المَبحَثُ الرَّابعُ: حُكمُ الخَوارِجِ في أطفالِ مُخالِفيهم
لم يتَّفِقِ
الخَوارِجُ على حُكمٍ واحِدٍ في شأنِ أطفالِ المُخالِفين لهم، سواءٌ كان ذلك في الدُّنيا أو في الآخِرةِ، فلهم في هذه المسألةِ أقوالٌ
[844] يُنظر: ((فرق معاصرة)) (1/292)، ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية)) (ص: 514) كلاهما لعواجي. .
فمِن
الخَوارِجِ مَن عامَلَهم أشَدَّ المعامَلةِ وأقساها فاعتَبَرهم في حُكمِ آبائِهم المُخالِفين، فاستباح قَتْلَهم باعتبارِ أنَّهم مُشرِكون من أهلِ النَّارِ كآبائِهم، والمُشرِكُ بالطَّبعِ غَيرُ مَعصومِ الدَّمِ.
ومنهم من اعتَبَرهم أبرياءَ يُخطِئُ مَن يَستبيحُ قَتْلَهم أو الحُكمَ عليهم بدخولِ النَّارَ، بل هم من أهلِ الجَنَّةِ، وقد جعَلَهم بعضُهم خَدَمًا لأهلِ الجنَّةِ.
ومنهم من توقَّف فيهم ما داموا تحتَ سِنِّ التَّكليفِ، إلى أن يَبلُغوا ويختاروا لأنفُسِهم الدِّينَ الذي يَرتَضونه، ومن هنا تُحدَّدُ مُعاملتُهم.
ومنهم من تولَّى أطفالَ المُؤمِنين وتوقَّف في أطفالِ المُشرِكين.
فمَن حَكَم عليهم بأنَّهم تابِعون لآبائِهم في شِرْكهم عامَلَهم في الدُّنيا بحسَبِ ذلك الحُكمِ.
ومَن تَولَّاهم ورأى أنَّهم ليسوا بكُفَّارٍ وأنَّ حُكمَهم ليس كحُكمِ آبائِهم، عامَلَهم بالحُسنى في الدُّنيا؛ فحَرَّم قَتْلَهم وحَرَّم القولَ فيهم بأنَّهم من أهلِ النَّارِ.
ومن توقَّف فيهم عامَلَهم كذلك بالحُسنى إلى أن يبلُغوا مَبلَغَ التَّكليفِ.
وفيما يلي تفصيلُ هذا الإجمالِ:1- القَولُ باتِّباعِ أطفالِ المُخالِفين لآبائِهم واعتبارِهم مُشرِكين كآبائِهم تُستباحُ دماؤهم، هو قولُ الأزارِقةِ، وقد عَدَّ العُلَماءُ هذا القولَ من بِدَعِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ الذي تولَّى كِبْرَه هو وأتباعُه، قال
الأشعَريُّ فيهم: (ويَرَون قَتْلَ الأطفالِ)
[845] ((المقالات)) (1/170). .
وأوضَحَ قَولَهم أيضًا البَغداديُّ، فقال في بيانِه لبِدَعِهم: (ومنها أنَّهم استباحوا قَتْلَ نساءِ مُخالِفيهم، وقَتْلَ أطفالِهم، وزَعَموا أنَّ الأطفالَ مُشرِكون، وقطَعوا بأنَّ أطفالَ مُخالِفيهم مخلَّدون في النَّارِ)
[846] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 82). ، وهكذا عِندَ
ابنِ حَزمٍ، والشَّهْرَسْتانيِّ، و
ابنِ الجوزيِّ، و
ابنِ الأثيرِ [847] يُنظر: ((الفصل)) (4/189)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/121)، ((تلبيس إبليس)) (ص: 95)، ((الكامل)) (4/167). .
وأطفالُ المُخالِفين عِندَ الأزارقةِ تَبَعٌ لآبائِهم أيضًا في عذابِ الآخرةِ، كما كانوا تبَعًا لهم في شِرْكِهم واستباحةِ دِمائِهم في الدُّنيا.
وقد استدلَّ الأزارِقةُ في قولِهم بتعذيبِ الأطفالِ في النَّارِ من القرآنِ بقَولِ اللهِ تعالى حاكيًا عن نوحٍ عليه السَّلامُ قَولَه:
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27] .
