الدَّاعيةُ القُدوةُ والسَّفرُ للسِّياحةِ
عَلَوي بن عبد القادِر السَّقَّاف
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
فقد ظهَرَ على بعضِ طُلَّابِ العلم والدُّعاةِ في السَّنواتِ القليلةِ الماضيةِ بعضٌ من الظواهِر السلبيَّة، كان مِن أبرزِها- وربَّما أخطرها- تراجُعُ عددٍ منهم عن أخْذ الدِّين بقوَّةٍ، ومُجاهدةِ النَّفسِ في السَّيرِ على خُطَى أسلافِهم من أهلِ العِلمِ والدَّعوة في القيامِ بأمْر الشَّريعة، وتعظيمِ شعائرِ الله تعالى؛ الأمْر الذي لا يُنكره إلَّا مكابرٌ، ولعلَّ مِن أهمِّ أسباب ذلك التراجُعِ: تكالُبَ أعداءِ الإسلام من خارج بلاد المسلمين ومِن داخلِها على شأنِ هذا الدِّين، وكثرةَ النقد اللَّاذعِ للمنهج الإسلاميِّ الصَّحيح، ثمَّ ما صاحَبَ ذلك من نَقْدٍ آخَر ذاتيٍّ، كان أكثرَ ميلًا إلى الهدْم منه إلى البِناء، لا سيَّما مِن بعضِ الدُّعاة الذين اعتورَهم شيءٌ من الهزيمة النفسيَّة، ناهيك عن شُيوع فتاوى برامج الفضائيَّات، والمعتمِد بعضُها على ما يُسمَّى بالتيسيرِ، بصَرْف النظر عن الدَّليل؛ الأمر الذي أَنتج تراجعًا عند بعضِ طُلَّابِ العلم والدُّعاة عن ذلِك النَّهجِ الذي كانوا عليه إلى نهْجٍ آخَرَ هجينٍ، بين التميُّع والتميُّز..
كلُّ ذلك وغيره أدَّى إلى هذا الضَّعفِ العامِّ الذي نشهَدُه اليوم، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بتميُّز أولئك الدُّعاة في عِبادتهم وخُلُقهم ومُظهرهم، وربَّما طريقةِ تعاملهم مع قضايا الشريعة وأمور الدَّعوة؛ ممَّا أدَّى إلى إفرازِ كثيرٍ من الظواهرِ المتعدِّدة والمؤلِمة، التي لم تكُنْ تُعهَدُ من قَبلُ.
وما ظاهرةُ السَّفرِ إلى خارجِ البلادِ المحافظةِ التي يَعيشون فيها، إلى أخرى مُغايرةٍ تمامًا لتلك الطبيعةِ المحافظةِ، لا لشيءٍ غير مُجرَّد ما يُعرَف بالسياحة، أو التَّرويحِ عن النَّفْس؛ إلَّا ظاهِرة مِن هذه الظَّواهر المُؤلِمة.
وهنا أُنبِّهُ إلى أنَّ الَّذين لا يَكترِثُون لهذا التميُّزِ أصلًا، لَيْسوا هم المَقصودين بهذا الحديثِ، وإنَّما المقصودُون أولئك الذين اعتادوا أخْذَ هذا الدِّين بقوَّة؛ {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:145]، وأقاموا الشريعةَ بمَأخذِ الجِدِّ، فحَمَلوا همَّ طلب العلم والدعوةِ شُهورًا متتابعة، طِيلةَ العام، باذلِيَن أوقاتَهم وجُهدَهم، مُنشغلِينَ بهما عن ترفيهِ أنفسِهم وأهلِ بيتِهم وأبنائِهم؛ فلا شكَّ أنَّ مِثل هؤلاء قد يَجِدون في أنفسهم، وفي مَن يعولون من أهلٍ وذريَّةٍ، حاجةً إلى شيءٍ من الترفيهِ عن النفس بسفرٍ أو نُزهةٍ، أو ما شابه ذلك، وما من شكٍّ كذلك أنَّ هذا أمرٌ مباحٌ لا بأسَ به، وقد يكون مطلوبًا أحيانًا.
