خبراء في الفكر والفلسفة ولكن !
الشيخ خباب بن مروان الحمد
13 رجب 1431هـ
نجتمع أحياناً في بعض النوادي الثقافية واللقاءات الفكرية، أو من خلال اللقاءات على الشبكة العنكبوتيَّة، نتطارح مع بعض الشباب أحاديث فكرية، وطروحات معرفيَّة، وهموماً نهضوية وتنمويَّة، فأجد لدى الكثير من الشباب إقبالاً كبيراً على المطالعة والمباحثة ومحبَّة الحوار، حتَّى ويكأنَّ المرء يشعر أنَّ مثل هذه النقاشات صار كثير منها متكلفاً، فالمهم أن نتحدث ونتناقش ونتبادل الآراء، ثمَّ بعد ذلك نمضي في أعمالنا وهمومنا الحياتيَّة مع قلَّة تطبيق وحسن عمل، وهذه مشكلة، يمكن أن نطلق عليها بإشكالية الترف الفكري، والغثاء الثقافي الذي يعيشه بعض الشباب المثقف والطامح لأن يكون يوماً ما مفكراً أو مثقفاً.
وعلى أيَّة حال فإنَّني ألحظ ساعة مناقشاتي مع بعض الشباب العربي والمسلم، والمتحمس للقراءة في المجالات الثقافية والفكرية والفلسفيَّة أنَّهم يعدُّون كمَّاً هائلاً من كتب ومدونات الكثير من مفكري الشرق والغرب، ولا يُعجزهم أن يتحدَّثوا حول جماليات منطق أرسطو، وتعريفات سقراط، ونظريات أفلاطون، وعبارات فيثاغورس، وقوانين دور كايم، وحكم فولتير، ويحشد لك عدداً من الأسماء كسبينوزا، جون لوك، ايراسموس، جان جاك روسو، مونتسيكو، ديكارت، توماس هوبز، جون ستيوارت ميل، ديدرو، لبطليموس، ابكتيتوس، مارتن لوثر، غاندي، والقائمة تطول بأسمائهم، فلها في قلوبهم بهجة كبيرة، حتَّى بتُّ أشعر حالة نطقهم لأسماء أولئك القوم بأنَّهم يعيشون حالة من الزهو والخيلاء، التي تُشعرهم بأنَّهم قوم مثقفون قد نالوا قسطاً كبيراً من الثقافة والقراءة في أفكار الغير.
هاتفني أحدهم قائلاً: أحب المطالعة في هذه الكتب الفكرية والفلسفيَّة، وكتب النظريات الغربية.
فقلت له: وما سر هذا التركيز وأنت شاب يافع؟
فأجاب: إنَّه لابدَّ لنا أن نتعلم نظريات الغرب لكي ننقدهم وننتبه من خطورتها، ويستدل بالحديث:(الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها كان أحق الناس بها)
[1] وأنَّ الشاعر العربي أبو فراس الحمداني قال:
عرفت الشر* لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير* من الشر يقع فيه!
وأنَّه رُويَ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال "تُنقض عرى الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية"
[2].
إلى غير ذلك من الاستدلالات والرؤى التجميعيَّة بحشد النصوص بكليتها لمناصرة
القناعة المدموغة في عقليَّته التنويريَّة!
فنصحته وقلت له: يمكنك أن تهتم الآن بمطالعة كتاب الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيأتي اليوم الذي يمكنك أن تطالع فيه هذه الكتب بعد برهة من الزمن، للاستفادة ممَّا بها من جوانب تراها خيِّرة، ولنقدها فكرياً ومنهجياً، شرط أن تكون لديك حصانة ذاتية ومناعة فكرية.
كان ذلك الأخ مقتنعاً بأنَّ لديه اطلاع جيد بالعلوم الشرعية بحجَّة ما قام بدراسته سابقا، وأنا شخصياً لم أجده بالفعل كما يقول، وحاولت محاورته وإقناعه بمرادي، وقلت له إنَّ كل نفس يعتورها ما يعتورك من ضرورة مطالعة الكتابات والأطروحات الفلسفية والفكرية المنشورة قديماً وحديثاً وما بين الفينة والأخرى، وقد تسَوِّغ النفس لأجل ذلك أسباباً متعددة.... لكن أحسب أنَّ لكل زمن رجال، ولكلِّ مرحلة أهلها، واستباق الأحداث والوقت غير المناسب لفعل شيء ما يضير أكثر ممَّا ينفع....
قناعات بديلة:
أعتقد أنَّ من الأهمية بمكان، الصيرورة إلى توجيه العقول إلى ما يمكن أن تنتفع به ويكون ركناً ركيناً، وأصلاً أصيلاً في عمليَّة التلقي، وهو التركيز على قضية أحسب أنَّها ذات أولوية في صياغة وتشكيل العقل العربي والمسلم وفي هذا الزمان خصوصاً...