واستدلُّوا على ذلك من السُّنَّةِ بما رُوِيَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ
خديجةَ أمَّ المُؤمِنين رَضيَ اللهُ عنها قالت:
((يا رسولَ اللهِ، أين أطفالي منك؟ قال: في الجنَّةِ، قالت: فأطفالي مِن غَيرِك؟ قال: في النَّارِ. فأعادت عليه فقال لها: إنْ شِئتِ أسمعْتُكِ تضاغِيَهم)) [848] أخرجه أبو يعلى (7077)، والطبراني (23/16) (27)، والدارقطني في ((الأفراد)) كما في ((أطراف الغرائب والأفراد)) لابن طاهر المقدِسي (5/373) بنحوه، ولفظُ الطبراني: (عن خديجةَ قالت: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ أين أطفالي منك؟ قال: في الجنَّةِ، قُلتُ: بلا عَمَلٍ؟ قال: اللهُ أعلَمُ بما كانوا عامِلين ، قُلتُ: فأين أطفالي قَبْلَك؟ قال: في النَّارِ، قُلتُ: بغيرِ عَمَلٍ؟ قال: لقد عَلِمَ اللهُ ما كانوا عاملين). قال ابنُ تيميَّة في ((درء التعارض)) (8/398): موضوعٌ كَذِبٌ. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/113): فيه انقطاعٌ. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/220): رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجالهما ثقاتٌ إلَّا أنَّ عبدَ اللهِ بنَ الحارِثِ بنِ نَوفَلٍ وابنَ بُرَيدةَ لم يُدرِكا خديجةَ. وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/39): إسنادُه منقطِعٌ. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (24/644): مُرسَلٌ. وحديث: ((إنْ شِئتِ أسمَعْتُكِ تضاغِيَهم)) أخرجه أحمد (25743)، والحارث كما في ((بغية الباحث)) للهيثمي (753)، والبيهقي في ((القضاء والقدر)) (617)، ولفظ أحمد: (عن عائشةَ أنَّها ذكَرَت لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطفالَ المُشرِكين، فقال: إنْ شِئتِ أسمَعْتُكِ تضاغِيَهم في النَّارِ). قال ابنُ الجوزي في ((العلل المتناهية)) (2/924): لا يصِحُّ. وقال الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (10/515): مُنكَرٌ، وضَعَّفه جدًّا ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (3/290). وقال ابن القيم في ((أحكام أهل الذمة)) (2/1093): ضعَّفه جماعةٌ من الحُفَّاظِ. .
وبما رُوِيَ أيضًا عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((الوائِدةُ والموءودةُ في النَّارِ )) [849] رواه أبو داود (4717)، والبزار (1596)، وابن حبان (7480) من حديثِ عامِرِ بنِ شراحيلَ الشَّعبيِّ. ضعَّف إسنادَه الألباني في ((هداية الرواة)) (108)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (11/155). .
واستدلُّوا أيضًا بدليلٍ عقليٍّ، فقالوا لِمن حكَم بدخولِهم الجنَّةَ: إن كانوا عِندَكم في الجنَّةِ فهم مُؤمِنون؛ لأنَّه لا يدخُلُ الجنَّةَ إلَّا نفسٌ مُسلِمةٌ، فإن كانوا مُؤمِنين فيَلزَمُكم أن تَدفِنوا أطفالَ المُشرِكين مع المُسلِمين، وألَّا تَتْركوه إذا بلَغ أن يلتَزِمَ دينَ أبيه، فتكونَ عليه رِدَّةً وخُروجًا عن الإسلامِ إلى الكُفرِ، وينبغي لكم أن تَرِثوه وتُورِثوه من أقارِبِه المُسلِمين.
قال
ابنُ حزمٍ بَعدَ ذِكرِ استدلالاتِهم تلك: (هذا كُلُّ ما احتجُّوا به، ما يُعلَمُ لهم حُجَّةٌ غيرُ هذا أصلًا)
[850] ((الفصل)) (4/73). .
وممَّن قال بتعذيبِ الأطفالِ تَبَعًا لآبائِهم بَعدَ الأزارِقةِ: العَجارِدةُ؛ فإنَّهم كانوا يقولون: إنَّ (أطفالَ المُشرِكين في النَّارِ مع آبائِهم)
[851] ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/128). ، وكذا الحَمزيَّةُ والخلَفيَّةُ؛ فإنَّهم يَعتَبِرون الأطفالَ كُلَّهم من مُخالِفيهم في النَّارِ، وتُعتَبرُ الشَّبيبيَّةُ من هذا الفريقِ المتشَدِّدِ؛ حيثُ حكَموا على أطفالِ المُؤمِنين (بأنَّهم مُؤمِنون أطفالًا وبالغين حتَّى يَكفُروا، وأنَّ أطفالَ الكُفَّارِ كُفَّارٌ أطفالًا وبالغين حتَّى يُؤمِنوا)
[852] ((المقالات)) للأشعري (1/194). .
2- قولُ
الخَوارِجِ ببراءةِ أطفالِ مُخالِفيهم هو قولُ النَّجَداتِ أتباعِ نَجْدةَ بنِ عامِرٍ؛ فإنَّهم كانوا لا يَرَون قَتْلَ الأطفالِ، بل يَرَونهم معذورين بصِغَرِهم عن تحمُّلِ التَّبِعاتِ التي تقَعُ على آبائِهم، ويظهَرُ مِن كِتابِ نَجْدةَ الذي كتبَه إلى نافعٍ أنَّه كان يرى أنَّ قَتْلَ الأطفالِ ليس من صفاتِ الرُّحماءِ الذين مدَحَهم اللهُ في كتابِه، وأنَّ القائِدَ ينبغي عليه التَّمسُّكُ بالعَدلِ، وإنصافُ المظلومِ، وقَتْلُ هؤلاء الأطفالِ ظُلمٌ وإغواءٌ من
الشَّيطانِ.
