَشاطٌ، فلا يُنافي مَعنى الصيامِ، ولا الحكمةَ مِنَ الصيامِ، ومِن ثَمَّ لا يُفطِرُ بذلك، وهذا القَولُ رَجَّحَه الشيخُ محمدُ بنُ صالِح العثيمين، وهو الرَّاجِحُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
النازلة الرابعة: ما يَتعلَّقُ بنُفوذِ شيءٍ إلى البَدَنِ عن طريقِ الأنف
فمِن ذلك قطرةُ الأنفِ، هل يُفطِرُ الصائمُ بوضعِ شيءٍ مِن هذا الدواءِ في أنفِه أو لا؟ وقبْلَ أنْ نذكُرَ أقوالَ أهلِ العِلْمِ في التفطيرِ بهذه القَطرةِ نُؤكِّدُ على أنَّ الأنفَ مَنفَذٌ إلى الحَلقِ وإلى الـمعدةِ، وهذا أمرٌ ثابتٌ في السُّنَّةِ، ومُؤكَّدٌ عندَ الأطباءِ، ومعروفٌ عندَ الناسِ؛ ففي حَديثِ لَقيطِ بنِ صَبِرةَ في السُّننِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "وبالِغْ في الاستِنشاقِ إلَّا أنْ تَكونَ صائِمًا"، وهذا يُفيدُ بأنه إذا كان صائمًا فلا يَحلُّ له أن يُبالِغَ في الاستِنشاقِ؛ لِئَلَّا يَصِلَ الـماءُ إلى جَوفِه فيُفطِرَ بذلك؛ فالأنفُ مَنفَذٌ إلى الحَلقِ، ثم إلى الـمعدةِ، كما هو معروفٌ، وفي الطِّبِّ الآنَ ما يتعلَّقُ بغسيلِ الـمعدةِ وأحيانًا التغذيةِ لِبعضِ الـمَرضى، وأُمورٍ كثيرةٍ يَكونُ ذلك عن طَريقِ الأنفِ؛ فهو مَنفَذٌ إلى الـمعدة.
إذا احتاج الصائمُ إلى أن يَضعَ في أنفِه قَطرةً مِن هذه القَطراتِ الطبيةِ العلاجيةِ فهل يُفطِرُ بذلك أم لا يُفطِر؟
قد ذَهَبَ أكثرُ أهلِ العِلْمِ مِن الـمُعاصرين، ومنهم الشيخان ابنُ بازٍ وابنُ عثيمين، إلى أنَّ القَطرةَ في الأنفِ تُفطِرُ وحُجَّتُهم في ذلك ظاهرةٌ، قالوا: إنَّ ما يُوضَعُ في الأنفِ مِن قَطراتٍ يَنفُذُ إلى الحَلقِ، ثم إلى الـمعدةِ، فيكونُ مُفطِرًا؛ لحَديثِ لَقيطِ بنِ صَبِرةَ: "وبالِغْ في الاستِنشاقِ، إلَّا أنْ تكونَ صائمًا"؛ فإنَّ وَضْعَ القَطرةِ في الأنفِ أبلَغُ مِنَ الـمُبالَغةِ في الاستِنشاقِ؛ لِأنَّ الـمُبالغةَ في الاستِنشاقِ يُحتمَلُ أن يَصلَ بها إلى حَلقِه شيءٌ مِنَ الـماءِ، ويُحتمَلُ ألَّا يصلَ، لكنَّ القَطرةَ آكَدُ؛ لِأنَّ الإنسانَ يَضعُها بحيث لا تَخرُجُ، هذا هو القَولُ الأوَّلُ في هذه الـمسألة.
وذَهَبَ بعضُ أهلِ العِلْمِ أيضًا مِنَ الـمُعاصرين إلى أنَّ القطرةَ في الأنفِ لا تُفطِرُ، واحتَجُّوا على ذلك بأمرَيْنِ: الأولُ أنَّ ما يصلُ إلى الحَلقِ مِن هذه القَطرةِ قليلٌ جدًّا؛ فإنَّ القَطرةَ الواحدةَ رُبَّما لا تصلُ كَميَّتُها إلى 6% مِنَ السنتيمتر الـمُكعَّبِ الواحِدِ، فهي كَميَّةٌ قليلةٌ جدًّا، هذه الكَميَّةُ يَذهبُ أكثرُها، أو جُلُّها، في الشُّعَبِ التنفُّسيَّةِ، والجُيوبِ الأنفيةِ، وفي هذه القناةِ وما يصلُ منها إلى الحَلقِ، ثم بعْدَ ذلك إلى الـمعدةِ قليلٌ جدًّا؛ فهو مما يُعْفى عنه، ولا يحصُلُ الفِطرُ به؛ قياسًا على ما يصلُ إلى الـمعدةِ بعْدَ الـمَضمَضةِ، كما مَرَّ معنا سابِقًا. أيضًا ممَّا احتَجَّ به أصحابُ هذا القَولِ أن هذه القَطرةَ الطبيَّةَ لو وصلت إلى الـمعدةِ؛ فإنه ليس كُلُّ ما يصلُ إلى الـمعدةِ يَحصُلُ الفِطرُ به.
وعلى كُلِّ حالٍ هذا الدليلُ فيه إشكالٌ ونَظَرٌ؛ فبالتأكيدِ إنَّ ما يصلُ مِنَ القطرةِ إلى الـمعدةِ سوف يَحصُلُ امتصاصُه، وليس صحيحًا أنَّه مِثلُ الحصاةِ أو الخَرَزةِ أو نَحوِ ذلك، لكنَّ كونَ هذا الذي يُمتَصُّ مُغذِّيًا يَحصُلُ لِلإنسانِ به نشاطٌ أو لا يَحصُلُ، هذا ليس هو الـمعنى الذي يَحصُلُ به الفِطرُ، وإنَّما ما يصلُ إلى الـمعدةِ ممَّا يَنتفعُ به البَدَنُ، أو يمتَصُّه البَدَنُ؛ ولهذا لو أن إنسانًا مثلًا تناولَ سُمًّا، هل نقولُ: لا يُفطِرُ؛ لِأنَّ هذا ضارٌّ ولا يَنتفعُ به البَدَنُ؟ هذا يُعتبرُ أكلًا أو شُربًا، ومِن ثَمَّ يَحصُلُ به الفِطرُ؛ وبِناءً على هذَيْنِ القَولَيْنِ فالذي يظهرُ لي -واللهُ سُبحانه وتَعالى أعلَمُ- خاصةً أنَّ ما يتعلَّقُ بالقَطرةِ التي تُوضعُ بالأنفِ وإن كانت يَسيرةً إلا أنه لا يأمَنُ الإنسانُ أنْ يضعَ في أنفِه خَمسَ قَطراتٍ، هلِ الإنسانُ حينما يضعُ القطرةَ في أنفِه نَجزِمُ بأنَّه وضعَ قطرةً واحدةً مِقدارُها 6% مِنَ السنتيمتر الـمكعَّبِ؟ هذا غَيرُ مَجزومٍ به. بالأمسِ قُلنا: بالنسبةِ لبخَّاخِ الرَّبوِ البخَّةُ الواحدةُ الذي يصلُ منها يَسيرٌ؛ لِأنَّها بخَّةٌ واحدةٌ، لكنْ هنا قد يريدُ الإنسانُ أن يضعَ قَطرةً، فيضعُ خَمسَ قَطراتٍ، ثلاثَ قَطراتٍ. فنحن نقولُ: إذا وصلَ إلى الحَلقِ وإلى الـمعدةِ ما يزيدُ على ما يُعْفى عنه قياسًا على ما يَبقى بعْدَ الـمَضمَضةِ، فإنَّه يحصلُ به الفِطرُ وإن كان الذي يصلُ إلى الـمعدةِ قَدرًا يَسيرًا جدًّا مثلَ ما يُتسامحُ فيه ممَّا يَبقى بعْدَ الـمَضمَضةِ، فإنَّه حِينَئذٍ لا يحصُلُ الفِطرُ بذلك، ولا شكَّ أنَّ الـمسألةَ كما قُلتُ لكم إشكالُها أنَّك لا تستطيعُ أنْ تجزِمَ بمِقدارِ ما وُضع في الأنفِ، فلو أنَّ الإنسانَ جزم بأنَّه وَضَع قَطرةً واحدةً في الأنفِ وما وصل مِن هذه القَطرةِ إلى الحَلقِ شيءٌ لا يُذكرُ، قُلنا: إنَّ القولَ الثانيَ هو الأرجحُ في هذه الـمَسألةِ؛ لِأنَّ هذا يَسيرٌ؛ فهو ممَّا يُعفى عنه؛ قياسًا على ما يبقى في الفَمِ بعْدَ الـمَضمَضةِ، لكنْ إذا لم يحصلِ اليقينُ بذلك، ووُضِعتِ القَطرةُ في الأنفِ، فرُبَّما زادت، ورُبَّما وصل إلى الحَلقِ أكثرُ مِن ذلك؛ فإنَّنا نقولُ حِينَئذٍ: إنَّ هذه الـمسألةَ بابٌ، الاحتياطُ فيها ينبغي أنْ يَكونَ مُقدَّمًا، خاصةً أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نصَّ -كما في حَديثِ لَقيطِ بنِ صَبِرةَ- على عدمِ الـمُبالغةِ في الاستِنشاقِ إذا كان الإنسانُ صائمًا، وكما قُلتُ لكم قبلَ قَليلٍ فإنَّه في حالِ الاستِنشاقِ إذا بالَغَ الإنسانُ في الاستنشاقِ فإنَّ وُصولَ شيءٍ إلى حَلقِه مَشكوكٌ فيه، ومع ذلك نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن ذلك؛ لِئَلَّا يصلَ شيءٌ إلى الحَلقِ، فيَحصُلَ الفِطرُ به؛ فهذا لا شكَّ أنَّ القَولَ الأوَّلَ في هذه الـمسألةِ أنه أحوَطُ، لكنْ لو أنَّها كانت قَطرةً واحِدةً وتأكَّدنا مِن ذلك؛ فإنَّنا نقولُ: إنَّ القَولَ الثانيَ أرجَحُ، لكنْ إذا حصل الشكُّ في ذلك، أو كان أكثرَ مِن ذلك؛ فإنَّنا نقولُ: إنَّ القَولَ الأوَّلَ أحوَطُ في هذه الـمسألةِ.
بالـمُناسبةِ فإنَّ مَجمَعَ الفِقهِ الإسلاميِّ الـمُنعَقِدَ -كما قُلتُ لكم في دورتِه العاشرةِ عام 1418هـ- اتَّخَذ قرارًا بالنسبةِ لِقَطرةِ الأنفِ، أنَّها لا تُفطِرُ، بشرطِ ألَّا يبلَعَ ما يصلُ إلى حَلقِه، فلو أنَّه وضعَ في أنفِه قطرةً، ثم وصلَ إلى حَلقِه شيءٌ منها فمَجَّه، وأخرَجَه، فإنَّه لا يُفطِرُ بذلك، لكنْ لوِ ابتَلَعه، فإنَّه يُفطِرُ، ويكونُ كالقَولِ الأوَّلِ في هذه الـمسألة.
النازلةُ الخامسةُ: غازاتُ التخدير
التخدير له أنواع كثيرةٌ، وطُرُقٌ شَتَّى، وإنَّما نُريدُ في هذه الـمسألةِ أنْ نبحَثَ نَوعًا واحِدًا مِن أنواعِ التخديرِ، وهو ما يُتعاطى عن طريقِ الأنفِ بهذه الغازاتِ، وإلَّا فإنَّ التخديرَ يحصُلُ بهذه الغازاتِ التي تُستَنشَقُ، ويحصُلُ أحيانًا بطريقةِ الإبَرِ الصِّينيةِ، ويحصُلُ أحيانًا بالإبَرِ التي تكونُ إمَّا باللَّثةِ وإمَّا بالوريدِ، ونَحوِ ذلك في طُرُقٍ كثيرةٍ. لكنَّ ما نُريدُ أنْ نتكلَّمَ عنه هو ما يُتعاطى عن طريقِ الأنفِ أو الفَمِ مِن هذه الغازاتِ، هذا الذي يُتعاطى عن طريق الأنفِ مِن الغازاتِ نُريدُ أنْ نبحَثَه في أكثَرَ مِن مَوضِع.
أولًا: الفِطرُ بعمليةِ التخديرِ، ثم نأتي بعْدَ ذلك إلى الأثرِ، وهو كَونُ الإنسانِ يتخدَّرُ، هل يُفطِرُ بذلك أو لا يُفطِرُ؟
نبحثُ في الـمسألةِ الأُولى عمليةَ التخديرِ ذاتَها، هل يحصُلُ بها فِطرٌ أو لا، حينما تُوضعُ هذه الغازاتُ أو نَحوُها على الأنفِ، أو الفَمِ، فيستَنشِقُها الـمريضُ، ثم يحصُلُ له بذلك التخديرُ، هذه الغازاتُ التي تُوضعُ على الأنفِ أو على الفَمِ فيستَنشِقُها؟
مَجمَعُ الفِقهِ الإسلامي اتَّخَذ فيها قرارًا في دورتِه التي ذكَرتُها لكم على أنَّها لا تُفطِرُ. وقد ذكر بعضُ الفُقهاءِ الذين بَحثوا في هذه الغازاتِ أنَّه ليس لها أجرامٌ، وأنَّها تُستَنشَقُ عن طريقِ التنَفُّسِ وتَذهَبُ إلى مَجاري التنَفُّسِ، ومِن ثَمَّ فإنَّها لا تَنفُذُ إلى الحَلقِ، ولو نَفَذتْ إلى الحَلقِ فما يَنفُذُ منها يَسيرٌ ممَّا يُعفى عنه، ولا يحصُلُ الفِطرُ به؛ قياسًا على ما يَبقى في الفَمِ بعْدَ الـمَضمَضةِ.
هذا هو قرارُ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلامي في هذه الـمسألةِ. وقد ذكَرَ لي أحَدُ الإخوةِ بالأمسِ مِنَ الأطباءِ أنَّ هذا الذي يُوضعُ على الأنفِ لِلتخدير يُصاحِبُ أحيانًا عمليةَ إدخالِ الـمِنظارِ إلى الـمعدةِ، يقولُ: إنَّ هذا التخديرَ يكونُ معه أحيانًا بعضُ البُخارِ، أو الـموادِ التي تصِلُ حتمًا إلى الـمعدةِ.
