المبحث الثالث: الأقارب الذين تلزمُه نفقتُهم
المطلب الأوَّل: دفْع الزَّكاة إلى الأقارب الذين تلزمه نفقتُهملا يَصحُّ صرفُ الزَّكاةِ مِن سهم الفُقَراءِ إلى القَرابةِ الواجبةِ نَفَقتُهم
قال أبو عُبَيد: (الأصلُ في هذا عندي إنَّما هو كل مَن كان عَوْلُه فرضًا على العائِلِ واجبًا لا يسعُه تضييعُهم... فهؤلاء الأهلُ والوَلَدُ، وكذلك الوالدانِ، إذا كانَا ذَوَي خَلَّةٍ وفاقة، فعلى وَلَدِهما الموسِر أن يَعولَهما كَعَولِه ولدَه وأهلَه، بسُنَّةِ ثابتة عن رسولِ الله، وهي قوله: (إنَّ ولَدَ الرَّجُلِ مِن كَسْبِه)، والحديث فيه كثيرٌ مُستفيضٌ). ((الأموال)) (ص: 695)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/141). الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الإجماعِ نقَل الإجماعَ على عَدَمِ جوازِ صرْفِ سهْمِ الفُقَراءِ إلى الوالِدَينِ: ابنُ المُنْذِر
قال ابنُ المُنْذِرِ: (أجْمعوا على أنَّ الزَّكاةَ لا يجوزُ دفعُها إلى: الوالِدَينِ، وفي الحال التي يُجبَر الدافعُ إليهم على النَّفقةِ عليهم). ((الإجماع)) (ص: 48). ، ونقَل الإجماعَ على عَدَمِ جواز صرْفِها إلى الأولاد:
أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سلَّام قال أبو عُبَيد: (ليس من السُّنة أن يُعطِي الوالدانِ وَلَدَهما مِنَ الزَّكاةِ، فلا يجزئ ذلك في قول أحدٍ أعلَمُه). ((الأموال)) (ص: 700). ثانيًا: أنَّ صرْفَ الزَّكاةِ إلى مَن تجِب نفقَتُه عليه: يجلِبُ إلى نفْسِه نفعًا، فهو يوفِّرُ نفقَتَه الواجبةَ عليه، فيقي بذلك مالَه، فكأنَّه دفعَها إلى نفْسِه، فلم تجُزْ، كما لو قضى بها دَينَه
قال ابنُ تيميَّة: (إذا كان القريبُ مِن عيالِه، فيعطيه ما يَستغني به عَنِ النَّفقةِ المعتادة، ففي مثل هذه الصُّورةِ لا يُجزِئُه على الصَّحيح، وهو المنقول عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه، أفتَوْا بأنَّه إذا كان مِن عِيالِه لم يُعطِه ما يَدْفَعُ به الإنفاقَ عليه، حتى لو كان متبرِّعًا بالإنفاقِ على رجُل لم يكن له أن يُعطيَه ما يَقي به مالَه؛ لأنَّه هنا دفَع عَن نَفسِه بالزَّكاة، فأخرَجَها لِغَرَضِه لا لله، والزَّكاةُ عليه أن يُخرِجَها لله، وإنْ لم يكن هذا واجبًا بالشَّرع، لكنَّ العاداتِ لازمةٌ لأصحابِها). ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/371)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/141)، ((المجموع)) للنووي (6/229)، ((المغني)) لابن قدامة (2/482). ثالثًا: أنَّ قريبَه غنيٌّ بنفَقَتِه عليه، وإنما جُعِلَت الزَّكاة للحاجة، ولا حاجةَ إليها مع وجوبِ النَّفقةِ
((المجموع)) للنووي (6/229). رابعًا: أنَّ الوالدينِ والولدَ، والزَّوجة والمملوكَ؛ شركاؤه في مالِه بالحقوقِ التي ألزَمَه اللهُ إيَّاها لهم سوى الزَّكاةِ، ثم جعَل الزَّكاة فرضًا آخَرَ غيرَ ذلك كلِّه، فإذا صرَفها إلى هؤلاءِ كان قد جعَل حقًّا واحدًا يُجزي عن فَرضَينِ، وهذا لا جائِزٌ ولا واسِعٌ؛ فلهذا صار هؤلاءِ خارجينَ مِن أهل الزَّكاةِ عند المسلمينَ جميعًا
((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 695). خامسًا: أنَّ القاعدةَ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يُسقِط بزكاتِه أو بكفَّارَتِه واجبًا عليه
((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/250). المطلب الثاني: دفْع الزَّكاة إلى الأقارب الذين لا تلزمه نفقتُهم يجوزُ دفْعُ الزَّكاةِ للأقارِبِ الذين لا تلزَمُه نفقَتُهم، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّة الأربَعةِ: الحنفيَّة
