المَطلَبُ الثَّاني: مَوقِفُ الخَوارِجِ من بعضِ كِبارِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم
يعتَقِدُ
الخَوارِجُ تكفيرَ بعضِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم، مع أنَّ منهم من هو مشهودٌ له بالجنَّةِ، ولكِنَّ
الخَوارِجَ حَسَبَ اعتقادِهم المعكوسِ يَرَون أنَّهم قد كفَروا ببعضِ الذُّنوبِ التي اقتَرَفوها مع أنَّها في الحقيقةِ لم تكُنْ ذُنوبًا، أو كانت ناتجةً عن اجتهادٍ، كما سيتَّضِحُ إن شاء اللهُ تعالى.
وأوَّلُ من اشتَدَّ
الخَوارِجُ في تكفيرِهم من الصَّحابةِ بَعدَ عُثمانَ وعَليٍّ رَضيَ اللهُ عنهما:
معاويةُ بنُ أبي سفيانَ، و
عَمرُو بنُ العاصِ، وأبو موسى الأشعَريُّ، وأهلُ التَّحكيمِ، ومَن رَضِيَ بهم من غيرِهم، قال الأشعَريُّ: (ويُكَفِّرون
معاويةَ، و
عَمرَو بنَ العاصِ، وأبا موسى الأشعَريَّ)
[752] ((المقالات)) (1/204). .
وقد وَقَفوا مَوقِفَ العداءِ المُستَحكِمِ من
معاويةَ و
عَمرِو بنِ العاصِ، فكَفَّروهما، ووصَفوهما بكُلِّ صفةِ سوءٍ، ونَفَوا عنهما كُلَّ خَيرٍ، بل وأثبتوا لهما النَّارَ، كما قال الوَرْجَلانيُّ: (وأمَّا
معاويةُ ووَزيرُه
عَمرُو بنُ العاصِ فهُما على ضلالةٍ لانتحالِهما ما ليس لهما بحالٍ، ومن حارب المهاجِرين والأنصارَ، فرَّقَت بَينَهما الدَّارُ، وصار من أهلِ النَّارِ)
[753] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 28). ولا يُستبعَدُ منهم أن يَقِفوا هذا المَوقِفَ، بل وأشَدَّ منه، ما داموا قد وقفوا ممَّن هو خيرٌ منهما ذلك المَوقِفَ المَشِينَ!
وقد وَصَف زعيمُ
الإباضيَّةِ عبدُ اللهِ بنُ إباضٍ
معاويةَ بنَ أبي سفيانَ -كما جاء في كتابِه إلى عَبدِ المَلِكِ- بعِدَّةِ صفاتٍ يَزعُمُ فيها أنَّ الرَّجُلَ يَكفُرُ بأقَلَّ منها، فقد جاء في ذلك الكتابِ قولُه: (فلا تَسأَلْ عن
معاويةَ ولا عن عَمَلِه ولا صَنيعِه، غيرَ أنَّا قد أدرَكْناه ورَأَينا عَمَلَه وسِيرتَه في النَّاسِ، ولا نَعلَمُ من النَّاسِ شَيئًا لأحَدٍ أترَكَ من الغنيمةِ التي قَسَم اللهُ، ولا يحكُمُ بحُكمٍ حَكَمه اللهُ، ولا أسفَكَ لدَمٍ حرامٍ منه، فلو لم يُصِبْ من الدِّماءِ إلَّا دَمَ ابنَ سُمَيَّةَ لكان في ذلك ما يُكَفِّرُه)، ثُمَّ قال مُبَيِّنًا رأيَ
الإباضيَّةِ في عُثمانَ و
معاويةَ و
يزيدَ جميعًا: (فإنَّا نُشهِدُ اللهَ وملائِكَتَه أنَّا بُرآءُ منهم وأعداءٌ لهم بأيدينا وألسِنَتِنا وقُلوبِنا، نعيشُ على ذلك ما عِشْنا، ونموتُ عليه إذا مِتْنا، ونُبعَثُ عليه إذا بُعِثْنا، نحاسَبُ بذلك عِندَ اللهِ)
[754] ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 295). .