فالأصلُ في السَّفر الإباحةُ، وقد يكون أحيانًا مندوبًا أو واجبًا، ومرادُنا في هذه المقالةِ القصيرة ذلك السَّفرُ والانتقالُ إلى بلادٍ يَكثُر فيها الفسادُ والمنكر، مِن تبرُّجٍ وسُفورٍ، وتناول للخُمور، وغيرها ممَّا لا يَخفى على أحدٍ، كل ذلك وهذا القدوةُ المسافِر إلى تلك البلاد، يَشهَدُ ذلك كلَّه أو بعضَه، لكنَّه عاجزٌ عن إنكارِ شيءٍ منه، بل قد يلجأ إلى المكوثِ في موقِع حدوثِ المنكر- كالمطارات، وأماكن التسوُّق، وبعض المطاعِم، والطُّرُقات- ساعاتٍ طوالًا، مُشاهِدًا، أو مستمعًا، وترَى كثيرًا من هؤلاء يتذرَّع بشُبهٍ واهيةٍ، لعلَّ مِن أبرزها: أنَّهم في رحلةٍ إلى بلادٍ إسلاميَّة، مع أنَّ واقعَ كثيرٍ من هذه البلاد- للأسف- لا يختلفُ كثيرًا عن أكثرِ بلاد الكفَّار، من حيثُ مظاهرُ التبرُّجِ والسفور، والعُريِّ، وتناوُلُ الخمور، وفشوُّ المنكرات.
ثم إنَّ المرءَ ليَعجَبُ من قيامِ البعضِ منهم بحَثِّ الآخَرين على الذَّهابِ إلى تلك البلاد، مُتذرِّعين بحُجةِ كونها بلادًا إسلامية! ولم يُفرِّقوا بين ما يُمكن أن يُقال للمُفرِّطين من المسلمين الذين يُريدون الذَّهابَ إلى بلاد الكُفر، وبين ما لا يَنبغي على الدُّعاةِ وطلَّاب العلم فِعلُه لا سيَّما مَن هم في موطنِ القدوة!
وكم هو نفيسٌ كلامُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله عن حُضورِ الأماكن التي تَكثُر فيها المنكرات، مع العجزِ عن إنكارها- وهذا يَشمل السفرَ والحضَر-؛ يقول رحمه الله في مجموع الفتاوى (28/239) : ((ليس للإنسانِ أن يَحضُرَ الأماكنَ التي يَشهَدُ فيها المنكراتِ ولا يُمكنه الإنكارُ، إلَّا لموجبٍ شرعيٍّ؛ مثل أن يكونَ هناك أمرٌ يحتاج إليه لمصلحةِ دِينه أو دُنياه لا بدَّ فيه من حضوره، أو يكون مُكرَهًا، فأمَّا حضوره لمجرَّد الفُرجة وإحضار امرأته تُشاهِد ذلك؛ فهذا ممَّا يَقدَحُ في عَدالتِه ومُروءته إذا أصرَّ عليه، واللهُ أعلم)) انتهى.
وهذا مبنيٌّ على ما هو مستقِرٌّ ومعلومٌ من الشريعة بأنَّ الأصل وجوبُ الإنكار باليدِ، أو اللِّسان- والغالب أنَّ ذلك متعذِّرٌ في أكثرِ تلك البلاد- فإنْ لم يُمكن، فإنكارُ القلب هو أضعفُ الإيمان، والإنكارُ بالقلب- كما قال العلماءُ- يكونُ ببُغض المنكر وهِجرانه والبُعدِ عنه، لا بالذَّهابِ إليه اختيارًا دون مصلحةٍ دِينيَّة أو دُنيويَّة راجحة، كما هو ظاهرٌ مِن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرِه؛ فمِن تلك المصالِحِ الدِّينيَّة: طلبُ العلم، والدعوةُ إلى الله، ومِن الدنيويَّة: العلاج المتعذِّر في بلادٍ تخلو من تلك المنكَرات، والتجارة التي لا بدَّ منها، ونحو ذلك، أمَّا مجرَّد الذَّهاب لغرضِ الفُرجة، أو النُّزهة، أو السِّياحة؛ فليسَ من ذلك في شيءٍ؛ فكيفَ بمَن يذهبُ بزوجته وأبنائِه وبناتِه الذين بلَغ بعضُهم سِنَّ المراهقة؟!