تلك
القناعة التربوية التي لازلت متشبِّثاً بها وصادحاً بها في مجامع الشباب المثقف، قائلاً:
وأين نصيب القرآن والسنَّة وكلام الصحابة والتابعين من مطالعاتكم؟
وهل حاولتم أن تجمعوا مثلا أقوال الصحابة في طرق النهضة بأمتنا؟ وتستخرجوها من مظانها من كتب الآثار والمسانيد وإسقاط ذلك على الواقع المعاصر؟
أو قمتم بجمع آثار التابعين في ضرورة التنمية الاجتماعية والحراك العملي الخدوم في المجتمع؟
وهل فتَّشتم في كتب سلفنا وآثارنا وتراثنا عن مظاهر التفكير الإبداعي وخدمة الأمَّة المسلمة فيه وخصوصاً من فئة الشباب؟
وهل طالعتم كتب التأريخ والسير والمغازي وجمعتم الأسباب الحقيقيَّة لالتهاء الشعوب بأمر دنياها وقيام قلَّة قليلة منها بمقاومة النتوءات الفكريَّة، والخروقات الثقافات، وماذا كان دور عموم الناس في مناصرة علمائهم ومفكريهم حينما يصدعون بالحق، وما أسباب وقوفهم من عدمه؟
إلى غير ذلك ممَّا يخدم أمَّتنا وواقعها الفكري المعيش، وخصوصاً حينما ندرك أنَّ (العمل الجوهري للمفكر هو صناعة المفاهيم)
[3]، وهي الطريقة الفعليَّة للاستنباط من تلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثير من المفاهيم التي تهمنا في مجتمعنا بشتَّى اهتماماته.
وبالطبع كنت أجد الجواب مختلفاً بين ألسنة الشباب، ولكنّي وجدت إجماعاً واضحاً على التقصير بقراءة كتاب الله ومطالعة التفاسير لفهمه، وما في سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يمكن الاستعانة به من شروحات كتب الحديث لفهم معانيها .
ووجدت بعضهم وكأنَّ الأمر لا يعنيه، فهو يفهم القرآن وقد قرأه سابقاً لمرة أو مرتين، وقرأ الأربعين النووية وشيئاً من رياض الصالحين، ولكنَّ الأهميَّة الكبرى لديه الآن في مطالعة الكتب الفلسفية وغيرها من المفاهيم التي تتحدث عن الديناميكية والحيوية والارستقراطية والأتوقراطية والثيوقراطية والبيوقراطية والمادية الجدلية ونشأة الحضارة، وقراءة تاريخ الصناعة والعمران المدني إلى غير ذلك من اهتمام هو أكبر وأوثق من اهتمامهم بقراءة القرآن والسنَّة.
وهذا بالفعل شيء حاصل فالكثير من هؤلاء باتوا يهربون من مطالعة النصوص الشرعية من كتاب الله وسنَّة رسوله ويستشهدون بها، ويحاولون أن يأتوا بآراء فلسفيَّة وحجج كلامية، وأحسنهم حالاً من لا يأبه بذكر النصوص الشرعيَّة بل يهتم بالمقاصد وفقه المقاصد، ويحاول أن يقفز على هذه النصوص بما يراه هو أنَّه من مقاصد الشريعة، وعندئذٍ تذكرت قول الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم"
[4].
إنَّ ما ذكرته من حالة مأساوية وقع فيها الكثير ممَّن يعدون أنفسهم فلاسفة وأهل رأي حصيف وفكر مكين، لكنَّ إدبارهم وإعراضهم عن الاهتمام بنصوص الوحيين تأملا وتدبراً وتفكراً وإسقاط هذه النصوص على الواقع، ومعالجة الواقع بالأدلة الشرعية بات شيئاً ضعيفاً، وصار الكثير منهم يستروح للحديث الإنشائي أو لذكر حِكَمِ وتجارب الفلاسفة، ومن لطائف ما حصل أثناء كتابتي لهذا المقال أن أرسلته لأحد أصدقائي المصريين المثقفين والمتميزين في المجالات الفكرية والفلسفيَّة، وحينما قرأ المقال وانتهى منه أرسل لي رسالة يقول فيها:(لكني أوافقك تمام الموافقة فيما ذهبت إليه، ووالله إني لأعاني من ذلك في الجمعية الفلسفية التي أحضر ندوتها كل شهر والتي يرأسها الدكتور حسن حنفي؛ حيث لا كلام إلا عن الغرب وأعلامهم، ومذاهبهم من الكلاسيكية حتى الحداثة وما بعد الحداثة... كلها أمور تقسي القلب إلى جانب أنها لا تقيم نهضة للأمة!)