أمَّا مَوقِفُ
الخَوارِجِ من
الحسَنِ رَضيَ اللهُ عنه فهو نَفسُ مَوقِفِهم من أبيه، فالمراجِعُ لكتابِ (كَشْف الغُمَّة) يجِدُ المؤَلِّفَ يَكيلُ الافتراءاتِ ويَغمِزُ فيه بما لا يَصِحُّ؛ فيَذكُرُ أنَّ
الحَسَنَ لَمَّا تولَّى الخلافةَ خَدَعه
معاويةُ كما خدَع أباه من قَبْلُ بما حَمَل إليه من أوقارِ الذَّهَبِ ومنَّاه بالخلافةِ بَعدَه، وأنَّه تَرَك ما كان يَطلُبُ بالأمسِ من كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبيِّه، وقتالِ الفئةِ الباغيةِ، وأنَّ أهلَ النُّخَيلةِ اجتَمَعوا لحربِ
مُعاويةَ ولكِنَّه وبمساعدةِ أهلِ الكوفةِ و
الحَسَنِ قَتَلوهم، مع أنَّ المؤَرِّخين يَذكُرُون أنَّ
الحَسَنَ امتنع عن تولِّي محاربتِهم وقال ل
معاويةَ: (لو كنتُ أريدُ قِتالَ أحَدٍ من أهلِ القِبلةِ لبدَأْتُ بك، ولكِنْ ترَكْتُها حَقنًا للدِّماءِ).
فمن أين لمؤَلِّفِ (كَشْف الغُمَّة) أنَّ
الحَسَن تَوَلَّى قتالَ أهلِ النُّخَيلةِ؟!
ثمَّ يُوالي افتراءَه فيَلمِزُ
الحَسَنَ بأنَّه باع آخِرتَه بدُنياه، وحرَّض أصحابَه على الدُّخولِ في طاعةِ
معاويةَ، وأنَّ
ابنَ عبَّاسٍ غَضِب عليه غضَبًا شديدًا، وقال له: إنَّكم لأحقَرُ أهلِ بيتٍ من العَرَبِ، ثُمَّ شَبَّههم ببني إسرائيلَ وجَبَّنَهم حين أبَوا ملاقاةَ عَدُوِّهم فضرَبَهم اللهُ بالتِّيهِ
[755] يُنظر: ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 289). .
وجاء في كتابِ (الكفاية): (فإن قال: ما تقولون في
الحَسَنِ والحُسَينِ ابنَي عَليِّ بنِ أبي طالبٍ؟ قلنا: إنَّهما في البراءةِ، فإن قال: من أين أوجَبْتُم عليهما البراءةَ، وهما ابنا
فاطِمةَ بنتِ رَسولِ اللهِ؟! قُلْنا: أوجَبْنا عليهما البراءةَ بولايتِهما لأبيهما على ظُلمِه وغَشمِه وجَورِه، وبقَتْلِهما عبدَ الرَّحمنِ بنَ مُلْجَمٍ، وتسليمِهما الإمامةَ ل
مُعاويةَ بنِ أبي سفيانَ، وليس قرابتُهما من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمُغْنيةٍ عنهما شيئًا؛ لأنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في بعضِ ما يُوصي به قرابتَه:
((يا فاطِمةُ بنتَ رسولِ اللهِ، ويا صفيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللهِ، ويا بني هاشِمٍ؛ اعمَلوا لِما بَعدَ الموتِ)) [756] لم نَقِفْ عليه بتمامِ لفظِه فيما لدينا من كُتُبٍ مُسنَدةٍ. وأخرجه بمعناه البخاري (2753)، ومُسلِم (206) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((ويا صفيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللهِ، لا أُغني عنك من اللهِ شيئًا، ويا فاطِمةُ بنتَ محمَّدٍ، سَلِيني ما شِئتِ من مالي لا أُغني عنكِ من اللهِ شيئًا)). [757] يُنظر: ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 288-289 و305). .
هذا ما حكاه المؤلِّفُ عن كتابِ (الكفاية)، أمَّا هو فيقولُ: (ثمَّ إنَّ
الحسَنَ بنَ عَليٍّ وَلِيَ أمرَ أبيه مِن بَعدِه، فباع دينَه وأمْرَ رَبِّه بأواقٍ من الذَّهَبِ والفِضَّةِ)
[758] ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 302). ! فإذا كان قَصدُ
الحَسَنِ جَمعَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ -كما يزعُمُ مؤلِّفُ كَشْفِ الغُمَّة- فممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ تولِّيَه الخلافةَ هو الأفضَلُ لجَمعِهما لا التَّنازُلَ عنها، ولم يَعلَمْ صاحِبُ (كَشْف الغُمَّة) أنَّ تنازُلَ
الحَسَنِ كان تصديقًا لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه:
((ابني هذا سَيِّدٌ، ولعلَّ اللهَ أن يُصلِحَ به بَينَ فِئتَينِ من المُسلِمين )) [759] رواه البخاري (3629) من حديثِ أبي بكرة نفيع بن الحارث رَضِيَ اللهُ عنه. وقد وقع كما قال عليه السَّلامُ، فلم يُفَسِّرْ صاحِبُ (كَشْف الغُمَّة) تنازُلَ
الحَسَنِ إلَّا لانخِداعِه برُؤيةِ بريقِ أواقي الذَّهَبِ والفِضَّةِ!