فممَّا جاء فيه قولُه يُعاتِبُه: (ثمَّ استحَلَلْتَ قَتْلَ الأطفالِ، وقد نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قَتْلِهم، وقال جلَّ ثناؤه:
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 146] )، فأجابه نافِعٌ بقولِه: (وأمَّا أمرُ الأطفالِ فإنَّ نبيَّ اللهِ نوحًا كان أعرَفَ باللهِ يا نَجْدةُ مِنِّي ومنك:
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26-27] ، فسَمَّاهم بالكُفرِ وهم أطفالٌ، وقبل أن يُولَدوا، فكيف جاز ذلك في قومِ نوحٍ ولا يجوزُ في قومِنا؟! واللهُ يقولُ:
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر: 43])
[853] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/397 - 398). .
ومِثلُ النَّجَداتِ في هذا الرَّأيِ الصُّفْريَّةُ؛ فإنَّهم لا يجَوِّزون قَتْلَ أطفالِ مُخالِفيهم كما تفعَلُ الأزارِقةُ، قال البَغداديُّ: (الصُّفْريَّةُ لا يَرَون قَتلَ أطفالِ مُخالِفيهم ونسائِهم، والأزارقةُ يَرَون ذلك)
[854] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 91). . وهذا الحُكمُ عامٌّ عِندَهم حتَّى في أطفالِ المُشرِكين، فلم يَرَوا قَتْلَهم، ومِن ثَمَّ فإنَّهم لا يجَوِّزون القولَ بأنَّهم في النَّارِ، وفي ذلك قال عنهم الشَّهْرَسْتانيُّ: (ولم يحكُموا بقَتْلِ أطفالِ المُشرِكين وتكفيرِهم وتخليدِهم في النَّارِ)
[855] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/137). .
ويَصِفُهم
الأشعَريُّ بأنَّهم: (لا يوافِقون الأزارقةَ في عذابِ الأطفالِ)
[856] ((المقالات)) (1/182). بل يُحَرِّمونه، وقد كان هذا الحُكمُ ناتجًا عن رأيِهم فيهم في الدُّنيا، وأنَّهم مَعذورون بصِغَرِهم الذي يوجِبُ عَدَمَ مؤاخَذتِهم بما يؤاخَذُ به الكِبارُ.
وقريبٌ ممَّا ذهب إليه النَّجَداتُ والصُّفْريَّةُ قولُ من يذهَبُ إلى الجزمِ بأنَّ الأطفالَ على أيِّ اعتقادٍ كان كُلُّهم في الجنَّةِ، وهذه الفِرقةُ القائلةُ بهذا القولِ هي فِرقةُ الميمونيَّةِ أتباعُ ميمونٍ الذي كان يقولُ: إنَّ أطفالَ المُشرِكين والكُفَّارِ كُلَّهم في الجنَّةِ، واحتَجَّ بقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه )) [857] رواه البخاري (1385) واللَّفظُ له، ومُسلِم (2658). من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومن الغريبِ أنَّ ميمونًا كان يَدينُ بقولِ القَدَريَّةِ، ولكِنَّه زَعَم مع ذلك أنَّ أطفالَ المُشرِكين في الجنَّةِ، كما ذَكَر البَغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ
[858] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 280)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/129). .
3- الذين توقَّفوا من
الخَوارِجِ في أمرِ أطفالِ مُخالِفيهم هم فَريقٌ من الصَّلتيَّةِ؛ حيثُ لم يجِدوا في الأطفالِ ما يُوجِبُ وَلايتَهم ولا عَداوتَهم إلى أن يَبلُغوا، وفي ذلك قال الشَّهْرَسْتانيُّ عنهم: (ويُحكى عن جماعةٍ منهم أي: الصَّلتيَّةِ أنَّهم قالوا: ليس لأطفالِ المُشرِكين والمُسلِمين وَلايةٌ ولا عداوةٌ حتَّى يَبلُغوا فيُدْعَوا إلى الإسلامِ فيُقِرُّوا أو يُنكِروا)
[859] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/129). .
ولعلَّ هذا الفريقَ من الصَّلتيَّةِ أوضَحُ في التَّوقُّفِ في أمرِ الأطفالِ من زعيمِهم عُثمانَ بنِ أبي الصَّلتِ الذي كان يقولُ: (إذا استجاب لنا الرَّجُلُ وأسلَمَ توَلَّيناه وبَرِئْنا من أطفالِه؛ لأنَّه ليس لهم إسلامٌ حتَّى يُدرِكوا فيُدْعَوا إلى الإسلامِ فيَقبَلوه)
[860] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/179)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 97). .
فإذا لم يكُنْ للأطفالِ من المُسلِمين ما يدعو إلى وَلايتِهم، فليس لهم من الكُفرِ ما يدعو إلى البراءةِ منهم، كما ذهب إليه ابنُ أبي الصَّلتِ، وهذا هو ما يدعو إلى التَّوقُّفِ التَّامِّ في شأنِهم.