فليكن الفكر منطلقاً من أساس متين:
قد يقول قائل: وهل يُراد من عموم الشباب العربي المسلم المثقف أن يكونوا علماء في الشريعة، فإنَّ هذا لا يتأتَّى ولا يمكن، ونحن بالفعل بحاجة لشباب مثقف ومفكر؟
وبالطبع، فإنَّ الأمَّة الإسلاميَّة ليست بحاجة للعلماء الفقهاء فحسب، بل هي كذلك بحاجة للشباب المثقف الواعي والمفكر بقضايا أمَّته والذي يندمج في واقعها الحيوي ويناقش مشاكلها بعمق وموضوعية وشفافية، لكن مع وجوب المواظبة على ورد يومي من قراءة كتاب الله وشيء من تفسيره مع التدبر بما فيها، ومطالعة شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وقراءة سيرته العطرة، فالمنتسبون لأمَّة الإسلام يجب عليهم أن يكون لديهم التصاق تام بهذا الإرث (كتاباً وسنة) فهو عصمة لهم من الفتن، ووقاية لهم من مضلات الأهواء، خصوصاً حينما يحسن القارئ لهما التعامل معهما .
إنَّ الإشكالية الكبرى لدى هؤلاء أنَّهم يظنُّون أنَّ القرآن الكريم ما هو إلا حديث عن الغيبيات أو كما قال أحدهم عن الميتافيزيقيا فحسب، وأمَّا غير ذلك من الأجوبة التي تعنى بأمور تنظيم العبادة بين العبد وربه، وإعمار الكون بالإيمان والبنيان، والسير في الأرض، والأمر بالعدل وإنكار الظلم، وتزكية الأنفس، وتكوين الأسرة الصالحة، وإثبات كرامة الإنسان، والدعوة إلى
التعاون على البر، ليست في وارد ذهنهم إطلاقا، فلا يظنَّون القرآن إلا مجرد بكائيات فحسب!
لأجل ذلك يقول بعضهم: انظروا في الكتب الأخرى والأفكار الأخرى، فهي التي تُفَتِّقُ الذهن، وتوسع مدارك العقل، وكأنَّ القرآن أغفل الحديث عن الكثير من الجوانب التي تصلح الكون والإنسان والحياة، وقد أحسن الإمام ابن القيم حين تحدث عن أمثال هؤلاء فقال عن القرآن ومن لا يعتنون به: " أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلو فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن كتناوله لأولئك " [5].
فكان للمهتم بالفكر أن يهتم بالذكر:
أعجب ويحقُّ لي العجبُ من شدَّة هوس بعض الشباب العربي المسلم بقراءة كتب المفكرين الغربيين وأقوال الفلاسفة اليونانيين، وهم في الحقيقة خلو من مشاهدة وتأمل ما في الكتاب الكريم من آيات وعظات وحكم ومعاني عميقة، وما في السنَّة النبوية المطهَّرة من جوامع الكلم، وسامق الحكم، ورائق العبارات، وبديع المقالات.
هذه مشكلة كبيرة نعيشها مع شباب اليوم المقبل على النوادي الفكرية والصالونات الثقافية ظانين أنَّ مصدر السعادة ومعين الرضا والسرور هو في مناقشة فكر أحد الكتاب أو الفلاسفة الغربيين، وتجد أنَّهم قد يتكلفون ببعض العبارات وحشد الجمل واللفظات وتكديس المصطلحات حينما يتحدثون لكي يقول عنهم القائل: إنَّهم فعلا فلاسفة وحكماء عباقرة !
حتَّى إنني أتذكر واحداً من هؤلاء قال لي يوماً: إنَّ لديه دفترا قريباً منه كان يكتب فيه بعض المصطلحات والعبارات الرنانة التي تستهوي عقله؛ لكي يستخدمها في بعض مقالاته فتجد في المقال حشداً مصطلحياً لربما لو سئل كاتبه ما معنى ما قصدته بالضبط لحار جواباً وأطرق رأساً !
وعلى كُلٍّ؛ فإنَّ من يظنُّ أنَّه في بداية مطالعاته سيهتم بعلوم فلسفيَّةٍ وقراءات في المنطق والفكر الغربي، ويغفل القرآن ويظنُّ نفسه أنَّه بالفعل يريد الجمع والدمج بين الإسلام عقيدة وشريعة وبين ما هو مسطور في كتب الفلاسفة ومزبور في تراثهم، فإنَّه سيكتشف بالفعل أنَّه لن يبلغ النتيجة التي قصدها وخصوصاً إن كان ذلك في بداية مطالعاته، بل يخشى عليه بالفعل من عقائد أولئك الفلاسفة والتي في أغلبها تجاهل لحكمة الرب، وتشكيك في كثير من الغيبيات، وإنكار علم الله الكامل، ونفي معاد الإنسان، فأي فكر فلسفي لرجل يريد أن يُنوِّر المسلمين بفلسفة أولئك الفلاسفة والمناطقة، وكأنَّ في القرآن والسنَّة نقصاً ليس موجوداً إلاَّ في كلامهم، وبعد هذا وذاك يريد ذلك الشخص أن يطلق عليه الناس أنَّه مفكر إسلامي، وهو لربما يكون إلى العلمنة والليبرالية أقرب منه إلى الإسلام، ولهؤلاء أقول وأذكرهم بما قاله المفكر الفرنسي المسلم فنساي مونتاي:(إنَّ مثل المفكر العربي الإسلامي المبعد عن تأثير القرآن كمثل رجل أفرغ من دمه!)
