المَبحَثُ السَّادِسُ: آراءُ الخَوارِجِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ
إنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الدِّينِ الإسلاميِّ لا يُماري فيه مُسلِمٌ؛ لوُرودِه في كتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال اللهُ تعالى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104] ، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ.
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من رأى منكم مُنكَرًا فلْيُغَيِّرْه بيَدِه، فإنْ لم يستَطِعْ فبلِسانِه، فإنْ لم يستَطِعْ فبقَلبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ )) [671] رواه مُسلِم (49) من حديثِ أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عنه. . وهذا الأمرُ عامٌّ لكُلِّ من يصلُحُ له هذا الخِطابُ.
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إيَّاكم والجُلوسَ بالطُّرُقاتِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، ما لنا بُدٌّ من مجالِسِنا نتحَدَّثُ فيها، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإذا أبيتُم إلَّا المجلِسَ فأعطوا الطَّريقَ حَقَّه، قالوا: وما حَقُّه؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذى، ورَدُّ السَّلامِ، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَرِ )) [672] رواه البخاري (6229)، ومُسلِم (2121) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. . والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ.
وقد اتَّفَق على القولِ بوُجوبِ تغييرِ المُنكَرِ كُلُّ الفِرَقِ، وإن اختلف بعضُهم عن بعضٍ في الطَّريقةِ التي يتمُّ بها، ومنهم
الخَوارِجُ.
قال
ابنُ حزمٍ: (ذهبت طوائفُ من أهلِ السُّنَّةِ، وجميعُ
المُعتَزِلةِ، وجميعُ
الخَوارِجِ، والزيديَّةُ: إلى أنَّ سَلَّ السُّيوفِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ واجِبٌ إذا لم يكُنْ دَفعُ المُنكَرِ إلَّا بذلك)
[673] ((الفصل)) (4/171). .
وقال بَدرُ الدِّينِ الحَنبليُّ: (الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ واجِبٌ على الكفايةِ باتِّفاقِ المُسلِمين، وكُلُّ واحدٍ من الأمَّةِ مخاطَبٌ بقَدْرِ قُدرتِه، وهو من أعظَمِ العباداتِ)
[674] ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) (ص: 579). .
و
الخَوارِجُ كغيرِهم من الفِرَقِ الإسلاميَّةِ التي تنادي بإقامةِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، ولكِنَّهم غالَوا في تطبيقِه فأوجَبوا الخُروجَ تغييرًا للمُنكَرِ ولو لأدنى سَبَبٍ وعلى أيِّ حالٍ، حتَّى ولو كان السَّبَبُ إهمالَ الإمامِ لسُنَّةٍ من السُّنَنِ مهما كانت.
قال الشَّهْرَسْتانيُّ: إنَّهم (يَرَون الخُروجَ على الإمامِ إذا خالف السُّنَّةَ حَقًّا واجِبًا)
[675] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 115). .
وذكَر جَعفَرٌ البَهلوليُّ أنَّ مِن أصولِهم (القولَ بالخُروجِ على الإمامِ الجائِرِ)
[676] ((إبانة المناهج)) (ص: 154). .
وقال المُستَشرِقُ الألمانيُّ فِلْهَوْزِنُ: (تغييرُ المُنكَرِ واجِبٌ على كُلِّ فَردٍ بلِسانِه وبيَدِه، وهذا المبدَأُ إسلاميٌّ عامٌّ، ولكِنَّ تحقيقَه بمناسَبةٍ وغيرِ مُناسَبةٍ كان علامةً دالَّةً على
الخَوارِجِ)
[677] ((الخوارج والشيعة)) (ص: 41). .
وقد قال أوَّلُ رئيسٍ للخَوارِجِ -وهو عبدُ اللهِ بنُ وَهبٍ الرَّاسبيُّ- مخاطِبًا أتباعَه حينَ اجتَمَعوا في مَنزِلِه موجِبًا عليهم القيامَ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، والخُروجَ من أجلِه: (وما ينبغي لقومٍ يُؤمِنون بالرَّحمنِ ويُنسَبون إلى حُكمِ القُرآنِ أن تكونَ هذه الدُّنيا التي إيثارُها عَناءٌ آثَرَ عِندَهم من الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، والقَولِ بالحَقِّ؛ فاخرُجوا بنا)
[678] ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 92). .
وهذا النَّصُّ يُوضِحُ تمامَ الإيضاحِ نَظَرَهم إلى فكرةِ تغييرِ المُنكَرِ وحَملِ النَّاسِ على التِزامِ المعروفِ كما يُريدون، فهو يدعو إلى الخُروجِ المُسَلَّحِ، وتَرْكِ شَهَواتِ الدُّنيا، والرَّغبةِ في الآخرةِ، وخَوضِ المعارِكِ والاستشهادِ في سبيلِ اللهِ؛ لأجْلِ تغييرِ المُنكَراتِ التي يَرَونها في مجتَمَعِهم ذلك.