((حاشية الطحطاوي)) (ص: 473)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/49). ، والمالكيَّة
((التاج والإكليل)) للمواق (2/353)، ((منح الجليل)) لعليش (2/93)، وينظر: ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبدِ البَرِّ (1/324)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/141). ، والشافعيَّة
((المجموع)) للنووي (6/229)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/535). ، والحَنابِلَة
((الإنصاف)) للمرداوي (3/184)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/483). الأدلَّة:أوَّلًا: من السُّنَّةعن سَلمانَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((إنَّ الصَّدقَةَ على المسكينِ صَدَقةٌ، وعلى ذِي الرَّحِمِ اثنتانِ: صَدَقةٌ, وصِلةٌ )) رواه الترمذي (658)، والنسائي (5/92)، وابن ماجه (1844)، وأحمد (4/18) (16277)، والدارمي (1/488)، وابن حبان (8/132) (3344)، حسَّنه ابن قدامة في ((المغني)) (4/319)، وقوَّى إسنادَه الذهبيُّ في ((االمهذب)) (3/1532)، وصحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((تفسير القرآن الكريم)) (8/430). وصحَّحه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (7/411)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (2581). وجه الدَّلالة:أنَّه أطلَقَ كَونَ الصَّدقةِ على ذي الرَّحِمِ صدقةً وصِلةً، ولم يشترطْ ذلك أن يكون في نافلةٍ
((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 695). ثانيًا: لما فيه مِنَ الجَمْع بين الصَّدَقةِ وصِلةِ الرَّحِم
((الذخيرة)) للقرافي (3/141). المطلب الثالث: دفع الزَّكاة إلى الأقارب الذين تلزمه نفقتُهم وهو عاجز عنهايجوزُ دفْعُ الزَّكاةِ إلى أقارِبِه الفُقَراءِ الذين يعجِزُ عن نفقَتِهم الواجبةِ عليه؛ نصَّ على هذا فقهاءُ الحَنابِلَة
((كشاف القناع)) للبهوتي (2/293) ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/463)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/483)، ((الاختيارات الفقهية)) لابن تيميَّة (ص: 456، 457). ، واختاره
ابنُ تَيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (يجوزُ صَرفُ الزَّكاةِ إلى الوالدَينِ، وإنْ علوَا، وإلى الوَلَدِ، وإن سفُلِ؛ إذا كانوا فُقَراءَ وهو عاجزٌ عن نَفَقَتِهم؛ لوجودِ المُقتَضى السَّالمِ عن المُعارِض العادِمِ، وهو أحَدُ القولينِ في مذهَبِ أحمدَ، وكذا إنْ كانوا غارِمينَ أو مكاتَبِينَ أو أبناءَ السَّبيلِ، وهو أحدُ القولينِ أيضًا، وإذا كانت الأمُّ فقيرةً ولها أولادٌ صِغارٌ لهم مالٌ، ونفقَتُها تضرُّ بهم أُعطِيَتْ من زكاتِهم، والذي يخدمُه إذا لم تَكفِه أجرتُه أعطاه مِن زكاتِه إذا لم يستعمِلْه بدلَ خِدمَتِه). ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 456، 457)، وينظر: ((جامع المسائل)) (6/371). ، و