[6].
إنَّ المسلم يجب أن يكون على قناعة تامَّة بعظمة القرآن الكريم، وعظيم عِبَره وحكَمِهِ، وبالرجوع لكتاب المفكر والمؤرخ الإسلامي عماد الدين خليل بعنوان:(قالوا عن القرآن)، لكي يقرأ في هذا الكتاب أولئك الذين تعلَّقت قلوبهم بكلام الفلاسفة ويرى أنَّ كثيراً منهم يشهد بعظمة كتاب الله عزَّ وجل، ومنهم من ساقه ذلك للإسلام، ومنهم من بقي على دينه الباطل، ولكنَّه شهد بما في هذا الكتاب الكريم من آيات ودلائل وإصلاح للواقع ( والحق ما شهدت به الأعداء!)، وهو وإن كنَّا لسنا بحاجة لشهادة غير المسلمين على ما في كتاب رب العالمين، لكن لعلَّه يكون باعثاً لهم على عطف قلوبهم وأفئدتهم وأجسادهم للاعتناء بقراءة كتاب الله تعالى.
نقول هذا لأنَّ هنالك الكثير ممَّن يستهويهم الفكر الفسلفي والقراءة في الكتب الفكرية الغربية، والاطلاع على فكر المدرسة الفرنكوفونية، والوله بالمصطلحات الفلسفيَّة، فهؤلاء في الغالب يبعدون النجعة كثيراً عن مطالعة كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقد يقول بعض الناس إنَّ هذا اتَّهام في غير محلَّه وكيف نبتعد عن الآيات القرآنية؟ ونحن نقرأها ونتعبَّد الله بها؟
إلاَّ أنَّ الشاهد يوضح أنَّ كثيراً ممن انتسبوا للفكر والفلسفة، نجد لديهم لوثة غربيَّة وقراءات فلسفيَّة في كتب الغربيين، مع أنَّهم قد لا يعقلون كثيراً مما جاء فيها، وقد يلوكون بعض العبارات ظناً أنَّهم فقهوها، وهم في المقابل لا يحسنون فهم آيات القرآن الكريم، بل يدخل بعضهم في قوله تعالى:(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها.
فضلاً عن أن يكون قد دخل كثير منهم في قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) فهجروا قراءته وتدبره وسماعه وتلاوته والعمل به والتحاكم إليه والاستدلال به، وهم بالفعل لو كان لديهم نهم وشغف بمعرفة أقوى الكلمات ذات الدلالات العميقة فإنَّهم لن يجدوها إلاَّ في كتاب الله، ولكنَّ كتاب الله عزَّ وجل لن يعطي للإنسان أسراره ومعانيه إلاَّ إذا أعطى المرء من نفسه لكتاب الله الشيء الكبير، والوقت الكثير من التأمُّل والتدبر، فتنهمر عليه الكنوز القرآنيَّة، والبدائع العرفانيَّة، وينطق لسانه بالحكمة.
لقد ذكر المؤرخون لسيرة المفكر الشاعر الباكستاني المسلم محمد إقبال، أنَّه دخل على ولده ذات مرَّة وهو يقرأ القرآن فقال له إقبال ناصحاً: أي بني ! اقرأ القرآن وكأنَّه عليك أُنزِل.
وقد صدق رحمه الله، فإنَّ القرآن تنهمر أسراره وتنفلق وتظهر معانيه وتنطق، لمن قرأه وهو يستشعر بالفعل أنَّ هذه الآيات تخاطبه وتتحدَّث إليه، لكي يقوم بالفعل بأدائها حق أداء، والتفكر في معانيها الباهرة، التي تستعلي على أقول وقيم الشرق والغرب، وصدق الله:(وإنَّ كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون).