وهذا المَوقِفُ هو نَفسُه مَوقِفُ فِرقةِ الثَّعالبةِ؛ فهم يقولون: (ليس لأطفالِ الكافِرين ولا لأطفالِ المُؤمِنين وَلايةٌ ولا عداوةٌ ولا براءةٌ حتَّى يَبلُغوا فيُدْعَوا إلى الإسلامِ فيُقِرُّوا به أو يُنكِروه)
[861] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/180). .
وظاهِرُ هذا الكلامِ أنَّهم توقَّفوا في الحُكمِ فيهم، ولكِنَّ
الأشعَريَّ بعدما ذكَر ما سَبَق عنهم، عاد فقال بَعدَ قليلٍ من كلامِه السَّابقِ: (ومن قولِ الثَّعالبةِ في الأطفالِ: إنَّهم يَشتَرِكون في عذابِ آبائِهم، وإنَّهم ركنٌ من أركانِهم، يُريدون بذلك أنَّهم بَعضٌ من أبعاضِهم)
[862] ((المقالات)) (1/182). ، فكيف يتِمُّ هذا الحُكمُ مع ما نقَلَه عنهم من قولِهم السَّابِقِ بالتَّوقُّفِ في شأنِهم قَبلَ البلوغِ؟! إلَّا أن يكونَ ذلك التَّوقُّفُ في الدُّنيا، وأمَّا في الآخرةِ فإنَّهم يُوجِبون لهم النَّارَ، وإلَّا لكان تناقُضًا في النَّقلِ عنهم.
والقولُ بوَلايةِ الأطفالِ أو عَدَمِها قَبلَ البلوغِ كان السَّبَبَ في انشِقاقِ ثَعلبةَ عن عبدِ الكريمِ بنِ عَجرَدٍ زعيمِ العَجارِدةِ؛ فقد كان عبدُ الكريمِ يرى القولَ بالبراءةِ من الأطفالِ قَبلَ البلوغِ، بينما ثَعلبةُ كان يقولُ: (نحن على وَلايتِهم صِغارًا وكبارًا إلى أن يتبَيَّنَ لنا منهم إنكارٌ للحَقِّ)
[863] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 101). .
ولكِنَّ أغلبيَّةَ العَجارِدةِ فيما يَظهَرُ مُختَلِفون في حُكمِ الأطفالِ؛ فالذي عليه أكثَرُهم هو وجوبُ البراءةِ منهم قَبلَ البلوغِ، ووجوبُ دَعوتِهم إلى الإسلامِ حينَ بُلوغِهم، بل ذكَرَ البَغداديُّ أنَّهم مُجمِعون على هذا القولِ
[864] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 94). ويُنظر: ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 104). ، أمَّا الأقليَّةُ منهم فقد توقَّفوا فيهم إلى أن يَبلُغوا سِنَّ الرُّشدِ ويلفِظوا بالإسلامِ، وهذه الطَّائفةُ منهم ذكرَها
ابنُ حَزمٍ [865] يُنظر: ((الفصل)) (4/191). .
4- ذهَبَ
الإباضيَّةُ إلى تولِّي أطفالِ المُسلِمين والتَّوقُّفِ في أطفالِ المُشرِكين، فلم يحكُموا لهم بنَعيمٍ أو جحيمٍ، قال قُطبُ أئمَّتِهم: (منَّا من توقَّف في أطفالِ المُشرِكين، ومنَّا من يقولُ: إنَّهم في الجنَّةِ)
[866] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 484). .
وقال ابنُ جُمَيعٍ منهم: (ووَلايةُ أطفالِ المُسلِمين، وأمَّا أطفالُ المُشرِكين والمُنافِقين فالوُقوفُ فيهم)
[867] ((مقدمة التوحيد)) (ص: 11). .
وقال صاحِبُ كتابِ (الأديان): (اختَلَفَت أصحابُنا في أطفالِ المُشرِكين والمُنافِقين على قولينِ: فقالت طائفةٌ منهم: حُكمُهم في الدُّنيا والآخرةِ حُكمُ آبائِهم قياسًا على حُكمِ أولادِ المُؤمِنين)، إلى أن قال عن هذه الطَّائفةِ: (وقالوا: لَمَّا كان أطفالُ المُؤمِنين يتنعَّمون مع آبائِهم بالاتِّفاقِ، ولم يَعمَلوا عمَلًا صالِحًا يجازَون عليه، جاز أن يُعَذَّبَ أطفالُ المُشرِكين والمُنافِقين بما لم يَعمَلوا، وللهِ أن يفعَلَ ما يشاءُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ. وقالت الفِرقةُ الأخرى: أطفالُ المُؤمِنين يُنعَّمون مع آبائِهم)، ثُمَّ وقَفَت هذه الفِرقةُ في أطفالِ غيرِ المُؤمِنين وقالوا: لأنَّ اللهَ سُبحانَه لم يتعَبَّدْنا بأن نَعلَمَ بأنَّهم في الجنَّةِ أو في النَّارِ، فلمَّا كان القولُ فيهم ممَّا يسَعُ جَهلُه، وكانت الأخبارُ الواردةُ فيهم مُختَلِفةً أحكامُها في الظَّاهِرِ، رأينا الاعتصامَ بالسُّكوتِ عن حُكمِهم، ورَأينا الوقوفَ أسلَمَ في أمرِهم. ثُمَّ قال مؤلِّفُ هذا الكتابِ: (وعلى هذا المَذهَبِ الأخيرِ أدرَكْنا أشياخَنا رَحِمَهم اللهُ)
[868] ((الأديان والفرق)) (ص: 22 -24). .
