ونحن أيضًا، سَنصدعُ بالحقِّ!
عَلَوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
12 ذو القعدة 1430هـ
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحْبِه ومَن والاه واهتدَى بهُداه.
أمَّا بعدُ:
فقدْ عاشتْ بِلادُ الحَرمَينِ الشَّريفَينِ (الممْلكةُ العربيِّةُ السُّعوديَّةُ) مُنذ عقودٍ خَلَتْ على منهجٍ أصيلٍ، أسَّسَه عُلماؤُها وغيرُهم مِن العُلماءِ الوافدِين إليها مِن أنحاءِ العالَم، وترسَّخَ هذا المنهجُ، وضُبطتْ أصولُه وقواعدُه على منهجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الاعتقادِ والاستدلالِ، ونشأتِ الأجيالُ وتربَّتِ الأُمَّةُ عليه، وارتضاه النَّاسُ، حيثُ جمَع شمْلَهم، ووحَّدَ كلِمتَهُم مِن شَرقِ البِلادِ إلى غربِها، ومِن شَمالِها إلى جَنوبِها، ووجَد له أنصارًا ومحبِّينَ في شَرقِ العالَمِ وغرْبِه، حيثُ وافقَ الفِطرةَ، ودعا إلى الإسلامِ النَّقيِّ مِن شَوبِ المُحْدَثاتِ والبِدعِ. وترسَّخَ خِلالَ هذه المدَّةِ في نُفوسِ النَّاسِ ضَرورةُ التقيُّدِ بالدَّليلِ الصَّحيحِ، وعدَم التَّعصُّبِ لمذهبٍ مُعيَّنٍ رغمَ وُجودِ الدِّراسةِ الفِقهيَّةِ المذهبيَّةِ (الحَنبليَّةِ)، والاسترشادِ بها في القَضاءِ وغيرِه.
وظهَر بعدَ الجِيلِ الأوَّلِ مِن العُلماءِ جِيلٌ آخَرُ أخَذَ منهم، وسلَك مَسلَكَهم، فكانوا خيرَ خَلفٍ لخيرِ سلَفٍ؛ أعانوا مشايخَهم على رفْع الجَهلِ عن الأُمَّةِ بالعِلمِ والتَّعليمِ، والدَّعوةِ والإصلاحِ، ومع تَحرِّي مَنهجِهم في اتِّباعِ الدَّليلِ وقِيامِهم بالدَّعوةِ على أُسسِ مَنهجِ السَّلفِ الصَّالِحِ في العَقيدةِ، ودَعوتِهم النَّاسَ إلى نبْذِ العَصبيَّاتِ، إلَّا أنَّ ذلك لا يَعني قَبولَ جَميعِ الأطرافِ لدَعوتِهم، بلْ كانتْ هناك أعدادٌ قليلةٌ غيرُ راضيةٍ عن هذا المسلَكِ مُتَّهِمةً إيَّاه بالتَّشدُّدِ تارةً، وبالجُمودِ تارةً أُخرى، لكنْ لم يكُنْ لهم تأثيرٌ يُذكَرُ، حيثُ صدَّقتْ أفعالُ العلماءِ أقوالَهم، وظهَر للقاصي والداني نُصحُهم، وصِحَّةُ مَنهجِهم.
