المبحَثُ الثَّاني: نشأةُ الإباضيَّةِ في المغرِبِ
انتشَر المَذهَبُ الإباضيُّ في المغرِبِ على يَدِ دُعاةٍ مُخلِصين لمَذهَبِهم وجَدوا من البربَرِ آذانًا مُصغيةً، فاستغلُّوا ذلك لنَشرِ مَذهَبِهم الذي طُورِدَ في المَشرِقِ القريبِ من عاصمةِ الخلافةِ الإسلاميَّةِ؛ فقد رأوا أنَّه حفاظًا على بقاءِ مَذهَبِهم وإقامةِ سُلطةٍ باسمِه لا بُدَّ أن تكونَ بعيدةً عن بطشِ الخِلافةِ، فاختاروا المغرِبَ بَينَ قبائِلِ البربَرِ، فقام للخَوارِجِ في المغرِبِ مَذهَبان: مَذهَبُ
الإباضيَّةِ، ومَذهَبُ الصُّفْريَّةِ، وكان ممَّا ساعدَهما في الانتعاشِ شيئًا فشيئًا اعتدالُ دعوتِهم التي تُهادِنُ الحُكَّامَ تحتَ سِتارِ التَّقيَّةِ، وتُعامِلُ المُخالِفين بقَدرٍ من التَّسامُحِ إلى أن بلغوا ما أرادوا، ولولا هذا الاعتدالُ لكان مصيرُهم لا يَقِلُّ عن مصيرِ أولئك الذين قلَّما يجتَمِعُ لهم أقلُّ عَدَدٍ إلَّا وأعلنوها ثورةً وعِصيانًا مُسلَّحًا، فتنقَضُّ عليهم جيوشُ الخلافةِ حتَّى يُبادوا، وقد أُبيدوا بالفِعلِ، وما نشأت خَوارِجُ المغرِبِ إلَّا نتيجةً من نتائجِ تلك الإبادةِ في المَشرِقِ.
لقد كانت البصرةُ إحدى القواعِدِ الأساسيَّةِ لدُعاةِ المَذهَبِ الإباضيِّ، ومنها انطَلق دُعاةُ
الإباضيَّةِ الذين انتشَروا في المغرِبِ لتأسيسِ دولتِهم هناك. وكان زعماءُ هذه القاعدةِ هم أوائِلَ عُلَماءِ المَذهَبِ، وعلى رأسِهم أبو عُبَيدةَ مُسلِمُ بنُ أبي كريمةَ.
فكان الدُّعاةُ يَنتَشِرون منها إلى أماكِنَ مُعَيَّنةٍ، وكان الخارِجون على الخلافةِ لا يخرُجون إلَّا بَعدَ استشارتِهم، كما كان الحالُ في خُروجِ طالِبِ الحَقِّ في جزيرةِ العَرَبِ، وأبي الخطَّابِ (أحدِ حَمَلةِ العِلمِ) كما يُسَمِّيهم
الإباضيَّةُ في المغرِبِ، ثُمَّ خلَفَه عبدُ الرَّحمنِ الرُّستُميُّ ومن جاء بَعدَه مِن أولادِه، فكانوا لا يُبرِمون أمرًا ذا بالٍ إلَّا عن مشورةِ عُلَماءِ المَذهَبِ في البَصرةِ.
وقد رُزِق مَذهَبُ
الإباضيَّةِ في المغرِبِ أنصارًا مُخلِصين في إقامتِه وإعلانهِ، أمثالَ سَلَمةَ بنِ سَعدٍ الذي كان يقولُ في مبدأِ أمرِه: (وَدِدْتُ أن يَظهَرَ هذا الأمرُ يومًا واحدًا فما أبالي أن تُضرَبَ عُنُقي)
[987] ((الإباضية في موكب التاريخ)) لمعمر (ص: 25). . وابنُ مُغطِيرٍ الجَناونيُّ، وغيرُهما من الرِّجالِ الذين كانوا يَذهَبون من المغرِبِ إلى البَصرةِ ثُمَّ يَرجِعون بَعدَ أن يتزوَّدوا بالعِلمِ والفِقهِ في المَذهَبِ دُعاةً ومجاهِدين وقُضاةً في دولتِهم النَّاشِئةِ.
وقد انتَقَل مع المَذهَبِ الإباضيِّ إلى المغرِبِ مَذهَبُ الصُّفْريَّةِ، وانتَشَر هناك على يَدِ عِكرِمةَ مولى ابنِ عبَّاسٍ، وهو بَربَريٌّ في الأصلِ؛ ولهذا كان لدعوتِه إلى المَذهَبِ الصُّفْريِّ تأثيرٌ بَينَ البَربَرِ لمعرفتِه بدخائِلِ نُفوسِهم، وكان يدعو إلى مَذهَبِه سِرًّا، ثُمَّ أخذ في الانتشارِ إلى أن صار مَذهَبًا قويًّا فيما بعدُ، خُصوصًا وقد كان المهاجِرون من المَشرِقِ الذين هَرَبوا من اضطهادِ الخُلَفاءِ يرتادون المغرِبَ لبَثِّ دَعوتِهم في هذه المناطِقِ النَّائيةِ عن الخلافةِ الإسلاميَّةِ.
