المَطلَبُ الأوَّلُ: مَوقِفُ غُلاةِ الخَوارِجِ من عامَّةِ المُسلِمين المُخالِفين لهم
ذكَر
الأشعَريُّ أنَّ
الخَوارِجَ مُجمِعون على أنَّ مُخالِفيهم يستَحِقُّون السَّيفَ حلالٌ دِماؤهم، إلَّا فِرقةَ
الإباضيَّةَ؛ فإنَّها لا ترى ذلك إلَّا مع السُّلطانِ، كما عبَّر عن هذا بقولِه: (وأمَّا السَّيفُ فإنَّ
الخَوارِجَ جميعًا تقولُ به وتراه، إلَّا أنَّ
الإباضيَّةَ لا ترى اعتراضَ النَّاسِ بالسَّيفِ، ولكِنْ يَرَون إزالةَ أئمَّةِ الجَورِ ومَنْعَهم من أن يكونوا أئمَّةً بأيِّ شَيءٍ قَدَروا عليه؛ بالسَّيفِ أو بغيرِ السَّيفِ)
[762] ((المقالات)) (1/204). .
وقال
الشَّاطبيُّ في كلامِه عن الاختلافاتِ الضَّالَّةِ التي أدَّت بالمُسلِمين إلى تكفيرِ بعضِهم بعضًا وسَفَكوا بسَبَبِها دماءَهم: (ألا ترى كيف كانت ظاهرةً في
الخَوارِجِ الذين أخبر بهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قولِه:
((يَقْتُلون أهلَ الإسلامِ ويَدَعون أهلَ الأوثانِ )) [763] أخرجه البخاري (3344)، ومُسلِم (1064) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. [764] ((الاعتصام)) (2/233). ؟
وقد اختلف عُلَماءُ الفِرَقِ في تحديدِ أوَّلِ من حَكَم بشِركِ أهلِ القِبلةِ وكُفرِهم، هل هم الأزارِقةُ أم المُحَكِّمةُ الأولى؟ فهناك من يرى أنَّ الأزارقةَ هم الذين ابتَدَعوا القولَ بتكفيرِ عامَّةِ المُسلِمين. قال
الأشعَريُّ: (أوَّلُ من أحدث الخلافَ بَينَهم نافِعُ بنُ الأزرَقِ الحنَفيُّ، والذي أحدَثَه: البراءةُ من القَعَدةِ، والمحنةُ لِمَن قَصَد عَسْكَرَه، وإكفارُ مَن لم يهاجِرْ إليه)
[765] ((المقالات)) (1/169). .
وذهَب البَغداديُّ إلى أنَّ الأزارقةَ هم الذين ابتَدَعوا القولَ بتَشريكِ المُسلِمين، أمَّا المُحَكِّمةُ فلم يحكُموا عليهم إلَّا بالكُفرِ، فقال عن بِدَعِ الأزارقةِ: (ومنها قولُهم بأنَّ مُخالِفيهم من هذه الأمَّةِ مُشرِكون، وكانت المُحَكِّمةُ الأولى يقولون إنَّهم كَفَرةٌ لا مُشرِكون)
[766] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 83). .
ومِثلُ ما ذَكَره البَغداديُّ في هذا المقامِ نجِدُه عِندَ الإباضيِّ صاحِبِ كتابِ (الأديانِ والفِرَقِ)، فإنَّه يرى أنَّ نافِعًا لم يَسبِقْه أحدٌ بالقولِ بتشريكِ المُخالِفين واستِحلالِ دماءِ أطفالِ مُخالِفيه، ويرى أنَّ
الخَوارِجَ كُلَّهم على حَقٍّ وصوابٍ في الخُروجِ، لولا زَلَّةُ نافِعِ بنِ الأزرَقِ وخُروجُه على أهلِ الحَقِّ، كما يرى المؤَلِّفُ
[767] ((كتاب الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 97). .