ذكَرتُ لكم الآنَ قَرارَ مَجمعِ الفِقهِ الإسلاميِّ وذكَرتُ لكم ما ذكَرَ لي أحَدُ الإخوةِ الأطباءِ أنَّه يصِلُ إلى الـمعدةِ مِن هذه الغازاتِ موادُّ تصلُ حتمًا إلى الـمعدةِ، وهذه الـموادُّ لها أجرامٌ، وتُمتَصُّ في الـمعدةِ، فإذا كان ما يقولُه الأخُ دَقيقًا، بحيث إنَّ هذه الغازاتِ يَكونُ معها موادُّ متحلِّلةٌ، بُخارُ ماءٍ، مَوادُّ كيميائيةٌ، وغَيرُ ذلك، تصِلُ إلى الـمَرِّيءِ، ثم إلى الـمعدةِ، فتمتَصُّها الـمعدةُ، وكان هذا الـمِقدارُ كثيرًا، فإنَّنا نقولُ: إنَّه يُفطِرُ. لكنَّ مَجمَعَ الفِقهِ الإسلامي، والذين بحثوا هذه الـمَسألةَ، يَقولونَ: إنَّه لا يَصِلُ إلى الـمعدةِ مِن ذلك شيءٌ يُذكَرُ، وما يصِلُ فهو داخِلٌ فيما يُتسامَحُ فيه ممَّا هو يَسيرٌ، كما يَبقى في الفَمِ بعْدَ الـمَضمَضةِ، أو ما يصلُ إلى الـمعدةِ بعْدَ الـمَضمَضةِ. هذه مسألةٌ، هل يقعُ الفِطرُ بعمليةِ التخديرِ؟ نأتي بعْدَ ذلك إذا قُلنا: إنَّ التخديرَ لا يُفطِرُ كما هو قرارُ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلامي، ننتقِلُ بعْدَ ذلك إلى ما يحصُلُ لِلمريضِ بعْدَ عمليةِ التخديرِ ممَّا يُشبِهُ الإغماءَ التَّامَّ؛ لِأنَّ التخديرَ هذا الـمَقصودُ منه تَخديرُ الـمريضِ، سواءٌ كان موضعيًّا، أو تخديرًا كُلِّيًّا، فإذا قُلنا: إنَّ عمليةَ التخديرِ لا تُفطِرُ، نأتي بعْدَ ذلك إلى ما يحصُلُ بعْدَ تعاطي هذا الـمُخدِّر.
فنقولُ: ما يحصلُ لِلمريضِ بعْدَ ذلك له حالات:
الحالة الأولى: أنْ يكونَ فُقدانُ الوعيِ جُزئيًّا، مِثلَ أنْ يكونَ فُقدانُ الوعيِ مثلًا لِمنطقةِ الجهازِ التنفُّسيِّ، أو جهازِ البلعومِ والـمَرِّيءِ، مِثلَ ما يحصلُ عندَ الـمِنظارِ، فهذا فُقدانٌ لِلوعيِ في جُزءٍ معيَّنٍ، وهو ما يُسمَّى التخديرَ الـموضعيَ، لا يَغيبُ معه العَقلُ ولا الإحساسُ ولا الإدراكُ، وهذا لا يحصلُ به الفِطرُ؛ لِأنَّ الإنسانَ لا يزالُ بقُواه العقليةِ ويستصحِبُ النيَّةَ، إمَّا حقيقةً وإمَّا حُكْمًا.
الحالةُ الثانيةُ: أنْ يحصلَ له تخديرٌ كاملٌ، بمعنى أنَّه يتعاطى هذا الـمخدِّرَ، ثم بعْدَ ذلك يَفقِدُ الوعيَ بالكُلِّيةِ، فهل يَفسَدُ الصيامُ بذلك أو لا يَفسَدُ؟ فُقدانُ الوعيِ بالكاملِ له حالتان أيضًا.
الحالةُ الأُولى: أنْ يفقدَ الوعيَ جميعَ النهارِ، مِن طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشمسِ، بمعنى أنَّه لا يمُرُّ عليه مِنَ الصيامِ وهو في حالةِ إفاقةٍ أو تذكُّرٍ لِصيامٍ.
الحالةُ الثانيةُ: أنْ يكونَ هذا التخديرُ في جزءٍ مِنَ النهارِ، يعني: في ساعةٍ، ساعتين، ثلاثِ ساعاتٍ، ثم يرجعُ إلى وَعيِه مرَّةً أُخرى، فأمَّا الحالةُ الأُولى فهي: لو أُعطيَ الـمُخدِّرَ مثلًا قبلَ طُلوعِ الفَجرِ، وبَقيَ مُخَدَّرًا حتى غَرَبتِ الشمسُ، وكان مِنَ الليلِ عازمًا على الصيامِ، ناويًا لِلصيامِ، لكنَّه لَمَّا كان قبلَ الفَجرِ بعَشرِ دقائقَ أُعطيَ هذا الـمُخدِّرَ، فبَقيَ مُخدَّرًا حتى غَرَبتِ الشمسُ، فهل يَصحُّ صيامُه أو لا يَصحُّ؟ الكَلامُ في هذه الـمسألةِ هو كُلامُ أهلِ العِلمِ في مسألةِ إذا أُغميَ على الصائمِ النهارَ كُلَّهُ؛ لِأنَّ مسألةَ التخديرِ مِثلُ مسألةِ الإغماءِ، إنْ لم يكُنِ التخديرُ أبلَغَ؛ لِأنَّ التخديرَ يكونُ بفِعلِ الإنسانِ، وجُمهورُ أهلِ العِلْمِ على أنَّه إذا خُدِّرَ النهارَ كُلَّهُ فإنَّه لا يصحُّ منه صيامٌ. والعِلَّةُ في ذلك هي أنَّ الصيامَ إمساكٌ بنيةٍ، وهذا لا يصحُّ منه أنْ يُقالَ: أمسَكَ بنيةٍ؛ لِأنَّ هذا ليس معه وَعيٌ إطلاقًا، والصيامُ كما تَعرِفون أنه تعبُّدٌ للهِ سُبحانه وتَعالى؛ ولهذا قُلنا في تعريف الصيامِ بالأمس: إنَّه إمساكٌ بنيةٍ عنِ الـمُفطِراتِ مِن طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشمسِ، وهذا الذي فَقَد الوَعيَ بالكامِلِ لا تصِحُّ منه النيةُ، لا حقيقةً، ولا حتى حُكْمًا، ومِن ثَمَّ لا يصحُّ صيامهُ، ومِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّ الإغماءَ، أوِ التخديرَ -كما هو حاصلٌ الآنَ في هذا الزمنِ- إنه لا يُفسِدُ الصيامَ؛ قياسًا على النومِ، كما لو أنَّ الإنسانَ نوى الصيامَ، ثم نامَ قبلَ طُلوعِ الفَجرِ وما أفاقَ إلَّا بعدَ طُلوعِ الشَّمسِ؛ فإنَّ هذا نامَ النهارَ كُلَّه، وغابَ معه العَقلُ والإدراكُ، فإذا قُلتُم: إنه يصحُّ هنا، فإنَّه يصحُّ هنا فإنَّه إذا صحَّ مِنَ النائمِ صحَّ مِنَ الـمُغْمى عليه. ولا ريبَ أنَّه يختلفُ الـمُغْمى عليه أو الـمُخدَّرُ عن النائمِ، فالنائمُ معه نوعُ إدراكٍ، وأمَّا الـمُغْمى عليه أو الـمُخدَّرُ فإنَّه ليس معه إدراكٌ بالكُلِّيَّةِ؛ ولهذا الذي يَظهَرُ -واللهُ سُبحانه وتَعالى أعلَمُ- أنَّ الصيامَ حِينَئذٍ لا يصحُّ إذا خُدِّرَ النهارَ كُلَّهُ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: "يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ له، الحَسَنةُ بعَشرِ أمثالِها إلى سَبعِمِئةِ ضِعفٍ، إلَّا الصَّومَ؛ فإنَّه لي، وأنا أجزي به، يَدَعُ طعامَه وشرابَه وشهوَتَه مِن أجْلي"، فأنتَ تُلاحظ في الصيامِ مَعنى أنَّ الإنسانَ يمتَنِعُ طاعةً للهِ سُبحانَه وتَعالى، وتعَبُّدًا "يَدَعُ... مِن أجْلي"، فالتَّركُ هنا مِن أجْلِ اللهِ سُبحانَه وتَعالى، هذا هو الصيامُ، أمَّا ما يكونُ مِن تَركٍ لِلطَّعامِ والشَّرابِ، دونَ أنْ يكونَ في ذلك قَصدُ الصيامِ؛ فإنَّه حِينَئذٍ لا يكونُ صيامًا، ولا يكونُ إمساكًا، تمامًا مِثلَ لو أنَّ الإنسانَ أمسَكَ عنِ الطعامِ والشرابِ ونَحوِ ذلك على سَبيلِ الحميةِ أو الرجيمِ، أو نَحوِ ذلك، فالذي يَظهَرُ -واللهُ سُبحانَه وتَعالى أعلَمُ- هو قَولُ الجُمهورِ في هذه الـمسألةِ، وأنَّه لا يصحُّ صيامه.
وبِناءً على قَولِ الجُمهورِ الذين يقولون: لا يصحُّ صيامُه، فإذا كان التخديرُ لجُزءٍ مُعيَّنٍ مِنَ النهارِ، بمعنى أنَّ الإنسانَ في وَسَطِ النهارِ في رَمَضانَ ذَهَبَ إلى الطبيبِ مِن أجْلِ أنْ يَعمَلَ له مِنظارًا، أو نَحوَ ذلك، فوضَعَ له هذا الـمُخدِّرَ وخَدَّرَه تَخديرًا كامِلًا لِمُدةِ ساعتَيْنِ مَثلًا، ثم بعْدَ ذلك رجع وأفاقَ مرةً أُخرى، فإنَّ أهلَ العِلْمِ يختَلِفون في ذلك على قَولَيْنِ:
فمِن أهلِ العِلْمِ مَن يقولُ: إنَّ هذا يَقطَعُ النيةَ، والنيةُ في العباداتِ يُشتَرَطُ استِصحابُها في بدايةِ العِبادةِ حقيقةً، وفي أثنائِها حُكْمًا. ومعنى يستصحِبُها حُكْمًا ألَّا يأتيَ بما يَقطَعُها، فلا يُشتَرطُ أنْ يتذَكَّرَها كُلَّ الوَقتِ؛ فالإنسانُ في صَلاتِه يَسهو، والإنسانُ في رَمَضانَ يَنامُ، والإنسانُ في الحَجِّ يَنامُ ويَغفو، فالـمَقصودُ ألَّا يأتيَ بما يَقطَعُها، لا يَنوي قَطعَ الصيامِ، ولا يَنوي قَطعَ الصَّلاةِ، فإذا نَوى قَطعَ النيَّةِ انقَطَعتْ؛ فهذا هو الـمَقصودُ بالاستِصحابِ الحُكْمِيِّ، فأصحابُ هذا القَولِ يقولون: إنَّ غيابَ الوَعيِ بالكامِلِ يَقطَعُ النيَّةَ ومِن ثَمَّ فإنَّه يُفسِدُ الصيامَ، ومِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّ هذا يُقاسُ على النومِ؛ لِأنَّه إذا حصلَتْ له النيَّةُ في أوَّلِ العبادةِ، وحصلَ له الإغماءُ أو التخديرُ في وَسَطِها فإنَّه حِينَئذٍ استَصحَبَ النيَّةَ حقيقةً في بدايةِ العبادةِ، وفي أثنائها، هذا التخديرُ يأخُذُ حُكْمَ النومِ، بمعنى أنَّه لم يأتِ بما يَقطَعُ، وإنَّما غابتِ النيَّةُ حِينَئذٍ وأنتم تَعرِفون أنَّ مسألةَ الاستِصحابِ في أثناءِ العبادةِ أهوَنُ مِن قضيةِ ما يتعلَّقُ بعَدَمِ استِصحابِ النيَّةِ في بدايةِ العِبادةِ؛ ففي بدايةِ العِبادةِ الأمْرُ آكَدُ، أمَّا في أثنائِها فإنَّه أهوَنُ؛ ولهذا ينامُ الإنسانُ ويَغفُلُ ويَسهو في الصَّلاةِ، ولا تَبطُلُ صَلاتُه، لكنْ لو أنَّه غفَلَ عنِ النيَّةِ في بدايةِ العبادةِ، ما دخَلَ في العبادةِ أصلًا، وما صحَّتِ العبادةُ منه، ففي بدايةِ العبادةِ لابُدَّ مِنَ استِحضارِ النيةِ، لكنْ في أثنائِها الأمْرُ أيسَرُ مِن ذلك؛ ولهذا فالصحيحُ -واللهُ سُبحانَه وتَعالى أعلَمُ- أنَّه إذا حَصَلَ التخديرُ في وَسَطِ النهارِ، أو في أثناءِ النهارِ، دونَ أنْ يكونَ في أوَّلِه أو مِن أوَّلِه إلى آخِرِه أنَّ هذا لا يُفسِدُ الصيام.
هذا البحثُ في مسألةِ التخديرِ بالغازاتِ التي تكونُ عن طريقِ الأنفِ أوِ الفَمِ، بعيدًا عمَّا يكونُ مع التخديرِ مِن مُلابساتٍ أُخرى، لكن لو وُجِدتْ مُلابَساتٌ أُخرى مع التخديرِ، فإنَّ هذه تُبحَثُ وَحْدَها، كما لو أُدخِلَ جهازٌ ومعه مثلًا مادةٌ هُلاميَّةٌ، ونَحوُ ذلك، أو أُعطيَ الـمَريضُ حُقنةً مُغذِّيةً مثلًا، أو وُضِعَ في دَمِ الـمريضِ حُقنةٌ مُغذِّيةٌ كالسُّكَّرِ، أو نَحوِ ذلك، هذه مسائلُ أُخرى سنبحَثُها وَحْدَها. نحن نتكَلَّمُ الآنَ عن عمليةِ التخديرِ فقط.
النازلةُ السادسةُ: ما يتعلَّقُ بقَطرةِ الأُذُن
إذا وضعَ الإنسانُ في أُذُنِه قَطرةً عِلاجيةً، فهل يُفطِرُ بذلك أو لا يُفطِرُ؟ قَبلَ أنْ نَبحَثَ هذه الـمسألةَ نبحَثُ مسألةً اختَلَفَ فيها أهلُ العِلْمِ قَديمًا، والآنَ صارَ الطِّبُّ فَيصَلًا فيها، وهي هلِ الأُذُنُ مَنفَذٌ إلى الحَلقِ أو لا؟ فالأطباءُ يقولون: إنَّ الأُذُنَ ليست مَنفَذًا إلى الحَلقِ إلَّا في حالةٍ واحدةٍ، فلو وَضَعتَ في الأُذُنِ سائِلًا، ماءً، أو دُهنًا، أو قَطرةً، أو أيَّ شيءٍ، لا يمكنُ أنْ يصلَ هذا إلى الحَلقِ إلَّا في حالةٍ واحِدةٍ، وهي: إذا وُجِدَ في طَبلةِ الأُذُنِ خَرْقٌ فحِينئِذٍ هناك قناةٌ تَصلُ مِنَ الأُذُنِ إلى الحَلقِ، ومِنَ الـمُمكنِ أنْ يضعَ الإنسانُ في أُذُنِه شيئًا فيصلَ إلى حَلقِه، أمَّا إذا كانت طبلةُ الأُذُنِ غَيرَ مَخروقةٍ فإنَّه لا يمكنُ أنْ يصلَ شيءٌ مِنَ الأُذُنِ إلى الحَلقِ؛ فهذه مسألةٌ مهمةٌ قبلَ أنْ نبحَثَ الـمسألةَ التي بيْنَ أيدينا.