وذكَر
الأشعَريُّ والشَّهْرَسْتانيُّ أنَّ كثيرًا من
الإباضيَّةِ قد توقَّفوا في إيلامِ أطفالِ المُشرِكين في الآخرةِ، فجَوَّزوا أن يُؤلِمَهم اللهُ سُبحانَه في الآخرةِ، وجَوَّزوا أن يدخِلَهم الجنَّةَ تفَضُّلًا
[869] يُنظر: ((المقالات)) (1/189)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/135). .
ولكن يختَلِفُ الشَّهْرَسْتانيُّ مع
الأشعَريِّ في أسبابِ مجازاتِهم بالنَّارِ؛ ف
الأشعَريُّ يَذكُرُ أنَّهم يقولون: إنَّ اللهَ يُؤلِمُهم ولكِنْ ليس على سبيلِ الانتقامِ، والشَّهْرَسْتانيُّ يقولُ: إنَّه على سبيلِ الانتقامِ
[870] يُنظر: ((المقالات)) (1/189)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/135). . وعلى كُلٍّ فإنْ كان على طريقِ الانتقامِ فما ذَنبُهم حتَّى ينتَقِمَ اللهُ منهم؟! وإن كان على غَيرِ طريقِ الانتقامِ، فما الدَّاعي لتعذيبِهم بدونِ استحقاقٍ منهم لذلك الانتقامِ؟!
وهناك من
الإباضيَّةِ من يُلحِقُ أطفالَ المُشرِكين بأطفالِ المُؤمِنين، فلا يتوقَّفُ فيهم، بل قال: إنَّهم من أهلِ الجنَّةِ، وهو ما يقولُه أَطَّفَيِّشُ في تعليقِه على قولِ السَّالِميِّ: (ولا نرى قَتْلَ الصَّغيرِ من أهلِ قِبلتِنا ولا غيرِهم). قال أبو إسحاقَ أَطَّفَيِّشُ تعليقًا على ذلك: (لأنَّ حُكمَ الأطفالِ أنَّهم من أهلِ الجنَّةِ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((سألتُ اللهَ في اللَّاهينَ فأعطانيهم خَدَمًا لأهلِ الجنَّةِ)) [871] [ضعيف] أخرجه من طرق أبو يعلى (4101)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5957) بنحوه، وابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) (1544) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. قال ابن الجوزي: لا يثبُتُ، وضَعَّف إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (7/244)، وذكر الذهبي في ((تلخيص العلل المتناهية)) (359) أنَّ فيه يزيدَ الرَّقاشيَّ: واهٍ، ورُوِيَ نحوُه بسَنَدٍ فيه ضعيفٌ ومقدوحٌ فيه، وذكر ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (192) أنَّ له طرقًا ضعيفةٌ. ، وهذا ردٌّ لقولِ
الخَوارِجِ: إنَّ الأطفالَ تَبَعٌ لآبائِهم، مُستَدِلِّين على زعمِهم بقولِه تعالى في قومِ نوحٍ:
وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27] حملًا للآيةِ على قاعِدَتِهم)
[872] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق)) لمعمر (ص: 479). .
وإزاءَ اختِلافِ
الخَوارِجِ في الحُكمِ على أطفالِ مُخالِفيهم، يحسُنُ بَعدَ ذلك عرضُ رأيِ عُلَماءِ السَّلَفِ في مسألةِ أطفالِ المُؤمِنين الذين يَعتَبِرُهم
الخَوارِجُ مُخالِفين لهم، وأطفالِ المُشرِكين أيضًا.
أمَّا أطفالُ المُؤمِنين فإنَّ بَعضَ أهلِ العِلمِ يَذهَبُ إلى أنَّ هؤلاء الأطفالَ إن كانوا كبارًا وقد ماتوا على الإيمانِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يُدخِلُهم الجنَّةَ مع آبائِهم، وإن نقَصَت أعمالُهم عنهم؛ لِتَقَرَّ أعيُنُ آبائِهم بهم. وإن كانوا صغارًا فإنَّهم مع آبائِهم في الجنَّةِ تفَضُّلًا من اللهِ تعالى عليهم، دونَ أن يُنقِصَ دُخولُهم مِن عَمَلِ آبائِهم شيئًا
[873] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (27/25)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 279 - 281). ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/119)، ((فتح القدير)) للشوكاني (5/98). .
