تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
اختلَفَ العلماءُ في مسألةِ الصَّلاةِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد التشهُّدِ الأخيرِ قال ابنُ القيِّم: (أجمَع المسلمون على مشروعيته واختلفوا في وجوبه فيها). ((جلاء الأفهام)) (ص 327). وقال ابن رجب: (ولا نعلم خلافًا بين العلماء في أنَّ الصلاة على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التشهُّد الأخير مشروعة) ((فتح الباري)) (7/354). على قولينِ: القولُ الأوَّلُ: الصَّلاةُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التشهُّدِ الأخيرِ سُنَّةٌ، وهذا مذهبُ الحنفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/108)، ((البناية)) للعيني (2/274). ، والمالكيَّةِ ((الكافي)) لابن عبد البرِّ (1/205)، وينظر: ((تفسير القرطبي)) (14/235)، ((الذخيرة)) للقرافي (2/218). ، وروايةٌ عن أحمدَ ((المغني)) لابن قدامة (1/388). ، وهو مذهب الظاهرية قال ابن رجب: (والثالث: تصحُّ الصلاة بدونها بكلِّ حال، وهو قولُ أكثر العلماء، منهم: أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد وإسحاق - في رواية عنهما - وداود، وابن جريرٍ، وغيرهم). ((فتح الباري)) (5/198). وقال ابنُ حزم: (ونستحبُّ إذا أكمل التشهُّد في كلتا الجلستين أن يُصلِّي على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((المحلى)) (3/50). ، وهو قولُ أكثرِ أهلِ العِلمِ قال ابنُ المنذِر: (ونحن نختارُ أنْ لا يُصلِّي أحدٌ صلاة إلَّا صلَّى فيها على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من غير أن نُوجِبَه، ولا نجعل على تاركه الإعادة، وعلى هذا مذهب مالكٌ وأهل المدينة، وسفيان الثوريُّ، وأهل العراق من أصحاب الرأي وغيرهم، وهو قول جُلِّ أهل العلم، إلَّا الشافعي رضي الله عنه). ((الأوسط)) (3/384). وقال ابنُ قُدامة: (وعن أحمد أنَّها غير واجبة. قال المروذيُّ: قيل لأبي عبد الله: إنَّ ابن راهويه يقول: لو أنَّ رجلًا ترك الصلاة على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التشهد، بطلَتْ صلاتُه؟ قال: ما أجترئ أن أقولَ هذا. وقال في موضع: هذا شذوذٌ. وهذا يدلُّ على أنه لم يوجبها، وهذا قول مالكٍ، والثوريِّ، وأصحاب الرأي، وأكثر أهلِ العِلم؛ قال ابنُ المنذِر: هو قول جُلِّ أهل العلم إلَّا الشافعي). ((المغني)) (1/388). وقال القرطبيُّ: (واختلف العلماءُ في الصلاة على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصلاة، فالذي عليه الجمُّ الغفير، والجمهورُ الكثير: أنَّ ذلك من سُنن الصلاة ومستحبَّاتها؛ قال ابنُ المنذِر: يستحبُّ ألَّا يصلي أحدٌ صلاة إلَّا صلَّى فيها على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنْ ترَك ذلك تاركٌ فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة، وسفيان الثوري، وأهل الكوفة من أصحابِ الرأي، وغيرهم، وهو قولُ جُلِّ أهل العلم). ((تفسير القرطبي)) (14/235). ، واختارَه ابنُ جَريرٍ قال ابن رجب: (والثالث: تصحُّ الصلاة بدونها بكلِّ حال، وهو قولُ أكثر العلماء، منهم: أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد وإسحاق - في رواية عنهما - وداود، وابن جريرٍ، وغيرهم). ((فتح الباري)) (5/198). ، وابنُ المُنذِرِ قال ابنُ المنذِر: (ونحن نختار أنْ لا يُصلي أحدٌ صلاةَ إلَّا صلَّى فيها على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من غير أن نُوجِبَه، ولا نجعل على تاركه الإعادةَ) ((الأوسط)) (3/384). ، وابنُ عبدِ البرِّ قال ابن عبد البرِّ: (ولستْ أوجبُ الصلاة على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فرضًا في كل صلاة، ولكن لا أحبُّ لأحد تركها) ((الاستذكار)) (2/323). ، وابنُ عُثَيمين قال ابن عُثَيمين: (الصَّلاةَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُنَّة، وليست بواجب ولا رُكن، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، وأنَّ الإنسان لو تعمَّد تَرْكها فصلاتُه صحيحة؛ لأنَّ الأدلَّة التي استدلَّ بها الموجبون، أو الذين جعلوها رُكنًا ليستْ ظاهرةً على ما ذهبوا إليه، والأصل براءة الذِّمة. وهذا القول أرجحُ الأقوال إذا لم يكُن سوى هذا الدليلِ الذي استدلَّ به الفقهاء رحمهم الله، فإنه لا يمكن أن نُبطلَ العبادةَ ونُفسدها بدليل يحتمل أن يكون المرادُ به الإيجابَ، أو الإرشاد) ((الشرح الممتع)) (3/311). