الفَصلُ الثَّاني: مناهِجُ مُؤَرِّخي الفِرَقِ في ذِكرِ فِرَقِ الخَوارِجِ
عندما يريدُ الباحثُ حَصرَ فِرَقِ
الخَوارِجِ، الأصليَّةِ منها أو الفرعيَّةِ، يُفاجَأُ بكثرةِ اختلافِ العُلَماءِ في ذلك؛ فكُتُبُ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ لم تتَّفِقْ أبدًا على تقسيمِ فِرَقِهم الرَّئيسيَّةِ أو الفرعيَّةِ على عددٍ مُعَيَّنٍ، فنجِدُ بعضَهم يَعُدُّها أربعًا، وبعضُهم يَعُدُّها خمسًا، وبعضهُم يَعُدُّها سبعًا، وبعضُهم يَعُدُّها ثمانيَ، وآخَرون يَعُدُّونها خمسًا وعِشرين... إلخ.
وتباينُ عَدَدِهم عِندَ عُلَماءِ الفِرَقِ، يعودُ إلى عوامِلَ مُهِمَّةٍ؛ منها: 1- أنَّ
الخَوارِجَ كانوا من الفِرَقِ الثَّائرةِ المُضطَهَدةِ من جهةِ خُصومِهم، وهم عامَّةُ النَّاسِ، الأمرُ الذي أدَّى إلى عدَمِ التَّمكُّنِ من الدِّراسةِ الدَّقيقةِ لفِرَقِهم في عصرِ خُروجِهم.
2- أنَّهم ساهموا بأنفُسِهم في إخفاءِ أمرِهم بحيثُ أخفَوا كُتُبَهم عن أعيُنِ النَّاسِ؛ إمَّا خوفًا عليها منهم، أو ضَنًّا بها عنهم، وهي قليلةٌ جِدًّا؛ لقِلَّةِ فراغِ
الخَوارِجِ الذين وهَبوا كُلَّ أوقاتِهم للحَربِ أو الإعدادِ لها على طولِ حياتِهم.
3- أنَّهم لم يَنعَموا بالاستقرارِ والهدوءِ الذي ينتُجُ عنهما نظرُهم في العلومِ وتحقيقُهم لمذهبِهم وتأريخُهم لفِرَقِهم المختَلِفةِ تأريخًا مضبوطًا يساعِدُ على حَصْرِها حصرًا صحيحًا.
4- أنَّهم سريعو التَّفرُّقِ؛ إذ حصولُ أقَلِّ سَبَبٍ تافهٍ كان كافيًا لتفَرُّقِهم إلى فِرَقٍ.
وقد نَتَج عن سرعةِ تفَرُّقِهم لأقَلِّ سَبَبٍ يحدُثُ أن كَثُر رؤساؤُهم وفِرَقُهم كثرةً اختلط أمرُهم بسَبَبِها على المُؤرِّخين.
و
أبو زهرةَ أرجع سَبَبَ تفَرُّقِهم إلى فِرَقٍ متباينةٍ إلى (كثرةِ الاختلافِ فيما بَينَهم، وتحيُّزِ كُلِّ فِرقةٍ لِما ارتأَتْ، وتجمُّعِها حولَه، حتَّى صاروا مذاهِبَ وجماعاتٍ متبايِنةً)
[79] ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (ص: 80). .
وقال محمَّدٌ الطَّاهِرُ النَّيْفَرُ عنهم: (كانوا كَثيري التَّشاجُرِ فيما بَينَهم لأتفَهِ الأسبابِ، ورُبَّما كان هذا هو السِّرَّ في انهزامِهم مع قوَّةِ شكيمتِهم في القِتالِ)
[80] ((أهم الفرق الإسلامية)) (ص: 61). .
وفيما يلي بيانٌ للاختلافِ البعيدِ بَينَ عُلَماءِ الفِرَقِ في عَدِّ فِرَقِ
الخَوارِجِ:
ف
الأشعَريُّ يرى أنَّهم أربَعُ فِرَقٍ: الأزارِقةُ، والنَّجَداتُ، و
الإباضيَّةُ، والصُّفْريَّةُ. وقال: (كُلُّ الأصنافِ سوى الأزارقةِ و
الإباضيَّةِ والنَّجْديَّةِ فإنَّما تفرَّعوا من الصُّفْريَّةِ)
[81] ((مقالات الإسلاميين)) (1/183). .
ويُشارِكه في هذا الحَصرِ ابنُ عَبدِ رَبِّه، إلَّا أنَّه ذكَرَ البَهيسيَّةَ مكانَ النَّجَداتِ، فهي عِندَه من فِرَقِهم الكُبرى
[82] يُنظر: ((العقد الفريد)) (2/391). ، بينما هي عِندَ غيرِه فِرقةٌ فرعيَّةٌ.
ويرى ابنُ أبي يحيى أنَّها خمسُ فِرَقٍ رئيسيَّةٍ، وذكَر الفِرَقَ التي تقدَّمت عِندَ
الأشعَريِّ وابنِ عبدِ رَبِّه مثبتًا أنَّ الكُلَّ من كبارِ فِرَقِهم، ويلاحَظُ عليه أنَّه اختلَط عليه اسمُ عَبدِ اللهِ بنِ إباضيٍّ بعبدِ اللهِ بنِ يحيى طالِبِ الحَقِّ، فنَسَب
الإباضيَّةَ إليه، وهو خطأٌ
[83] يُنظر: ((إبانة المناهج في نصيحة الخوارج)) (ص: 155). .