ولو أنَّ الداعيةَ القدوةَ تأمَّل تلك المحاذيرَ الشرعيَّة والمفاسد الأخلاقيَّة المترتِّبة على هذا النوع من السفر، لأعاد النظرَ فيه، أو تردَّد قبلَ الإقدام عليه، لا سيَّما مع وجود نوعٍ آخَرَ من المنكَرات، كرُؤيةِ الرِّجالِ لصُور زوجتِه وبناتِه، في جواز السَّفر عندَ نِقاط التَّفتيش، ومعابرِ الحدودِ وغيرها، ومن ذلك أيضًا: اعتيادُ أبناء الدُّعاة وبناتهم واستمراؤُهم مشاهدةَ تلك المنكَرات.
ومِن جِهةٍ أخرى فإنَّ تَكرار مِثل هذا السفر، يُولد لدى أسرة الداعية رغبةً في مزيدٍ منه؛ حبًّا في التعرُّف على بلد جديد، أو ثقافة مختلفة؛ ولذلك قلَّما ترى مسافرًا لهذه الأماكن عامًا إلَّا وتراه يسافر العامَ أو الأعوام التي بعدَه، وممَّا يُؤسَف له أنْ ترى كثيرًا من أبناء أولئك الدعاة وبناتهم وأُسرهم يتفاخرون بأسفارِهم تلك، بنشْر صُوَرهم وصُوَر الأماكن التي زاروها عبر (السناب) وغيره، حاثين غيرهم على زيارتها، ولنا أن نتخيَّل حالَ ذلك الجِيل الذي يُمثِّلُ فيه أبناءُ طُلَّابِ العلم والدعاة وبناتُهم محطَّ النظر، ومقصدَ الاقتداء.
وهنا نُخاطب إخوانَنا هؤلاء قائلين:
إذا كان لا يَسوغُ لنا التوسُّعُ في فِعل المباح في بعض الأوقات؛ فكيف يسوغُ لنا الإقدامُ على فعلٍ، أقلُّ ما يُقال فيه: إنَّه من المشتبِهات المفضيةِ إلى الحرام؟!
قال الأوزاعيُّ رحمه الله: (كنَّا نمزحُ ونضحك، فلمَّا صِرنا يُقتدى بنا, خشيتُ ألَّا يسعنا التبسُّمُ) (سير أعلام النبلاء 7/132)
و قال ابن القيِّم في (مدارج السالكين 2/26): (قال لي يومًا شيخُ الإسلام -قدَّس الله رُوحَه- في شيء من المباح: هذا يُنافي المراتبَ العالية، وإنْ لم يكن تركُه شرطًا في النجاة).
فنصيحتي لهؤلاء الدُّعاة -وكذا الداعيات- أن يُعيدوا النظرَ في أسفارهم تلك، ولْيتذكَّروا أنَّ ثمَّةَ مَن يَقتدي بهم، وربما قلَّدهم في أفعالهم وتصرُّفاتهم، وأنهم بتصرُّفهم هذا يُسيئون لأنفسهم، ولأبنائهم وبناتهم، ولدعوتهم ولطلَّابهم ومَن يَقتدي بهم، ولْيبحثوا عن بدائلَ في أوطانهم تتناسبُ مع مقامهم الذي وضَعَهم اللهُ فيه، وهي كثيرةٌ ومتوفرة، ولله الحمدُ.
وأخيرًا:
قد يقولُ بعضُ هؤلاء: إنَّ حجمَ التغيُّرات التي يشهدها العالم الإسلامي تتجاوز الحديثَ في مِثل هذه الموضوعات؛ فبلادُ المسلمين تُحتَلُّ وتُدَمَّر، وأنت تتحدَّث عن ظواهرَ سلبيَّةٍ عند بعض الدعاة وعن سَفرهم للسياحة!
فأقول: إنْ كان الأمرُ كذلك-وهو كذلك- فكيف يسوغُ لكم السفرُ للسياحةِ والنزهةِ وصرْفُ الأموال فيها؟!
وقد يقولُ آخَرون: إنَّ الزمان قد تغيَّر، والمنكرات موجودة في كلِّ مكان.
فأقول: وهل السفرُ للسياحة، ومخالطةُ المنكرات، وضياعُ الأموال والأعمار يُصلِحُ فسادَ المجتمعات؟! ألسْنا الآن أحوجَ مِن ذي قبلُ إلى تميُّزنا وتمسُّكنا بدِيننا؟!
اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ، وميكائيل، وإسرافيل، فاطرَ السَّموات والأرض، عالم الغيبِ والشهادة، أنت تحكُم بين عِبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِنا لِمَا اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك؛ إنَّك تَهدي مَن تشاء إلى صِراط مستقيم.