و
الخَوارِجُ أرادوا بإقامةِ هذا الأمرِ حَمْلَ النَّاسِ كافَّةً على قَبولِ آرائِهم، واعتبارَ كُلِّ شيءٍ لا يوافِقُ ما يعتَقِدونه مُنكَرًا يجِبُ الامتناعُ عنه، وكانوا يُولُون ذلك أكبَرَ الاهتمامِ والمحافظةَ البالغةَ على تطبيقِه تطبيقًا كامِلًا صَغُرَ الأمرُ أو كَبُرَ دونَ هَوادةٍ في ذلك مهما كانت النَّتائجُ، ولو أدَّى تغييرُ المُنكَرِ إلى الجِهادِ الجماعيِّ لمُخالِفيهم بامتِشاقِ السَّيفِ وخَوضِ الحروبِ، خُصوصًا إذا كان المُرتَكِبُ لذلك المُنكَرِ في نظَرِهم أحَدَ حُكَّامِ المُسلِمين الذي يمثِّلُ بطبيعةِ وظيفتِه الخلافةَ الإسلاميَّةَ، ويُناطُ به الحُكمُ بما أنزل اللهُ تعالى، فإنَّ الخُروجَ عليه أوجَبُ وأَولى، وفي هذا قال أحَدُ عُلَمائِهم -وهو سُلَيمانُ بنُ عَبدِ اللهِ البارونيُّ-: إنَّ الشُّراةَ هم الذين (اشتَرَوا آخِرَتَهم بدُنياهم، بمعنى أنَّهم تخَلَّوا عن الدُّنيا وعاهَدوا اللهَ على إنكارِ المُنكَرِ والأمرِ بالمعروفِ بدونِ مُبالاةٍ ولا خوفٍ من الموتِ، ولو أدَّى بهم ذلك إلى القِتالِ)
[679] ((الأزهار الرياضية)) (ص: 210). .
وكان زُعماؤهم يُرَدِّدون في كُلِّ خُطبةٍ لهم على مسامِعِ إخوانِهم
الخَوارِجِ أنَّ تغييرَ المُنكَرِ من الأمورِ الواجِبةِ عليهم التي لا يَعذِرُ اللهُ من قَصَّر في القيامِ بها؛ نظَرًا لِما شاع في المجتَمَعِ من المظالِمِ وإضاعةِ معالِمِ الدِّينِ.
قال حَيَّانُ بنُ ظَبيانَ وهو أحدُ رُؤسائِهم، يخاطِبُ أصحابَه: (فانصَرِفوا بنا -رَحِمكم اللهُ- إلى مِصرَ فلْنَأتِ إخوانَنا فلْنَدْعُهم إلى الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ وإلى جهادِ الأحزابِ؛ فإنَّه لا عُذرَ لنا في القُعودِ ووُلاتُنا ظَلَمةٌ، وسُنَّةُ الهُدى متروكةٌ، وثأرُنا الذين قَتَلوا إخوانَنا في المجالِسِ آمِنون)
[680] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 174). .
وقال معاذُ بنُ جُوَينٍ الطَّائيُّ في دوافِعِ خُروجِهم للأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ وعَدَمِ الإعذارِ في ذلك: (يا أهلَ الإسلامِ إنَّا -واللهِ- لو عَلِمْنا أنَّا إذا تَرَكْنا جهادَ الظَّلَمةِ وإنكارَ الجَورِ كان لنا به عِندَ اللهِ عُذرٌ، لكان تَركُه أيسَرَ علينا وأخَفَّ من ركوبِه، ولكِنَّا قد عَلِمْنا واستيقَنَّا أنَّه لا عُذرَ لنا وقد جَعَل لنا القلوبَ والأسماعَ حتَّى نُنكِرَ الظُّلمَ ونُغَيِّرَ الجَورَ ونجاهِدَ الظَّالِمين)
[681] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 174، 310) ويُنظر: ((الكامل)) للمبرد (2/ 179). .