وقد جَزَم
أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ بأنَّهم في الجنَّةِ باتِّفاقِ العُلَماءِ؛ قال
ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا أطفالُ المُسلِمين فقال
الإمامُ أحمَدُ: لا يختَلِفُ فيهم أحَدٌ، يعني أنَّهم في الجنَّةِ)
[874] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 387). . وهناك من يخالِفُ هذا الحُكمَ على أطفالِ المُؤمِنين، ويرى أنَّهم تحتَ المشيئةِ، كما ذكَر ذلك
ابنُ القَيِّمِ.
والحُكمُ على أطفالِ المُؤمِنين بالجنَّةِ يَنقُضُ ما ذهَب إليه نافِعُ بنُ الأزرَقِ ومَن على رأيِه من الحُكمِ عليهم بدُخولِ النَّارِ، وجديرٌ بالذِّكرِ أنَّ المرادَ بأطفالِ المُؤمِنين هنا هم الذين يَعتَبِرُهم ابنُ الأزرَقِ ومَن على رأيِهم أطفالَ مُشرِكين، فمُخالِفوهم في نظَرِهم مُشرِكون -كما تقدَّم- وأمَّا أطفالُ المُشرِكين مِن عَبَدةِ الأوثانِ ومَن في حُكمِهم؛ فإنَّ العُلَماءَ قد اختَلَفوا فيهم على أقوالٍ كثيرةٍ حاصِلُها على النَّحوِ الآتي:
1- التَّوقُّفُ في أمرِهم، فلا يُحكَمُ لهم بجنَّةٍ ولا نارٍ، ويقولون فيهم:
((اللهُ أعلَمُ بما كانوا عامِلين )) [875] رواه البخاري (1384)، ومُسلِم (2658) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- أنَّهم في النَّارِ.
3- أنَّهم في الجنَّةِ.
4- أنَّهم في مَنزِلةٍ بَينَ المَنزِلَتَينِ -أي بَينَ الجنَّةِ والنَّارِ-، وهذا قولٌ ضعيفٌ؛ إذ إنَّ الحياةَ الآخِرةَ، إمَّا أن يكونَ صاحِبُها في الجنَّةِ أو في النَّارِ، وقد دعاهم إلى هذا القولِ أنَّهم رأوا أنَّ هؤلاء الأطفالَ ليس لهم إيمانٌ فيَدخُلون به الجنَّةَ، وليس لآبائهِم من الفَوزِ ما يُلحِقُهم بهم، وليس لهم أيضًا أعمالٌ يستَحِقُّون بها النَّارَ.
5- أنَّهم خَدَمُ أهلِ الجنَّةِ ومماليكُهم.
6- أنَّهم تحتَ مشيئةِ اللهِ تعالى، يحكُمُ فيهم بما يُريدُ، فيجوزُ أن يُعَذِّبَهم، وأن يرحَمَهم، وأن يَرحَمَ بعضَهم ويُعَذِّبَ بعضَهم، ولكِنْ هذا لا يقالُ إلَّا بدليلٍ ينُصُّ على أحَدِ هذه الأمورِ، وهو رأيُ كثيرٍ من أهلِ البِدَعِ، كالجَبْريَّةِ وغَيرِهم.
7- أنَّ حُكمَهم حُكمُ آبائِهم في الدُّنيا والآخرةِ، أي: هم تَبَعٌ لآبائِهم (حتَّى ولو أسلم الأبوانِ بَعدَ موتِ أطفالِهما لم يُحكَمْ لفَرَطِهم بالنَّارِ).
8- أنَّهم يُمتَحَنون في عَرَصاتِ القيامةِ بطاعةِ رَسولِ اللهِ إليهم، فمن أطاعه منهم دخَل الجنَّةَ، ومن عصاه دخَل النَّارَ، فيكونُ بعضُهم من أهلِ الجنَّةِ، وبعضُهم من أهلِ النَّارش.
وقد استعرَضَ
ابنُ القيِّمِ أدِلَّة القائلينَ بهذه الآراءِ، وانتهى مِن نَقْدِها إلى نُصرةِ هذا الرَّأيِ الأخيرِ، وقال: وبهذا يتألَّفُ شَملُ الأدِلَّةِ كُلِّها، وتتوافَقُ الأحاديثُ، ويكونُ معلومُ اللهِ الذي أحال عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ يقولُ:
((اللهُ أعلمُ بما كانوا عامِلين )) [876] رواه البخاري (1384)، ومُسلِم (2658) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ....
وقد بَسَط
ابنُ القَيِّمِ القَولَ في حُكمِ الأطفالِ، وأورد هذه الآراءَ وناقشَها في كتابِه (طريق الهِجرَتَينِ)
[877] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 387- 396). .