وقد اختَلَفَ أهلُ العِلْمِ قديمًا فيما إذا وضعَ الإنسانُ في أُذُنِه دُهنًا، أو ماءً، أو نَحوَ ذلك، هل يُفطِرُ بذلك أو لا يُفطِرُ؟ فمِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّه يُفطِرُ بذلك بِناءً على أنَّه لو وضعَ في أُذُنِه شيئًا، فإنَّه رُبَّما وَجَد طَعمَه في حَلقِه، ومعنى ذلك أنه مَنفَذٌ، ومِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّه لا يُفطِرُ بما يَصلُ إلى أُذُنِه، وذلك أنَّ الأُذُنَ ليست مَنفذًا لِلحَلقِ؛ فهذا ليس أكلًا ولا شُربًا ولا في معناهما، والشرعُ إنَّما جاء بالفِطرِ بالأكلِ والشُّربِ والـمُفطِراتِ الـمَعروفةِ؛ فهذا الذي يُوضعُ في الأُذُنِ ليس أكلًا ولا شُربًا ولا يَنفُذُ إلى الحَلقِ، فنحن الآنَ بعْدَ ظُهورِ أنَّ الأُذُنَ لا تكونُ مَنفَذًا إلى الحَلقِ إلَّا إذا كانتِ الطبلةُ مَخروقةً، نقولُ: إنَّ الطبلةَ إذا كانت سليمةً، فمعنى ذلك أنَّ ما يُوضعُ في الأُذُنِ لا يصلُ إلى الحَلقِ، ومِن ثَمَّ فإنَّ هذا ليس مَنفَذًا إلى الـمعدةِ؛ وبِناءً عليه إذا كانت طبلةُ الأُذُنِ غَيرَ مَخروقةٍ فإنَّ قَطرةَ الأُذُنِ لا تُفطِرُ، نأتي إلى الحالة الثانيةِ: افتَرِضْ أنَّ طَبلةَ الأُذُنِ مَخروقةٌ، وحِينَئذٍ كما يقول الأطباءُ تَكونُ الأُذُنُ مَنفَذًا إلى الحَلقِ، وقد يُوضعُ في الأُذُنِ شيءٌ، فيَصلُ إلى الحَلقِ فهل يُفطِرُ بذلك أو لا يُفطِرُ؟ فالكَلامُ حِينَئذٍ كالكَلامِ في قَطرةِ الأنفِ وغَيرِها، هل هذا الذي يصلُ إلى الحَلقِ يحصُلُ به الفِطرُ؛ لِأنَّه يصِلُ إلى الحَلقِ، ثم إلى الـمعدةِ وما وصلَ إلى الـمعدةِ فإنَّه يُفطِرُ به الإنسانُ، مِثلَما قيلَ في بخَّاخِ الرَّبوِ، ومِثلَما قيل في قَطرةِ الأنفِ، وغَيرِهما، فنقولُ: إنَّ هذا يصلُ إلى الحَلقِ والجَوفِ ومِن ثَمَّ يُفطِرُ به؛ لِحديثِ لَقيطِ بنِ صَبِرةَ: "وبالِغْ في الاستِنشاقِ، إلَّا أنْ تكونَ صائمًا"؛ فهذا يُعتبَرُ في حُكْمِ الأكلِ والشُّربِ، أو نقولُ -وهو القَولُ الثاني في هذه الـمسألةِ وهو الذي يقولُ به مَجمَعُ الفِقهِ الإسلامي-: إنَّ ما يمكنُ أن يصلَ إلى الحَلقِ لو كانتِ الطبلةُ مَخروقةً يَسيرٌ جدًّا، بحيث إنَّه لا يخرُجُ عنِ الـمِقدارِ الـمَعفُوِّ عنه فيما يتعلَّقُ بالمَضمَضةِ، فما يصلُ إلى الحَلقِ مِن قَطرةٍ لا يَزيدُ على ما يصلُ إلى الحَلقِ والـمعدةِ ممَّا يَبقى إذا تمَضمَضَ الإنسانُ بالماءِ وهو صائمٌ، وإذا تمَضمَضَ بالماءِ وهو صائمٌ فإنَّه لا يُفطِرُ بالإجماعِ، فكذلك هنا لا يُفطِرُ، وهذا هو القَولُ الراجحُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى، ومَجمَعُ الفِقهِ الإسلامي يقولُ: إنَّه لا يُفطِرُ، بشَرطِ أنَّه لا يبتَلِعُ ما يصلُ إلى حَلقِه، لكنْ نحن نقولُ: حتى لو وَصَل إلى حَلقِه شيءٌ وابتَلَعه، فإنَّ هذا لا يَخرُجُ عن كَونِه يَسيرًا يُعْفى عنه.
النازلةُ السابعةُ: غَسيلُ الأُذُن
أمَّا إذا كانت طبلةُ الأُذُنِ سليمةً وغَيرَ مَخروقةٍ، فإنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ بذلك؛ لِمَا سَبَق، وأمَّا إذا كانت طبلةُ الأُذُنِ مَخروقةً ثم غُسِلتْ هذه الأُذُنُ بماءٍ أو نَحوِه، ثم وَصَلتْ كَميَّةٌ تَزيدُ على الـمِقدارِ الـمَعفُوِّ عنه، والقَولُ حِينَئذٍ إنَّه لا يُفطِرُ؛ فلا شَكَّ أنَّه قَولٌ ضَعيفٌ، والصحيحُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّه إذا حَصلَ غَسيلُ الأُذُنِ وهي مَخروقةُ الطبلةِ، والغَسيلُ حِينَئذٍ بماءٍ كثيرٍ، أو مَحلولٍ كثيرٍ؛ فإنَّه حِينَئذٍ يُفطِرُ بذلك؛ استِدلالًا بحَديثِ لَقيطِ بنِ صَبِرةَ رَضيَ اللهُ عنه في السُّنَنِ: "وبالِغْ في الاستِنشاقِ، إلَّا أنْ تكونَ صائمًا"؛ لِأنَّ هذا في معنى الاستِنشاقِ إذا كانتِ الأُذُنُ قناةً تصلُ إلى الحَلقِ وإلى الـمعدةِ، ثم غُسِلتْ بالماءِ الكثيرِ، فوصلَ شيءٌ إلى ذلك ، فهذا مِثلُ ما يصلُ إلى الحَلقِ إذا بالَغَ الإنسانُ في الاستنشاقِ؛ ولهذا فالظاهِرُ والراجحُ حِينَئذٍ أنَّه يُفطِرُ بذلك، لكن لو حصلَ الغَسيلُ بشيءٍ يَسيرٍ أو نَحوِ ذلك، فإنَّ هذا يأخُذُ حُكْمَ القَطرةِ، لكن إذا كان كثيرًا بماءٍ أو مَحلولٍ أو نَحوِ ذلك، فإنَّ هذا مِثلُ ما إذا استَنشَقَ الإنسانُ، أو بالَغَ بالاستِنشاقِ؛ فإنَّه يُفطِرُ بذلك.
النازلةُ الثامنةُ: قَطرةُ العَين
هي ما يُوضعُ في العَينِ مِن مادةٍ عِلاجيةٍ على شَكلِ قَطرةٍ. قبلَ بَحثِ هذه الـمسألةِ نقدِّمُ بإجابةٍ عن سؤال: هلِ العَينُ قناةٌ إلى الحَلقِ، بحيث إنَّ ما يُوضعُ في العَينِ يصلُ إلى الحَلقِ، أم لا؟ يقولُ الأطباءُ: إنَّ العَينَ قَناةٌ إلى الحَلقِ؛ فإنَّ العَينَ لها قناةٌ مُتَّصِلةٌ بالأنفِ، ثم بالحَلقِ؛ ولهذا نقولُ: إنَّ هذا مَنفَذٌ إلى الحَلقِ، والآنَ هل يحصُلُ الفِطرُ بما يُوضعُ في العَينِ مِن قَطرةٍ؟ الـمسألةُ خِلافيةٌ بيْنَ أهلِ العِلْمِ الـمُعاصرين، وقد ذَهَبَ أكثَرُ أهلِ العِلْمِ، ومنهم الشيخُ عبدُ العَزيزِ بنُ بازٍ، والشيخُ محمدُ بنُ صالحِ بنِ عثيمين -عليهما رَحمةُ اللهِ- إلى أنَّه لا يُفطِرُ الصائمُ بوَضعِ قَطرةٍ في عَينِه، لِأنَّ الصيامَ ثَبَتَ بيَقينٍ، فلا يُرفَعُ إلا بيَقينٍ، وما يصلُ ممَّا يُوضعُ في العَينِ مِن قَطرةٍ، لو وصلَ، فإنَّه لا يزيدُ على ما يُعْفى عنه ممَّا يتبَقَّى بعدَ الـمَضمَضةِ؛ فإنَّ الأطباءَ يقولون: إنَّ تَجويفَ العَينِ لا يمكنُ أنْ يتَّسِعَ إلا لِقَطرةٍ واحِدةٍ، وهذه القَطرةُ حَجمُها لا يَعدو سِتَّةً بالمِئةِ مِنَ السنتيمتر الـمُكعَّبِ الواحِدِ، ثم إنَّ هذه القَطرةَ سوف يُـمتَصُّ أكثَرُها فيما يُسمَّى القناةَ الدَّمعيةَ، وما يصلُ إلى الحَلقِ، إنْ وَصلَ إلى الحَلقِ فهو كَميَّةٌ ضَئيلةٌ جدًّا، لا تزيدُ على ما تسامَحَ الشرعُ به في الـمَضمَضةِ، بل إنَّ بعضَ الأطباءِ يقولون: إنَّه لا يمكنُ أنْ يصلَ شيءٌ مِن قَطرةِ العَينِ إلى الحَلقِ؛ فإنَّ ما يُوضعُ في العَينِ يُـمتَصُّ بالكامِلِ في القناةِ الدَّمعيَّةِ، وما يَجدُه الإنسانُ مِن طَعمٍ في حَلقِه ليس عن طريقِ وُصولِ هذه القَطرةِ إلى الحَلقِ، وإنَّما يقولون: إنَّ الجِسمَ إذا امتَصَّ هذه القَطرةَ ذَهَبتْ مَرارَتُها إلى مَراكِزِ التذَوُّقِ في اللِّسانِ، فيُحِسُّ الإنسانُ بطَعمِها، ولو لم تَصلْ في الحقيقةِ إلى اللِّسانِ، وإنَّما وصلَتْ لِامتِصاصِها في البَدَنِ، ووصولِها إلى مَراكِزِ التَّذوُّقِ، وهذا كَلامٌ لِبَعضِ الأطباءِ، وليس لِكُلِّهم، لكنْ لو أنَّنا لم نأخُذْ بهذا الكلامِ وإنَّما أخَذنا بأنه قد يَذهَبُ شيءٌ مِن قَطرةِ العَينِ إلى الحَلقِ، فإنَّنا نقولُ: إنَّ ما يصلُ إلى الحَلقِ مِن ذلك يَسيرٌ جدًّا، لا يتجاوَزُ الحَدَّ الـمَعفُوَّ عنه بالمَضمَضةِ، ومِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّ قَطرةَ العَينِ يحصُلُ بها الفِطرُ، وهؤلاء يقولون قياسًا على الكُحلِ؛ فكما أنَّه يُفطِرُ إذا اكتَحَلَ، فكذلك إذا وضعَ قَطرةً فإنَّه يُفطِرُ؛ لِأنَّه يَجِدُ طَعمَها في حَلقِه، فإذا وصَلَتْ إلى جَوفِه أفطَرَ بذلك، وهذا على كُلِّ حالٍ يُجابُ عنه بأنَّ الأصلَ الـمَقيسَ عليه ليس مَحلَّ إجماعٍ مِن أهلِ العِلْمِ، فأهلُ العِلْمِ مُختَلِفون في الكُحلِ، والصحيحُ أنَّه لا يُفطِرُ الإنسانُ بالكُحلِ، فالأصلُ الـمَقيسُ عليه ليس مُسَلَّمًا به، كما يستدِلُّون بحَديثِ لَقيطِ بنِ صَبِرةَ: "وبالِغْ في الاستِنشاقِ، إلَّا أنْ تَكونَ صائِمًا"، قالوا: هذا يصلُ إلى الـمعدةِ، وقد أجَبْنا عن ذلك بأنَّ ما يمكنُ أن يصلَ إلى الحَلقِ، ثم إلى الـمعدةِ مِن ذلك يَسيرٌ مَعفُوٌّ عنه، فهو داخِلٌ تَحتَ ما تجاوَزَ اللهُ عنه ممَّا يَبْقى بعدَ الـمَضمَضةِ؛ ولهذا فالصحيحُ أنَّ قَطرةَ العَينِ لا يحصُلُ بها الفِطر.
النازلةُ التاسعةُ: الحُقَنُ العِلاجيةُ، سواءٌ كانت جلديَّةً أو عضليَّةً أو وريديَّةً
فهذه هي أقسامُ الحُقَنِ، منها ما يُؤخَذُ تَحتَ الجِلدِ، مِثلَ حُقَنِ الأنسولين، أو كانت مما يُعطى في العَضَلِ، أو في الوريدِ، هذه الحُقَنُ قَيَّدناها بـ"العِلاجيَّة"؛ لِأنَّه سيأتي في النازلة التي تليها الحُقَنُ الـمُغَذِّيةُ، لكنَّ ما نُريدُ أنْ نتكَلَّمَ عنه الآنَ الحُقَنُ العلاجيَّةُ، هل يحصُلُ الفِطرُ بها؟
مَرَّ معنا أنَّ الجَوفَ -على التحقيق والراجح- أنَّ الـمَقصودَ به الـمعدةُ، ومِن ثَمَّ فهذه الحُقَنُ العِلاجيةُ التي تُؤخَذُ بالطُّرُقِ الثلاثِ إذا عرَفْنا أنَّها لا تصلُ إلى الـمعدةِ، بل تكونُ عن طريقِ الجِلدِ، أو عن طَريقِ الدَّمِ، وأنَّها لا تأخُذُ حُكْمَ الأكلِ، ولا الشُّربِ فيما يحصُلُ بها مِن تَقويةٍ لِلبَدَنِ ونشاطٍ وحيويةٍ وغَيرِ ذلك؛ فإنَّنا نقولُ حِينَئذٍ: إنَّ الصيامَ ثابِتٌ بيَقينٍ، وإنَّ هذا الصيامَ الثابتَ بيَقينٍ لا يرتَفِعُ إلا بيَقينٍ مِثلِه، وهذه الحُقَنُ ليست مِنَ الـمُفطِراتِ التي نصَّ الشرعُ على التفطيرِ بها، وليست في معناها؛ ولهذا نقولُ إنَّها لا تُفطِرُ، وبهذا قال أعضاءُ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلامي في دورَتِه العاشرةِ: فقدِ اتَّخَذوا قرارًا بالإجماعِ أنَّ هذه الحُقَنَ لا تُفطِرُ وهو قول الشيخين ابن باز والعثيمين -عليهما رحمة الله تعالى-، وقد ذكَرَ الدكتور أحمد الخليل، في مُفطِراتِ الصيامِ الـمُعاصرةِ، أنَّه لا يَعرِفُ أحَدًا قال: إنَّ هذه تُفطِرُ؛ وذلك لِمَا سبَقَ مِنَ التعليلِ، فنَعرِفُ أنَّه لا بَأْسَ لِلصائمِ أنْ يُعْطى إبرةَ الأنسولين تَحتَ الجِلدِ، أو إبرةَ الـمُضادِّ الحيويِّ، أو يُعْطى اللِّقاحَ، وقد سُئلَتِ اللجنةُ الدائمةُ لِلإفتاءِ مِن قِبلِ وَزارةِ الصحةِ بأنَّها تَنوي القيامَ بحَملاتِ تَطعيمٍ ضِدَّ الحُمَّى الشوكيةِ على الـمَدارِسِ في نَهارِ رَمَضانَ، فهل يحصُلُ الفِطرُ بهذه الإبَرِ؟ فأفتَتِ اللجنةُ الدائمةُ بأنَّ هذا لا يُفطِرُ.