وما قاله عن
الحَسَنِ فإنَّه رَدٌّ عليه؛ فلقد كان رَضيَ اللهُ عنه ذا خُلُقٍ فاضِلٍ ودِينٍ ووَرَعٍ، لا يُهِمُّه شَرَفُ الخلافةِ ولا العُلُوُّ في الأرضِ، فقد فضَّل أن تُحقَنَ دِماءُ المُسلِمين ويَنعَمَ النَّاسُ بالأمنِ والهدوءِ، ولو كان ذلك على هَضمِ حَقِّه في الخلافةِ بَعدَ أن تمَّت له البيعةُ بها؛ فقد كان رَضيَ اللهُ عنه لا يوازِنُ بَينَ مصلحتِه الفرديَّةِ ومصلحةِ المُسلِمين، بل يُقَدِّمُ مصلحةَ المُسلِمين ويُبقي مصلحَتَه ذُخرًا عِندَ اللهِ تعالى.
أمَّا مَوقِفُ غُلاةِ
الإباضيَّةِ من
طلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ و
الزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ فهو لا يَقِلُّ عن مَوقِفِهم من عليٍّ وعُثمانَ؛ فهما عِندَهم في مَنزِلةِ البراءةِ والبُعدِ، ويَنسُبون هذا المَوقِفَ الخاطِئَ إلى جميعِ المُسلِمين، كما جاء في كتابِ (الكفاية)، (فإن قال قائِلٌ: فما تقولون في
طلحةَ و
الزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ؟ قُلْنا: إنَّهما عِندَ المُسلِمين بمَنزِلةِ البراءةِ)
[760] يُنظر: ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 304). .
ويُوَضِّحُ الوَرْجلانيُّ أيضًا مَوقِفَ
الإباضيَّةِ منهما بأنهما ممَّن أوجب اللهُ لهما النَّارَ، وحَرَّم عليهما الجنَّةَ، بعَكسِ ما نطق به من لا ينطِقُ عن الهوى؛ فقد بشَّرهما الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ، وهم يُبَشِّرونَهما بالنَّارِ! فقال الوَرْجَلانيُّ: (أمَّا عليُّ بنُ أبي طالبٍ فإنَّ ولايتَه حَقٌّ عِندَ اللهِ تعالى -يعني به قَبلَ التَّحكيم- وكانت على أيدي الصَّحابةِ وبقيَّةِ الشُّورى، ثُمَّ قاتَلَ
طَلحةَ و
الزُّبَيرَ و
عائشةَ أمَّ المُؤمِنين، فِقتالُه حَقٌّ عِندَ اللهِ لشَقِّهم عصا الأمَّةِ، ونَكْثِهم الصَّفقةَ، فسَفَكوا الدِّماءَ وأظهَروا الفسادَ؛ فحَلَّ لعَليٍّ قِتالُهم، وحَرَّم اللهُ عليهم الجنَّةَ، فكانت عاقبتُهما إلى النَّارِ والبَوارِ)
[761] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 28). .
فسُبحانَ اللهِ العظيمِ! ما أجرَأَ أهلَ الزَّيغِ على شَتمِ الصَّحابةِ الأخيارِ الذين نَصَروا الإسلامَ بأنفُسِهم وأموالِهم، وكانوا من جنودِه البواسِلِ في ساعةِ العُسرةِ، قَبلَ أن يُوجَدَ آباءُ وأجدادُ هؤلاء المُعتَدين الذين ينتَقِصونَهم ويَحكُمون عليهم بالنَّارِ! لقد كان
طَلحةُ و
الزُّبَيرُ رَضيَ اللهُ عنهما من خيارِ الصَّحابةِ ومِن المشهودِ لهم بالجنَّةِ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذين رَضيَ اللهُ عنهم ورَضوا عنه، ولهم مواقِفُ مُشَرِّفةٌ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سواءٌ كانت في السِّلمِ أو في الحَربِ من طاعةٍ وتضحيةٍ وإقدامٍ في مجاهَدةِ الكُفَّارِ، وما أحرى بالمُسلِمِ أن يَترُكَ تَنَطُّعَ
الخَوارِجِ والشِّيعةِ في مَوقِفِهم من الصَّحابةِ! فإنَّه لا يَقِفُ مَوقِفَهم أحَدٌ فيَسلَمَ إلَّا أن يتدارَكَه اللهُ برَحمتِه ويُلهِمَه التَّوبةَ.