وقد أيَّد
ابنُ حزمٍ القولَ بأنَّ أطفالَ المُشرِكين في الجنَّةِ، وأكثَرَ من الاحتجاجِ عليه والرَّدِّ على من يقولُ بغيرِ ذلك، وردَّ على الأزارِقةِ في كُلِّ ما احتجُّوا به لرأيِهم، وبَيَّنَ أنَّ تلك الحُجَجَ كُلَّها غيرُ صحيحةٍ:
أمَّا الآيةُ: فذَكَر أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ لم يَقُلْ ذلك على جميعِ الكُفَّارِ، بل عن كفَّارِ قَومِه الذين أخبره اللهُ عنهم بقولِه تعالى:
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] ، وعندها أيقَن بأنَّ بقاءَهم لا فائدةَ وراءَه للإيمانِ، فدعا عليهم بخصوصِهم، لَمَّا عَلِم بنهايةِ أمرِهم، وأجاب عن حديثِ
خديجةَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّها قالت:
((يا رسولَ اللهِ، أين أطفالي منكَ؟ قال: في الجنَّةِ، قالت: فأطفالي من غيرِك؟ قال: في النَّارِ. فأعادت عليه، فقال لها: إنْ شِئتِ أسمَعْتُكِ تضاغِيَهم)) [878] أخرجه أبو يعلى (7077)، والطبراني (23/16) (27)، والدارقطني في ((الأفراد)) كما في ((أطراف الغرائب والأفراد)) لابن طاهر المقدسي (5/373) بنحوه، ولفظُ الطبراني: (عن خديجةَ قالت: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ أين أطفالي منك؟ قال: في الجنَّةِ، قُلتُ: بلا عَمَلٍ؟ قال: اللهُ أعلَمُ بما كانوا عامِلين ، قُلتُ: فأين أطفالي قَبْلَك؟ قال: في النَّارِ، قُلتُ: بغيرِ عَمَلٍ؟ قال: لقد عَلِمَ اللهُ ما كانوا عاملين). قال ابنُ تيميَّة في ((درء التعارض)) (8/398): موضوعٌ كَذِبٌ. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/113): فيه انقطاعٌ. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/220): رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجالهما ثقاتٌ إلَّا أنَّ عبدَ اللهِ بنَ الحارِثِ بنِ نَوفَلٍ وابنَ بُرَيدةَ لم يُدرِكا خديجةَ. وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/39): إسنادُه منقطِعٌ. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (24/644): مُرسَلٌ. وحديث: ((إنْ شِئتِ أسمَعْتُكِ تضاغِيَهم)) أخرجه أحمد (25743)، والحارث كما في ((بغية الباحث)) للهيثمي (753)، والبيهقي في ((القضاء والقدر)) (617)، ولفظ أحمد: (عن عائشةَ أنَّها ذكَرَت لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطفالَ المُشرِكين، فقال: إنْ شِئتِ أسمَعْتُكِ تضاغِيَهم في النَّارِ). قال ابنُ الجوزي في ((العلل المتناهية)) (2/924): لا يصِحُّ. وقال الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (10/515): مُنكَرٌ، وضَعَّفه جدًّا ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (3/290). وقال ابن القيم في ((أحكام أهل الذمة)) (2/1093): ضعَّفه جماعةٌ من الحُفَّاظِ. بأنَّه: (ساقِطٌ مُطَّرَحٌ لم يَرْوِه قطُّ مَن فيه خيرٌ).
وعن حديثِ الوائِدةِ: بأنَّ تلك الموءودةَ كانت قد بلَغَت الحِنثَ بخلافِ قَولِ من أخبره بأنَّها لم تبلُغِ الحِنثَ، فقال هذا إنكارًا لقولِهما، وتمامُ الحديثِ: عن سَلَمةَ بنِ يَزيدَ الجُعفيِّ قال:
((أتيتُ أنا وأخي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلْنا له: إنَّ أُمَّنا ماتت في الجاهليَّةِ، وكانت تَقْري الضَّيفَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ، فهل ينفَعُها مِن عَمَلِها ذلك شيءٌ؟ قال: لا، قُلْنا: فإنَّ أُمَّنا وأَدَت أختًا لنا في الجاهليَّةِ لم تبلُغِ الحِنثَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الموءودةُ والوائدةُ في النَّارِ، إلَّا أن تُدرِكَ الوائِدةُ الإسلامَ فتُسلِمَ [879] رواه أحمد (3/478) (15965)، والطبراني (7/40). قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (18/119): صحيح من جهة الإسناد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/123): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح والطبراني في الكبير بنحوه. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7143): صحيحٌ. ) [880] يُنظر: ((الفصل)) (4/74). .
وقد قال كثيرٌ من المُفَسِّرين بما أورده
ابنُ حَزمٍ من تخصيصِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالدُّعاءِ على كفَّارِ قَومِه فقط
[881] يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/270)، ((فتح القدير)) للشوكاني (5/301). .
وأمَّا حديثُ
خديجةَ، وهو قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنْ شِئتِ أسمَعْتُكِ تضاغِيَهم)) [882] لم نَقِفْ عليه من حديثِ خديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ورُوِيَ عن عائشةَ أنَّها ذكَرَت لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطفال المشركين، فقال: إن شئتِ أسمَعْتُكِ تضاغِيَهم في النَّارِ). أخرجه أحمد (25743) واللَّفظُ له، والحارث كما في ((بغية الباحث)) للهيثمي (753)، والبيهقي في ((القضاء والقدر)) (617) قال ابنُ الجوزي في ((العلل المتناهية)) (2/924): لا يصِحُّ. وقال الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (10/515): مُنكَرٌ، وضَعَّفه جدًّا ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (3/290). وقال ابن القيم في ((أحكام أهل الذمة)) (2/1093): ضعَّفه جماعةٌ من الحُفَّاظِ. فقد حكمَ عليه
ابنُ القَيِّمِ بأنَّه حديثٌ باطِلٌ موضوعٌ.