النازلةُ العاشرةُ: الحُقَنُ الـمُغَذِّيةُ الوريديَّة
وهي التي تُعْطى لِبَعضِ الـمَرضى، وتكونُ مُؤلَّفةً مِن مَحلولٍ مائيٍّ يحتوي على السُّكرِ والأملاحِ والـماءِ، ورُبَّما أُضيفَ إليه بعضُ العِلاجاتِ، فهذه الإبَرُ الـمُغذِّيةُ لا تَنفُذُ إلى الجَوفِ، ولا تصلُ إلى الـمعدةِ، وإنَّما هي إبَرُ تُعْطى عن طريقِ الوريدِ فهي تدخُلُ إلى الدَّمِ مُباشرةً، فمِن جهةِ وُصولِها إلى الجَوفِ والـمعدةِ فإنَّها لا تصلُ، لكن يَبقى أنَّ هذه الإبَرَ الـمُغذِّيةَ في معنى الأكلِ والشُّربِ؛ ولهذا تُلاحِظون أنَّه في بعضِ الأحيانِ عندَ الـمرضى قُبَيلَ العملياتِ الجراحيةِ، أو بَعدَها، أو في بعضِ الحالاتِ الـمَرضيةِ، رُبَّما يجلِسُ الـمريضُ لِساعاتٍ، أو أيَّامٍ يتغَذَّى على هذه الإبَرِ فقط، لا يُعْطى أيَّ طعامٍ أو شَرابٍ، وهذا يدُلُّ دلالةً أكيدةً على أنَّها في معنى الأكلِ والشُّربِ؛ ولهذا فمَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ وأكثَرُ العُلماءِ الـمُعاصرين على أنَّها تُفطِرُ، وذلك أنَّها -وإنْ لم يُنَصُّ على أنَّها مِنَ الـمُفطِراتِ- إلا أنها في مَعنى الـمَنصوصِ، قد نَصَّ الكِتابُ الكَريمُ والسُّنَّةُ النبويةُ على أنَّ الصائمَ يُفطِرُ بالأكلِ والشُّربِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وفي الحَديثِ: "يَدَعُ طَعامَه وشَرابَه وشَهوَتَه"؛ فالأكلُ والشُّربُ مَنصوصُ على التفطيرِ بهما، وهذه الإبَرُ في معنى الـمَنصوصِ عليه؛ ولهذا فإنَّه يحصُلُ الفِطرُ بها، وقد ذَهَبَ بعضُ الباحِثين إلى أنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ بها؛ لِأنَّها ليست أكْلًا ولا شُربًا، ولا تَنفُذُ إلى الـمعدةِ، ولكن لا شَكَّ أنَّ هذا قَولٌ ضَعيفٌ؛ لِأنَّها ليست أكلًا ولا شُربًا، ولكنَّها في معنى الأكلِ والشُّربِ، والـمَريضُ قد يَستَغني بها أيَّامًا عنِ الأكلِ والشُّربِ؛ ولهذا فلا شَكَّ أنَّ القَولَ الراجِحَ أنَّه إذا تعاطاها الـمريضُ فإنَّه يُفطِرُ بذلك.
النازلةُ الحاديةَ عَشرةَ: الدِّهاناتُ والـمَراهِمُ واللَّصقاتُ العلاجيَّة
مِنَ الـمَعروفِ أنَّ في الجِلدِ مَسامَّاتٌ يحصُلُ مِن خلال هذه الـمسامات امتِصاصُ ما يُوضعُ على الجِلدِ، فمَثلًا الإنسانُ إذا وَضَع على جِلدِه مادَّةً دُهنيَّةً، يَـمتَصُّ الجِلدُ هذه الـمادةَ، كما هو معروفٌ ومُشاهَدٌ، ومِثلُ هذه الـموادِّ الدُّهنيةِ تُوضعُ مَوادَّ عِلاجيةً على الجِلدِ؛ لِأنَّ هذه الـمَسامَّاتِ تَـمتَصُّ هذا العِلاجَ، وأحيانًا تُوضعُ العِلاجاتُ على شَكلِ لَصقاتٍ تَكونُ فيها مادةٌ نَفَّاثةٌ، أو مادةٌ علاجيةٌ مُسكِّنةٌ، أو طيَّارةٌ، أو نَحوُ ذلك، فتُوضعُ على الجِلدِ، فهذه الـمَراهِمُ والدِّهاناتُ التي تُوضَعُ على الجِلدِ فيمتَصُّها الجِلدُ وتنتَهي إلى الدَّمِ، إذا قُلنا: إنَّ الإبَرَ والحُقَنَ التي تُعْطى عن طريقِ العَضَلِ وتَحتَ الجِلدِ وفي الوَريدِ لا تُفطِرُ، فهذه مِن بابِ أوْلى، فقدِ اتَّخَذ مَجمَعُ الفِقهِ الإسلامي قَرارًا بالإجماعِ أنَّها لا تُفطِرُ، وقد حَكى بعضُ الباحِثين الإجماعَ على أنَّ هذه لا يَحصُلُ الفِطرُ بها، وممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ الناسَ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانوا يحتاجون إلى الادِّهانِ في جُلودِهم وشُعورِهم، وهذا أمرٌ معروفٌ عندَ الناسِ في القديمِ والحَديثِ، وحتى في قِصةِ العَنبَرِ في الحَديثِ قال: فأكَلْنا وادَّهَنَّا. فالادِّهانُ أمرٌ مَعروفٌ، والدُّهنُ يَـمتصُّه الجِلدُ، ولو كان مُفطِرًا لنَبَّه عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا يجوزُ على النَّبيِّ تأخيرُ البيانِ عن وَقتِ الحاجةِ؛ فهذا لا شَكَّ أنَّه ظاهِرٌ في أنَّ مِثلَ هذه حتى لو كانت علاجيةً، فإنَّها لا تُفطِرُ.
النازلةُ الثانيةَ عَشرةَ: القَسطرةُ
ما القَسطرةُ؟ وما حُكْمُها بالنسبةِ لِلفِطرِ بها وعَدَمِه؟
القَسطرةُ هي إدخالُ جِهازٍ أو أُنبوبٍ، مِثلَما ذكرنا عنِ الـمِنظارِ الذي يُعْطى عن طريقِ البلعومِ، أو عن طريقِ الـمَرِّيءِ لِلمعدةِ، سواءٌ كان لِلتشخيصِ، أو لِلعلاجِ؛ فالقَسطرةُ مِثلُ هذا الجهازِ، أو تَختَلِفُ عنه اختِلافًا بسيطًا، تُدخَلُ عن طريقِ الوريدِ حتى تَصِلَ الأوردةَ والشرايينَ الـمُتصلةَ بالقَلبِ، أو في أيِّ مكانٍ في البَدَنِ، ويُستَعمَلُ هذا النوعُ مِنَ العِلاجِ أحيانًا لِأغراضٍ تَشخيصيَّةٍ؛ لاكتِشافِ التجلُّطاتِ في الأورِدةِ والشرايينِ، وأحيانًا لِأغراضٍ عِلاجيةٍ، مِثلَ فَتحِ بعضِ الشرايينِ الـمُغلَقةِ، أو التي فيها تَجلُّطٌ، هذه هي قصةُ القَسطرةِ، وهي معروفةٌ، تُصنَعُ لِمرضى القَلبِ ونَحوِهم، أمَّا حُكْمُها، وهل يحصُلُ الفِطرُ بها أو لا، فقدِ اتَّخَذ مَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ قَرارًا بالإجماعِ، وذَكَر بعضُ أهلِ العِلْمِ أنَّ في الـمسألةِ إجماعًا مِنَ الـمُعاصرين على أنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ بها؛ لِأنَّ هذه القَسطرةَ ليست ممَّا وَرَدَ به النَّصُّ ممَّا يُفطِرُ، وليست ممَّا في معنى الـمَنصوصِ عليه، وهذا الكَلامُ مَشروطٌ بألَّا يكونَ هناك أُمورٌ مُصاحبةٌ، كما في مسألةِ الـمِنظارِ؛ فإنَّ الـمِنظارَ لو وُضِعَ عليه مادةٌ هُلاميَّةٌ أو مادةٌ دُهنيَّةٌ، حصَلَ الفِطرُ به، فكذلك القَسطرةُ، فإذا كانت عمليةُ القَسطرةِ بدونِ إضافاتٍ، فإنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ بها؛ لِأنَّها ليست ممَّا نَصَّ الشارعُ على الفِطرِ به، وليست في معنى الـمَنصوصِ، لكن لو حَصَل مع هذه القَسطرةِ أنْ أُعطيَ الـمَريضُ بعضَ الإبَرِ أوِ الحُقَنِ أو الـمَحاليلِ الـمُغذِّيةِ في الدَّمِ، فإنَّا نقولُ حِينَئذٍ: إنَّها تُبحَثُ، إذا كانت أشياءَ علاجيةً مِثلَ الإبَرِ، وإنْ كانت مُغذِّيةً، تأخُذُ حُكْمَ الإبَرِ الـمُغذِّيةِ، لكنَّ القَسطرةَ بذاتِها إذا لم يُصاحِبْها إدخالُ أشياءَ أُخرى إلى جِسمِ الـمريضِ فإنَّها لا تُفطِرُ؛ لِأنَّها ليست مِنَ الـمَنصوصِ على التَّفطيرِ به، ولا في معنى الـمَنصوصِ عليه.
النازلةُ الثالثةَ عشرةَ: مِنظارُ البَطنِ
تكَلَّمنا عنِ الـمِنظارِ الذي يُعطى لِلمريضِ مِنَ البلعومِ، فالـمَرِّيءِ، إلى الـمعدةِ، هذا نوعٌ مِنَ الـمَناظيرِ، ومِن أنواعِ الـمَناظيرِ ما نتكَلَّم عنه الآنَ، وهو مِنظارٌ انتَشَرَ بعْدَ تطوُّرِ الطِّبِّ، يَدخُلُ في بَطنِ الـمَريضِ عن طريقِ جِدارِ البَطنِ، فتُفتَحُ فَتحةٌ صَغيرةٌ في جِدارِ البَطنِ، ثم يُدخَلُ هذا الـمِنظارُ، وهذا الـمِنظارُ يَذهَبُ إلى تَجويفِ البَطنِ، لكنَّه لا يَذهَبُ إلى الـمعدةِ، فإذا قُلنا: إنَّ تَجويفَ البَطنِ هو الجَوفُ، قُلنا: هذا وَصَل إلى الجَوفِ، لكنْ إذا حَصَرْنا -كما مَرَّ معنا واتَّفَقْنا في الدرس الأوَّلِ- أنَّ الجَوفَ مَقصودٌ به الـمعدةٌ، فإنَّ هذا الـمِنظارَ لا يَذهَبُ إلى الـمعدةِ، إنَّما هذا الـمِنظارُ يَذهَبُ إمَّا لِأغراضٍ علاجيةٍ، مِثلَ استِئصالِ الـمَرارةِ، أوِ استِئصالِ الزائدةِ الدُّوديةِ، أوِ استِئصالِ حَصَواتٍ مُعيَّنةٍ، وهو أحيانًا يكونُ لِأغراضٍ تشخيصيةٍ: تَصويرٍ ونَحوِ ذلك، وأحيانًا يكونُ لِأخذِ عَيِّناتٍ مِنَ الكَبِدِ أو نَحوِ ذلك؛ فهو لا يصلُ إلى الـمعدةِ، وإنَّما يَذهَبُ إلى تَجويفِ البَطنِ إلى الزائدةِ، أوِ الـمَرارةِ، أوِ الكُلى، أوِ الكَبِدِ، أو نَحوِ ذلك، فما حُكْمُ هذا الـمِنظارِ الذي يصلُ إلى البَطنِ؟
هذا الـمِنظارُ حُكْمُه تابِعٌ لِلخِلافِ الذي ذكَرْناه في الدَّرسِ الأوَّلِ، وهو الـمَقصودُ بالجَوفِ، فمَن قال: إنَّ تجويفَ البَطنِ يُعتَبَرُ جَوفًا، وإنَّ ما وصل إليه يُعتَبَرُ مُفطِرًا، فإنَّه يقولُ: إنَّ الـمِنظارَ يُفطِرُ؛ لِأنَّه يصلُ إلى الجَوفِ، ولكن حينما نتأمَّلُ أنَّ هذا الـمِنظارَ أوَّلًا لا يصلُ إلى الجَوفِ الذي رجَّحْنا أنَّه الجَوفُ، وهو الـمعدة؛ ثانيًا: أنَّ هذا الـمِنظارَ ليس ممَّا يُطعَمُ أو يُشرَبُ، فحتى لو وصلَ إلى الـمعدةِ فقد سبَقَ أنْ قَرَّرنا أنَّه لو وصلَ إلى الـمعدةِ شيءٌ ممَّا لا يُطعَمُ ولا يُشرَبُ، كأنْ يبتَلِعَ الإنسانُ خَرَزةً مَثلًا، أو حَديدةً، أو قِرشًا، أو نَحوَ ذلك، لا يُفطِرُ بذلك، فإنَّنا نَقولُ: إنَّ هذا الـمِنظارَ: أوَّلًا لا يصلُ إلى الجَوفِ الذي رَجَّحناه، وهو الـمعدةُ، وثانيًا أنَّ هذا الـمِنظارَ لو وصلَ فإنَّه ليس ممَّا يُطعَمُ ولا ممَّا يُشرَبُ؛ ولهذا فإنَّ الراجِحَ هو أنَّ مِنظارَ البَطنِ ليس ممَّا نصَّ الشارعُ على أنَّه يحصُلُ الفِطرُ به، ولا في معنى الـمَنصوصِ عليه؛ ولهذا اتَّخَذ مَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ قَرارًا بالإجماعِ على أن مِنظارَ البَطنِ لا يحصُلُ الفِطرُ به، وهذا بالطبعِ -كما قُلتُ لكم في مسألةِ القَسطرةِ- ما لم يَصحَبْ هذا أُمورٌ أُخرى، فتُبحَثُ وَحدَها، لكنَّ الـمِنظارَ إذا أُدخِلَ لِلـمريضِ دونَ أنْ يُعطى أشياءَ أُخرى، أو مَحاليلَ، أو سُكَّريَّاتٍ، أو أملاحًا، أو نَحوَ ذلك، فإنَّ الـمِنظارَ بحَدِّ ذاتِه ليس مُفطِرًا على الصحيحِ مِن قَوْلَيِ العُلماءِ، وهو الذي اتَّخَذ فيه مَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ قَرارًا بالإجماعِ أنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ به.