إنَّها دعوة للمراجعة الجادة القلبيَّة لجميع المنتسبين للفكر والفلسفة، بأن يبحثوا في سويداء قلوبهم، وهل لديهم شدَّة تعلُّق بآيات القرآن وما صحَّ من أحاديث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أم لا؟
إنَّني على قناعة بأنَّ من تابع كتب ومقالات ومحاضرات فلان أو علان وهو يتحدث بفلسفة ويلوك الكلام لوكاً، فإنَّه ستظهر معه نقولاته لآراء الفلاسفة والغربيين ويدع جانباً الاستناد والاستشهاد بالآيات والأحاديث لمقولاته، فالاهتمام لأي شيء يظهر من خلال تعامل الشخص معه.
قال ابن تيمية رحمه الله:( تجد مَن أَكْثَرَ من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه؛ تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها؛ لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ
الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم ؛ لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير)
[7].
وهذه مشكلة أخرى نجدها عن بعض المنتسبين للفكر الإسلامي من دهاقنة الفكر ورموزه في هذا الزمان، فقد يتطرق بعض المهتمين بالفكر بذكر بعض الجوانب الأخلاقية والسياسية والإنسانية والاجتماعية وغيرها في مقالاته وكتاباته وكتبه، وقد يذكر عشرات الأقوال من المفكرين الغربيين واليونانيين وغيرهم، ونجد من الضآلة بمكان أن يتذكر آية أو حديثاً يذكره في ثنايا بحثه و كتبه ومقاله، ولولا أنني لا أريد التسمية لسميت عدداً من هؤلاء يتقنون فنون ذكر أقوال الكفرة والملحدين من المحسوبين على الفلسفة والمنطق الكلامي، وقلَّما يذكرون آيات من كتاب الله أو سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بدعوى أنّ الآية حمَّالة أوجه، وأنَّ الحديث قد يكون ضعيفاً!
فيا سبحان الله ! إن كانت الآيات حمَّالة أوجه والأحاديث قد تكون ضعيفة أو خبر آحاد (كما يزعم بعضهم) فلم الاستشهاد الكبير والغوص والتنقيب عن أقوال عدد من الكتاب والمفكرين اليونان، ورموز المدارس الكلامية والليبرالية الغربية، واستخراجها ومحاولة بعثها من جديد؟! أم أنَّ كلامهم ليس حمَّالاً لأوجه؟! وأقوالهم ليست إلاَّ من قبيل آحادهم وأفرادهم والتي قد يصيبون فيها ويخطئون!
ومن العجائب والغرائب كذلك أن نجدهم يقولون إنَّ ذكرنا لكلام هؤلاء الغربيين والفلاسفة اليونانيين وغيرهم، لكي يعرف الغربيون أنَّنا نعرف واقعهم، ونتحدث بلغة مفكِّريهم، وما علموا وللأسف الشديد أنَّ كثيراً منهم ـ ولا أقول الكل ـ قد يستخدم أقوال هؤلاء بما قد يستدل به على مفهوم فهمه يكون خاطئاً أو معارضاً لكتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولأجل ذلك وجدنا الكثير من العبارات التي يقولها بعض الناس وما دروا خطورة قولها مع علمي أنَّ بعض من قالها من بعض الفضلاء ولكنَّهم يقولون كلاماً يحتاج لإعادة نظر حينما يتحدثون عن (ديموقراطية الإسلام، ليبراليَّة الإسلامية، اشتراكية الإسلام، الرومانسية الإسلامية) والإشكال الكبير أنَّ كثيراً من منطلقات هؤلاء بالفعل يرونها منطلقات إسلاميَّة ولكنَّهم ما علموا أنَّ هذه العبارات ما هي إلاَّ بعض مما تسلَّق على ذاكرتهم أثناء قراءتهم في أفكار الآخرين!
بل وجدنا واحداً ممن يعتبرون أنفسهم من تيار التنوير الإسلامي، يقول في مقال له بعنوان: (وثنيون هم عبدة النصوص) ويزري على الناس وبعض المهتمين بالمجالات الكتابية والذين يقولون ليتنا نرى في بعض مقالات بعض المفكِّرين نصوصاً قرآنية أو أحاديث نبويَّة مذكورة في مقالاتهم، وبدلاً من أن يشكرهم على نصيحتهم له، يعدُّهم كالوثنيين الذين يعبدون القبور ويشركون بالله، فيتهمهم ويصمهم بأنَّهم وثنيون لأنَّهم على حد زعمه:( عبدة نصوص)!!
وهذا أحدهم يتحدث بأسلوب ملتوٍ، يريد منه النيل ممَّن يستند لقراءة النصوص القرآنية، حيث يقول: (فالأمرُ هنا هو السير في الأرض , وليس السير في الكتاب , أي قراءة الواقع , وليس قراءة النصوص , والظن بأنَّ الاستغناء بالكتاب عن الواقع هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة ثقافية مروعة)
[8].
