المَبحَثُ الثَّاني: أصولُ الفِرَقِ المُنتسِبةِ للإسلامِ
ذهَب كثيرٌ مِن العُلَماءِ ممَّن يرى تعيينَ تلك الفِرَقِ أو لا يراه إلى ذِكرِ أصولِ الفِرَقِ وأمَّهاتِها، واختلَفوا في ذلك، وأقدَمُ مَن تكلَّم في تعيينِ الفِرَقِ الهالِكةِ وبيانِ أصولِها:
عبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ (ت 181ه)، ويوسُفُ بنُ أسباطٍ (ت 195ه)؛ فقالا: إنَّ أصولَ البِدَعِ أربعةٌ
[20] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/350). ، وهُم: القَدَريَّةُ، و
المُرجِئةُ، والشِّيعةُ، و
الخوارِجُ [21] يُنظر: ((الإبانة)) لابن بطة (1/378، 379) وقد قسَّما كلَّ فِرقةٍ إلى تقسيماتٍ فرعيَّةٍ؛ فعندَ ابنِ أسباطٍ كُلُّ فِرقةٍ تشعَّبَت (18) فرقةً، حتى كمَلَت (72)، أمَّا ابنُ المبارَكِ فجَعَل الشِّيعةَ (22)، والحَرُوريَّةَ (21)، والقَدَريَّةَ (16) والمُرجِئةَ (13) حتَّى كمَلَت (72)، والمقصودُ أنَّ بداياتِ التَّقسيمِ والتَّعيينِ للفِرَقِ وحَصْرَها بـ (72) فرقةً، كان مُبكِّرًا في نهاياتِ القَرنِ الثَّاني الهِجريِّ. .
وهناك تصنيفٌ آخَرُ لأمَّهاتِ الفِرَقِ عندَ أبي عاصِمٍ خُشَيْشِ بنِ أَصْرَمَ (ت 253)؛ حيثُ عدَّ أمَّهاتِ الفِرَقِ، وذكَر أنَّ أوَّلَ مَن افترَق مِن هذه المذاهِبِ ستٌّ؛ هم: الزَّنادِقةُ، و
الجَهميَّةُ، والقَدَريَّةُ، و
المُرجِئةُ، والرَّافِضةُ، والحَروريَّةُ
[22] يُنظر: ((التنبيه والرد)) للمَلَطي (ص: 91)؛ حيثُ ذَكَر ذلك عنه وتَبِعَه على هذا التَّقسيمِ، وقد أدخَل الفِرَقَ الكافرةَ في التَّقسيمِ، وهم الزَّنادقةُ مِن مَزْدَكيَّةٍ ومَانَويَّةٍ وغَيرِهم. .
ثُمَّ جاء
أبو الحَسنِ الأشعَريُّ (ت 324)، وجعَل أمَّهاتِ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ عشَرةً
[23] ذكر الأشعَريُّ أنَّ أمَّهاتِ الفِرَقِ عَشرٌ، ولكِنَّه عدَّ إحدى عشرةَ فِرقةً، هكذا في الكتابِ المطبوعِ، لكِنَّ أبا اليُسرِ البَزْدويَّ في كتابِه ((أصول الدين)) (ص: 249) ذكر قولَ أبي الحَسَنِ الأشعريِّ، وأنَّه جعَلَهم عَشَرةَ أصنافٍ وعَدَّهم كما هنا لكِنَّه قال: والعامَّةُ من أصحابِ الحديثِ. فتصيرُ عشرًا. فلعَلَّه خطَأٌ في النُّسخةِ من الطَّابِعِ أو مِن النَّاسِخِ، أُبدِلَت مِن بالواوِ، فزادت فِرقةٌ. هذا ما نبَّه إليه محقِّقُ كتابِ "مقالاتُ الإسلاميِّين"؛ حيث ذكَر أنَّها إذا عُدَّت صارت إحدى عَشرةَ لا عَشرًا. يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/65). ، وهي: الشِّيعةُ، و
الخوارِجُ، و
المُعتزِلةُ، و
المُرجِئةُ، و
الجَهميَّةُ، والضِّراريَّةُ، والحُسَينيَّةُ، والبَكريَّةُ، والعامَّةُ، وأصحابُ الحديثِ، والكُلَّابيَّةُ
[24] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/65). .
وفي كتابٍ آخَرَ له يذكُرُ أنَّ أهلَ البِدَعِ هم أربعةٌ: الرَّوافِضُ، و
الخوارِجُ، و
المُرجِئةُ، والقَدَريَّةُ
[25] يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 307). ، وإن كان ما ذكرَه في كتابِ مقالاتِ الإسلاميِّينَ أصرَحَ في التَّقسيمِ.
وهكذا تتابَع العُلَماءُ واجتهَدوا في عدِّ أمَّهاتِ الفِرَقِ، وإضافةِ ما قد يستجِدُّ في عَصرِهم مِن فِرَقٍ كبيرةٍ لها أثرٌ على المُسلِمينَ، بل العالِمُ نَفسُه قد يجتهِدُ ويذكُرُ تصنيفًا لأمَّهاتِ الفِرَقِ في كتابٍ، ويزيدُ فِرَقًا في كتابٍ آخَرَ، أو يُبدِلُها بأخرى
[26] كما فعل ابنُ الجوزيِّ في كتابه: ((تلبيس إبليس)) (ص: 28)، وفي كتاب: ((كيد الشيطان)) (ص: 92). .