النازلةُ الرابعةَ عَشرةَ: الغَسيلُ الكُلَويُّ
بعضُ الـمَرضى يُصاب بفَشَلٍ كُلَويٍّ، وحِينَئذٍ يحتاجُ إلى أنْ يُجرَى له غَسيلٌ كُلَويٌّ دَوريٌّ كُلَّ يومَيْنِ، أو كُلَّ ثلاثةِ أيَّامٍ؛ مِن أجلِ إخراجِ هذه السُّمومِ والـموادِّ الضارةِ مِن دَمِه، هذه العمليةُ -وهي عمليةُ غَسيلِ الدَّمِ وإخراجِ هذه السُّمومِ والـموادِّ الضارةِ مِنَ الدَّمِ- هي ما يُسمَّى الغَسيلَ الكُلويَّ، والغَسيلُ الكُلَويُّ له طريقتانِ: الطريقةُ الأُولى: الغَسيلُ الكُلَويُّ عن طريقِ ما يُسمَّى الكُليةَ الصناعيةَ، وهي أداةٌ أو جهازٌ يوَصَّلُ بالمريضِ عن طريقِ الوَريدِ، فيُستَخرَجُ دَمُ الـمريضِ عن طريقِ الوريدِ إلى هذا الجهازِ، فيَقومُ هذا الجهازُ بتنقيةِ هذا الدَّمِ مِنَ السُّمومِ والـموادِّ الضارِّةِ، ثم يُضافُ إلى هذا الدَّمِ بعضُ السُّكرياتِ والأملاحِ، ثم يُعادُ ضَخُّه إلى الـمريضِ مرَّةً أُخرى، هذه هي الطريقةُ الأُولى. الطريقةُ الثانيةُ هي الغَسيلُ الكُلَويُّ عن طريقِ ما يُسمَّى غِشاءَ البريتون، أو البرايتون، وهذا الغِشاءُ مَوجودٌ داخِلَ تَجويفِ البَطنِ، فيُفتَحُ لِلمَريضِ فَتحةٌ فَوقَ السُّرَّةِ، ثم يُضَخُّ عن طريقِ هذه الفتحةِ كَمِّيَّاتٌ مِنَ السوائلِ، فيها كَمِّيَّاتٌ كبيرةٌ مِنَ السُّكرياتِ والأملاحِ، وتبقى داخِلَ تجويفِ البَطنِ عندَ ما يُسمَّى غِشاءَ البرايتون، فهذا الغِشاءُ يتبادَلُ مع هذه السوائِلِ السُّمومَ، أوِ الـموادَّ الضارةَ الـموجودةَ في الدَّمِ، امتِصاصًا وإفرازًا، ثم يَقومُ الطبيبُ بإخراجِ هذا السائلِ مرَّةً أُخرى، ويَضُخُّ سائِلًا آخَرَ مرَّةً أُخرى يَبقى في البَطنِ مُدَّةً مِنَ الزمنِ، ثم يُـمتَصُّ، أو يُستَخرجُ، وهكذا، هذه هي الطريقةُ الثانيةُ مِن طُرُقِ الغَسيلِ الكُلَويِّ، وتُلاحِظونَ أنَّه في كِلتا الحالتَيْنِ أنَّ العمليةَ تتمُّ بإضافةِ قَدْرٍ مِنَ السُّكرياتِ والأملاحِ والـماءٍ أحيانًا، ولا شَكَّ أنَّ السُّكرياتِ والأملاحَ في معنى الأكلِ والشُّربِ، فالـمُغَذِّي الذي يُعطى لِلمريضِ هو عبارةٌ عن ماءٍ وأملاحٍ وسكريَّاتٍ، كما أعرفُ، فغَسيلُ الكُلَى بالطريقةِ الأُولى، أو الطريقةِ الثانيةِ يشتَمِلُ على هذا الأمرِ، فيصِلُ إلى دَمِ الـمريضِ سُكرياتٌ وأملاحٌ عن طريقِ هذا الغَسيلِ؛ وبِناءً على ذلك ذَهَبَ أعضاءُ اللَّجنةِ الدائمةِ لِلإفتاءِ بالـمَملكةِ العربيةِ السعوديةِ، والشيخُ عبدُ العَزيزِ بنُ بازٍ ومجموعةٌ مِن أهلِ العِلْمِ إلى أنَّ الغَسيلَ الكُلَويَّ مُفطِرٌ مِن مُفطِراتِ الصيامِ، وذلك لِأنَّه -وإنْ لم يكنْ أكلًا ولا شُربًا- إلا أنه في معنى الأكلِ والشُّربِ، ممَّا يحصُلُ لِلمريضِ به مِنَ التَّقَوِّي ونَحوِ ذلك.
ومن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ بالغَسيلِ الكُلَويِّ؛ وذلك لِأنَّه ليس أكلًا ولا شُربًا، ولا يَنفُذُ إلى الجَوفِ، لكنَّ هذا القَولَ ليس بشيءٍ؛ لِأنَّه -كما ذكَرْنا قبلَ قَليلٍ- أن إيصالُ الـموادِ الغذائيةِ مِثلَ السُّكرياتِ والأملاحِ إلى الدَّمِ يَحصُلُ به مِنَ القُوَّةِ والنشاطِ ما يحصُلُ بالأكلِ والشُّربِ؛ فالـمُغذِّي أحيانًا يَجلِسُ عليه الإنسانُ يومَيْنِ أو ثلاثةَ أيَّامٍ، ويَكتَفي به عنِ الأكلِ والشُّربِ، ويُحِسُّ معه الـمَريضُ بالرِّيِّ، والشِّبَعِ، ولا يحتاجُ معه إلى طعامٍ؛ فالغَسيلُ الكُلَويُّ لا شَكَّ عِندي -واللهُ أعلَمُ- أنه يحصُلُ الفِطرُ به، هذا فَوقَ أنَّه يحصُلُ لِلإنسانِ به مِنَ الإجهادِ والضَّعفِ والإنهاكِ ما هو أشَدُّ ممَّا يحصُلُ لِلإنسانِ بالقَيءِ مَثلًا، أو بالحِجامةِ، أو حتى بدَمِ الحَيضِ، ودَمُ الحَيضِ ممَّا قامَ الإجماعُ على الفِطرِ به، والقَيءُ ثَبَتَ في الحَديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "مَنِ استَقاءَ فعليه القَضاءُ"، وأكثَرُ أهلِ العِلْمِ يُعلِّلُ القَيءَ بأنَّه يُضعِفُ، والحِجامةُ، الذين يقولون بأنه يُفطِرُ بها يُعلِّلون ذلك بما يحصُلُ مِنَ الإضعافِ لِلبَدَنِ، والغَسيلُ الكُلَويُّ يَظهَرُ لي أنَّه لا يُقارَنُ بهذه الأُمورِ، فهو يُنهِكُ الـمَريضَ أكثَرَ ممَّا تُنهِكُه الحِجامةُ أوِ القَيءُ أوِ الحَيضُ؛ ولهذا فالنَّفْسُ مُطمَئنَّةٌ إلى أنَّ الغَسيلَ الكُلَويَّ يحصُلُ الفِطرُ به.
النازلةُ الخامسةَ عشرةَ: الغَسولُ الـمِهبَليُّ
والـمَقصودُ بالغَسولِ الـمِهبَليِّ هو ما يكونُ مِنْ مَحاليلَ مُطهِّرةٍ أو علاجيةٍ تتعاطاها الـمرأةُ عن طريقِ الفَرْجِ (القُبُلِ) هذا الغَسولُ الـمِهبَليُّ مَحلُّ خِلافٍ بيْنَ أهلِ العِلمِ، مبنيٍّ على خلافٍ قديمٍ لِأهلِ العِلْمِ قديمًا، فيما إذا أدخَلَتِ الـمرأةُ مائعًا في فَرْجِها، هل يحصُلُ الفِطرُ لها بذلك، أو لا يحصُلُ؟ فأهلُ العِلْمِ قديمًا اختَلَفوا في ذلك؛ بِناءً على اختِلافِهم في: هلِ الفَرْجُ يُعَدُّ مَنفَذًا إلى الجَوفِ أو لا؟ تَعرِفون أنَّ كثيرًا مِن هذه الأُمورِ لم يُجزَمْ بها، ولم يُقطَعْ بها، إلَّا بعدَ تطوُّرِ عِلْمِ الطِّبِّ والتشريحِ، أمَّا في السابِقِ فمِنَ الـمَعروفِ أنَّ الـمَيِّتَ له حُرمةٌ؛ لهذا لم يكُنْ مِثلُ ذلك مُتاحًا لِلفُقهاءِ الأقدَمينَ، فمِن أهلِ العِلْمِ قديمًا مَن قال: إنَّه يُفطِرُ به؛ لِأنَّ هذا مَنفَذٌ إلى الجَوفِ، وعليه يحصُلُ الفِطرُ به، ومِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّ هذا لا يُعَدُّ مَنفَذًا إلى الجَوفِ، ومِن ثَمَّ لا يحصُلُ الفِطرُ به، وفي العِلْمِ الحَديثِ أنَّ هذا لا يُعَدُّ مَنفَذًا إلى الجَوفِ، ولا يصِلُ مُطلقًا، وليس هناك قَناةٌ بيْنَ الفَرْجِ وبيْنَ الـمعدةِ، ومِن ثَمَّ فإنَّ هذا الغَسولَ ليس أكلًا ولا شُربًا ولا ممَّا يحصُلُ الفِطرُ به بالنصِّ، ولا في معنى ما وَرَدَ النصُّ بالفِطرِ به؛ ولهذا اتَّخَذ مَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ قرارًا بالإجماعِ بأنَّ الغَسولَ الـمِهبَليَّ لا يُعَدُّ مُفطِرًا لِلصيام.
التحاميلُ الـمِهبليةُ والـمِنظارُ الـمِهبليُّ وأدواتُ الفَحصِ الـمِهبليةُ، وكُلُّ ذلك الـمَقصودُ به ما تحتاجُه الـمرأةُ في العِلاجِ، سواءٌ كان ذلك بالتحاميلِ التي تُعطى لِلمرأةِ، كموادَّ علاجيةٍ، أو كان بالمنظارِ الـمهبَليِّ الذي يكونُ لِأغراضٍ علاجيةٍ أو تشخيصيةٍ، أو كان ذلك بالأدواتِ التي يُفحَصُ بها في فَرْجِ الـمرأةِ، وفي قُبُلِها، وهذه الأدواتُ الثلاثُ أو النوازلُ الثلاثُ، إذا قُلنا: إنَّ الغَسولَ الـمِهبليَّ لا يحصُلُ الفِطرُ به، فهذه مِثلُها، أو أوْلَى منها، فلا يحصُلُ الفِطرُ بهذه التحاميلِ، ولا بالمِنظارِ، ولا بأدواتِ الفَحصِ؛ لِأنَّها ليست ممَّا وَرَدَ النصُّ بالفطرِ به، ولا في معنى الـمَنصوصِ عليه؛ ولهذا اتَّخَذ مَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ قرارًا بالإجماعِ بأنَّ هذه الأُمورَ لا يحصُلُ الفِطرُ بها.
النازلةُ السادسةَ عَشرةَ: الحُقنةُ
والحُقنةُ الشَّرَجيَّةُ هي ما يُعطى لِلمريضِ في الدُّبُرِ، وهي نوعُ معالجةٍ، وغَسيلٌ لِلأمعاءِ، بضَخِّ الـماءِ، وبعضِ الأدويةِ -كما هو معروفٌ-، وهذه الـمسألةُ ليست جديدةً، لكنَّها الآنَ أخذَتْ صبغةً عِلْميةً؛ باعتِبارِ أنَّها عَمَلٌ طِبيٌّ يُعالَجُ به، وقدِ اختَلَفَ فيها أهلُ العِلْمِ قديمًا وحديثًا على قَولَيْنِ: فمِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّها تُفطِرُ؛ لِأنَّها تصِلُ إلى الجَوفِ، ومِن ثَمَّ فإنَّها تُفطِرُ، وذلك لِمَا قرَّرناه سابِقًا مِن أنَّ الجَوفَ الـمَقصودُ به الـمعدةُ والأمعاءُ؛ لِأنَّهما موضِعُ الامتصاصِ، ومِن أهلِ العِلْمِ مَن قال: إنَّها لا تُفطِرُ، واحتَجُّوا على ذلك بأنَّه لا يحصُلُ لِلإنسانِ بها نَوعُ تَغذيةٍ، وإنَّما هي لِلتَّنظيفِ؛ فلا يحصُلُ منها غِذاءٌ، فهي ليست أكلًا ولا شُربًا، ولا في معناهما، وهذا اختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ، وقَبلَ أنْ نَذكُرَ ما هو الراجحُ في هذه الـمسألةِ أُنَبِّهُ إلى أنَّ الأطباءَ يقولون: إنَّ الدُّبُرَ مُتَّصلٌ بما يُسمَّى الـمُستقيمَ، ثم بعْدَ ذلك بالقولونِ، أوِ الأمعاءِ الغليظةِ، والحُقنةُ تكونُ في هذه الـمنطقةِ، والأطباءُ يقولون: إنَّ امتِصاصَ الغِذاءِ يَحصُلُ أغلَبُه في الـمعدةِ، وفي الأمعاءِ الدقيقةِ، ويحصُلُ منه امتِصاصٌ يَسيرٌ لِلماءِ والأملاحِ والسُّكرياتِ في الأمعاءِ الغليظةِ؛ وبِناءً على ذلك فإنَّ الـمريضَ إذا أُعطيَ هذه الحُقنةَ الشَّرَجيَّةَ -أعَزَّكم اللهُ- التي تشتَمِلُ على السوائلِ والـمَحاليلِ وأُمورٍ طبيةٍ فإنَّها تصِلُ إلى هذه الـمنطقةِ التي يحصُلُ بها الامتِصاصُ، وهي الأمعاءُ الغليظةُ؛ ولهذا فالقَولُ بالتَّفطيرِ هو الأظهَرُ والأرجَحُ، وقدِ اختارَ الشيخُ محمدُ بنُ صالِحٍ العثيمين، والشيخُ أحمد الخليل -حَفِظَه اللهُ- في هذه الـمسألةِ أنَّ ما يُحقَنُ في الدُّبُرِ إذا تضَمَّنَ الـماءَ أو شَيئًا مِنَ الـمحاليلِ الـمُغذِّيةِ مِثلَ الأملاحِ أو غَيرِها؛ فإنَّه يحصُلُ به الفِطرُ، أمَّا إذا لم تَشتَمِلْ هذه الحُقنةُ إلَّا على أشياءَ دوائيةٍ، فليس فيها سوائلُ ولا ماءٌ ولا أملاحٌ؛ فإنَّها لا تُفطِرُ، وعِندي أنَّ هذه الحُقنةَ -واللهُ سُبحانه وتَعالى أعلَمُ- تُفطِرُ على كُلِّ حالٍ، مادامَت تصِلُ إلى الأمعاءِ الغليظةِ التي يحصُلُ فيها الامتِصاصُ؛ فإنَّ الأمعاءَ الغليظةَ ومراكزَ الامتِصاصِ تمتَصُّ الدواءَ، وتمتَصُّ الـماءَ، وهذه الأُمورُ كُلُّها مُفطِرةٌ؛ ولهذا والذي يَظهَرُ -واللهُ تَعالى أعلَمُ- أنَّ هذه الحُقنةَ الشَّرَجيَّةَ مُفطِرةٌ بهذا الـمَعنى، هذا هو الراجحُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.