والواقِعُ أنَّه سيتبَيَّنُ فيما يأتي من خلالِ ما صدَر عن المُحَكِّمةِ الأولى من أقوالٍ وأفعالٍ، وما دار بَينَهم وبَينَ مُخالِفيهم من مُحاوراتٍ ومُناظراتٍ، أنَّهم كانوا سابقين إلى تكفيرِ مُخالِفيهم من المُسلِمين وتشريكِهم ومعاملتِهم على هذا الأساسِ، وأنَّ الأزارقةَ لم يكونوا في ذلك إلَّا تبَعًا لهم، وإن كانوا قد غالَوا في هذا المَوقِفِ غُلُوًّا شَديدًا.
وأوَّلُ ما يُستشهَدُ به على مَوقِفِ المُحَكِّمةِ الأولى من مُخالِفيهم من المُسلِمين هو ما ذَكَره قيسُ بنُ سَعدِ بنِ عُبادةَ في محاورتِه لهم ليرجِعوا إلى الطَّاعةِ والجماعةِ، ويخَطِّئَهم في مَوقِفِهم تجاهَ المُسلِمين حينَ اعتَبَروهم مُشرِكين؛ فسَفَكوا دماءَهم واستحَلُّوا حُرُماتِهم، ومنه قولُه يُقَرِّرُ عليهم أفعالَهم: (فإنَّكم ركِبْتُم عظيمًا من الأمرِ؛ تَشهَدون علينا بالشِّرْكِ، والشِّرْكُ ظُلمٌ عظيمٌ، وتَسفِكون دماءَ المُسلِمين وتَعُدُّونهم مُشرِكين)
[768] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/83). فهذه شهادةٌ مِن شاهِدِ عِيانٍ بأنَّ المُحَكِّمةَ الأُولى كانوا يَعُدُّون مُخالِفيهم مُشرِكين.
وذَكَر نَصرُ بنُ مُزاحِمٍ المِنقَريُّ أنَّ المُحَكِّمةَ قالوا بتشريكِ مُخالِفيهم، وعلى رأسِهم عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه، فقال: (بَرِئوا من عليٍّ، وشَهِدوا عليه بالشِّرْكِ، وبَرِئَ عَليٌّ منهم)
[769] ((وقعة صفين)) (ص: 518). ، وكما أشرك في نظرِه عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه أشرك كذلك ابنُه الحَسَنُ رَضيَ اللهُ عنه؛ فقد أقبل عليه الجَرَّاحُ بنُ سنانٍ وذلك بَعدَ مصالحتِه
مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه وقال له: (أشرَكْتَ كما أشرك أبوك، ثُمَّ طعَنَه في أصلِ فَخِذِه)
[770] ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 95). .
فالمُحَكِّمةُ إذًا قد حكَمَت بالشِّرْكِ على مُخالِفيهم، وقد حكَموا أيضًا عليهم بالكُفرِ كما يرويه عنهم المَلَطيُّ بقولِه: (الفِرقةُ السَّابعةُ:
الحَروريَّةُ، يقولونَ بتكفيرِ الأمَّةِ)
[771] ((التنبيه والرد)) (ص: 56). .
ومن الحوادِثِ التي تُثبِتُ تكفيرَهم لمُخالِفيهم ومِن ثمَّ استِحلالَهم لدمائِهم ما هو معروفٌ مشهورٌ مِن قَتْلِهم عبدَ اللهِ بنَ خَبَّابٍ ابنَ صاحِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وغيرِه من المُسلِمين.
فقد ورد أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه (بعَث إلى أهلِ النَّهْرَوانِ أن ادفَعوا إلينا قتَلةَ إخوانِنا نقتُلْهم بهم، ثُمَّ أنا تارِكُكم وكافٌّ عنكم حتَّى ألقى أهلَ الشَّامِ، فلعلَّ اللهَ يُقَلِّبُ قلوبَكم ويَرُدُّكم إلى خيرٍ ممَّا أنتم عليه من أمرِكم، فبَعَثوا إليه: كُلُّنا قَتَلَهم، وكنَّا نستَحِلُّ دماءَهم ودماءَكم)
[772] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/83). .
فلو لم يكونوا مُعتَقِدين كُفرَهم وخُروجَهم عن الإسلامِ في زَعمِهم لَمَا استحَلُّوا دماءَهم.