وخِلالَ تلك المدَّةِ جَدَّتْ أحداثٌ، ونزلَتْ بالأُمَّةِ نوازلُ، اختلفتْ فيها الآراءُ والاجتهاداتُ في مَسائِلَ مَعدودةٍ، لكنْ لم يُنْقَضْ فيها أصلٌ، ولم يُشَنَّع فيها على عالِم، واجتمعتْ كلمةُ الجميعِ ولم تختلِفْ إلَّا ما ندَر. وحَفِظ طلَبةُ العلمِ قدْرَ عُلَمائهم وكِبارِهم، واستفادوا مِن عِلمِهم وتَجارِبهم، واستفادَ العُلماءُ الكِبارُ في المقابِلِ مِن اطِّلاعِ طلبة العِلمِ وتَخصُّصِهم، ورغْمَ حُدوثِ مُتغيِّراتٍ عالَميَّةٍ وعربيَّةٍ ومَحليَّةٍ في تِلك المدَّةِ، ووُفودِ أفكارٍ ومعتقداتٍ إلحاديَّةٍ، كالشُّيوعيَّةِ والقوميَّةِ، والبعثيَّةِ والحَداثيَّةِ، وانفتاحِ المجتمَعِ على المجتمعاتِ الغَربيَّة، وتَطوُّرِ وسائلِ الإعلامِ، إلَّا أنَّ المجتمعَ كان مُتمسِّكًا بدِينه، ومُلتفًّا حولَ عُلمائِه، وكان لعُلمائِه هَيبةٌ ووقارٌ لدَى الكبيرِ والصَّغيرِ، دون تَقديسٍ أو ادِّعاءِ عِصمةٍ، وخلالَ هذه المدَّةِ أيضًا حُرِّرتْ مسائِلُ، وأُلِّفتْ كتُبٌ، وأُعدَّتْ رسائلُ جامعيَّةٌ في شتَّى العُلومِ: العَقديَّة، والأُصوليَّة، والفِقهيَّة، حتَّى أصبحتْ هذه البِلادُ وعُلماؤُها وطُلَّابُ العِلمِ والدُّعاةُ فيها مَحطَّ الأنظارِ، وقُدوةً للأمصارِ، في سَلامةِ المنهجِ، وقوَّةِ التمسُّكِ بالدَّليلِ.
واستمرَّ هذا الحالُ ثَلاثةَ عُقودٍ أو أكثرَ، وكانتِ اللُّحمةُ الدِّينيَّةُ والسِّياسيَّةُ على وِفاقٍ واتِّساقٍ؛ ممَّا أفرحَ الصَّديقَ وغاظَ العَدوَّ، وهذا كلُّه لا يَعني عدَمَ وُجودِ أخطاءٍ، وتجاوزاتٍ، واختلافاتٍ، ومُفارَقاتٍ، لكنَّها لم تكُنْ لتشُقَّ الصَّفَّ وتُفرِّقَ الأُمَّةَ، ولم يكُنْ يَتطلَّبُ الأمرُ أنْ يُسعَى لتَقويضِ ما تُسمِّيه بعضُ الجِهاتِ المشبوهةِ ومُقلِّدوها بالمؤسَّسةِ الدِّينيَّةِ.
ثُمَّ حدَثتْ في السَّنواتِ الأخيرةِ أحداثٌ عالَميَّةٌ ومَحليَّةٌ لا تَخفَى على أحدٍ، ووقعتْ على إثرِها ضُغوطٌ عالَميَّةٌ ظهرتْ آثارُها، وتَسارَعتْ بشَكلٍ كبيرٍ؛ لكَثرةِ قَنواتِ الاتِّصالِ وسُرعتِها، غيَّرتْ مِن قَناعاتِ وتَوجُّهاتِ عَددٍ من الخُطباءِ والدُّعاةِ وطُلَّابِ العِلمِ، بلْ وبَعضٍ ممَّن يُحسَبونَ على العُلماءِ!