النازلةُ السابعةَ عَشرةَ: التحاميلُ الشَّرَجيَّةُ
التحاميلُ الشَّرَجيَّةُ هي ما يُوضَعُ في دُبُرِ الـمريضِ، وتُشبِهُ الـمَراهِمَ، وتُستَعمَلُ لِعِلاجِ بعضِ الأمراضِ، مِثلَ البواسيرِ، ولِتخفيضِ الحَرارةِ، وهي معروفةٌ، فهذه التحاميلُ أيضًا مَحلُّ خِلافٍ بيْنَ أهلِ العِلْمِ؛ باعتِبارِ أنَّها تصِلُ إلى الجَوفِ، ومِن ثَمَّ هل يحصُلُ بها التفطيرُ؛ لِوُصولِها إلى الجَوفِ، أم لا يحصُلُ بها التفطيرُ؟ وهو بالتأكيدِ قياسُ قَولِ مَن قال: إنَّه لا يحصُلُ التفطيرُ بالحُقنةِ الشَّرَجيَّةِ. فالذي يقولُ: إنَّ الحُقنةَ الشَّرَجيَّةَ لا تُفطِرُ فإنَّه مِن بابِ أوْلَى يقولُ: إنَّ هذه التحاميلَ لا تُفطِرُ، وعلى كَلامِ الشيخِ محمدِ بنِ عثيمين فإنَّ هذه أيضًا لا يحصُلُ بها الفِطرُ، ومَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ قد أجَّلَ البَتَّ في هذه القضيةِ على اعتبارِ أنَّها مَحلُّ خِلافٍ بيْنَ أعضاءِ الـمَجمَعِ، وبالتأكيدِ فإنَّ مِثلَ هذه التحاميلِ لا تُوضعُ في بَدَنِ الـمريضِ إلَّا لِأنَّ البَدَنَ يمتَصُّها، ثم ينتَفِعُ بها، فالحُقنةُ الشرجيةُ مَثلًا هي نوعٌ مِنَ الغَسيلِ لِلأمعاءِ، ورُبَّما لايبقى الـماءُ أوِ السوائلُ أو نَحوُ ذلك مُدَّةً، بحيث يحصُلُ لها امتِصاصٌ، لكنَّ مِثلَ هذه التحاميلِ الأصلُ أنَّها تُـمتَصُّ تقريبًا بالكامِلِ، ولا ينتَفِعُ منها الـمريضُ إلَّا إذا امتَصَّها البَدَنُ؛ ولهذا ليست مِثلَ الحُقنةِ، الحُقنةُ يُحقَنُ الإنسانُ مَثلًا بهذه الحُقنةُ الشَّرجيَّةُ -أعَزَّكم اللهُ- ثم يَستَفرِغُ مرَّةً أُخرى، لكنَّ مِثلَ هذه التحاميلِ تُوضعُ وتَظَلُّ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ البَدَنَ يمتَصُّها، نَعَمْ هي ليست أكلًا ولا شُربًا ولا في معنى الأكلِ والشُّربِ، فإذا قُلنا: إنَّ الإبَرَ التي يأخُذُها الإنسانُ في العَضَلِ أو في الوَريدِ لا يحصُلُ بها الفِطرُ، مع أنَّها تصِلُ إلى الدَّمِ مُباشرةً، فمِثلُ هذه التحاميلِ الشرجيةِ الذي يَظهَرُ -واللهُ سُبحانَه وتَعالى أعلَمُ- أنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ بها، وليست مِثلَ الحُقنةِ؛ باعتِبارِ أنَّ الحُقنةَ الشرجيةَ الـموادُّ الـمُغذِّيةُ فيها أكثَرُ، وقد مَرَّ معنا في بدايةِ هذه الـمجالِسِ أنَّ هناك أُمورًا يَسيرةً كثيرةً جدًّا قد عُفيَ عنها، كما يحصُلُ في الفَمِ بعدَ الـمَضمَضةِ، فهذه التحاميلُ الشرجيةُ إذا امتَصَّها البَدَنُ فهي أشياءُ دوائيةٌ لا تصِلُ إلى مراكزِ الامتِصاصِ في الأغلبِ، وهي الأمعاءُ الغليظةُ، وإنَّما ما دونَ ذلك؛ ولهذا فإنَّها لا تأخُذُ حُكْمَ الأكلِ والشُّربِ، لا حقيقةً، ولا حُكْمًا، فالذي يَظهَرُ -واللهُ سُبحانَه وتَعالى أعلَمُ- أنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ بها.
النازلةُ الثامنةَ عَشرةَ: الـمِنظارُ الشَّرجيُّ
الكَلامُ في الـمِنظارُ الشَّرجيُّ كالكَلامِ في مِنظارِ الـمعدةِ، وقد سَبَقَ أنْ تكَلَّمنا عنه، وقُلنا: إنَّ مِنظارَ الـمعدةِ إذا خَلا مِن أشياءَ تُضافُ إليه، فإنَّه بمُجرَّدِه لا يحصُلُ الفِطرُ، به لكنْ إذا أُضيفَ إليه مَثلًا موادُّ هُلاميةٌ أو دُهنيةٌ أو مَحاليلُ -كما حدَّثَني أحَدُ الإخوةِ الأطباءِ الذين حَضَروا معنا أنَّ أحَدَ كِبارِ الـمُتخصِّصين في الـمَناظيرِ يقولُ: إنَّ الـمِنظارَ الذي يُعطى في الـمَرِّيءِ ويصِلُ إلى الـمعدةِ لا بُدَّ أنْ يُضَخَّ معه ما يَقرُبُ مِن مِئتَيْ ملليلتر مِن مَحلولِ مِلحِ الطعامِ؛ لِإزالةِ الأطعمةِ ونَحوِ ذلك عنِ الـمِنظارِ بحيث تَسهُلُ عمليةُ التصويرِ والتشخيصِ، ثم يُسحَبُ جُزءٌ مِن هذا الـمَحلولِ، فهذا لا إشكالَ في أنَّه يكونُ حِينَئذٍ مُفطِرًا، كما قُلنا: إنَّه إذا وُضِعتْ عليه مادة هُلاميةٌ أو دُهنيَّةٌ أو أُدخِلَ معه، أو ضُخَّ عَبرَهُ شيءٌ مِنَ الـمحاليلِ أو نَحوِ ذلك، فإنَّه لا شَكَّ في التفطيرِ به، وعلى هذا فالمِنظارُ الشرجيُّ كمِنظارِ الـمَعدةِ بحيث إنَّه إذا وصل إلى مناطقِ الامتِصاصِ، وهي الأمعاءُ الغليظةُ فما فَوقَ، إلى الـمعدةِ، فإنْ ضُخَّ معه شيءٌ مِنَ السوائلِ أوِ الـمَحاليلِ أوِ الـموادِّ الهُلاميةِ أوِ الدُّهنيةِ أو نَحوِ ذلك، فإنَّها تصِلُ إلى مَكانِ الامتِصاصِ، وحِينَئذٍ تكونُ في حُكْمِ الأكلِ والشُّربِ، فيَحصُلُ الفِطرُ بها، أمَّا إذا لم يصِلْ إلى أماكنِ الامتِصاصِ، أو لم يُضَفْ إليه مَحاليلُ أو موادُّ مُسَلِّكةٌ، فإنَّه حِينَئذٍ لا يُفطِرُ، كما تكَلَّمنا في مِنظارِ الـمعدة.
النازلةُ التاسعةَ عَشرةَ: ما يَدخُلُ عَبرَ مَجرى البَوْل
هذا له عَدَدٌ مِنَ الأنواعِ، أحيانًا يُدخَلُ عَبرَ مَجرى البَولِ -أعَزَّكم اللهُ- مِنظارٌ مِثلُ ما مَرَّ معنا في مِنظارِ الـمعدةِ والشَّرَجِ، والـمِنظارِ الـمِهبَليِّ، وأحيانًا تُدخَلُ بعضُ الـمَحاليلِ لِغَسيلِ الـمَثانةِ، وأحيانًا تُدخَلُ بَعضُ الأدويةِ، وأحيانًا تُدخَلُ بعضُ الـمَوادِّ التي تُصاحِبُ عمليةَ التشخيصِ بالأشِعَّةِ؛ لِيتَّضِحَ التصويرُ بإضافةِ هذه الـمَوادِّ، فيُضَخُّ عَبرَ مَسالِكِ البَولِ هذه الـمَوادُّ؛ حتى تتَّضِحَ في أجهزةِ التصويرِ، فهذه الأُمورُ التي تَدخُلُ عَبرَ مَجاري البَولِ، سواءٌ كانت لِلرجالِ أو لِلنساءِ، مَحلُّ خِلافٍ بيْنَ أهلِ العِلْمِ قديمًا، فأهلُ العِلْمِ ذَكَروا بعضَ التصَوُّراتِ، كما لو أنَّ الإنسانَ أدخَلَ في إحليلِه ماءً أو دُهنًا أو نَحوَ ذلك، هل يُفطِرُ بذلك؟ وقدِ اختَلَفَ العُلماءُ قديمًا في هذه الـمسألةِ؛ بِناءً على اختِلافِهم هل مَجرى البَولِ يَنفُذُ إلى الجَوفِ الذي اتَّفَقنا عليه، وهو الـمعدةُ، أو لا؟ فمَن رأى أنَّ مَجرى البَولِ يَنفُذُ إلى الجَوفِ قال: إنَّه يحصُلُ الفِطرُ به. ومَن رأى أنَّ هذا لا يَنفُذُ إلى الجَوفِ قال: إنَّه لا يحصُلُ الفِطرُ به، وعِلمُ التشريحِ الحَديثُ والطِّبُّ الحَديثُ يُثبِتان أنَّ مَسالِكَ البَولِ ليست مَنفَذًا إلى الـمعدةِ، ولا إلى الأمعاءِ الغليظة، أوِ الدقيقةِ، أو مَراكِزِ الامتِصاصِ، أوِ الجهازِ الهضميِّ، كما مَرَّ معنا؛ فهي لا تتصلُ بذلك مُطلقًا، فالقَولُ الراجحُ أنَّ هذه التي تَدخُلُ مِن مَجاري البَولِ أنها لا تُعَدُّ مُفطِرةً. وهذا هو الذي أفتى به أعضاءُ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلامي في دورَتِه العاشِرة.