وقد كان رجلٌ يُسَمَّى الخُرَيتَ بنَ راشِدٍ من أشَدِّ الخارِجين على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه وعلى المُسلِمين عمومًا، فقد كان في طريقِه يقتُلُ كُلَّ من قال إنَّه مُسلِمٌ، ويخلِّي سبيلَ من لا يعتَقِدُ الإسلامَ! وكان هذا الفِعلُ منه مِصداقًا لحديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنهم:
((يَقتُلون أهلَ الإسلامِ ويَدَعون أهلَ الأوثانِ )) [773] رواه البخاري (3344)، ومُسلِم (1064) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقد خرج هذا الرَّجُلُ على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه فيمن أطاعه من قومِه وغيرِهم، وفي أثناءِ سَيرِهم نحوَ قريةٍ يقالُ لها نِفَّرٌ، حَدَث ما بَيَّنَه كتابُ أحَدِ عُمَّالِ أميرِ المُؤمِنين عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه ويُسَمَّى قَرَظةَ بنَ كَعبٍ الأنصاريَّ يخبِرُه فيه بمسيرِ
الخَوارِجِ، قال فيه: (بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، أمَّا بَعدُ، فإنِّي أخبِرُ أميرَ المُؤمِنين أنَّ خيلًا مَرَّت بنا من قِبَلِ الكوفةِ متوَجِّهةً نحوَ نِفَّرٍ، وأنَّ رجُلًا من دهاقينِ أسفَلِ الفُراتِ قد صَلَّى -يقالُ له: زاذانُ فَرُّوخ- أقبل من قِبَلِ أخوالِه بناحيةِ نِفَّرٍ، فعَرَضوا له، فقالوا: أمُسلِمٌ أنت أم كافِرٌ؟ فقال: بل أنا مُسلِمٌ، قالوا: فما قولُك في عليٍّ؟ قال: أقولُ فيه خيرًا، أقولُ: إنَّه أميرُ المُؤمِنين وسَيِّدُ البَشَرِ، فقالوا له: كفَرْتَ يا عَدُوَّ اللهِ. ثُمَّ حَمَلَت عليه عِصابةٌ منهم فقَطَّعوه)
[774] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/117). .
بل إنَّهم وَقَعوا في تكفيرِ النَّاسِ لأقَلِّ سَبَبٍ حتَّى حَكَموا على أنفُسِهم بالكُفرِ حينَ قَبِلوا التَّحكيمَ أوَّلَ الأمرِ! ففي أثناء محاورتِهم مع عليٍّ أقرُّوا على أنفُسِهم أنَّهم قد كَفَروا ثُمَّ تابوا، وأنَّ هذا الحُكمَ عامٌّ على الجميعِ حتَّى عَليٍّ نَفسِه؛ فإنَّ عليه إذا أراد الإسلامَ أن يُعلِنَ كُفرَه وتوبتَه، هكذا بلغ بهم العِنادُ والجَهلُ، فقالوا له: (إنَّا حَكَّمْنا، فلمَّا حَكَّمْنا أثِمْنا وكُنَّا بذلك كافِرينَ، وقد تُبْنا، فإن تُبْتَ كما تُبْنا فنحن منك ومعك، وإن أبَيتَ فاعتَزِلْنا فإنَّا مُنابِذوك على سواءٍ، إنَّ اللهَ لا يحبُّ الخائِنين)، فأجابهم عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه بقولِه: (أصابَكم حاصِبٌ ولا بَقِيَ منكم وابِرٌ -أي: أحَدٌ-! أبعَدَ إيماني برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهِجْرتي معه وجِهادي في سَبيلِ اللهِ أشهَدُ على نفسي بالكُفرِ؟! لقد ضَلَلْتُ إذًا وما أنا من المُهتَدينَ)
[775] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/84). .
وهكذا يتبيَّنُ ممَّا سبَق ثبوتُ تكفيرِ المُحَكِّمةِ وتَشريكِهم لأهلِ القبلةِ، ومعاملتِهم لهم على هذا الأساسِ، وقد تابعهم على ذلك
الخَوارِجُ فيما بَعدُ، ولا سيَّما نافِعِ بنِ الأزرَقِ.