كان هؤلاءِ في بَدْءِ الأمرِ يَعرِضونَ ما عِندَهم بمُوارَاةٍ والْتواءٍ، ولحنٍ في القولِ، وبصَوتٍ مُنخفِضٍ، وعلى استحياءٍ، وفي مجالِسَ خاصَّةٍ، ثُمَّ تَطوَّرَ الأمرُ فأصبحَ بعضُهم يُصرِّحُ بما عِندَه ولكنْ في مجالسَ خاصَّةٍ أيضًا. وكان عددٌ مِن الدُّعاةِ وطُلَّابِ العِلمِ يَبلُغُهم ذلك، فتارةً يَنفُونَه عنهم حُسْنَ ظَنٍّ بإخوانِهم، وتارةً يَتوقَّفُون، وأُخرى يَنصَحون. ثُمَّ تطوَّرَ الأمرُ أكثرَ، فأصبَحَ بعضُ أُولئك يُصرِّح في حِواراتٍ صحفيَّةٍ، أو فتاوى فَضائيَّة، أو مَقالاتٍ (إلكترونيَّة)، كلُّ ذلك كان يَحصُلُ والعلماءُ وطُلَّابُ العِلمِ كانوا يُغلِّبونَ حُسنَ الظَّنِّ بهم، ويُؤمِّلون أوْبتَهم، ويَطْمَعون في عودتِهم إلى الحَقِّ!
ورغمَ قِلَّتِهم -كما يُعبِّرونَ هُم عن أنفسِهم- إلَّا أنَّ تأثيرَهم قدْ زادَ، وما ذاك إلَّا أنَّ وسائلَ الإعلامِ قد فتحَتْ لهم أبوابَها وقَنواتِها، وأنَّ ما يَطرحونَه ممَّا تَستهويهِ الأنفسُ، ونسُوا قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]!
فطَفِقَ العُلماءُ وطُلَّابُ العِلم يَتهامَسون فيما بيْنَهم: أمَا آنَ الأوانُ أنْ نَصدَعَ بالحَقِّ، ونُبيِّنَ أخطاءَهم حتَّى لا يَغترَّ بهم العامَّةُ؟!
وكانتْ طائفةٌ مِن أهلِ الثَّباتِ على المنهجِ تدْعو إلى الرَّويَّةِ؛ حِفاظًا على وَحدةِ الصَّفِّ ولمِّ الشَّمْلِ، لكنَّ القومَ استفحَلَ خَطرُهم، وتجاوزَ الخِلافُ معهم المسائلَ الفِقهيَّةَ المبنيَّةَ على التيسيرِ غيرِ المنضبطِ بضوابطِ الشَّرعِ: كالقولِ بجوازِ الأخْذِ مِن اللِّحيةِ بلا قَيدٍ، وجوازِ إسبالِ الثِّيابِ للرِّجالِ، وعدَمِ وُجوبِ الصَّلاةِ جَماعةً في المسجِدِ في حَقِّ الرِّجالِ كذلك، وجَوازِ سَماعِ آلاتِ المعازفِ، وكالقولِ بجوازِ الاحتفالِ بأعيادِ الميلادِ وبمولدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقضايا مُتعلِّقةٍ بالمرأةِ، كالحِجابِ والنِّقابِ والعَباءةِ، واختلاطِ الرِّجالِ بالنِّساءِ... إلخ؛ تجاوَزَ الأمرُ ذلك كلَّه إلى قَضايا عقديَّةٍ ومَنهجيَّةٍ: كمسائِلَ في نواقضِ الإيمانِ، والوَلاءِ والبَراءِ، والتَّسامُحِ مع المبُتدِعِ، وعَدِّ الأشاعرةِ والماتريديَّةِ هُم أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، والدَّعوةِ إلى فتْحِ الذرائعِ، وغير ذلك ممَّا يُناقِضُ أُصولَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في العَقيدةِ والمنهجِ والاستِدلالِ، كلُّ ذلك ضِمنَ إطارِ ما يَزعُمونَه مِن تَجديدِ الخِطابِ الدِّينيِّ، ورُكوبِ مَوجةِ الإصلاحِ والتغييرِ بحُجَّةِ استغلالِهما قبْلَ أنْ يَستغِلَّهما المُفسدونَ! وكأنَّ الإصلاحَ والتغييرَ لا يَكونانِ إلاَّ بمُسايَرةِ الواقِعِ المُخالِفِ للشَّرعِ، والانفلاتِ مِن التَّديُّنِ، وهذا -مع الأسفِ- هو عينُ ما يَزعُمُه دُعاةُ التحريرِ!