قلت: هذا وليس من مقصدي في هذا المقال إيعاب القول وحشد جميع ما قرأته في هذا الصدد فلو أردت جمع ما قيل لوجدته أكثر من ( حِملُ بعير وأنا به زعيم)، ولكنَّ هذا دليل ومثال على أنَّ من تربَّى في جو مفعم بالفكر والفلسفة والصحافة والإعلام و(احترام الرأي والرأي الآخر) فإنَّ هذا سينشأ معه ولو كان في يوم ما مفكراً كبيراً أو فطحلاً بطلاً من أبطال الفكر في هذا الزمان..
إنَّ المتعاملين مع القرآن أصناف ونحن نقصد بالتعامل الصحيح هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في التقيد والانضباط بالأصول الكلية التي يرجع إليها لفهم آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وإلاَّ فهنالك قوم يدَّعون أنَّهم (قرآنيون) مع أنهم في حقيقة أمرهم يخالفون القرآن الكريم فيما أمر به ونهى عنه، فما هم إلا (جهال متنطعون) لم يفهموا القرآن والسنة مع مجاهرتهم بضرورة الرجوع للقرآن، فهذا أمر لا يروج على العقلاء ولا يقصده الناصحون لأمتهم والأمناء على عقيدتها.
ولقد قال معاذ بن جبل: (يقرأ القرآن رجلان: فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس، يلتمس أن يجد فيه أمرًا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى. ورجل يقرؤه ليس فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس فما تبين له منه عمل به، وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن فيه فقهًا ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة، فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه، أو يفهمه إياها من قبل نفسه)
[9].
الشاهد أنَّ معرفة المرء بطريقة التعامل مع نصوص الوحي كتاباً وسنَّة تقيه بإذن الله عزَّ وجل من الانحراف الفكري، والتخبط العقلي، ولتكون نصوص الوحي منطلقاً وركيزة متينة لمناقشة الوقائع والحوادث المعاصرة، واستنباط ما يفيد لمعالجتها من كتاب الله وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وفق القواعد الشرعية والأصول الكبرى لفهم نصوص الوحيين.
وبعدها فللمرء أن يتطلع ما يشاء ويريد ويفقه الواقع المعاصر، ويتأمل في حقائق هذا العالَم وما فيه من أفكار وقيم وتصورات.
إنَّ اهتمام المتفكر بالذكر سبيل بإذن الله تعالى لأن ينال الفكر الصحيح والحكمة الحقيقية والحصافة في النظر، وفي هذا يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله: (إنَّ أهل العلم لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر والفكر على الذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة)
[10] ولكن أن يحسن التعامل مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفق قواعد ذكرها أهل العلم في طريقة التعامل مع كتاب الله وسنَّة رسول الله، وسيجد حتماً ما يغذي فكره ويحرك عضلات عقله من معين
الحكمة الربانية وصفاء الكلمة النبوية.
لقد أورد الإمام الشوكاني في تفسيره لمطلع سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت .......الآية)) قصة الفيلسوف العربي الشهير إسحاق بن يوسف الكندي وأصحابه نقلاً عن أبي بكر النقاش رحمه الله أحد المفسرين في القرن الخامس الهجري، حيث قال: إن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلاَّ في أجلاد)!
والمقصود مِمَّا ذكرته أنَّ عبارات القرآن الكريم، وكذلك ألفاظ الحديث النبوي فيها من دلائل الإعجاز وعلائم الإيضاح والحكم، ما يمكن أن نجابه به كلام فلاسفة الشرق الغرب، فالقرآن الكريم يقول تعالى عنه: (إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) وهو كذلك نور: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) والقرآن على حد وصف الشاطبي رحمه الله:(كلية الشريعة، وعمدة الملَّة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، فلا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره)
[11].
بل هو المعجز في آياته: (وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد)
[12] كما قاله الإمام ابن عطية .
فحق لأنصار القرآن والسنَّة أن يصيحوا بين عموم ومعشر المثقفين والقراء وخصوصاً من الشباب المتقدم للقراءة، بأن يبدؤوا القراءة بكتاب الله، فهي وصية الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم التي علَّمه إياها جبريل قائلا له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علَّم بالقلم * علَّم الإنسان ما لم يعلم).
فمن أراد أن يقرأ فليقرأ القرآن أولاً، وليقرأ باسم ربِّه ثانيا، وليقرأ سنَّة وسيرة رسوله ثالثاً، وليتمكَّن من فهم الوحيين كتاباً وسنَّة على الأقل إلى حد معقول، مع دوام الملازمة لهما إلى الممات: (فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين* لمن شاء منكم أن يستقيم)، فمن شاء الاستقامة الدينية والعقائدية فلا غنى له عن القرآن، ومن شاء الاستقامة السلوكية فعليه بالقرآن، ومن شاء أن يستقيم فكرياً فعليه بالقرآن، ومن لم يقنعه القرآن فلا استقام ولا أقام وما تفكر بل طبع على قلبه الران.