ويَذكُرُ
المُبَرِّدُ أنَّ نافِعًا كان لا يرى أوَّلَ الأمرِ أنَّ مُخالِفيه مُشرِكون، ولا يرى أيضًا قَتلَ الأطفالِ حتَّى جاء مولًى لبني هاشمٍ، فقال له تلك المقالةَ، فانتهَرَه باديَ الأمرِ، ولكِنَّه ما زال به حتَّى أقنَعَه بذلك الرَّأيِ الخاطِئِ، ومن هنا أخَذ في تطبيقِه بكُلِّ قَسوةٍ وعُنفٍ، قال
المُبَرِّدُ: (ولم يزالوا على رأيٍ واحدٍ يتَوَلَّون أهلَ النَّهرِ ومِرْداسًا ومن خرج معه، حتَّى جاء مولًى لبني هاشمٍ إلى نافعٍ، فقال له: إنَّ أطفالَ المُشرِكين في النَّارِ، وإنَّ مَن خالَفَنا مُشرِكٌ، فدِماءُ هؤلاء الأطفالِ لنا حَلالٌ! قال له نافعٌ: كفَرْتَ وأدلَلْتَ على نفسِك، قال له: إنْ لم آتِك بهذا من كتابِ اللهِ فاقتُلْني:
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26-27] فهذا أمرُ الكافرين وأمرُ أطفالِهم، فشَهِد نافعٌ أنَّهم جميعًا في النَّارِ، ورأى قَتْلَهم)
[776] ((الكامل)) (2/176). !
وأيًّا كان الأمرُ، فإنَّ كونَ هذا المَوقِفِ لنافعٍ ابتداءً أو بَعدَ تلك المحاورةِ، يُؤكِّدُ أنَّه اقتنع به، بل وغالى فيه حتَّى أصبح الأزارِقةُ هم أكبَرَ من تزعَّم القولَ بتشريكِ المُخالِفين وإخراجِهم عن الملَّةِ واستباحةِ كُلِّ شَيءٍ منهم، وقد أتبعوا قولَهم بالفعلِ؛ فسَفَكوا الدِّماءَ، وانتَهَكوا المحَرَّماتِ، وقَتَلوا مُخالِفيهم كبارَهم وصِغارَهم، لم يُراعوا في ذلك فيهم إلًّا ولا ذِمَّةً، وقد تواتَرت أقوالُ العُلَماءِ في ذلك، يُؤَيِّدُ بعضُهم بعضًا. على أنَّ الأزارِقةَ هم شَرُّ الفِرَقِ وأشَدُّهم على أهلِ الإسلامِ.
وقد ذكَر مَوقِفَهم من مُخالِفيهم عُلَماءُ الإسلامِ، ومنهم
الأشعَريُّ؛ حيثُ قال في مَعرِضِ بيانِه لأقوالِ الأزارِقةِ: وإنَّهم يقولون: (إنَّ الدَّارَ دارُ كُفرٍ، يَعْنون دارَ مُخالِفيهم)
[777] ((مقالات الإسلاميين)) (1/170). وما دام مُخالِفوهم بهذه الصِّفةِ، فلا بأسَ لديهم في ارتكابِ ما ينافي الأخلاقَ والعُرفَ بَينَ النَّاسِ (استحَلُّوا خَفْرَ الأماناتِ التي أمَر اللهُ بأدائِها، وقالوا: قومٌ مُشرِكون لا ينبغي أن تؤدَّى الأمانةُ إليهم)
[778] ((مقالات الإسلاميين)) (1/174). .
وقال البَغداديُّ: (زعَم نافعٌ وأتباعُه أنَّ دارَ مُخالِفيهم دارُ كُفرٍ)
[779] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 84). .
