المَطلَبُ الثَّاني: أثَرُ مقالةِ الجَهْميَّةِ على الأشاعِرةِ
أثَّرت
الجَهْميَّةُ في فِرقةِ
الأشاعرةِ في العديدِ من الأصولِ العَقَديَّةِ؛ منها:
1- المُعارِضُ العَقليُّ:فقد تأثَّروا بالنَّزعةِ العقليَّةِ
الجَهْميَّةِ مع تعظيمِهم للنُّصوصِ، خاصَّةً ما بَعدَ
أبي الحسَنِ الأشعَريِّ؛ فقد اختطَّ الباقِلَّانيُّ منهجًا مغايِرًا لمنهجِ
الأشعَريِّ دفاعًا عن المَذهَبِ؛ إذ وضع المقَدِّماتِ العقليَّةَ التي تتوقَّفُ عليها الأدِلَّةُ، كالحديثِ عن العِلمِ وأقسامِه، وعن الموجودِ قديمِهِ وحديثِه، وعن الجوهَرِ والعَرَضِ
[342] يُنظر: (مقالات الجهم بن صفوان وأثرها في الفرق الإسلامية)) لياسر قاضي (1/ 183). .
وهذه المعارَضةُ العقليَّةُ هي في الأصلِ كما قال
ابنُ تيميَّةَ: (من قَولِ
الجَهْميَّةِ و
المُعتَزِلةِ وأمثالِهم، وليس من َقولِ
الأشعَريِّ وأئمَّةِ الصَّحابةِ، وإنَّما تلقَّاه عن
المُعتَزِلةِ مُتأخِّرو
الأشعَريَّةِ لمَّا مالوا إلى نوعِ التجَهُّمِ بل الفَلسفةِ، وفارَقوا قولَ
الأشعَريِّ وأئمَّةِ الصَّحابةِ الذين لم يكونوا يُقِرُّونَ بمُخالَفةِ النَّقلِ للعَقلِ، بل انتَصَبوا لإقامةِ أدلَّةٍ عقليَّةٍ توافِقُ السَّمعَ)
[343] ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 97). .
قال عبدُ القاهِرِ البغداديُّ: (أخبارُ الآحادِ متى صحَّ إسنادُها، وكانت متونُها غيَر مُستحيلةٍ في العَقلِ، كانت موجِبةً للعَمَلِ بها دونَ العِلمِ)
[344] ((أصول الدين)) (ص: 12). .
وقال
الآمِديُّ: (أمَّا قَولُ الحَشَويَّةِ إنَّه لا طريقَ إلى العِلمِ واستدراكِ مَطلوبٍ مِن المطلوباتِ إلَّا بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ففي غايةِ البُطلانِ؛ فإنَّا لو قدَّرْنا عدَمَ وُرودِ السَّمعِ والأدلَّةِ السَّمعيةِ لقد كنَّا نعلَمُ وُجودَ الرَّبِّ تعالى وحُدوثَ العالَمِ وما يتعلَّقُ بأحكامِ الجواهِرِ والأعراضِ، وغيرِ ذلك من المسائِلِ العقليَّةِ، وليس مُدرَكُ ذلك كُلِّه غيرَ الأدلَّةِ العقليَّةِ)
[345] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (4/ 325). .
وقال
الرَّازيُّ: (الاستدلالُ بالخِطابِ لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ، وإنَّما قُلْنا: إنَّه مبنيٌّ على مُقدِّماتٍ ظنِّيَّةٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على نقلِ اللُّغاتِ، ونقلِ النَّحوِ والتَّصريفِ، وعَدَمِ الاشتراكِ، والمجازِ والنَّقلِ، والإضمارِ والتَّخصيصِ، والتَّقديمِ والتَّأخيرِ، والنَّاسِخِ والمُعارِضِ...
الظَّنُّ التَّاسِعُ: نَفيُ المُعارِضِ العَقليِّ؛ فإنَّه لو قام دليلٌ قاطعٌ عقليٌّ على نفيِ ما أشعَرَ به ظاهِرُ النَّقلِ، فالقَولُ بهما محالٌ؛ لاستحالةِ وُقوعِ النَّفيِ والإثباتِ، والقَولُ بارتفاعِهما محالٌ؛ لاستحالةِ عَدَمِ النَّفيِ والإثباتِ، والقَولُ بترجيحِ النَّقلِ على العَقلِ مُحالٌ؛ لأنَّ العَقلَ أصلُ النَّقلِ، فلو كذَّبْنا العقلَ لكنَّا كذَّبْنا أصلَ النَّقلِ، ومتى كذَّبْنا أصلَ النَّقلِ فقد كذَّبْنا النَّقلَ، فتصحيحُ النَّقلِ بتكذيبِ العَقلِ يَستلزِمُ تكذيبَ النَّقلِ، فعَلِمْنا أنَّه لا بدَّ من ترجيحِ دليلِ العقلِ، فإذا رأينا دليلًا نقليًّا فإنَّما يبقى دليلًا عِندَ السَّلامةِ عن هذه الوُجوهِ التِّسعةِ)
[346] ((المحصول)) (1/ 390-407). .
