الفَرعُ الأوَّلُ: أسبابُ مَوقِفِ المُعتَزِلةِ المُعاصِرينَ من القرآنِ الكريمِ
ثمَّةُ أسبابٌ دَعَت إلى الثَّورةِ من جديدٍ على النَّصِّ الشَّرعيِّ تحتَ ما يُسمَّى بـ "تحديثِ الفِكرِ الإسلاميِّ" وتوالتِ الصَّيحاتُ التي تدعو إلى التَّحريرِ من الماضي.
قال مُوفق الرِّفاعيُّ: (لم يكُنِ اعتزالُ
واصِلِ بنِ عطاءٍ خارِجَ حَلقةِ شَيخِه
الحسَنِ البَصريِّ في جامِعِ البَصْرةِ الكبيرِ مجرَّدَ حَدَثٍ يتناوَلُه المؤرِّخون باعتبارِه مُقَدِّمةً لظهورِ مَذهَبِ الاعتزالِ، أو مجرَّدَ خَبَرٍ يتناقَلُه الرُّواةُ حولَ إشكاليَّةِ المنزلةِ ما بَينَ المنزلتَينِ، وإنَّما كان موقِفًا مُبكِّرًا ومُنحازًا للعقلانيَّةِ بمواجَهةِ النَّقليَّةِ الاتِّباعيَّةِ السَّلَفيَّةِ، واستِباقًا فِكريًّا بُرهانيًّا بمواجَهةِ بداياتِ التَّمهيدِ للعِرفانيَّةِ)
[1701] ((اعتزال الأمس واليوم))، مقال منشور بصحيفة الأوان الإلكترونية بتاريخ 9 ديسمبر 2013م، وهي مجلة تعرف نفسها بأنَّها: من أجلِ ثقافةٍ عَلمانيَّةٍ عَقلانيَّةٍ. .
هذه الدَّعَواتُ للثَّورةِ والانقلابِ على النَّصِّ الشَّرعيِّ وتحريرِ الفِكرِ العربيِّ من السَّلفيَّةِ والنَّصيَّةِ تُسَلِّطُ الضَّوءَ على موقِفِ
المُعتَزِلةِ المُعاصِرين من القرآنِ الكريمِ، وتمجيدِهم لكُلِّ من فعَل ذلك
[1702] يُنظر: ((محمد أركون فيلسوف النزعة الإنسانية في الإسلام))، لصالح، مقال في مجلة الأوان الإلكترونية بتاريخ 20 أبريل 2011م. .
ولعلَّ من أهَمِّ أسبابِ الدَّعوةِ إلى هذه الثَّورةِ على التُّراثِ ما يلي:1- قوافِلُ العائِدينَ إلى المَدرَسةِ السَّلفيَّةِ من المدارِسِ الأخرى، والتَّحوُّلاتُ التي طرَأت على بعضِ أقطابِ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ في هذا القَرنِ، إضافةً إلى استِمساكِ المُسلِمين في مشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها بالوحيَينِ.
2- الدَّعمُ المفتوحُ ماليًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا من قِبَلِ اليهودِ والنَّصارى للمَدرَسةِ العقليَّةِ وأقطابِها المُعاصِرين، الذي تجاوز حُدودَ الدَّعمِ البريطانيِّ لأحمد خان، والفَرنسيِّ لأركون، حتى تُقدِّمَ هذه المَدرَسةُ خِيارًا تنويريًّا للمُسلِمين بدلًا عن الخيارِ الأصوليِّ النَّصِّيِّ الذي لا يمكِنُ أن يلتقيَ معهم في منتَصَفِ الطَّريقِ.
3- الثَّورةُ التِّقْنيَّةُ المُعاصِرةُ؛ فالعالَمُ اليومَ يَشهَدُ تقارُبًا مَعرفيًّا غيرَ مسبوقٍ من خلالِ هذه التِّقْنيَّةِ التي ربطَت الحضاراتِ بعضَها ببعضٍ، وجعَلت الكونَ كُلَّه قَريةً واحدةً، وإذا كانت التَّرجمةُ في عهدِ
المأمونِ قَلَبت الأفكارَ، وبدَّلت المفاهيمَ، وسلَخَت القِيَمَ، وزعزَعَت الثَّوابِتَ عِندَ البعضِ في ذلك الوَقتِ، فكيف بالتِّقْنيَّةِ الحديثةِ؟!