وقال المَلَطيُّ: (صِنفٌ منهم يُقالُ لهم الأزارِقةُ، وهم أصعَبُ
الخَوارِجِ وأشَرُّهم فِعلًا وأسوَأُهم حالًا)
[780] ((التنبيه والرد)) (ص: 167). ، وذلك بما اعتَقَدوه في النَّاسِ وما فعلوه بهم، بل إنَّهم يَعتَبِرون حتَّى أنفُسَهم مُشرِكين بمخالطتِهم مُخالِفيهم والإقامةِ معهم، حتَّى يخرُجوا عنهم فيَثبُتَ إسلامُهم عِندَ ذاك، وإلَّا فهم مِثلُهم مُشرِكون، كما قال
ابنُ الجوزيِّ مُبَيِّنًا ذلك: (وكان أصحابُ نافِعِ بنِ الأزرَقِ يقولون: نحن مُشرِكون ما دُمْنا في دارِ الشِّرْكِ، فإذا خرَجْنا فنحن مُسلِمون، قالوا: ومُخالِفونا في المَذهَبِ مُشرِكون)
[781] ((تلبيس إبليس)) (ص: 95). .
وهذا يدُلُّ على غايةِ جَهلِهم وتعصُّبِهم لرأيِهم، فهل كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ كان في مكَّةَ قَبلَ الهجرةِ بَينَ المُشرِكين مُشرِكًا بسَبَب مُقامِه؟! هذا منهم ضلالٌ إضافةً إلى ضلالتِهم في اعتبارِهم المُسلِمين المخالِطين لهم مُشرِكين، ولكِنَّ اللهَ قد جعل بأسَهم بَينَهم؛ يقتُلُ بعضُهم بعضًا، ويَغنَمُ بعضُهم مالَ بعضٍ، شأنَ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ، يقولُ صاحِبُ كتابِ (الأديان): (وأجمَعوا على تشريكِ أهلِ القِبلةِ، وسَبيِ ذراريِّهم، وغنيمةِ أموالِهم، ومنهم من يستحِلُّ قَتلَ السَّريرةِ والعلانيةِ، واعترَضوا النَّاسَ بالسَّيفِ على غيرِ دَعوةٍ، ومنهم من لا يستَحِلُّ قَتلَ السَّريرةِ، وهم مُختَلِفون فيما بَينَهم، يقتُلُ بعضُهم بعضًا، ويَغنَمُ بعضُهم مالَ بعضٍ، ويَبرَأُ بعضُهم من بعضٍ)
[782] يُنظر: (ص: 97). .
وقد استدلَّ نافعٌ بالآياتِ التي وردت في المُشرِكين زاعمًا أنَّها تشمَلُ مُخالِفيه من المُسلِمين، وذلك حينَ قام خطيبًا في أصحابِه يُذكِّرُهم بنِعمةِ اللهِ عليهم؛ حيثُ عرَّفهم من الحقِّ ما لم يَعرِفْه غيرُهم، وأنَّه لا ينبغي لهم وَلايةُ أحَدٍ من مُخالِفيهم، فلا يجوزُ التَّزوُّجُ منهم، أو مُوارثتُهم، أو حتَّى الإقامةُ معهم، ومن قولِه في ذلك: (فقد أنزل اللهُ تبارك وتعالى:
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 1] ، وقال:
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ، فقد حرَّم اللهُ وَلايتَهم، والمُقامَ بَينَ أظهُرِهم، وإجازةَ شَهادتِهم، وأكلَ ذبائِحِهم، وقَبولَ عِلمِ الدِّينِ عنهم، ومُناكَحَتِهم ومُوارثَتَهم، وقد احتجَّ اللهُ علينا بمعرفةِ هذا، وحَقَّ علينا أن نعلَمَ هذا الدِّينَ الذين خرَجْنا مِن عِندِهم، ولا نكتُمَ ما أنزل اللهُ، واللهُ عزَّ وجَلَّ يقولُ:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] ).
قال
الطَّبَريُّ: (فاستجاب له إلى هذا الرَّأيِ جميعُ أصحابِه)
[783] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/567). .