ابنُ عُثيمِين قال ابنُ عُثيمِين: (لو كان غنيًّا يُنفِقُ على أبيه، وأبوه مستغنٍ، إمَّا بنفْسِه، أو بإنفاقِ وَلَدِه، لكنْ عليه دَينٌ يستطيعُ الولَدُ أن يؤدِّيَ الدَّينَ عنه، لكن يقول: أنا أؤدِّي الدَّينَ مِن زكاتي، فيجوزُ؛ لأنَّه لا يجِبُ على الابنِ وفاءُ دَينِ أبيه، اللهمَّ إلَّا إذا كان هذا الدَّينُ بسبَبِ النَّفقة، أي: إنَّ الأبَ يحتاجُ، ويشتري في ذِمَّتِه فلَحِقَه الدَّينُ لِشِراءِ مَؤُونَتِه، ففي هذه الحالِ نقول: لا تقضِ دَينَ أبيك مِن زكاتِك؛ لأنَّ هذا يؤدِّي إلى أن يُضيِّقَ الإنسانُ على أبيه، حتى يستدينَ للنَّفقةِ، ثم يقول: أبي عليه دَينٌ فأقضي دَينه مِن زكاتي؟ فيجوز أن يقضِيَ الدَّينَ عن أبيه، أو أمِّه، أو ابنِه وابنتِه، بشَرْط ألَّا يكونَ هذا الدَّينُ استدانةً لنفقةٍ واجبةٍ على الابنِ، فإنْ كان لنفقةٍ واجبةٍ؛ فلا يجوز). ((الشرح الممتع)) (6/260). وقال: (مسألة: إذا كان الأبُ فقيرًا، وعند الابنِ زكاةٌ وهو عاجِزٌ عن نفقةِ أبيه، فهل يجوزُ أن يصرِفَها لأبيه؟ الجوابُ: يجوز أن يُعطِيَها لوالِدِه؛ لأنَّه لا تلزَمُه نفقَتُه؛ لأنَّ الابنَ لا يملِكُ شيئًا، وهو هنا لا يُسقِطُ واجبًا، والزَّكاةُ إمَّا أن تذهبَ إلى الوالِدِ أو إلى غيره؛ فهل من الأوْلى عقلًا- فضلًا عن الشَّرعِ- أُن أعطِيَ غريبًا يتمتَّعُ بزكاتي ويدفَعُ حاجَتَه، وأبي يتضوَّرُ من الجُوع؟! الجواب: لا؛ لأنَّني لا أستطيعُ أن أُنفِقَ على والدي؛ ففي هذه الحال تُجزِئُ الزَّكاةُ للوالد). ((الشرح الممتع)) (6/251). وقيَّدها ابنُ بازٍ بالدَّينِ، فقال: (حتَّى ولو كان ابنك أو أباك وعليه دَين لأحد ولا يستطيع وفاءه، فإنَّه يجوز لك أنْ تقضيه من زكاتك، أي: يجوز أن تقضي دَين أبيك من زَكاتك، ويجوز أن تقضي دَين ولدك من زكاتك بشَرْط ألَّا يكون سبب هذا الدَّين تحصيل نفقة واجبة عليك، فإنْ كان سببه تحصيل نفقة واجبة عليك فإنَّه لا يحِلُّ لك أن تقضي الدَّين من زكاتك؛ لئلَّا يُتَّخذ ذلك حِيلةً على منع الإنفاق على مَن تجب نفقتهم عليه؛ لأجل أن يستدينَ ثم يقضي دُيونهم من زكاته) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (14/311). وذلك للآتي: أوَّلًا: أنَّ نُصوصَ الكتابِ والسُّنَّة تتناوَلُ القريبَ والبَعيدَ في الإعطاءِ مِنَ الزَّكاة، وامتاز إعطاءُ القريبِ بما فيه مِنَ الصِّلة، وقدْ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((إنَّ الصَّدقةَ على المسكينِ صَدقةٌ، وعلى ذي الرَّحِمِ اثنتان: صَدَقةٌ وصِلةٌ )) رواه الترمذي (658)، والنسائي (5/92)، وابن ماجه (1506)، وأحمد (4/18) (16277)، والدارمي (1/488). حسَّنه ابن قدامة في ((المغني)) (4/319)، وقوَّى إسنادَه الذهبيُّ في ((االمهذب)) (3/1532)، وصحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((تفسير القرآن الكريم)) (8/430). وصحَّحه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (7/411)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (5/34). فالصَّدقةُ في الصِّلةِ أفضَلُ مِنَ الصَّدقةِ المجرَّدةِ
((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/371). ثانيًا: أنَّه لا يَتعيَّنُ أن تجِبَ النفقةُ على أقارِبِه، فقد لا يكونُ للمزكِّي فضلٌ يُنفِقُه عليهم، فإذا حُرِموا الصَّدَقةَ مع النَّفقةِ، كان هذا ضدَّ مقصودِ الشَّارِعِ
((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/371). ثالثًا: أنَّه لو أعطى الزَّكاةَ للإمامِ، فأعْطى الإمامُ أقارِبَه من ذلك جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يَقسِمُها بين المستحقِّينَ فأعطاها أقارِبَه، فكذلك إذا قسَمَها هو
((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/374). رابعًا: أنَّه أوْلى مِن أجنبيٍّ ليس مثلَه في الحاجةِ
((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/371).