بلْ تَطوَّرَ الأمرُ عِندَ بعضِهم، فطالتْ كِتاباتُهم، وبلغَتْ سِهامُهم الدَّعوةَ السَّلفيَّةَ، ودَعوةَ الإمامِ المجدِّدِ محمَّدِ بنِ عبدِالوَهَّابِ وأتْباعِه، وأثاروا الشُّكوكَ حولَها، وتجرَّأَ بعضُهم على كِبارِ عُلماءِ هذه البِلادِ ولَمَزوهم.
وظلَّ السُّؤالُ يُعيدُ نفْسَه: هلْ آنَ الأوانُ لنَصدَعَ بالحَقِّ، ونُبيِّنَ خَطأَ إخوانِنا هؤلاءِ، أم نظَلَّ ساكتِينَ حتَّى تغرَقَ السَّفينةُ، وتَنهدِمَ الصروحُ الشامخةُ التي بُنيتْ عبْرَ عُقودٍ؟!
وقدْ آنَ الأوانُ أنْ يَتدارك أهلُ الحقِّ الأمْرَ قبْلَ فَواتِه، ويُفنِّدوا شُبهاتِ هؤلاءِ عَلَنًا كما نشَرُوها علَنًا، وأنْ يَصدَعوا بالحقِّ كما صدَعوا هم بما يَظنُّونه حقًّا؛ فحَديثُهم عن كِبارِ العُلماءِ، والمؤسَّسةِ الدِّينيَّةِ وتأثيرِها إنَّما يَنصَبُّ على مَدرسةِ الإمامينِ ابنِ باز وابنِ عُثَيمين -رحِمهما الله- ومَن سارَ على طريقتِهما مِن العُلماءِ وطُلَّابِ العِلمِ والدُّعاةِ، وقدْ كانتْ طَريقةَ هُدًى ورَشادٍ، مِن غيرِ ادِّعاءِ العِصمةِ لهم مِن الخَطأِ.
لذلك وجَبَ الصَّدعُ بالحَقِّ في وَجهِ هذا التيَّارِ نَصيحةً للهِ ولرَسولِه، ولأئمَّةِ المسلِمينَ وعامَّتِهم، وبَيانًا للدَّليلِ وأَوْجهِ الاستدلالِ به عِندَ أهلِ النَّظرِ مِن أهلِ الرُّسوخِ مِن العُلماءِ وطُلَّابِ العِلمِ، وحِفاظًا على مُكتَسباتِ الأُمَّةِ خِلالَ هذه العُقودِ، فإنَّ كلمةَ الحقِّ لا بدَّ لها مِن سامِعٍ، وإنَّ مُقاومةَ الأخطاءِ المتكرِّرةِ بالعِلمِ والبَيانِ، وإقامةِ الحُجَّةِ، عَهدٌ عَهِدَه اللهُ إلى أهْلِ العِلْم، لكنْ يَنبغي أنْ يكونَ ذلك برِفقٍ وعدْلٍ وعِلمٍ، دون تَعصُّبٍ لأحدٍ، وألَّا يَشْغَلَنا الردُّ عليهم عن الردِّ على أهلِ الباطِلِ الصِّرفِ مِن المُبتدَعةِ والعَلمانيِّين واللِّيبراليِّين كما شُغِلوا هم -وللأسفِ- عن ذلك!
قال الإمامُ أحمدُ: إذا سكَتُّ أنا، وسَكتَّ أنتَ؛ فمتَى يتبيَّنُ الحقُّ؟!
أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُثبِّتَنا على دِينِه وسُنَّةِ نبيِّه، وأنْ يَرُدَّهم إلى الحَقِّ ردًّا جميلًا؛ إنَّه وليُّ ذلك والقادِرُ عليه.
وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وصحْبِه وسلَّمَ،،