ويجري هذا المجرى في بيانِ دوافِعِ
الخَوارِجِ للأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ ما قاله صالِحُ بنُ مُسَرَّحٍ مخاطِبًا جماعتَه: (ما أدري ما تنتَظِرون؟! حتَّى متى أنتم مُقيمون؟ هذا الجَورُ قد فشا، وهذا العَدلُ قد عفا، ما تزدادُ هذه الوُلاةُ على النَّاسِ إلَّا غُلُوًّا وعُتُوًّا وتباعُدًا عن الحَقِّ وجُرأةً على الرَّبِّ، فاستَعِدُّوا وابعَثوا إلى إخوانِكم الذين يُريدون من إنكارِ الباطلِ والدُّعاءِ إلى الحَقِّ مِثلَ الذي تُريدون، فيأتوكم فنلتَقيَ وننظُرَ فيما نحن صانِعون، وفي أيِّ وقتٍ إن خرَجْنا نحن خارِجون)
[682] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 219). .
وقال شَبيبٌ مخاطِبًا صالِحَ بنَ مُسَرَّحٍ: (اخرُجْ بنا -رحمك اللهُ- فواللهِ ما تزدادُ السُّنَّةُ إلَّا دُروسًا، ولا يزدادُ المُجرِمون إلَّا طُغيانًا)
[683] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 219). .
فدوافِعُ
الخَوارِجِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ كما جرت على ألسنَتِهم دوافعُ دينيَّةٌ تتمثَّلُ فيما بدا لهم من شُيوعِ المُنكَراتِ والمظالمِ بَينَ النَّاسِ والحُكَّامِ، ومِن اندراسِ معالِمِ الدِّينِ في المجتَمَعِ، بل إنَّ نافِعَ بنَ الأزرَقِ كان يرى أن مُخالِفيهم كُفَّارٌ يجِبُ جهادُهم كجهادِ الكُفَّارِ الذين لم يَنطِقوا بكَلِمةِ الشَّهادةِ؛ فقد جاء في كتابِه إلى أهلِ البَصرةِ قَولُه يحثُّهم على الخُروجِ: (واللهِ إنَّكم لتَعلَمونَ أنَّ الشَّريعةَ واحِدةٌ، والدِّينَ واحِدٌ، ففيم المُقامُ بَينَ أظهُرِ الكُفَّارِ؟ تَرَون الظُّلمَ ليلًا ونهارًا، وقد ندَبَكم اللهُ إلى الجهادِ...)
[684] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 174، 310)، ((الكامل)) للمبرد (2/ 179). .
قال
الطَّبَريُّ: (كانت
الخَوارِجُ يَلقى بعضُهم بعضًا ويتذاكَرون مكانَ إخوانِهم بالنَّهْرَوانِ، ويَرَون في الإقامةِ الغَبْنَ والوَكَفَ، وأنَّ في جهادِ أهلِ القبلةِ الفَضلَ والأجرَ)
[685] ((تاريخ الرسل والملوك)) (5/ 174). .
وقد اعتبَرَ
ابنُ القَيِّمِ هذا الاندفاعَ والعُنفَ في تحقيقِ ما يريدون من تعصُّبِ أهلِ البِدَعِ لبِدَعِهم، وأنَّهم يُخرِجون بِدَعَهم في قوالِبَ مُتنَوِّعةٍ بحسَبِ تلك البِدَعِ، فيرى أنَّ
الخَوارِجَ أخرجَت استِحلالَ قِتالِ النَّاسِ في قالَبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وذلك في قولِه: (أخرَجَت
الخَوارِجُ قتالَ الأئمَّةِ والخُروجَ عليهم بالسَّيفِ في قالَبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ)
[686] ((إغاثة اللهفان)) (2/ 81). .
ولكِنْ أيًّا كانت دوافِعُ
الخَوارِجِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، فقد كانوا متحَمِّسين في القيامِ به، ولا يَنظُرون إلى العواقِبِ أيًّا كانت تلك العواقِبُ، مُستَعمِلين في ذلك كُلَّ ما في إمكانِهم من قولٍ وفِعلٍ، فقد كانوا يستَعمِلون فصاحَتَهم وقوَّةَ بيانِهم لإظهارِ معايِبِ خُصومِهم واضِحةً أمامَ النَّاسِ لإثارةِ مَشاعِرِهم ضِدَّهم، ومن ثمَّ لتهوينِ الخُروجِ المُسَلَّحِ عليهم بحُجَّةِ أنَّهم ظَلَمةٌ جائِرون مُرتَكِبون لِما حرَّم اللهُ من معاصٍ ومُنكَراتٍ يجِبُ عليهم تغييرُها كما يَفرِضُه عليهم الدِّينُ.
وقد وصفَهم صاحِبُ كتابِ (الأديان) بأنَّهم: (أوَّلُ من أنكر المُنكَرَ على من عَمِلَ به، وأوَّلُ من أبصَرَ الفِتنةَ وعابها على أهلِها، لا يخافون في اللهِ لَومةَ لائِمٍ)
[687] ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 97). .