فبالنَّظَرِ لهذا المبدأِ العقليِّ نجِدُ أنَّه لا فَرْقَ بينه وبينَ مبدأِ
الجَهْميَّةِ ومن تابعَهم فيه، ك
المُعتَزِلةِ.
2- القَولُ بالإرجاءِ:مَذهَبُ
جَهْمٍ في الإيمانِ -وهو القَولُ بأنَّ الإيمانَ هو معرفةُ اللهِ- لم يكُنْ له في حياةِ صاحبِه ولا بَعدَ ذلك بزَمَنٍ أثَرٌ بارزٌ في واقعِ الحياةِ لدى النَّاسِ، وإنَّما ظهرت آثارُه وعمَّت بسبَبِ إبرازِ من تبنَّاه من المُتكلِّمينَ، وعلى رأسِهم
بِشرٌ المِرِّيسيُّ، وقد عاش متَّهمًا محارَبًا، لكن بدرجةٍ أقلَّ من حالِ
جَهْمٍ في هذا، ثُمَّ ابنُ كُلَّابٍ، وقد كان متَّهَمًا أيضًا لكنْ بدرجةٍ أقلَّ من حالِ بِشرٍ، ثُمَّ
الأشعَريُّ والماتُريديُّ، وهما اللَّذانِ نشَراه حتى أصبحَ ظاهِرةً عامَّةً
[347] يُنظر: ((مقالات الجهم بن صفوان وأثرها في الفرق)) لياسر قاضي (1/ 263). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (
أبو الحسَنِ الأشعَريُّ نصَرَ قَولَ
جَهْمٍ في الإيمانِ، مع أنَّه نصَرَ المشهورَ عن أهلِ السُّنَّةِ من أنَّه يَستثني في الإيمانِ... واتَّبَعه أكثَرُ أصحابِه على نصرِ قَولِ
جَهْمٍ في ذلك)
[348] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 120). .
3- نَفيُ الحِكمةِ والتَّعليلِ:ذكَر ابنُ فُورَكٍ عن
أبي الحسَنِ الأشعَريِّ أنَّه كان يُحيلُ قولَ من قال: إنَّ اللهَ تعالى يفعَلُ كذا لكذا، أو إنَّ اللهَ تعالى فعَلَ كذا؛ وذلك لإحالتِه أن يفعَلَ اللهُ تعالى الشَّيءَ لعِلَّةٍ أو سبَبٍ
[349] يُنظر: ((مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري)) لابن فورك (ص: 130). .
قال
ابنُ القيِّمِ: (
الجَهْميَّةُ رُؤوسُ الجَبْريَّةِ وأئمَّتُهم أنكَروا حِكمةَ اللهِ ورحمتَه، وإن أقرُّوا بلفظٍ مجرَّدٍ فارغٍ عن حقيقةِ الحِكمةِ والرَّحمةِ، والقَدَريَّةُ النُّفاةُ أنكروا كمالَ قُدرتِه ومَشيئتِه)
[350] ((إعلام الموقعين)) (3/ 96). .
4- نفيُ الصَّلاحِ والأصلَحِ:فأصلُ قَولِ
الأشاعرةِ بأنَّه سُبحانَه لا يفعَلُ ما هو الأصلَحُ لعبادِه، أو لا يراعي مصالحَ العبادِ- مأخوذٌ عن
الجَهْمِ؛ فهم قالوا: (إنَّ اللهَ قد يأمُرُ بما ليس فيه مصلحةٌ البتَّةَ، بل يكونُ ضررًا محْضًا إذا فعلَه المأمورُ به)، ونُقِلَ عن
الجَهْمِ قَولُه: (إنَّ خلْقَ اللهِ وأمرَه متعلِّقٌ بمحضِ المشيئةِ، لا يتوقَّفُ على مصلحةٍ)، فتَبِعه على ذلك
أبو الحسَنِ الأشعَريُّ وأتباعُه
[351] يُنظر: ((المعالم في علم أصول الفقه)) للرازي (ص: 163)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/397) و(1/462). .