وقال عن حديثِ الوائدةِ بأنَّ كونَها موءودةً لا يمنَعُ مِن دُخولِها النَّارَ بسَبَبٍ آخَرَ
[883] ((طريق الهجرتين)) (ص: 395). .
وجزم
النَّوويُّ بأنَّ أطفالَ الكُفَّارِ في الجنَّةِ إذا ماتوا قَبلَ البلوغِ، واختار هذا الرَّأيَ دونَ القولِ بدُخولِهم النَّارَ، أو بالتَّوقُّفِ في شأنِهم
[884] ((شرح مُسلِم)) (12/50). .
وذكَرَ البَعليُّ الحنبليُّ أنَّ أصحابَ
أحمدَ قد اختلفوا في الأطفالِ؛ فبعضُهم قال: يُعَذَّبون تبَعًا لآبائِهم، وبعضُهم قال: يَدخُلون الجنَّةَ، ويَذكُرُ أنَّ أكثَرَ نصوصِ
أحمدَ الوَقفُ، ولا يَحكُمُ بجنَّةٍ ولا بنارٍ
[885] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية)) (1/255). .
و
ابنُ تيميَّةَ كذلك يرى التَّوقُّفَ في أطفالِ المُشرِكين، وقال بأنَّ أصَحَّ الأوجُهِ فيهم قولُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ...)). قيل: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ من يموتُ من أطفالِ المُشرِكينَ وهو صغيرٌ؟ قال: اللهُ أعلَمُ بما كانوا عامِلين
))
[886] رواه البخاري (6599، 6600)، ومُسلِم (2658) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فلا يُحكَمُ على مُعَيَّنٍ منهم لا بجنَّةٍ ولا نارٍ، ويرى أنَّهم يومَ القيامةِ يُمتَحَنون في عَرَصاتِ القيامةِ، فمن أطاع اللهَ حينَئذٍ دخل الجنَّةَ، ومن عصى دخل النَّارَ، ودلَّت الأحاديثُ الصَّحيحةُ أنَّ بعضَهم في الجنَّةِ وبعضَهم في النَّارِ
[887] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) (2/178). .
وغايةُ القولِ في أطفالِ المُشرِكين الحقيقيِّينَ التَّوقُّفُ في الحُكمِ عليهم، فلا يَصِحُّ حُكمُ
الخَوارِجِ عليهم بدخولِ النَّارِ.
أمَّا مسألةُ جوازِ قَتلِ الأطفالِ ومَن في حُكمِهم من العَجَزةِ كالنِّساءِ، فقد أخطَأت الأزارِقةُ فيه حين زَعَموا جوازَ ذلك، سواءٌ كانوا من المُسلِمين أو من المُشرِكين، فقد وردت أحاديثُ صحيحةٌ تمنَعُ مِن قَتْلِهم، إلَّا أن يكونَ ذلك في بَياتٍ لا يتميَّزُ فيه الأطفالُ والنِّساءُ، فلا بأسَ حينَئذٍ في قَتْلِهم إذا وقع دونَ عَمدٍ، فيكونون كآبائِهم في حُكمِ قَتْلِهم وإهدارِ دمائِهم.
ومن الأدِلَّةِ على هذا ما جاء في حديثِ
ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه قال:
((وُجِدَت امرأةٌ مقتولةٌ في بعضِ تلك المغازي، فنهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قتلِ النِّساءِ والصِّبيانِ )) [888] رواه البخاري (3015)، ومُسلِم (1744) واللَّفظُ له. .
قال
النَّوَويُّ: (أجمع العُلَماءُ على العَمَلِ بهذا الحديثِ، وتحريمِ قَتلِ النِّساءِ والصِّبيانِ إذا لم يقاتِلوا، فإن قاتلوا قال جماهيرُ العُلَماءِ: يُقتَلون)
[889] ((شرح مُسلِم)) (12/48). .
وعن الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ قال: سُئِل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الذَّراريِّ من المُشرِكين يُبَيَّتون فيُصيبون مِن نسائِهم وذراريِّهم، فقال:
((هم منهم )) [890] رواه البخاري (3012)، ومُسلِم (1745) واللَّفظُ له. .
قال
ابنُ حَجَرٍ في معنى قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هم منهم )): (أي: في الحُكمِ في تلك الحالةِ، وليس المرادُ إباحةَ قَتْلِهم بطريقِ القَصدِ إليهم، بل المرادُ: إذا لم يمكِنِ الوصولُ إلى الآباءِ إلَّا بوَطءِ الذُّرِّيَّةِ، فإذا أُصيبوا لاختلاطِهم بهم جاز قَتلُهم)
[891] ((فتح الباري)) (6/147). .