وقد أورد
الشَّاطبيُّ قِصَّةً عَجيبةً لهم تدُلُّ على فسادِ اعتقادِهم وخُروجِهم عن الجادَّةِ بقَتْلِهم مَن قال: إنَّه مُسلِمٌ، دونَ التَّحقيقِ من صِدقِه أو كَذِبِه، وكأنَّما قولُ المُخالِفِ لهم: أنا مُسلِمٌ، يساوي قولَه: إنَّه كافِرٌ! كما حكى
الشَّاطبيُّ ذلك بقولِه: (رُوِيَ في حديثٍ خَرَّجه البَغَويُّ في مُعجَمِه عن حُمَيدِ بنِ هِلالٍ أنَّ عُبادةَ بنَ قُرطٍ غزا فمكَث في غزاتِه تلك ما شاء اللهُ، ثُمَّ رجع مع المُسلِمين منذُ زمانٍ، فقَصَد نحوَ الأذانِ يريدُ الصَّلاةَ، فإذا هو بالأزارِقةِ، فلمَّا رأَوه قالوا: ما جاء بك يا عدُوَّ اللهِ؟! قال: ما أنتم يا إخوتي؟ قالوا: أنت أخو
الشَّيطانِ، لَنَقتُلَنَّك! قال: أمَا تَرْضَون منِّي بما رَضِيَ به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قالوا: وأيُّ شيءٍ رَضِيَ منك؟ قال: أتيتُه وأنا كافِرٌ، فشَهِدتُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فخَلَّى عنِّي. قال: فأخذوه فقَتَلوه)
[784] ((الاعتصام)) (2/226). !
وذكَر
ابنُ حَزمٍ تَفرقتَهم بَينَ المُسلِمين والذِّمِّيِّين في المعامَلةِ، فقال: (قالوا باستعراضِ كُلِّ مَن لَقُوه من غيرِ أهلِ عَسكَرِهم، ويَقتُلونَه إذا قال: أنا مُسلِمٌ، ويُحَرِّمون قَتْلَ مَن انتمى إلى اليهودِ أو إلى النَّصارى أو المجوسِ! وبهذا شَهِد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم بالمُروقِ من الدِّينِ كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّميَّةِ؛ إذ قال عليه السَّلامُ: إنَّهم
((يَقتُلون أهلَ الإسلامِ، ويَترُكون أهلَ الأوثانِ )) [785] رواه البخاري (3344)، ومُسلِم (1064) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وهذا من أعلامِ نبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ أنذر بذلك، وهو من جزئيَّاتِ الغَيبِ فخرج كما قال)
[786] ((الفصل)) (4/189). ويُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/167). .
وقال ابنُ عبدِ رَبِّه: (قال نافعٌ باستعراضِ النَّاسِ، والبراءةِ من عُثمانَ وعليٍّ و
طلحةَ و
الزُّبَيرِ، واستِحلالِ الأمانةِ، وقَتْلِ الأطفالِ)
[787] ((العقد الفريد)) (1/223). .
وقد عاب نَجْدةُ بنُ عامِرٍ على نافعٍ ما ذهب إليه من تكفيرِه للقَعَدةِ، واستِحلالِه قَتْلَ الأطفالِ، ثُمَّ رأيِه في عَدَمِ أداءِ الأمانةِ إلى من ائتمَنَه من مُخالِفيه، واستدلَّ عليه في كُلِّ ما تقدَّم بأدِلَّةٍ من القرآنِ
[788] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/396). ، وذلك في كتابٍ أرسله نَجْدةُ إليه.
وقد أجاب نافِعٌ عن كتابِ نَجْدةَ بكلامٍ جاء فيه بالنِّسبةِ لمُخالِفيهم قولُه: (وأمَّا استِحلالُ الأماناتِ، فمَن خالَفَنا فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ أحَلَّ لنا أموالَهم كما أحَلَّ لنا دماءَهم؛ فدِماؤهم حلالٌ طِلْقٌ، وأموالُهم فَيءٌ للمُسلِمين)
[789] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (ص: 397). وفي هذا تبريرٌ منه لأمرٍ باطلٍ بأمرٍ باطلٍ مِثْلِه! فما أحلَّ اللهُ له دماءَ المُسلِمين حتَّى يَبنيَ عليه استحلالَه لأموالِهم!