النازلةُ العِشرون: التبرُّعُ بالدَّم
وهذه لا شَكَّ أنَّها مِنَ النوازِلِ التي تَعُمُّ بها البَلْوى؛ فإنَّ الإنسانَ رُبَّما يَعرِضُ لِقَريبِه، أو لِأحَدٍ مِنَ الـمُسلِمين حاجةٌ واضطِرارٌ إلى الدَّمِ في نَهارِ رَمَضانَ، فهلِ التَّبرُّعُ بالدَّمِ يُفطِرُ، أو لا يُفطِرُ؟
هذه الـمسألةُ أكثَرُ أهلِ العِلمِ يَجعَلونَها مَقيسةً، ومُتفرِّعةً على مسألةِ الحِجامةِ. هل يُفطِرُ الإنسانُ بالحِجامةِ أو لا يُفطِرُ؟ والحِجامةُ مَعروفةٌ، وهي ما يُوضَعُ مِنَ الـمَحاجِمِ على الرَّأْسِ، أو على أيِّ جُزءٍ مِن أجزاءِ البَدَنِ، بحيث يُشرَطُ الجِلدُ، ثم يُـمتَصُّ الدَّمُ مِنَ الجِلدِ بهذه الـمَحاجِمِ، هذه هي الحِجامةُ، وهي معروفة. وقدِ اختَلَفَ أهلُ العِلْمِ قديمًا في الحِجامةِ، هل يَحصُلُ الفِطرُ بها أو لا يحصُلُ؟ وذلك تبعًا لِتعارُضِ الأدلَّةِ الواردةِ في الحِجامةِ، فبَينَما وَرَدَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسَنَدٍ صَحيحٍ أنَّه قال: "أفَطَرَ الحاجِمُ والـمَحجومُ"، ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أتى البَقيعَ، فوجَدَ رَجُلًا يحتَجِمُ، فقال: أفطَرَ الحاجِمُ والـمَحجومُ. والحَديثُ رواه التِّرمذيُّ، وهو حَديثٌ صحيحٌ. وفي حَديثٍ آخَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأى جَعفَرَ بنَ أبي طالِبٍ يَحتَجِمُ، فقال: أفطَرَ هذان. يَعني الحاجِمَ والـمَحجومَ، هذا الدليلُ يَدُلُّ على أنَّ الحِجامةَ تُفطِرُ، بَينَما ثَبَتَ -كما في صحيحِ الإمامِ البخاريِّ مِن حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ احتَجَمَ وهو صائمٌ. وقدِ اختَلَفَ أهلُ العِلمِ في التوفيقِ بيْنَ هذه الأدلةِ، فمِن أهلِ العِلمِ -وهم جُمهورُ أهلِ العِلمِ، الحنفيةِ والـمالكيةِ والشافعيةِ- مَن قال: إنَّ حَديثَ: "أفطَرَ الحاجِمُ والـمَحجومُ"، مَنسوخٌ، وأنَّ هذا الأمرَ كان في البدايةِ مُفطِرًا، ثم نُسِخَ، ويَستَدِلُّون على ذلك بما روى الدارقطنيُّ وغَيرُه عن أنسٍ أنَّه قال: نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ الحِجامةِ، ثم رَخَّصَ بها. يعني لِلصائمِ، قال الدارقطنيُّ إنَّه لا يَعلَمُ لِهذا الحَديثِ عِلَّةً، وقال الجُمهورُ: إنَّ الرُّخصةَ لا تكونُ إلَّا بَعدَ النَّهيِ، فهذا يَدُلُّ على أنَّ الترخيصَ كان بعْدَ النَّهي. ومِن أهلِ العِلمِ مَن تعامَلَ بيْنَ هذه النصوصِ بالعَكسِ، فقال: إنَّ الحِجامةَ كانت في بدايةِ الأمرِ غَيرَ مُفطِرةٍ، ثم بعْدَ ذلك قَضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّها تُفطِرُ، وهذا قَولُ الحنابلةِ، واختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ، وهو اختِيارُ الشيخِ محمدِ بنِ صالِحٍ العثيمين أيضًا، واحتَجُّوا على هذا الترجيحِ بأنَّ أحاديثَ التَّرخيصِ بالحِجامةِ هذه مُبقيةٌ على الأصلِ، وحَديثَ "أفطَرَ الحاجِمُ والـمَحجومُ" ناقلٌ عنِ الأصلِ، فإنَّ الأصلَ أنَّ الحِجامةَ لا تُفطِرُ، والنَّاقِلُ عنِ الأصلِ مُقَدَّمٌ على الـمُبقي على الأصلِ، فـ"أفطَرَ الحاجِمُ والـمَحجومُ" ناقِلٌ عنِ الأصلِ، قد غَيَّرَ حُكْمَ الأصلِ، وحَديثُ "احتَجَمَ وهو صائمٌ"، مُبقٍ على الأصلِ، والناقِلُ عنِ الأصلِ مُقَدَّمٌ على الـمُبقي عليه، وبِناءً على هذا الخِلافِ بيْنَ هذَيْنِ القَولَيْنِ ذَهَبَ بعضُ أهلِ العِلْمِ إلى أنَّ مسألةَ التبرُّعِ بالدَّمِ فَرعٌ عن مسألةِ الحِجامةِ، فإذا قُلنا: إنَّ الحِجامةَ تُفطِرُ، فالتبرُّعُ يُفطِرُ، وإذا قُلنا: إنَّها لا تُفطِرُ، فالتبرُّعُ لا يُفطِرُ أيضًا؛ ولِهذا فإنَّ الشيخَ محمدَ بنَ صالِحٍ العثيمين لَمَّا كان يُرجِّحُ أنَّ الحِجامةَ تُفطِرُ، رَجَّح أنَّ التبرُّعَ يُفطِرُ، والذين قالوا: لا تُفطِرُ الحِجامةُ قالوا: إنَّ التبرُّعَ لا يُفطِرُ، وعِندي أنَّ الـمسألةَ يمكنُ أنْ يكونَ لها مأخَذٌ غَيرُ هذا الـمأخَذِ، وأنَّه حتى لو رَجَّحنا قَولَ الجُمهورِ في أنَّ الحِجامةَ لا تُفطِرُ، فإنَّه ليس بلازِمٍ أنْ نقولَ: إنَّ التبرُّعَ بالدَّمِ لا يُفطِرُ، وذلك لِأنَّه يَختَلِفُ الأمرُ بيْنَ الحِجامةِ والتبرُّعِ بالدَّمِ، وكُلُّكم، أو مَن رأى الحِجامةَ أو سألَ عنها أو خَبَرَها، يَعرِفُ أنَّ الدَّمَ الذي يُؤخَذُ بالحِجامةِ قليلٌ جدًّا بالنسبةِ لِمَا يُؤخَذُ بالتبرُّعِ بالدَّمِ؛ فأحيانًا في التبرُّعِ بالدَّمِ يُؤخَذُ نِصفُ لِترٍ مِنَ الإنسانِ، وأحيانًا يُؤخَذُ لِترٌ كامِلٌ، بَينَما الحِجامةُ لا يصِلُ أحيانًا ما يُؤخَذُ مِنَ الـمُحتَجِمِ إلى خمسين ملليلتر، أو ثلاثين، فهي كَمِّيَّةٌ يَسيرةٌ، فهل يصِحُّ أنْ نَقيسَ عَدَمَ التفطيرِ بأخْذِ خمسِ مِئةِ ملليلتر مِنَ الإنسانِ، أو لِترٍ كاملٍ، على عَدَمِ التفطيرِ بأخذِ ثلاثينَ ملي أو عِشرينَ ملي، أو حتى خمسين ملي، خاصة إذا أدرَكْنا أنَّ العِلَّةَ في التفطيرِ بالحِجامةِ إضعافُ البَدَنِ؛ ولهذا ثَبَتَ كما في صحيح البُخاريِّ عن ثابِتٍ البناني أنَّه سألَ أنسَ بنَ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنهما، فقال: أكُنتُم تَكرَهون الحِجامةَ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فقال أنسٌ: لا، إلَّا مِن أجْلِ الضَّعفِ؛ فهذا يَدُلُّ على أنَّ العِلَّةَ في التفطيرِ بالحجامةِ -سواءٌ كان هذا الأمرُ باقيًا مُحكَمًا، أو كان مَنسوخًا- ما تُورِثُه مِنَ الإنهاكِ والضَّعفِ لِلبَدَنِ، فإذا كانت هذه هي العلةَ، فلا يصِحُّ أنْ نَقيسَ التبرُّعَ بالدَّمِ على الحِجامةِ؛ لِلفارِقِ بَينَهما؛ فإنَّ هذا أكثَرُ إنهاكًا لِلبَدَنِ مِنَ الحِجامةِ، وهذا أمرٌ مَعروفٌ؛ فأنتَ لو ذهَبتَ الآنَ إلى مُستشفًى مِن أجْلِ أنْ تتبَرَّعَ بالدَّمِ، لَرأيتَ مِنَ الاحتياطاتِ التي يَفعَلُها الطبيبُ ما لا تراه حينما تُقدِمُ على الحِجامةِ في مُستشفًى، دَعونا مِنَ الإقدامِ على الحِجامةِ مَثلًا عِندَ الحَجَّامين الذين لم يُلِمُّوا بعُلومِ الطِّبِّ، لكنْ لوِ احتَجَمتَ بمركَزٍ صحيٍّ أو مَركزٍ طبيٍّ لَمَا رأيتَ مِنَ الرعايةِ والعنايةِ بالمَريضِ أو الـمُتبرِّعِ مِثلَ ما تَجِدُ حينَ التبرُّعِ؛ فإنَّهم في مسألةِ التبرُّعِ بالدَّمِ يشتَرِطون على الإنسانِ أنْ يكونَ تناوَلَ غِذاءً كافيًا، ويُـمِدُّونَه بالسوائلِ في أثناءِ التبرُّعِ، وبعْدَ التبرُّعِ، وهذا ظاهرُ الدلالةِ على أنَّ عمليةَ التبرُّعِ تُنهِكُ البَدَنَ أكثَرَ ممَّا تُنهِكُه الحِجامةُ، فالحِجامةُ شيءٌ يَسيرٌ، يَخرُجُ مِنَ البَدَنِ، هذا أمرٌ، الأمرُ الثاني أنَّه أيضًا رَوى الخَمسةُ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: "مَنِ استَقاءَ فعليه القَضاءُ، ومَن ذَرَعَه القَيءُ، فلا قَضاءَ عليه"، ففي هذا الحَديثِ أنَّ مَنِ استَقاءَ مُتعمِّدًا يُفطِرُ بذلك، وقد ذَهَبَ مَن قال: إنَّ مَنِ استَقاءَ مُتعمِّدًا يَبطُلُ صَومُه، إلى أنَّ العِلَّةَ هي ما يُورِثُه القَيءُ -أعَزَّكم اللهُ- مِنَ الضَّعفِ والإنهاكِ لِلبَدَنِ. وما يُقالُ في الاستيقاءِ يُقال في التبرُّعِ بالدَّمِ، بل رُبَّما يكونُ في التبرُّعِ بالدَّمِ إضعافٌ لِلبَدَنِ أكثَرُ مِن إضعافِه بالقَيءِ، الأمرُ الثالثُ: يمكنُ أنْ يُقاسَ التبرُّعُ بالدَّمِ على الحُكمِ بالفِطرِ لِلحائضِ؛ فإنَّ جَمعًا مِن أهلِ العِلْمِ ذَهَبوا إلى أنَّ الحِكمةَ مِن كَونِ الحَيضِ مُفطِرًا مِن مُفطِراتِ الصيامِ أنَّه يُنهِكُ بَدَنَ الـمرأةِ، وهو حالةٌ مَرضيةٌ تُضعِفُها، فيَكونُ في إيجابِ الصيامِ عليها إضعافٌ لها، وضَرَرٌ عليها؛ ولهذا قَضى اللهُ سُبحانَه وتَعالى بأنَّ الحَيضَ مُفطِرٌ مِنَ الـمُفطِراتِ، وأنَّه لا يَصِحُّ الصيامُ معه، وبِناءً على ذلك فإنَّ الذي يَظهَرُ لي -واللهُ سُبحانَه وتَعالى أعلَمُ- أنَّ التبرُّعَ بالدَّمِ مُفطِرٌ مِن مُفطِراتِ الصيامِ، على القَولَيْنِ جَميعًا، سواءٌ قُلنا بأنَّ الحِجامةَ تُفطِرُ، أو قلنا: لا تُفطِرُ؛ فالتبرُّعُ بالدَّمِ مُفطِرٌ مِنَ الـمُفطِراتِ، والعِلْمُ عندَ اللهِ سُبحانَه وتَعالى.
النازلةُ الحاديةُ والعِشرون: أخْذُ الدَّمِ لِلتحليلِ ونَحوِه
وهو ما يُؤخَذُ مِنَ الـمَريضِ لِلتحليلِ، وهذه الـمسألةُ تَختَلفُ عنِ الـمسألةِ السابقةِ؛ لِأنَّ الفَرقَ واضِحٌ وبيِّنٌ في أنَّ الدَّمَ في التبرُّعِ بالدَّمِ كثيرٌ، وأمَّا في مسألةِ التحليلِ فإنَّ ما يُؤخَذُ شيءٌ يَسيرٌ؛ ولهذا ما قُلناه قَبلَ قليلٍ مِنَ التعليلاتِ بفِطرِ مَن تبرَّعَ بالدَّمِ لا يَصحُّ فيما يتعلَّقُ بأخْذِ عَيِّنةٍ لِلفَحصِ والتحليلِ؛ ولهذا ذَهَبَ كثيرٌ مِن أهلِ العِلْمِ، منهم الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ والشيخُ محمدُ بنُ عثيمين، إلى أنَّ أخْذَ عيِّناتٍ مِنَ الدَّمِ لِلتحليلِ لا يَحصُلُ الفِطرُ به، وبالتأكيدِ مَن قال: إنَّ التبرُّعَ بالدَّمِ لا يُفطِرُ به الإنسانُ فإنَّه مِن بابِ أوْلَى يقولُ: إنَّ هذا لا يحصُلُ الفِطرُ به، وهذا الذي يَظهَرُ واللهُ سُبحانَه وتَعالى أعلَمُ أنَّه هو الراجحُ؛ فإنَّ أخْذَ كَمِّيَّةٍ يَسيرةٍ مِنَ الدَّمِ لا يضرُّ الصائمَ، وهو مِثلُ ما لو قلَعَ الإنسانُ ضِرسَه، أو أصابَه جُرحٌ يَسيرٌ، أو نَحوِ ذلك، فذلك لا يُؤثِّرُ في بَدَنِه، ولا يُنهِكُه إنهاكًا يُشبِهُ مَثلًا الاستيقاءَ، أوِ التبرُّعَ بالدَّمِ، أوِ الحَيضِ بالنسبةِ لِلمرأة.
هذه هي النازلةُ الحادية والعِشرون، وهي آخِرُ النوازِلِ الـمُتعلِّقةِ بمُفطِراتِ الصيامِ، بَقيَ عِندَنا نازلتانِ نَختِمُ بهما هذه الدُّروس.