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال القرطبيُّ: (والدليلُ على أنَّها ليستْ من فروض الصَّلاة عملُ السَّلف الصالح قبل الشافعيِّ، وإجماعُهم عليه) ((تفسير القرطبي)) (14/236). وقال ابنُ بطَّال: (فمَن أوجب ذلك فقد ردَّ الآثار وما مضى عليه السَّلف، وأجمَع عليه الخلف، وروتْه عن نبيِّها عليه السلام؛ فلا معنى لقوله). ((شرح صحيح البخاري)) (2/447). وحَكَى ابنُ بطَّال الإجماعَ، إلَّا خلاف الشافعي؛ فقال: (وقال الطبريُّ، والطحاويُّ: أجمَع جميع المتقدِّمين والمتأخِّرين من علماء الأمَّة على أنَّ الصلاة على النبيِّ عليه السلام، في التشهُّد غير واجبة، وشذَّ الشافعيُّ في ذلك، فقال: مَن لم يصل على النبيِّ في التشهد الأخير وقبل السلام فصلاتُه فاسدة، وإنْ صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا سلَف له في هذا القول ولا سُنَّة يتبعها) ((شرح صحيح البخاري)) (2/447). الأدلَّة: أوَّلًا: من السُّنَّة عن عَلقمةَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ أخذَ بيدِه، وأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخَذ بيدِ عبدِ اللهِ فعلَّمَه التشهُّدَ في الصَّلاةِ، قال: قُلِ: التَّحيَّاتُ للهِ، والصَّلواتُ، والطَّيِّباتُ، السَّلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصَّالحينَ، قال زُهَيرٌ: حفِظْتُ عنه إن شاءَ اللهُ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، قال: فإذا قضَيْتَ هذا أو قال: فإذا فعَلْتَ هذا، فقد قضَيْتَ صلاتَك، إن شئتَ أنْ تقومَ فقُمْ، وإن شِئْتَ أنْ تقعُدَ فاقعُدْ رواه أبو داود (970)، وأحمد (1/422) (4006)، والدارقطني في ((السنن)) (1336) قال الدارقطني في ((السنن)) (2/9): مَن جعل هذا من قول ابن مسعود فقوله أشبهُ بالصواب. وقال الخطابي في ((معالم السنن)) (1/198): اختلفوا في هذا الكلام؛ هل هو من قول النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو من قول ابن مسعود. وقال الحاكم في ((معرفة علوم الحديث)) (84): قوله: ((إذا قلت)) هذا مدرَجٌ في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود. وقال عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (2/273): الصَّحيح في هذه الزيادة أنَّها من قول ابن مسعود. وقال ابن الملقِّن في ((شرح البخاري)) (7/286): هذه مُدرَجة من عند ابن مسعود باتِّفاق الحفَّاظ. وقال العراقي في ((التقييد والإيضاح)) (128): قوله: ((فإذا قلت هذا)) إلى آخِره، فإنَّما هذا من كلام ابن مسعود. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (970): شاذّ بزيادة ((إذا قلت..))، والصواب أنَّه من قول ابن مسعود موقوفًا عليه. ثانيًا: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَّمَ الأعرابيَّ فرائضَ الصَّلاةِ ولم يُعلِّمْه الصَّلاةَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو كان فرضًا لعلَّمَه ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/108). ثالثًا: أنَّ الصَّلاةَ لم تُروَ في تشهُّدِ أحدٍ مِن الصَّحابةِ الذين روَوُا التشهُّدَ ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/108). القول الثاني: الصَّلاةُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فرضٌ في التشهُّدِ الأخيرِ، لا تسقُطُ لا عَمدًا ولا سهوًا، وهذا مذهبُ الشافعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (3/465)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/165). ، والحنابلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/388)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/388). ، وهو قولُ بعضِ المالكيَّةِ، اختارَه ابنُ العربيِّ قال ابنُ العربيِّ: (الصَّلاة على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فرضٌ في العمر مرَّةً بلا خلاف؛ فأمَّا في الصلاة، فقال محمد بن المواز والشافعيُّ: إنَّها فرض، فمَن تركها بطَلَتْ صلاته، وقال سائرُ العلماء: هي سُنة في الصلاة، والصحيح ما قاله محمَّد بن المواز؛ للحديث الصحيح: «إنَّ الله أمرنا أن نُصلِّي عليك؛ فكيف نُصلِّي عليك؟»