ويرى البعضُ أنَّها سبعُ فِرَقٍ رئيسيَّةٍ، ومنهم محيي الدِّينِ الدِّبسيُّ؛ حيثُ أضاف إلى ما تقدَّم في إبانةِ المناهِجِ فِرقةَ المُحَكِّمةِ والعَجارِدةِ
[84] يُنظر: ((رسالة الدبسي في فرق الشيعة والخوارج وتكفير غلاتهم)) (ص: 26). ، وذكر أنَّ فُروعَ
الإباضيَّةِ عِندَه أربعُ فِرَقٍ، والعَجاردةَ عَشرُ فِرَقٍ، ومِثلُه
الشَّاطبيُّ؛ فهو يَعُدُّها سبعَ فِرَقٍ، وهي: المُحَكِّمةُ، والبَيهسيَّةُ، والأزارِقةُ، والحرَّاثُ، والعَبديَّةُ، و
الإباضيَّةُ. والغريبُ في هذا التَّقسيمِ ذِكرُ فِرقةِ (الحرَّاث) فلم يذكُرْها غيرُه في فِرَقِ
الخَوارِجِ لا الرَّئيسيَّةِ ولا الفرعيَّةِ. وقيل: رُبَّما هي النَّجَداتُ فصَحَّفها النُّسَّاخُ.
وأيضًا ذَكَر
الشَّاطبيُّ (العَبديَّةَ)، وهي كذلك مذكورةٌ عِندَ المُؤرِّخين في فِرَقِ
الخَوارِجِ، إلَّا أن يكونَ قَصدُه (المعبديَّةَ)، فهي وإن كانت من فِرَقِ
الخَوارِجِ إلَّا أنَّها فِرقةٌ فرعيَّةٌ صغيرةٌ من فِرَقِ (الثَّعالبة)، وقد ذكَرها هو نفسُه بأنَّها مِن فِرَقِ (الثَّعالبة) حينَ ذَكَر تقسيمَ الثَّعالبةِ، وقد قسَّم
الإباضيَّةَ إلى أربَعِ فِرَقٍ، والعَجاردةَ إلى إحدى عَشرةَ فِرقةً، والثَّعالبةَ التي هي إحدى فِرَقِ العَجاردةِ إلى أربَعِ فِرَقٍ
[85] يُنظر: ((الاعتصام)) (2/219). .
ويَعُدُّها الشَّهْرَسْتانيُّ ثمانيَ فِرَقٍ، وهي كبارُ فِرَقِ
الخَوارِجِ عِندَه، مُضيفًا إلى ما ذَكَره الدِّبسيُّ فِرقةَ الثَّعالبةِ؛ بأنَّها من فِرَقِهم الكِبارِ، وبَعدَ أن ذكَر تلك الفِرَقَ، قال: (والباقون فروعُهم)
[86] ((الملل والنحل)) (1/115). .
أمَّا البغداديُّ فقد أوصلَها إلى عشرينَ فِرقةً ذاكِرًا لها جميعًا في موضِعَينِ من كتابِه (الفَرْق بَينَ الفِرَق)، وكان ذِكرُه لفِرَقِ
الخَوارِجِ في كُلٍّ منهما عامًّا؛ لم يُبَيِّنِ الفِرَقَ التي يعتَبِرُها أصولًا ولا الفِرَقَ التي يعتَبِرُها فروعًا، وإنَّما قال: (أمَّا
الخَوارِجُ فإنَّها لمَّا اختلفت صارت عشرينَ فِرقةً، وهذه أسماؤها)
[87] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 24، 72). . ثُمَّ شرع في بيانِ تلك الأسماءِ سَردًا.
أمَّا عِندَ
الرَّازيِّ فهم إحدى وعِشرون فِرقةً
[88] يُنظر: ((اعتقادات فرق المُسلِمين والمشركين)) (ص: 46، 72). ، بينما هم عِندَ المَلَطيِّ خَمسٌ وعِشرون فِرقةً
[89] يُنظر: ((التنبيه والرد)) (ص: 167). .
وهكذا يجِدُ الباحِثُ نَفسَه أمامَ اختلافِ العُلَماءِ في هذا العدَدِ الكثيرِ من فِرَقِ
الخَوارِجِ، كُلُّ واحدٍ قد اختار لنفسِه العدَدَ الذي وصل إليه اجتهادُه ونظَرُه.
قال الغُرابيُّ: (نتيجةً لِما تقدَّم من أنَّ
الخَوارِجَ يكونون على رأيٍ واحدٍ ثُمَّ لا يلبَثُ أن يحصُلَ بَينَهم خِلافٌ على رأيٍ، فينقَسِمون ويخرُجون على إمامِهم؛ قد انقسمت
الخَوارِجُ إلى فِرَقٍ كثيرةٍ لم يتَّفِقِ المُؤَرِّخون على عَدَدِهم)
[90] ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص: 266). .
وقال أيضًا: (الحقُّ أنَّه لا يمكِنُ مَعرفةُ فِرَقِ
الخَوارِجِ ولا ضَبطُها؛ لأنَّ الخلافاتِ كانت توجَدُ بَينَهم على أقَلِّ شيءٍ)
[91] ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص: 268). .
وقال أيضًا: (ليس من السَّهلِ الاتِّفاقُ على كيفيَّةِ تقسيمِ فِرَقِ
الخَوارِجِ، وأيُّها فروعٌ، كما أنَّه ليس من السَّهلِ ضَبطُ عَدَدِ فِرَقِها كذلك؛ لكثرةِ اختلافاتِها وتقلُّباتِها، وخروجِ بعضِها على بعضٍ لأمرٍ قد يكون بسيطًا)
[92] ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص: 271). .