النازلةُ الثانيةُ والعِشرون: السَّفَرُ مِن بَلدٍ إلى بَلدٍ يَختلِفانِ في الرُّؤية
أولًا نُصوِّرُ هذه الـمسألةَ، هذه الـمسألةُ ليست جديدةً، ولا نازلةً على الحقيقةِ، لكنْ لَمَّا تيسَّرَتْ في هذا الزمنِ وسائلُ الـمواصلاتِ، وأصبحَ الانتقالُ كثيرًا جدًّا، أصبحَتْ مِنَ الـمسائلِ التي تَعُمُّ بها البَلْوى، فكأنَّها بالنسبةِ لِلناسِ مِنَ النوازِلِ، وإلَّا فالمسألةُ قديمةٌ، وقد تكَلَّم عنها أهلُ العِلْمِ قديمًا، وهي مسألةُ ما إذا انتَقَل الإنسانُ مِن بَلدٍ إلى بَلدٍ آخَرَ قدِ اختَلَفتْ رُؤيةُ البَلدِ الأوَّلِ عنِ البَلدِ الآخرِ، وقد يترتَّبُ على هذا الأمرِ أنَّ الإنسانَ يُسافِرُ مِن بَلدٍ إلى بَلدٍ، فتختَلِفُ بدايةُ الشهرِ بيْنَ البَلدَيْنِ، فإذا اختَلَفتِ البدايةُ فرُبَّما تختَلِفُ النهايةُ، فقد يترتَّبُ على ذلك أنَّ الإنسانَ إذا صامَ مع البَلدِ الآخَر الذي انتقَلَ إليه قد يَصومُ واحِدًا وثلاثين يَومًا، وقد يَحدُثُ العَكسُ، وهو ما إذا تقدَّمتْ رُؤيةُ البَلدِ الذي قَدِمَ إليه، فقد يَصومُ ثمانيةً وعِشرين يَومًا، ونَضرِبُ لهذا مِثالًا: فلو صُمْنا في الـمملكةِ العربيةِ السعوديةِ يَومَ السبتِ، وفي الباكستانِ صاموا يَومَ الأحَدِ، فمَن بدأ الصيامَ بالمملكةِ يَومَ السبتِ ولَمَّا مَضى عَشَرةُ أيَّامٍ أو عِشرون يَومًا ذَهَبَ إلى الباكستانِ، وفي الباكستانِ لم يَرَوُ الهِلالَ ليلةَ ثلاثين؛ فأتَمُّوا ثلاثين يَومًا، هذا الإنسانُ الذي بدأ الصيامَ في الـمملكةِ يَومَ السبتِ وذَهَبَ إلى الباكستانِ، الباكستان أتموا الشهر ثلاثين يومًا، إذا تابعَ الباكستانَ في الصيامِ فسيصومُ واحِدًا وثلاثين يَومًا، هذه صورةٌ، والصورةُ الأُخرى: لِنفتَرِضْ أنَّنا في الـمملكةِ صُمْنا يَومَ السبتِ، وأنَّ مِصرَ صاموا قَبْلَنا بيَومٍ، أي يَومَ الجُمُعةِ، فهذا شخصٌ صامَ يَومَ السبتِ مع بَلدِه، وهو الـمملكةُ، ثم بعدَ عَشَرةِ أيَّامٍ انتَقَل إلى مِصرَ، كانت مِصرُ قد صامَتْ قَبلَنا بيَومٍ، ولَمَّا مَضى مِنَ الشهرِ في مِصرَ تِسعةٌ وعِشرونَ يَومًا تَراءَى الناسُ الهِلالَ فرَأوْه، فما صاموا بمِصرَ إلَّا تِسعةً وعِشرين يَومًا، فإذا صامَ هذا معنا، وأفطَرَ معهم، فمعنى ذلك أنَّه سيصومُ ثمانيةً وعِشرينَ يَومًا فقط، السؤالُ هو: هذا الذي سافَرَ إلى الباكستانِ، وذلك الذي سافَرَ إلى مِصرَ، يَتْبَعان مَن؟ وإذا ترتَّبَ على صيامِه في الباكستانِ أنْ يَصومَ واحِدًا وثلاثين يَومًا فما الحُكْمُ؟ هل يَصومُ واحِدًا وثلاثين يَومًا؟ وهل يكونُ الشهرُ الهجريُّ واحِدًا وثلاثين يَومًا، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: الشهرُ هكذا وهكذا وهكذا أو هكذا"، يعني: الشهرُ يكونُ ثلاثين، ويَكونُ تِسعةً وعِشرينَ يَومًا، ولا يمكنُ أنْ يكونَ الشهرُ الهجريُّ ثمانيةً وعِشرين، ولا أنْ يكونَ واحِدًا وثلاثين يَومًا؛ فهذا الذي ذَهَبَ إلى الباكستانِ إذا قُلنا له: صُمْ مع الباكستانِ؛ فمعنى هذا أنَّنا قُلنا: الشهرُ الهجريُّ يمكنُ أنْ يكونَ واحِدًا وثلاثين يَومًا، وهذا الذي ذَهَبَ إلى مِصرَ إذا قُلنا له: صُمْ مع مِصرَ؛ فمعنى ذلك أنَّنا قُلنا: إنَّ الشهرَ الهِجريَّ يمكنُ أنْ يكونَ ثمانيةً وعِشرين يَومًا، هذه هي الـمسألةُ التي بيْنَ أيدينا، ذَهَبَ الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ والشيخُ محمدُ بنُ صالِحٍ العثيمين وجَمْعٌ مِن أهلِ العِلْمِ إلى أنَّه إذا انتَقَل مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ آخَرَ، فإنَّه يتْبَعُ البَلدَ الذي انتَقَل إليه، فيَصومُ معهم، ويُفطِرُ معهم، حتى لو ترتَّبَ على ذلك أنْ يصومَ واحِدًا وثلاثين يَومًا، أو ثمانيةً وعِشرين يَومًا، فإذا أفطَروا، أفطَرَ معهم، وقدِ استَدَلُّوا على ذلك بعَدَدٍ مِنَ الأدلةِ، مِن أصرَحِ هذه الأدلةِ ما رَواه أصحابُ السُّنَنِ وحَسَّنَه التِّرمذيُّ وصَحَّحَه النوويُّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "الصومُ يَومَ تَصومون، والفِطرُ يَومَ تُفطِرون، والأضحى يَومَ تُضَحُّون"، فهذا الذي ذَهَبَ إلى الباكستانِ حُكْمُه حُكْمُ الناسِ الذين هو معهم، وهذا الحَديثُ فَوقَ أنَّه يَدُلُّ على الحُكْمِ في هذه الـمسألةِ فإنَّه يَدُلُّ على مسألةٍ عظيمةٍ جدًّا، وهي أهمية اجتِماعِ الكَلمةِ بالنسبةِ لِلأُمَّةِ الإسلاميةِ حتى وإنْ ترتَّبَ على ذلك أنَّ الإنسانَ قد يُخالِفُ حتى لو رَأى هو الهِلالَ، ولم يُؤخَذْ برُؤيَتِه؛ فإنَّه يَصومُ مع الناسِ، ويُفطِرُ مع الناسِ، حتى لو أخطَأ الناسُ ووَقَفوا بعَرَفةَ في اليَومِ العاشِرِ، أو في اليَومِ الثامِنِ؛ فإنَّ حَجَّهم صحيحٌ، وهذا يدُلُّ على أهميةِ جَمْعِ الكَلمةِ في الإسلامِ، وألَّا يَشِذَّ الإنسانُ أو يَخرُجَ عنِ الناسِ، هذا هو الدليل الأوَّل.
وأيضًا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -كما في الصَّحيحَينِ-: صُوموا لِرُؤيَتِه وأفطِروا لِرُؤيَتِه. هذا الذي ذَهَبَ إلى الباكستانِ الأصلُ أنَّه يصومُ لِرؤيةِ الهِلالِ، ويُفطِرُ لِرُؤيةِ الهِلالِ، ويكونُ تابعًا لِلبَلدِ الذي ذَهَبَ إليه، لو رُئيَ هِلالُ العيدِ قُلنا له: إنَّ غدًا هو واحدٌ مِن شوال، ولا يَجوزُ لك أنْ تَصومَ هذا اليَومَ؛ فإنَّ صيامَ يَومِ العيدِ ممَّا قامَ الإجماعُ على تحريمِه، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: صُوموا لِرُؤيَتِه. وقد رُئيَ، وأفطَروا لِرُؤيَتِه، وقد رُئيَ، وهذا مِنَ الأدلةِ على وُجوبِ أنْ يكونَ مع الناسِ الذين أتى إليهم، وممَّا استَدَلَّ به أيضًا الشيخُ محمدُ بنُ صالِحٍ العثيمين في هذه الـمسألةِ أنَّ الإنسانَ لوِ افتَرَضْنا أنَّه صامَ في بريدة، أمسَكَ في بريدة، وفي بريده يُؤذَّنُ لِلـمَغربِ الساعةَ السادسةَ مساءً، فلمَّا كان مُنتصفُ النهارِ رَكِبَ طائرةً وذَهَبَ إلى الـمَغرِبِ، وفي الـمَغرِبِ لا تَغرُبُ الشمسُ إلَّا الساعةَ الثامنةَ، فهل يُفطِرُ إذا كانتِ الساعةُ السادسةَ تبعًا لِبريدة التي أمسكَ فيها، أم أنَّه يَنتظِرُ حتى تَغرُبَ الشمسُ؛ لِأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: "إذا أقبَلَ اللَّيلُ مِن هاهنا، وأدبَرَ النهارُ مِن هاهنا، وغَرَبَتِ الشمسُ فقد أفطَرَ الصائمُ"، فكما أنَّ هذا اليَومَ زادَ لِأنَّه انتَقَل مِن بَلدٍ إلى بَلدٍ؛ فكذلك الشهرُ يَزيدُ؛ لِأنَّه انتَقَل مِن بَلدٍ إلى بَلدٍ، فلو ترَتَّبَ على ذلك أنْ يَصومَ واحِدًا وثلاثين يَومًا، نَقولُ له: صُمْ، ولو وَصَلتَ إلى واحِدٍ وثلاثين يَومًا؛ لِأنَّكَ أتَيتَ إلى بَلدٍ آخَرَ؛ فأنتَ كما إذا أمسَكتَ في بَلدٍ وانتَقَلتَ إلى بَلدٍ آخَرَ، فإذا صامَ واحِدًا وثلاثين يومًا، فلا إشكالَ في ذلك؛ لِمَا سبَقَ، لكنَّ الإشكالَ هو في الـمسألةِ الثانيةِ، وهي ما إذا انتَقَلَ مِن هنا إلى مِصرَ، ومِصرُ قد أمسَكَتْ قَبْلَنا بيَومٍ، وأفطَرَتْ قَبْلَنا بيَومٍ، تِسعةً وعِشرين يَومًا، ومِن ثَمَّ إذا أفطَرَ معهم فمعنى ذلك أنَّه لن يَصومَ إلَّا ثمانيةً وعِشرين يَومًا، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَ أنَّ الشهرَ لا يكونُ أقَلَّ مِن تسعةٍ وعِشرين يَومًا، فنَقولُ له: أوَّلًا أفطِرْ معهم؛ لِأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: "صُوموا لِرُؤيَتِه، وأفطِروا لِرُؤيَتِه"، وأنتَ ومَن كانوا في البَلدِ الذي أتَيتَ إليه قد رَأيتُمُ الِهلالَ يجبُ أنْ تُفطِروا، هذا الحُكْمُ الأوَّلُ, فيتبَعُهم وإنْ لم يَصُمْ إلَّا ثمانيةً وعِشرين يَومًا.
الحُكْمُ الثاني: باعتِبارِ أنَّ الشهرَ لا يمكنُ أنْ يكونَ أقَلَّ مِن تِسعةٍ وعِشرين يَومًا نَقولُ: إنَّ هذا كما لو حصل خَطأ في أوَّلِ الشهرِ فأكمَلوا العِدَّةَ بسبَبِ الغَيمِ، ثم تبَيَّنَ الهِلالُ في آخِرِ الشهرِ لَيلةَ تِسعٍ وعِشرين، فنقولُ: هذا مِثلُه, فعليه أنْ يَقضيَ يَومًا مَكانَ هذا اليَومِ الذي نَقَصَ مِن شَهرِه، فإذا أفطَرَ لِلعيدِ بعدَ ذلك يكونُ عليه يَومٌ مِن رَمَضانَ يَقضيه.
النازلةُ الثالثةُ والعِشرون: وهي السفرُ بالطائرةِ ونَحوِها بعدَ مَغيبِ الشمسِ أو قَبلَه
هذه عبارةٌ عن مسألَتَيْنِ:
المسألةُ الأُولى:
أنْ تَغرُبَ الشمسُ على الإنسانِ في بَلدِه، ثم يُفطِرُ ثم يَركَبُ الطائرةَ فتَطلُعُ عليه الشمسُ، فما الحُكْمُ بالنسبةِ له؟ الحُكْمُ بالنسبةِ له أنَّه صامَ بدَليلٍ شَرعيٍّ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وأفطَرَ بدليلٍ شرعيٍّ، وهو قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إذا أقبَلَ اللَّيلُ مِن هاهنا وأدبَرَ النهارُ مِن هاهنا، وغَرَبتِ الشمسُ، فقد أفطَرَ الصائمُ"، فهذا قد أفطَرَ بيَقينٍ، وبدليلٍ شرعيٍّ، ومِن ثَمَّ فرُؤيَتُه لِلشمسِ بعدَ ذلك لا تَضُرُّ، ولا يَجِبُ عليه الإمساكُ مرَّةً أُخرى، فهو كما لو غَرَبتِ الشمسُ، ثم صَعِدَ على جَبَلٍ مَثلًا، ورَأى الشمسَ مَرَّةً أُخرى، فهذا لا يُؤثِّرُ؛ لِأنَّه تمَّ له هذا اليَومُ، وهو تمامًا مِثلُ ما لو أنَّ الإنسانَ كان في الصحراءِ، فاقِدًا لِلماءِ، ثم تيمَّمَ وصلَّى، وبَعدَ الصلاةِ جاءَتْ سيارةٌ معها ماءٌ، هل نقولُ: يُعيدُ صَلاتَه مَرَّةً أُخرى؟ نقولُ: لا، الصَّلاةُ صَحَّتْ؛ لِأنَّه أدَّاها بدليلٍ شرعيٍّ، وهو التيمُّمُ عِندَ فَقدِ الـماءِ، فكَوْنُه يَزولُ العُذرُ بعدَ ذلك لا يُؤثِّرُ، ومِن ثَمَّ لا يجِبُ عليه الإمساك.
المسألةُ الثانيةُ:
أنِ يُسافِرَ الصائمُ قُبَيلَ غُروبِ الشمسِ في بَلدِه بزَمنٍ يَسيرٍ إلى جِهةِ الـمَغرِبِ، فيتأخَّرَ غُروبُ الشمسِ بالنسبةِ له، كما إذا كانتِ الشمسُ تَغرُبُ في بَلدِه الساعةَ السادسةَ مساءً، وقُبَيلَ السادسةِ بعَشرِ دقائقَ رَكِبَ الطائرةَ مُسافرًا إلى الـمَغرِبِ، فكُلَّما مَشى في هذا الطريقِ، طالَ النهارُ؛ فالشمسُ لا تَغرُبُ في الـمَغرِبِ إلَّا الساعةَ الثامنةَ، فبَقيَ ساعةً أو ساعتَيْنِ والشمسُ طالِعةٌ، فما نقول له؟ نقولُ: لا يُفطِرُ حتى تَغرُبَ الشمسُ، حتى لو زادَ عليه ساعتان أو أربعٌ أو خمسٌ أو أكثَرُ، فهو بالخيارِ، إمَّا أنْ يأخُذَ حُكْمَ الـمُسافِرِ، فيُفطِرَ تَرَخُّصًا، وإمَّا أنْ يُمسِكَ إذا أرادَ لِصَومِه أنْ يتِمَّ؛ لِأنَّ القُرآنَ جَعَلَ لِلفِطرِ حدًّا: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: "إذا أقبَلَ اللَّيلُ مِن هاهنا، وأدبَرَ النهارُ مِن هاهنا، وغَرَبَتِ الشمسُ، فقد أفطَرَ الصائمُ".
فما لم تَغرُبِ الشمسُ فإنَّه لم يَنتَهِ اليَومُ بالنسبةِ لِهذا الإنسانِ ومِن ثَمَّ فإنَّه يجِبُ عليه أنْ يُمسِكَ حتى تَغرُبَ الشمسُ، أو يترَخَّصَ رُخصةَ السفَرِ فيُفطِرَ ويَقضيَ يَومًا مكانَه.
هذه هي آخِرُ النوازِلِ التي يَسَّرَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى الإتيانَ عليها.
وقبل أنْ أختِمَ حَديثي في هذه النوازلِ أُنبِّهُ على أنَّ أفضلَ ما كُتِبَ في هذه النوازلِ ما يلي:
1 – مجلةُ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ التابعِ لِمُنظَّمةِ الـمُؤتَمَرِ الإسلاميِّ، العَدَدُ العاشِرُ، الجُزءُ الثاني.
2- مُفطِراتُ الصيامِ الـمُعاصرةُ، لِلدكتور أحمد بن محمد الخليل، الأستاذِ الـمُساعِدِ بكُلِّيَّةِ الشريعةِ وأُصولِ الدِّينِ بجامعةِ القصيم.
بالإضافةِ إلى الفَتاوى الـمَنثورةِ لِأهلِ العِلْمِ في كُتُبِهم، وفي مَواقِعِ الشبكةِ الـمَعلوماتيةِ، والحَمدُ للهِ الذي بنِعمَتِه تَتِمُّ الصالحات.