وهكذا فقد اعتَبَروا الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ أمرًا جماعيًّا يجِبُ على الكُلِّ القيامُ به في أيِّ وقتٍ وعلى أيِّ حالٍ، كما يشهَدُ بذلك فِعلُهم، والواقِعُ أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ كما تقدَّمَ أصلٌ من أصولِ الدِّينِ، مُجمَعٌ على وجوبِه بَينَ الأمَّةِ لِما ورد من نصوصٍ في كتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توجِبُ القيامَ به؛ حِفظًا لكيانِ الأمَّةِ من التَّردِّي في مسالِكِ الرَّذيلةِ، ونُصحًا للنَّاسِ؛ لئلَّا يُصبِحَ المجتَمَعُ على اتفاقٍ فيما بَينَهم على ارتكابِ الجرائِمِ وانتِهاكِ الأعراضِ، فتَحِلَّ عليهم نِقمةُ اللهِ وغَضَبُه.
ومِن لُطفِ اللهِ أنْ جَعَل وجوبَه على الكفايةِ، إذا قام به من يكفي سقَط عن الجميعِ، وأنَّه لم يُكَلِّفْ أحدًا بهدايةِ أحَدٍ، بل أوجب تعالى إقامةَ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وجَعَل نتيجةَ ذلك إليه تعالى وَحْدَه؛ لئلَّا يَهِنَ الشَّخصُ ويَيأَسَ من استجابةِ النَّاسِ له؛ فيَترُكَ فضيلةَ القيامِ بتلك الشَّعيرةِ العظيمةِ.
وقد يَظُنُّ بعضُ النَّاسِ أنَّ القيامَ بتلك المُهِمَّةِ إنَّما يتولَّاها من كان من أهلِ السُّلطةِ فقط، وهذا خطأٌ؛ إذ إنَّ اللهَ لم يُسنِدِ القيامَ به إلى أحدٍ بخُصوصِه، سواءٌ كان حاكِمًا أو محكومًا، أفرادًا أو جماعاتٍ، فإنَّ كُلَّ واحدٍ يتعَيَّنُ عليه القيامُ بما يَعرِفُ من أمرِ الإسلامِ؛ لأنَّ هناك مُنكَراتٍ ظاهرةً يَعرِفُها كُلُّ شَخصٍ، فلا يُعذَرُ بتركِ الإنكارِ حينَ يتَعَيَّنُ عليه ذلك بحُجَّةِ أنَّه غيرُ عالمٍ أو ذي سُلطةٍ.
وهناك مُنكَراتٌ قد تخفى على بعضِ النَّاسِ بحيثُ لم يتبيَّنْ له الحُكمُ فيها، وهنا يسقُطُ عنه وجوبُ تغييرِه، وعلى الآمرِ بالمعروفِ والنَّاهي عن المُنكَرِ أن يسيرَ على ما نهَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من طُرُقِ ذلك؛ حيثُ جَعَل لتغييرِ المُنكَرِ مراتِبَ ودَرَجاتٍ، وأوَّلُها التَّغييرُ باليدِ وهو أجدى الطُّرُقِ وأحسَنُها، فإنْ لم يتيسَّرْ ذلك انتَقَل إلى الدَّرَجةِ الثَّانيةِ، وهي التَّغييرُ باللِّسانِ فحَسْبُ، أثمَرَ ذلك أم لم يُثمِرْ، ثُمَّ أضعَفُ الدَّرَجاتِ هي الإنكارُ بالقَلبِ.
وفيما يَتعلَّقُ بمَسلَكِ
الخَوارِجِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ على ضوءِ ما تقدَّم من حدودِ الشَّريعةِ؛ فإنَّ
الخَوارِجَ لا لومَ عليهم في مناداتِهم بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وإنَّما يُلامون على ما تميَّزوا به من اندِفاعٍ وتَهَوُّرٍ في تغييرِ المُنكَرِ على أيِّ حالٍ دونَ النَّظَرِ في عواقِبِ الأمورِ من تحقيقٍ لمصلَحةٍ أو دَفعٍ لمضَرَّةٍ، فكانوا يمتَشِقون السُّيوفَ بمجَرَّدِ ظُهورِ أيِّ مَظلَمةٍ أو ذنبٍ مهما كان؛ ولهذا فقد ارتكَبوا في سَبيلِ تحقيقِ ذلك أفظَعَ الجرائِمِ وأشنَعَها، وارتكَبوا من المُنكَراتِ في إزالةِ ما يَرَونه مُنكَرًا ما يزيدُ على أضعافِه، وجَلَبوا من المضارِّ أكثَرَ ممَّا أرادوا النَّفعَ، وهذا هو ما يَبعُدُ بهم عن هَدْيِ الإسلامِ في إقامةِ تلك الفريضةِ الجليلةِ.