(وإذا كانت الرِّواياتُ التَّاريخيَّةُ لا تُبَيِّنُ لنا بالتَّحديدِ متى قَدِم إلى المَغرِبِ أوَّلُ من دَعَوا إلى مَذهَبِ
الخَوارِجِ، وهما سلامةُ بنُ سَعيدٍ، وعِكرمةُ مولى ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما؛ فإنَّه يمكِنُ القولُ بأنَّهما قَدِما في أواخِرِ القَرنِ الأوَّلِ أو أوائِلِ القَرنِ الثَّاني)
[988] ((الخلافة والخوارج في المغرب العربي)) لفوزي (ص: 29). .
ويجِبُ أن نلاحِظَ هنا أنَّ تلك القبائِلَ التي كانت محَطَّ الأنظارِ لنَشرِ المَذهَبِ الخارِجيِّ بَينَهم كانت متأرجِحةً بَينَ اعتناقِ المَذهَبِ الخارِجيِّ والبُعدِ عنه، وأغلَبُهم كان يميلُ مع القَوِيِّ صاحِبِ الغَلَبةِ، فإذا جاء من هو أقوى منه كان الحالُ معه كسابقِه، وهكذا.
لقد كان البَربَرُ منذ أسلَموا مخلِصين في إسلامِهم يَشتَرِكون في جميعِ المعارِكِ التي يخوضُها الجيشُ الإسلاميُّ، وكانوا عِندَما يعامَلون بالعَدلِ والرِّفقِ كما وصفَهم
الطَّبَريُّ: (مِن أسمَعِ أهلِ البُلدانِ وأطوَعِهم إلى زمانِ
هِشامِ بنِ عَبدِ المَلِكِ، أحسَنَ أمَّةٍ سلامًا وطاعةً)
[989] ((تاريخ الرسل والملوك)) (4/ 254). .
وقد ظَلُّوا كذلك إلى أن بدَؤوا يَشعُرون بالظُّلمِ مِن قِبَلِ وُلاةِ الخليفةِ
هِشامٍ، وأسوَءُهم سيرةً كان عُبَيدَ اللهِ بنَ الحَبحابِ مِن قِبَلِ
هِشامٍ، وصادفت هذه المحنةُ وُجودَ دُعاةِ
الخَوارِجِ بَينَهم، فكانوا كلَّما دَعَوهم إلى الخُروجِ على الخلافةِ الأُمَويَّةِ بسَبَبِ ما يفعَلُه وُلاتُهم من مظالِمَ يتأبَّون عن الاستجابةِ لهم قائِلين: إنَّ هذا ليس ذنبَ الخليفةِ حتَّى نختَبِرَه، فيقولُ لهم دعاةُ
الخَوارِجِ: إنَّ هؤلاء العُمَّالَ لا يَقدَمونَ إلَّا بأمرٍ من الخليفةِ نَفسِه، فلم يَقبَلوا منهم. وهكذا ظَلُّوا كُلَّما دعاهم الخَوارِجُ قالوا: (إنَّا لا نخالِفُ الأئمَّةَ بما تجني العُمَّالُ، ولا نحمِلُ ذلك عليهم، فقالوا لهم: إنَّما يعمَلُ هؤلاء بأمرِ أولئك، فقالوا لهم: لا نَقبَلُ ذلك حتَّى نبورَهم) أي: نختَبِرَهم.
وأخيرًا وبَعدَ أن طَفَح الكيلُ خرج بضعةَ عَشَرَ يرأسُهم مَيسَرةُ المَطغَريُّ متوجِّهين إلى دِمَشقَ ليَشكوا ما حَلَّ بهم إلى الخليفةِ
هِشامٍ، إلَّا أنَّه لسُوءِ الحَظِّ لم يقابِلْهم، بل احتجب عنهم إلى أن نَفِدَت نَفَقاتُهم، فعزموا على الرُّجوعِ إلى بلادِهم، وذهبوا إلى وزيرِه الأبرَشِ وحَمَّلوه رسالةً منهم ليؤدِّيَها إلى
هشامٍ كالإعذارِ لِما سيَفعَلونَه فيما بَعدُ، وجاء في هذه الرِّسالةِ: (أبلِغْ أميرَ المُؤمِنين أنَّ أميرَنا يغزو بنا وبجُندِه، فإذا أصاب نَفَّلَهم دونَنا، وقال: هم أحَقُّ به؛ فقُلْنا: هو أخلَصُ لجِهادِنا؛ لأنَّا لا نأخُذُ منه شيئًا، إن كان لنا فهم منه في حِلٍّ، وإنْ لم يكُنْ لنا لم نُرِدْه، وقالوا: إذا حاصَرْنا مدينةً قال: تقَدَّموا، وأخَّر جُندَه، فقُلْنا: تقَدَّموا؛ فإنَّه ازديادٌ في الجهادِ ومِثلُكم كفى إخوانَه، فوَقَيناهم بأنفُسِنا وكَفَيناهم، ثُمَّ إنَّهم عَمَدوا إلى ماشيَتِنا فجَعَلوا يَبقُرونَها على السِّخالِ يَطلُبون الفِراءَ الأبيضَ لأميرِ المُؤمِنين، فيَقتُلون ألفَ شاةٍ في جِلدٍ، فقُلْنا: ما أيسَرَ هذا لأميرِ المُؤمِنين! فاحتمَلْنا ذلك وخلَّيناهم وذلك، ثُمَّ إنَّهم سامونا أن يأخُذوا كُلَّ جميلةٍ من بناتِنا، فقُلْنا: لم نجِدْ هذا في كتابٍ ولا سُنَّةٍ، ونحن مُسلِمون، فأحبَبْنا أن نعلَمَ أعن رأيِ أميرِ المُؤمِنين ذلك أم لا).
