المَطلَبُ الأوَّلُ: مَوقِفُ عُلَماءِ المُسلِمين المُعاصِرين لرُوَّادِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ
ونبدَأُ ذلك بأقوالِ محمَّد الجَنْبيهيِّ صاحِبِ كتابِ (بلايا بُوزا) الذي وضعَه ردًّا على
طه حُسَين في كتابِه (في الشِّعرِ الجاهِليِّ)، ويرمُزُ الشَّيخُ الجَنْبيهيُّ بـ (بوزا) ل
طه حُسَين، وهو اصطلاحٌ فرنساويٌّ، وهي قطعةٌ من الخَشَبِ وَزنُها خفيفٌ ضربَها عُقلاءُ الأقدَمينَ مثلًا لكُلِّ ضالٍّ حائرٍ مغرورٍ ذي لِسانةٍ وسَفَهٍ، فقَدَ مزايا الأُدَباءِ وشَذَّ عن مناهِجِ الفُضلاءِ، متلَبِّسًا بعِنادٍ وإصرارٍ شَيطانيٍّ من حيثُ لا يشعُرُ بما يقولُ ولا بما يعمَلُ، فلا تتوجَّهُ به ميولُه إلَّا إلى مخالفةِ الفُضلاءِ ومعارضةِ الأدَباءِ بما لا يعلَمُ عاقبتَه، ولا يستطيعُ أن يقيمَ على صِحَّتِه دليلًا
[1824] ((بلايا بوزا)) (ص: 28-29). .
وحينما يتحَدَّثُ الجَنْبيهيُّ عن
الأفغانيِّ ومحمَّد عَبدُه فإنَّه لا يتحدَّثُ حَديثَ التَّخرُّصِ والظُّنونِ بل حديثَ من خالطَهما وعاشَرهما، فهو خبيرٌ بهما؛ حيثُ يقولُ: (إنِّي نشأت بَعدَ بلوغِ الرُّشدِ وطَلَبِ العِلمِ في الأزهَرِ الشَّريفِ مُصاحبًا لتلميذِ
جمالِ الدِّينِ الأفغانيِّ ومحاذيًا له قَدَمًا بقَدَمٍ بعدما أتى جمالُ الدِّينِ الدِّيارَ المصريَّةَ، وكثيرًا ما جالسْتُ ذلك الرَّجُلَ وتذاكَرْتُ معه مُذَكِّراتٍ ذكَرْتُها في بعضِ الكُتُبِ، وما كان يدعوني إلى مجالستِه إلَّا صاحبي الذي كان يظُنُّ أن يجذِبَني إلى المَيلِ إلى ما مال إليه من فِتنةِ ذلك الفاتِنِ، وكنتُ أطمَعُ أن أكونَ سببًا في خلاصِه من تلك الفِتنةِ، ولكِنَّ اللهَ غالِبٌ على أمرِه)
[1825] ((بلايا بوزا)) (ص: 38). .
وتحدَّث الجَنبيهيُّ عن الجامِعِ بَينَ دُوَلِ الاستعمارِ وأنَّهم (أُلهِموا أنَّ المتمَسِّكين بآدابِ الدِّينِ القويمِ لن يُغلَبوا ما داموا متمَسِّكين به، سواءٌ كَثُروا أو قَلُّوا؛ لأنَّ المتمَسِّكَ بدينِه مُرتَكِنٌ على قَويٍّ متينٍ لا يُغلَبُ ولا يُقاوَمُ؛ فلذلك أجمعوا رأيَهم على أن يعتَمِدوا على العُلَماءِ السِّياسيِّين منهم في حَلِّ روابِطِ ذلك التَّماسُكِ، فقَرَّر أولئك السِّياسيُّون فيما بَينَهم أنَّ روابِطَ الدِّينِ القويَّةَ لا تنحَلُّ إلَّا بثلاثةِ أمورٍ: استبدالُ العِلمِ النَّافِعِ الذي كان يسألُ رسولُ اللهِ رَبَّه أن يزيدَه منه بالعِلمِ الذي كان يستعيذُ برَبِّه منه، والأمرُ الثَّاني: توليةُ المناصِبِ لغيرِ أهلِها. والأمرُ الثَّالِثُ: إيجادُ أسبابٍ قويَّةٍ توقِدُ نيرانَ العداوةِ والبَغْضاءِ والتَّشاجُرِ بَينَ المُسلِمين حتَّى لا يتمَسَّكوا بدينِهم ولا يتَّفِقوا على عَمَلٍ مُرْضٍ) إلى أن قال: (وبمُقتضى هذه الفِكرةِ السِّياسيَّةِ بُعِث
جمالُ الدِّينِ الأفغانيُّ إلى الدِّيارِ المِصريَّةِ لتنفيذِ مفهومِ تلك الفِكرةِ)
[1826] ((بلايا بوزا)) (ص: 45-46). .
