الفَصلُ الثَّاني: هل آراءُ الجَهْميَّةِ موجودةٌ في وقتِنا الحاضِرِ؟
للجَهْميَّةِ أثرٌ كبيرٌ في الفِرَقِ التي عاصرَتْها أو لحِقَتْها؛ فقد سرى الأثَرُ الجَهْميُّ عبرَ تلك الفِرَقِ، ولم ينقَطِعْ، حتى وإن انتَهَت
الجَهْميَّةُ كفِرقةٍ مجتَمِعةٍ باسمٍ وأتباعٍ ومنتَسِبينَ إليها، إلَّا أنَّ الأفكارَ
الجَهْميَّةَ والأثَرَ الجَهْميَّ ما زالا مستمِرَّينِ، سواءٌ في جانِبِ التَّعطيلِ أو الجَبْرِ، أو المعارَضةِ العقليَّةِ تجاهَ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وغيرِها من الأصولِ التي ابتدعَها
الجَهْميَّةُ ونشروها في النَّاسِ عَبرَ قَنطرةِ الاعتزالِ و
الأشعَريَّةِ، وغيرِها من المذاهِبِ التي تأثَّرت ب
الجَهْميَّةِ أو تفرَّعت عنها
[355] هناك تفصيلٌ لأهمِّ أفكارِ الجهميَّةِ التي بقِيَت وتمَّ تدويرُها في الواقعِ المعاصِرِ عبرَ إحياءِ المُعتَزِلةِ الجُدُدِ وأتباعِ المدرسةِ العقلانيَّةِ المعاصِرةِ الفِكرَ الاعتزاليَّ، وذلك في فِرقةِ (المُعتَزِلة). .
وقد ذُكِر في الفَصلِ السَّابقِ نموذَجٌ للأثَرِ الذي أحدَثه
الجَهْميَّةُ في أبرَزِ الفِرَقِ، وجميعُ هذه الفِرَقِ موجودةٌ ومعاصِرةٌ، وأتباعُها موجودونَ حاليًّا.
ويرصُدُ بعضُ المُعاصِرينَ أنَّ لهذه الطَّائفةِ التي قامت على مبدأِ التَّعطيلِ والجَبْرِ صَولةٌ وجَولةٌ في تاريخِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، ولقد تمكَّنوا وعلا شأنُهم وقتًا من الزَّمنِ، واهتمَّ عُلَماءُ الفِرَقِ وأصحابُ التَّاريخِ والعقائِدِ بأخبارِهم وبيانِ عقائِدِهم، وذِكرِ أشهَرِ رِجالاتِهم.
ولا تزالُ آراءُ هذه الطَّائفةِ في بعضِ المجتَمَعاتِ، ولا يزالُ الخِصامُ بينهم وبينَ أهلِ الحَقِّ قائمًا على أشُدِّه، كما كان سابقًا في الزَّمنِ القديمِ، حتى وإن اختلفَت المُسمَّياتُ في بعضِ الأحيانِ، خصوصًا بَعدَ ظُهورِ العَصريِّينَ الجُدُدِ بمفاهيمِهم الباطلةِ، الذين لم يَقِفوا عِندَ حَدٍّ في إثارةِ كُلِّ ما يمُتُّ إلى هواهم ولو بأدنى صلةٍ، فهم جادُّون في إحياءِ تلك المفاهيمِ
الجَهْميَّةِ الباطِلةِ باسمِ التَّجديدِ أو التطَوُّرِ.
فمثلًا الاكتفاءُ بمعرفةِ وُجودِ اللهِ عن العَمَلِ، أو الاعتقادُ بعَدَمِ وُجودِ الجَنَّةِ الآنَ، وكذا النَّارُ، أو زعمُهم أنَّ اللهَ لا يُوصَفُ بوَصفٍ، أو ليس في جِهةٍ، وغيرُ ذلك من الآراءِ التي يعتقدُها بعضُ النَّاسِ اليومَ هي نفسُها آراءُ
الجَهْميَّةِ قديمًا.