والمُلاحَظُ عليها هو:1- المسألةُ اجتِهاديَّةٌ استِقرائيَّةٌ.
2- كُلُّ عالِمٍ ينظُرُ إلى ما يستجِدُّ في عَصرِه ويحدُثُ مِن فِرَقٍ.
3- أكثَرُ العُلَماءِ قسَّموها إلى أربعِ فِرَقٍ، وهي:
الخوارِجُ، و
المُرجِئةُ، والشِّيعةُ، والقَدَريَّةُ.
4- جميعُ العُلَماءِ حافَظوا على ذِكرِ الفِرَقِ الأربَعِ حتَّى لو زادوا وأوصَلوها إلى ستٍّ أو سبعٍ أو تسعٍ، تظلُّ الأربَعُ معدودةً بَينَهنَّ.
5- أثرُ الشَّيخِ على تِلميذِه، واتِّباعُ التِّلميذِ لشَيخِه في التَّقسيمِ الأساسيِّ، وإن خالَفه في بعضِ الفَرعيَّاتِ؛ فمَثلًا أبو الحُسَينِ المَلَطيُّ تابَع شَيخَه خُشَيْشَ بنَ أَصْرَمَ في التَّقسيمِ، والبَغداديُّ و
الأسْفَرايِينيُّ تابَعا
أبا الحَسنِ الأشعَريَّ.
6- أكثَرُ العُلَماءِ على إخراجِ الفِرَقِ الكافِرةِ مِن التَّعدادِ.
أمَّا معنى أنَّ هذه الفِرَقَ تُعتبَرُ (أمَّهاتِ الفِرَقِ)، فقال الطُّرْطُوشيُّ في ذلك: (اعلَمْ أنَّ عُلماءَنا رضِي اللهُ عنهم قالوا: أصولُ البِدَعِ أربَعةٌ، وسائِرُ الأصنافِ الاثنتينِ وسبعينَ فِرقةً عن هؤلاء تفرَّقوا وتشعَّبوا، ولم يُرِدْ عُلماؤُنا أنَّ أصلَ كُلِّ بِدعةٍ مِن هؤلاء الأربَعِ تفرَّعَت وتشعَّبَت على مُقتضى أصلِ البِدَعِ، حتَّى كملَت ثلاثةً وسبعينَ فِرقةً؛ فإنَّ ذلك لعلَّه لم يدخُلْ في الوُجودِ إلى الآنَ، وإنَّما أرادوا أنَّ كُلَّ بِدعةٍ وضلالةٍ لا تكادُ توجَدُ إلَّا في هذه الفِرَقِ الأربَعِ، وإن لم تكنِ البِدَعُ الثَّانيةُ فَرعًا للأولى وشُعبةً مِن شُعَبِها، بل هي بِدعةٌ مُستقلَّةٌ بنَفسِها، ليست مِن الأولى بسببٍ.
وبيانُ ذلك بالمِثالِ: أنَّ القَدَرَ أصلٌ مِن أصولِ البِدَعِ، ثُمَّ اختلَف أهلُه في مسائِلَ مِن شُعَبِ القَدَرِ، وفي مسائِلَ لا تعلُّقَ لها بالقَدَرِ، فجميعُهم مُتَّفِقونَ أنَّ أفعالَ العِبادِ خَلقٌ لهم مِن دونِ اللهِ تعالى، ثُمَّ اختلَفوا في فَرعٍ مِن فُروعِ القَدَرِ، فقال أكثَرُهم: لا يكونُ فِعلٌ بَينَ فاعِلَينِ، وقال بعضُهم: يجوزُ فِعلٌ بَينَ فاعِلَينِ مخلوقَينِ.
ثُمَّ اختلَفوا فيما لا يعودُ إلى القَدَرِ في مسائِلَ كثيرةٍ كاختِلافِهم في الصَّلاحِ والأصلَحِ، وهكذا ابتدعَت كُلُّ فِرقةٍ مِن هذه الفِرَقِ بِدَعًا تتعلَّقُ بأصلِ بِدعتِها التي هي معروفةٌ بها، وبِدَعًا لا تتعلَّقُ بها)
[27] ((الحوادث والبدع)) (ص: 33-35) باختصارٍ. .
وبيَّن أبو حاتِمٍ الرَّازيُّ معنى ذلك، فقال بَعدَ أن عدَّد أصولَ الفِرَقِ: (فهذا جِماعُ الفِرَقِ وأصولُها، ثُمَّ تشعَّبَت كُلُّ فِرقةٍ مِن هذه الفِرَقِ على فِرَقٍ، وكان جِماعُها الأصلَ، واختلَفوا في الفُروعِ؛ فكفَّر بعضُهم بعضًا، وجهَّل بعضُهم بعضًا)
[28] ((الإبانة)) لابن بطة (1/380). ويُنظر: ((التنبيه والرد)) للمَلَطي (ص: 91). .