وتحدَّث عن عُلَماءِ الأزهَرِ آنذاك بأنَّهم (أيقَنوا أنَّه -أي:
الأفغانيَّ- من رجالِ الفتنةِ)
[1827] ((بلايا بوزا)) (ص: 47). .
وقال الجَنْبيهيُّ عن محمَّد عَبدُه: (إنَّ الأسبابَ التي جعَلَت ابنَ عَبدُه الغرابليِّ محبوبًا لفُحولِ السِّياسيِّين ولوُلاةِ الأمورِ من الدُّوَلِ المتحالِفةِ على محوِ الإسلامِ اسمًا ورسمًا، وصيَّرَتْه محمودًا عِندَ محرِّري الجرائِدِ الأوربيَّةِ تتمدَّحُ باسمِه، وتعتني بعَمَلِ تَذكارٍ له- هي بعينِها الأسبابُ التي يتناوَلُ بها أستاذُ الجامعةِ المصريَّةِ -يقصِدُ
طه حُسَين- مرتَّبًا كبيرًا بسَبَبِ شهادةِ الدُّكتوراه التي تناوَلَها من أوروبَّا؛ لسَبَبِ عداوتِه للدِّينِ ورجالِه، حتَّى يكونَ إذا أعلَوا شأنَه فتنةً لأبناءِ المُسلِمين)
[1828] ((بلايا بوزا)) (ص: 35-36). !
ويَستَدِلُّ الجَنْبيهيُّ على سوءِ اتِّجاهِ محمَّد عَبدُه الفِكريِّ بعَلاقتِه باللُّورْدِ كرُومَر، فيقولُ: (فهلَّا فكَّرْتَ.. في الأسبابِ التي صَعِدت بمحمَّدِ بنِ عبدُه الغَرابليِّ.. وقد اتَّخَذه جَنابُ اللُّورد كرُومَر أستاذًا ومُرشِدًا في الدِّينِ وفي السِّياسةِ، ثمَّ نعاه بَعدَ موتِه.. فهل كان ابنُ عَبدُه الغَرابليِّ في عصرِه من أكابِرِ المُرشِدين الدِّينيِّين، وكان ذلك اللُّورْدُ متعَطِّشًا لأن يَسلُكَ سبيلَ المؤمنينَ؟ فهل تُفكِّرُ في الأسبابِ التي جعلَتْه محبوبًا لرُؤساءِ الدُّوَلِ المتحالِفةِ على محوِ الإسلامِ اسمًا ورَسمًا؟ وما ذلك إلَّا لأنَّه أجهَدَ نَفسَه في حَلِّ روابطِ المدنيَّةِ الإسلاميَّةِ السَّماويَّةِ)
[1829] ((بلايا بوزا)) (ص: 10). .
ونذكُرُ بَعدَ هذا رأيَ يوسُفَ النَّبهانيِّ، وهو مع رأيِ الجَنْبيهيِّ، كما يقولُ الدُّكتورُ محمَّد محمَّد، وهذا رجُلٌ آخَرُ يكشِفُ حالَهم، ويُعلِنُها للنَّاسِ، وهو الشَّيخُ مصطفى صبري شيخُ الإسلامِ للدَّولةِ العُثمانيَّة سابقًا، يقولُ: (أمَّا النَّهضةُ الإصلاحيَّةُ المنسوبةُ إلى الشَّيخِ محمَّد عَبدُه فخلاصتُه أنَّه زعزَعَ الأزهرَ عن جمودِه على الدِّينِ، فقَرَّب كثيرًا من الأزهريِّينَ إلى اللَّادينيِّين خُطُواتٍ، ولم يُقَرِّبِ اللَّادينيِّين إلى الدِّينِ خُطوةً، وهو الذي أدخَل الماسونيَّةَ في الأزهَرِ بواسطةِ شَيخِه
جمالِ الدِّينِ الأفغانيِّ، كما أنَّه على ما يقالُ -وسيأتي إيضاحُه في هذا الكِتابِ- هو الذي شجَّع "قاسِم أمين" على ترويجِ السُّفورِ في مِصرَ)
[1830] ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)) (1/133-134). .
وقال عن محمَّد عَبدُه: (فلعَلَّه وصديقَه أو شيخَه جمالَ الدِّينِ أرادا أن يَلعَبا في الإسلامِ دَورَ لُوثَرْ وكِلْفِين زعيمَي البُرُوتِسْتَانْت في المسيحيَّةِ، فلم يتسَنَّ لهما الأمرُ لتأسيسِ دينٍ حديثٍ للمُسلِمينَ، وإنَّما اقتَصَر تأثيرُ سَعْيِهما على مساعدةِ الإلحادِ بالنُّهوضِ والتَّجديدِ)
[1831] ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)) (1/144). .