وإذا كان المِثالُ للانفِلاتِ من الالتزامِ بالعقيدةِ الصَّحيحةِ والسَّيرِ لهَدمِها تحتَ شِعاراتٍ برَّاقةٍ في دعوى التَّجديدِ والتَّطويرِ، وأحيانًا في صورةِ تمجيدٍ للعقلِ والعِلمِ- ممَّا اهتمَّ به كثيرٌ من الكُتَّابِ والكاتباتِ قديمًا وحديثًا؛ فإنَّه يتوجَّبُ على كُلِّ طالبِ عِلمٍ أن يحذَرَ هؤلاء ويحَذِّرَ منهم، وألَّا يركَنَ إلى كِتاباتِهم، بل ولا ينبغي الاهتمامُ بقراءةِ كُتُبِهم قَبلَ أن يتبيَّنَ باطِلَهم؛ فإنَّ تلك الكُتُبَ مملوءةٌ بالدَّسِّ والانحرافِ تحتَ زُخرُفٍ من القَولِ
[356] يُنظر: ((فرق معاصرة)) لعواجي (3/1129). ويُنظر أيضًا: ((موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر من النص الشرعي)) لسعد العتيبي (ص: 115- 122). .
وكان لحرَكةِ الاستشراقِ في العصرِ الحديثِ دَورٌ في بَعثِ مُفرداتِ الفِكرِ الجَهْميِّ العَقلانيِّ؛ فالعقلانيَّةُ التي يدَّعيها
الجَهْميَّةُ كانت أخصَرَ الطُّرقِ لتحقيقِ الفَصلِ بَينَ النَّصِّ والعَقلِ، والشَّريعةِ والحياةِ، والمُستَشرِقونَ يدْعون أيضًا إلى النَّظَرِ العقليِّ، وتفضيلِه على النَّقلِ وتحكيمِه في الخَبرِ مهما كانت صِحَّةُ سَنَدِه
[357] يُنظر: ((المستشرقون والتراث)) لعبد العظيم الديب (ص: 35). .
وقد تأثَّر بهذه المدرسةِ الاستشراقيَّةِ بدَورِها عدَدٌ من الذين اختلَطوا كثيرًا بالغربيِّينَ وانبَهروا بفِكرِهم وحضارتِهم المادِّيَّةِ، فحاولوا أن يوفِّقوا بَينَ الإسلامِ والغَربِ؛ فخرَجوا بهذه القواعِدِ المُنحَرِفةِ
[358] يُنظر: ((الاستشراق وموقفه من السنة النبوية)) لفالح الصغير (ص: 91). .
وإذا نظَرْنا إلى الموقِفِ الجَهْميِّ من السُّنَّةِ والتَّشكيكِ فيها، والذي انتقَل إلى الفِرَقِ الأخرى كالمُعتَزِلةِ، نجِدُ أنَّه موقِفٌ يشترِكُ أيضًا في قَدرٍ كبيرٍ مع المُستَشرِقينَ في مسألةِ التَّشكيكِ في صِحَّةِ الأحاديثِ، وإلقاءِ ظِلالِ الظَّنِّ والرَّيبِ على مُعظَمِ الأحاديثِ النبَّويَّةِ
[359] يُنظر: ((الاستشراق وموقفه من السنة النبوية)) لفالح الصغير (ص: 83). .
أبرَزُ الفِرَقِ المُعاصِرةِ التي تَسري فيها رُوحُ الجَهْميَّةِ وطريقةُ تفكيرِهم:1- المُعتَزِلةُ الجُدُدُ:وتحت اسمِ المُعتَزِلةِ الجُدُدِ يتبنَّى بعضُ المعاصِرينَ مُهِمَّةَ الدِّفاعِ عن عقائدِهم وأصولِهم، ومن ذلك القضايا
الجَهْميَّةُ التي تسرَّبت إليهم، كنَفيِ الصِّفاتِ، والقَولِ بخَلقِ القُرآنِ، وغَيرِها.