والقرآن لأهل الفكر مرجع لا غنى عنه ففي القرآن الكريم أكثر من (1300) آية كونية، وفي كتاب الله أكثر من (700) آية تدعو للتفكر والتعقل والتدبر، فليس من جميع العلوم الإنسانية مثيل بعلوم القرآن وهو كلام الرحمن الذي:( يعطيك معانٍ غير محدودة في كلمات محدودة)
[13]، كما يقول الأديب الرافعي رحمه الله، لكنَّ الإشكال الكبير أنَّنا بتنا نقرأ القرآن (للتبرك لا للتحرك) كما كان يقول الشيخ الراحل محمد الغزالي رحمه الله، وهو بهذا يشرح الحالة النفسية التي يتعامل بها كثير من المسلمين اليوم مع كتاب الله تعالى، فيهتمون به في حالة القراءة على الأموات! فصار الكتاب الذي جاء ليحيي الأحياء يقرأه الأحياء على الأموات ويكتفون بذلك! وهذه حالة عامة في كثير من بيوت العرب والمسلمين ويدخل فيهم الكثير من المنتسبين للفكر والثقافة والفلسفة!
بل تشمئز قلوب بعضهم من حفظة القرآن والسنَّة:
حينما يعلم بعض المحسوبين على الفلسفة والمنطق أنَّك قارئ للقرآن فإنَّه يراك شيخاً درويشاً وأمَّا إن قرأ قصَّة الحضارة لول ديورانت، أو قرأ كتابات فلان أو علان من المفكرين الكبار أو عمالقة الفلسفة الغربيَّة، سينظرون إلى ذلك الرجل أنَّه بالفعل شخص موسوعي، ولديه عمق معرفي وطول نظر، وخذ من هذه الأوصاف فهو الرجل المثقف والحصيف والذي ضرب من العلوم ضرباً واسعاً وقطع بها شوطاً كبيراً، فشابه بعضهم قول الله تعالى: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولَّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأنَّ في أذنيه وقراً).
وقوله تعالى:(وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون).
وقوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم* يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم).
نقول هذا في زمن أدبر الناس فيه بل كثير منهم عن مطالعة آيات القرآن وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وملازمة حلق الذكر، وتذكر الله تعلى من خلال مطالعة القرآن الكريم، والتفكر في هذا الكون الصامت والناطق بأنَّ له إلهاً حقاً هو الله تعالى تبارك وتعالى وتقدس من كلام الكفرة والفجرة.
ولهذا نجد ضلال كثير من ضل بسبب الإدبار والإعراض عن قراءة كتاب الله تعالى، وقد نبَّه الإمام ابن تيمية رحمه الله على ذلك فقال: (وإذا تدبر العاقل وجد الطوائف كلها كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب، كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله ورسوله أبعد، كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية فقال: لا نسلِّم صحَّة الحديث ! وربما قال لقوله عليه السلام: كذا ... وتكون آية من كتاب الله، وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر)
[14].
ومع هذا كلِّه فإنَّا نجد لدى الكثير من المغرمين إلى حد الثمالة بقراءة كتب الفلاسفة والفلسفة، وليتهم يقرؤونها لتقييمها، وإنَّما يقرؤونها ثمَّ يكون مآلهم الأخذ ممَّا بها من أفكار، مع أنَّ هؤلاء الفلاسفة غربيين أو شرقيين ليس في كلامهم ما يفيد إيماناً بالله إلاَّ شيئاً نادراً، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (فإن القوم-أي الفلاسفة- لا يعرفون الله, بل هم أبعد عن معرفته من كفار اليهود والنصارى بكثير, لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية, وهذا بحر علمهم وله تفرغوا, وفيه ضيعوا زمانهم, وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جداً, وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد فلا يعرفون ذلك ألبتة)
[15].
وأخيرا:
إنَّه لم يخطر ببالي كما أرجو ألاَّ يخطر ببال أحد أنَّ ما قلته دعوة مطلقة لعدم الاهتمام بتراث الآخرين، وأفكارهم وقيمهم، ولكنَّ هذه الكتب والآراء لها رجالاتها المتخصِّصون، والذين يسبرون أغوار الكلام، ويعقلون مقاصد الآخرين، أو على الأقل لمن نال قسطاً كبيراً من مطالعة كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم وبشهادة أهل العلم الثقات له بذلك، أما أن يأتي لقراءة هذه الكتب كل من هبَّ ودبَّ ومشى ودرج، فإنَّ هذا أمر لا يستقيم بحال.