4- الابتعاثُ للدِّراسةِ والتَّدريبِ والعَمَلِ؛ فإنَّ من تأمَّل في تراجِمِ وسِيَرِ وتأريخِ رِجالاتِ
المُعتَزِلةِ من منتَصَفِ القرنِ الماضي إلى هذا القَرنِ، سواءٌ من القادةِ أو الأتباعِ- يُدرِكُ خطورةَ الابتعاثِ للدِّراسةِ أو التَّدريبِ، أو العَمَلِ في الغَربِ أو الشَّرقِ، وقراءةً سريعةً لرموزِ الفِكرِ الاعتِزاليِّ التَّجديديِّ أو التَّنويريِّ أو العَقلانيِّ -كما يُسَمُّونَه- تُثبِتُ هذه الحقيقةَ
[1703] يُنظر: ما كتبه هشام شرابي في كتابه ((المثقفون العرب والغرب)) (ص: 131). ، فهناك فارقٌ كبيرٌ بَينَ ما كتَبوه قَبلَ الابتعاثِ وما كتَبوه بَعدَه، خُصوصًا من كان منهم تحت وِصايةِ مُستَشرِقٍ حاقِدٍ مُغرِضٍ
[1704] محمد أركون نموذجًا؛ فقد كان تحتَ وصايةِ المستشرِقِ روبيرت في معهدِ الدِّراساتِ الشَّرقيَّةِ بجامعةِ باريسَ، ثمَّ احتُضِنَ من قِبَلِ المُستَشرِقِ لويس غاردِيه، ثمَّ شارل بيلا مديرِ المعهدِ. .
ولقد انبَهَر كثيرٌ من المبتَعَثينَ لَمَّا ابتُعِثوا إلى الغَربِ بحضارةِ القومِ؛ فهذا رِفاعةُ الطَّهطاويِّ ابتُعِث في زمَنِ محمَّد علي باشا، ورجع مُتنكِّرًا لدينِ قَومِه، مادِحًا حضارةَ وتمدُّنَ فَرَنسا!
وكذلك
طه حُسَين حين بُعِث إلى فَرَنسا فأُعجِبَ بها، وألَّف كتابَه "في الشِّعرِ الجاهليِّ" الذي ادَّعى فيه أنَّ الإسلامَ دينٌ محَلِّيٌّ لا دينٌ عالَميٌّ!
ومن المُعاصِرين المتأخِّرين محمَّد شَحرور المهندِسُ السُّوريُّ الذي كان مُبتَعَثًا لرُوسيا لدِراسةِ الهَندسةِ المدَنيَّةِ من عامِ 1958- 1964م، واكتَمَل تأثُّرُه بالمُستَشرِقين خلالَ دراستِه في إيرلَنْدا "دُبْلِن" لدراسةِ الماجِستيرِ والدُّكتوراه من عامِ: 1970 -1980م. من كُتُبِه: "الكِتابُ والقُرآنُ" وهو قراءةٌ مُعاصِرةٌ، ونظرةٌ جديدةٌ للإسلامِ، تنطَلِقُ من مُنطَلَقٍ فَلسفيٍّ، ووَضعِ مَنهَجٍ جديدٍ في أصولِ التَّشريعِ الإسلاميِّ يقومُ على البَيِّناتِ المادِّيَّةِ لا الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، ومن كُتُبِه: "نحوَ أصولٍ جديدةٍ للفِقهِ الإسلاميِّ"، وخَلَص فيه إلى أنَّ التَّنزيلَ الحكيمَ تتحَرَّكُ مضامينُه ومُحتوياتُه مع تحرُّكِ السَّيرورةِ التَّاريخيَّةِ والصَّيرورةِ المعرفيَّةِ، على ضوءِ ذلك حدَّد محمَّد شَحرور مفهومَ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، واقترح أصولًا جديدةً للفقهِ الإسلاميِّ، مخالِفًا ما كانت عليه هذه الأُمَّةُ أربعةَ عَشَرَ قَرنًا!