، فعُلم الصلاة ووقتها، فتعيَّنا كيفيةً ووقتًا) ((أحكام القرآن)) (3/623) ، وبه قالت طائفةٌ مِن السَّلفِ منهم عبد الله بن مسعود، وأبو مسعود البدري، وعبد الله بن عمر، وأبو جعفر محمَّد بن علي، والشعبي، ومقاتل بن حيَّان. ينظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص 330). ، واختارَه ابنُ بازٍ قال ابن باز: (أركان الصلاة، وهي أربعةَ عَشرَ: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقِراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال بعد الرُّكوع، والسجود على الأعضاء السَّبعة، والجلسة بين السَّجدتين، والطُّمأنينة في جميع الأفعال، والترتيب بين الأركان، والتشهُّد الأخير، والجلوس له، والصَّلاة على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتسليمتان). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/291). وفي موضع آخر اختار الشيخ الوجوبَ فقط، وأنَّ القول بالركنية أحوطُ، فقال: (وعلى القول الثاني إنْ ذكر قريبًا سجَد للسهو، وإنْ طال الفصل سقَط عنه السجود، وتمَّت صلاته، وهذا القول أقربُ عندي)، ثم قال: (والأخذ بالقول الأوّل «أي بأنه ركن» أحوطُ؛ لِمَا فيه من العمل بكلِّ الأحاديث، والخروج من الخلاف). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (29/300). الأدلَّة: أوَّلًا: من السُّنَّة 1- عن كعبِ بنِ عُجْرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرَج علينا، فقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، قد علِمْنا كيف نُسلِّمُ عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمَّدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ، كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ )) رواه البخاري (6357)، ومسلم (406). 2- عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ، قال: ((أتانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في مجلسِ سعدِ بنِ عُبَادةَ، فقال له بَشيرُ بنُ سعدٍ: أمَرنا اللهُ تعالى أنْ نُصلِّيَ عليك يا رسولَ اللهِ، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: فسكَتَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى تمنَّيْنا أنَّه لم يسأَلْه، ثم قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ، وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ، كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ في العالَمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، والسَّلامُ كما قد علِمْتُم )) [2458] أخرجه مسلم (405). وفي روايةٍ: ((فكيف نُصلِّي عليك إذَا نحنُ صلَّيْنا في صلاتِنا، صلَّى اللهُ عليك؟)) [2459] أخرجها أحمد (17113)، وابن خزيمة (711)، وابن حبان (1959)، والدارقطني (1/354)، والحاكم (988)، والبيهقي (2963). حسَّن إسنادَه متصلًا الدارقطني، وصحَّحه الحاكم بذكر الصلاة على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصلوات كما في ((السنن الكبرى)) للبيهقي (2/146)، وجوَّد إسناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/134)، وحسَّنه ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/167)، وصحَّحه السخاوي على شرط مسلم في ((القول البديع)) (53)، وحسَّن إسناده الألبانيُّ في ((أصل صفة الصلاة)) (3/906). لكن أعلَّ ابنُ القيِّم في ((جلاء الأفهام)) (68) زيادة: ((إذا نحن صَلَّينا في صلاتنا)) وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ هذا الحديثَ وغيرَه أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصَّلاةِ عليه، والأمرُ يقتضي الوجوبَ، وقد جاء مصرَّحًا في بعضِ الرِّواياتِ أنَّ ذلك في الصَّلاةِ ((مجموع فتاوى ابن باز)) (29/299). ثانيًا: أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ عليه للوجوبِ، ولا موضعَ تجبُ فيه الصَّلاةُ أولَى مِن الصَّلاةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/388). ثالثًا: أنَّ النبيَّ كان يقولُ ذلك في التشهُّدِ، وأُمِرْنا أنْ نصلِّيَ كصلاتِه، وهذا يدُلُّ على وجوبِ فِعلِ ما فعَلَ في الصَّلاةِ إلَّا ما خصَّه الدَّليلُ ((جلاء الأفهام)) لابن القيِّم (ص 349).