نعم ! على من أراد أن يكون يوماً ما صاحب فكر وتنظير، أن يدرك حتميَّة التلازم بين ضرورة الشرعي والاهتمام بطريقة فهم النصوص ومقاصدها من خلال القواعد المقرَّرة في ذلك، وبين فهم العالَم المحيط وسبر أغواره، والسير في آفاقه، والتأمل في كينونته، والتفكر في مخلوقات الرب تبارك وتعالى.
ونحن بالفعل بحاجة ماسَّة لمن يستخدم عقله في الفكر الصحيح، وأن يكون على مستوى المسؤولية في مناقشة أفكار الآخرين من المستغربين والمتفرنجين، فضلاً عن دعاوى المفكرين الغربيين أو اليونانيين المتأثرين بالفلسفة اليونانيَّة ومنطق الإغريق!
ولكن ليس بالإقبال الكبير على الفلسفة والفكر الغربي والتغريبي وضعف مطالعة كتاب الله والسنن والآثار، والتي تؤدي بالشخص في نهاية أمره إلى الشك والضعف في مناقشة أقوال الفلاسفة بل الوقوع في مخالفة السنَّة، لأجل ذلك يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي:(ما جهل الناس واختلفوا إلاَّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطليس)
[16]
ونحن بحاجة للفكرة التي تغرس لدينا المفاهيم، وتصنع لنا القيم، وتستنبط لنا من النصوص روافد فكريَّة منضبطة، فإنَّ (الفكرة قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكّر جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب)
[17] هكذا يقول الراغب الأصبهاني.
ولَكَم شاهدنا في الحقيقة تأثير الكتابات الفكريَّة المعمَّقة والتي تأثَّر بها كثير من شباب الإسلام، وكان لها تأثير كبير على المفكرين المسلمين وغير المسلمين، لكنَّنا بحاجة ماسة إلى الشخصيات التي جمعت شيئاً كبيراً من العلم الشرعي وأوعبت منه مع حسن الفهم والهضم للمعلومات، وتنمية وتربية الملكات، ومن ثمَّ القيام بدراسات تأصيليَّة في مجال الفكر والفلسفة، مع ضرورة وضع خطَّة منهجيَّة علميَّة في التأصيل الفكري كما هو حاصل في التأصيل الشرعي، لكي يتوجَّه بعض الشباب المريد لمثل هذه التخصُّصات من خلال نصيحة خبراء أصحاب منهج وتربية وتوجيه، مع عناية ورعاية، لكي يختصروا عليهم الطريق، ولا يتخبطوا خبط عشواء وحتَّى لا يميلوا مع أخطاء بعض الفلاسفة والمفكرين، بل تكون بنيتهم الفكريَّة ذات أصل وعمق.
وختاماً: فليس لدي مقصد من هذا المقال إلاَّ التنبيه على ضرورة العودة إلى كتاب الله وما صحَّ من سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ووجوبها، للنهل منهما والارتواء من معينهما، ففيهما الشفاء لكل داء، وفيهما الصلاح لكل فساد، وبهما الحق لدحر كل باطل، وفيهما خطاب العقل، ومنظومة المفاهيم والقيم، فمن تربَّى عليهما وعلى مائدتهما ونال منهما قسطاً ونصيباً، فإنَّه ستنهمر على عقله منهما أفكار رائعة، ومعاني خلاَّقة. وبالله المستعان.
[1] ) أخرجه الترمذي برقم (2687) وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه [فيه] إبراهيم بن الفضل المدني يضعف في الحديث من قبل حفظه، وقال العقيلي: منكر، كما في تهذيب التهذيب:(1/151)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترمذي بقوله: حديث ضعيف جدا.
[2] ) انظر منهاج السنة النبوية ( 2 / 398) و(4 / 590 ) وكذلك مجموع الفتاوى ( 10 / 301 ( 15 / 54) وقد وردت في مصنف ابن أبي شيبة وطبقات ابن سعد بغير هذا اللفظ.
[3] ) كيف نفهم الأشياء من حولنا؟ كتاب الدكتور عبد الكريم بكَّار ص7.
[4] ) إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: (1/55).
[5] ) مدارج السالكين لابن قيم الجوزية: (1/343)
[6] ) رجال ونساء أسلموا (5/45)
[7] ) اقتضاء الصراط المستقيم (1/542)
[8] ) جريدة الرياض عدد 10188 في 28/12/1416هـ .
[9] ) مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/394)
[10] ) مفتاح دار السعادة لاين القيم (1/183).
[11] ) الموافقات للشاطبي: (3/ 224).
[12] ) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية (1/57- 58).
[13] ) وحي القلم للرافعي.
[14] ) مجموع الفتاوى (4/96)
[15] ) مجموع الفتاوى (17/330)
[16] ) فضل علم السلف على علم الخلف، لابن رجب، ص99
[17] ) مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني ص 83، 643.