ومِثلُ تشَدُّدِ الأزارِقةِ تجاهَ مُخالِفيهم في حُكمِهم عليهم بالشِّرْكِ واستِحلالِ دِمائِهم وأموالِهم، طائفةٌ من فِرقةِ
البَيْهَسيَّةِ تقولُ بأنَّ مُخالِفيهم مُشرِكون حلالٌ دِماؤُهم وأموالُهم، ولا تَقِلُّ في ذلك عنفًا عن الأزارقةِ، قال
الأشعَريُّ مبيِّنًا أقوالَ هذه الطَّائفةِ: (قالت: الدَّارُ دارُ شِركٍ، وأهلُها جميعًا مُشرِكون، وتَرَكَت الصَّلاةَ إلَّا خَلْفَ مَن تَعرِفُ، وذَهَبت إلى قَتلِ أهلِ القِبلةِ، وأخْذِ الأموالِ، واستحَلَّت القَتْلَ والسَّبْيَ على كُلِّ حالٍ)
[790] ((المقالات)) (1/194). .
ثمَّ زاد هذا تأكيدًا في موضعٍ آخَرَ عن حاكٍ لم يُعَيِّنْه يَذكُرُ أنَّ هذا الحُكمَ هو ما يعتَقِدُه جميعُ
البَيْهَسيَّةِ، فقال: (وحُكِيَ أنَّ
البَيْهَسيَّةَ تقولُ بقَتلِ أهلِ القِبلةِ وأخذِ الأموالِ، وتركِ الصَّلاةِ إلَّا خَلْفَ مَن تَعرِفُ، والشَّهادةِ على الدَّارِ بالكُفرِ)
[791] ((المقالات)) (1/205). .
ومِثلُهم طائفةٌ من الصُّفْريَّةِ إلَّا أنَّ هذه الطَّائفةَ تفوقُ تلك بتعَمُّقِها بدرجةٍ أكبَرَ في الفَوضَويَّةِ والجَهلِ؛ فهي تَعتَبِرُ القتلَ مقصودًا لذاتِه من أيِّ ملَّةٍ كان، سواءٌ كان مُؤمِنًا في ميزانِهم أم كافرًا، من غيرِ تمييزٍ، وذلك فيما ذَكَره
ابنُ حزمٍ بقولِه: (وقالت طائفةٌ من الصُّفْريَّةِ بوجوبِ قَتلِ كُلِّ من أمكَنَ قَتلُه من مُؤمِنٍ عِندَهم أو كافرٍ، وكانوا يُؤَوِّلون الحَقَّ بالباطِلِ)
[792] ((الفصل)) (4/190). ، فإذا كانوا بهذه المثابةِ فكيف يمكِنُ أن يتعايشوا مع النَّاسِ، بل كيف يمكِنُ تعايُشُهم أيضًا فيما بَينَهم؟
وبالإضافةِ إلى أولئك الغُلاةِ المتشَدِّدين من
الخَوارِجِ مع غيرِهم بل مع
الخَوارِجِ أنفُسِهم، هناك حمزةُ بنُ أكْرَكَ، فمع أنَّه كان لا يرى قَتْلَ مُخالِفيه إلَّا بَعدَ إعلانِ الحربِ، إلَّا أنَّه بلغَت به الشِّدَّةُ على من لا يوافِقُه على آرائِه أن يَعتَبِرَه كافرًا مُشرِكًا، وإن كان من
الخَوارِجِ القَعَدةِ الذين يُواليهم، وكان مُفسِدًا متجاوِزًا حَدَّ الرَّحمةِ مع مُخالِفيه، وهو ما ذَكَره عنه البَغداديُّ، فقال: (ثمَّ إنَّه والى القَعَدةَ من
الخَوارِجِ مع قولِه بتكفيرِ مَن لا يوافِقُه على قتالِ مُخالِفيه من فِرَقِ هذه الأمَّةِ مع قَولِه بأنَّهم مُشرِكون، وكان إذا قاتَلَ قَومًا وهزَمَهم أمرَ بإحراقِ وعَقْرِ دوابِّهم، وكان مع ذلك يقتُلُ الأَسْرى من مُخالِفيهم)
[793] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 98). .