وهذا التَّيَّارُ يغلِبُ على بعضِه المزاجُ العَلمانيُّ أو الحَداثيُّ؛ فقد أخذوا بعضَ الإرثِ الجَهْميِّ الخاصِّ بتقديمِ العقلِ على النَّقلِ، والجُرأةِ على معارَضةِ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ بما يُزعَمُ أنَّه عقليَّاتٌ، بل جُعِل العَقلُ أصلًا والنَّقلُ فَرعًا، وبهذا المبدأِ وغيرِه فُتِح البابُ لإطلالِ العَلمانيَّةِ على المُسلِمينَ عَبرَ توظيِفِ الإرثِ الجَهْميِّ
[360] يُنظر: ((العقلانيون أفراخ المعتزلة العصرانيون)) لعلي عبد الحميد (ص: 61- 75)، ((التوظيف العلماني للمضامين التراثية)) للعيسوي (ص: 44- 46، و 100- 102). ويُنظر أيضًا بعض مواقعهم الرسمية على الشبكة، مثل موقع: (المعتزلة المعاصرة). .
2- غُلاةُ الأشاعِرةِ:فقد كان الحُضورُ الجَهْميُّ الإقصائيُّ عِندَ غُلاةِ
الأشعَريَّةِ، والذي يقومُ على إقصاءِ السَّلَفيَّةِ أو الأثَريَّةِ، أو كما يُسَمُّونَهم التيميَّةَ أو الوهَّابيَّةَ، ووقائِعُ مؤتَمَرِ جُروزني وغَيِره، ومحاوَلةُ إخراجِهم من مُسمَّى (أهل السُّنَّةِ والجماعةِ) شاهِدةٌ على ذلك.
ومن ذلك محاولةُ بعضِ عُلَماءِ الأشاعرةِ المُعاصِرينَ الدِّفاعَ عن بِشرٍ المِرِّيسيِّ، والحَطُّ الشَّديدُ على أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، كالإمامِ عُثمانَ بنِ سَعيدٍ الدَّارميِّ؛ ممَّا يشهَدُ بنقاطِ اشتراكٍ مع الفِكرِ الجَهْميِّ ومع بعضِ أصولِه.
3- المدرسةُ العقلانيَّةُ المعاصِرةُ:فمن أبرَزِ السِّماتِ العامَّةِ لفِكرِ المدرسةِ العقلانيَّةِ المُعاصِرةِ الدَّعوةُ إلى تقديسِ العقلِ وتقديمِه على النُّصوصِ، وهي نفسُها الأفكارُ
الجَهْميَّةُ، ولكِنْ عَبْرَ قَنطرةِ الاعتزالِ، وأيضًا رَدُّ الأحاديثِ الصَّحيحةِ في الصَّحيحَينِ وغيرِهما، وعدَمُ قَبولِ أخبارِ الآحادِ في بابِ العقائِدِ، ومحاولةُ تجديدِ الدِّينِ وتنحيةِ الشَّريعةِ (عَلمانيَّةٌ مُغَلَّفةٌ). ومن ذلك قولُ أحدِهم: (إنَّ كونَ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ هي خاتِمةَ الشَّرائعِ السَّماويَّةِ البَشَريَّةِ إنَّما يعني بُلوغَ البَشَريَّةِ سِنَّ الرُّشدِ، بما يعنيه سِنُّ الرُّشدِ من رَفعِ وصايةِ السَّماءِ عن البَشَرِ! فلم تَعُدْ صورةُ البَشَرِ هي صورةَ الخِرافِ الضَّالَّةِ التي لا غِنى لها عن النَّبيِّ يتلوه النَّبيُّ؛ كي يُصحِّحَ لها المسارَ!)
[361] يُنظر: ((المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد)) للشلهوب (ص: 9، 13). .
فهذه المقولاتُ تستنِدُ استنادًا مباشِرًا إلى العقلِ، وتحطُّ في مقابِلِها من النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وتفتَعِلُ المعارَضةُ بَينَ نصوصِ الوَحيِ والعَقلِ الصَّريحِ.