فأخذ الأبرَشُ الرِّسالةَ وقال: نفعَلُ، ولَمَّا يَئِسوا من الوصولِ إلى
هشامٍ ويَئِسوا من إنصافِهم كتَبوا أسماءَهم وأنسابَهم وأعَطوا الوُزراءَ قائِلين لهم: (هذه أسماؤنا وأنسابُنا، فإن سألكم أميرُ المُؤمِنين عنَّا فأخبِروه)
[990] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (4/254). ، ثُمَّ رجَعوا.
وبالتَّأمُّل في تلك الرِّسالةِ نجِدُ فيها حرارةَ الشَّكوى ومدى ما حَلَّ بهم إن صَدَقوا في كُلِّ ما ذكروه، ورجَعوا في غايةِ الغَضَبِ والعَزمِ على الخُروجِ عن الطَّاعةِ، فبدؤوا بعامِلِ
هشامٍ على إفريقيَّةَ فقَتَلوه، ثُمَّ استولَوا على إفريقيَّةَ، ولَمَّا عَلِم
هشامٌ بذلك سأل عن أسماءِ ذلك الوفدِ الذي جاء إليه فرُفِعَت إليه أسماؤهم، فإذا هم الذين وقفوا ببابه فاحتجَبَ عنهم.
وعلى كُلٍّ فقد اشتعلت الثَّورةُ وأعلَنوا مَيسَرةَ المَطغَريَّ أميرًا للمُؤمِنين، ثُمَّ التَحَموا مع جيشِ الخلافةِ في معارِكَ عظيمةٍ عَبَّأ فيها
هشامٌ ثلاثين ألفًا لمقاتلةِ
الخَوارِجِ، وحينما التَقوا انهزَمَت جيوشُ الخلافةِ شَرَّ هزيمةٍ واستَتَبَّ الأمرُ للخَوارِج وبَسَطوا نفوذَهم بقوَّةٍ وبأسٍ جَعَل الخليفةَ ييأسُ من استعادةِ إفريقيَّةَ بَعدَ هزيمةِ جيشِه الذي أرسله بقيادةِ كُلثومِ بنِ عِياضٍ أمامَ قائِدِ
الخَوارِجِ خالِدِ بنِ حُمَيدٍ الزَّناتيِّ الذي حقَّق للخَوارِج استقلالَ المغرِبِ حتَّى صار المغرِبُ فيما بَعدُ ملجَأَ كُلِّ ناقِمٍ على الخلافةِ الأُمَويَّةِ
[991] هذا ما أشار إليه رفعت فوزي في كتابه ((الخلافة والخوارج في المغرب)) (ص: 83)، والواقِعُ أنَّ الخليفةَ قد عبَّأ الجيوشَ المتلاحِقةَ لإخمادِ تلك الثَّوراتِ. يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/192). .
ثمَّ صارت الأمورُ بَعدَ ذلك في صراعٍ بَينَ
الخَوارِجِ والخلافةِ، يتبادَلُ الطَّرفانِ فيه النَّصرَ والهزيمةَ حتَّى انتَهَت الدَّولةُ الأُمَويَّةُ وأعقبَتْها الدَّولةُ العبَّاسيَّةُ، فبدأت في مقاومةِ
الخَوارِجِ بالمغرِبِ، وكان رئيسُهم إذ ذاك أبا الخطَّابِ، وهو أحَدُ حَمَلةِ العِلمِ الخَمسةِ الذين ذَهَبوا إلى البَصرةِ وعادوا منها إلى المَغرِبِ يَحمِلون فِكرةَ إقامةِ دولةٍ باسمِهم، كما أشار عليهم زعيمُ المَذهَبِ الدِّينيُّ في البَصرةِ أبو عُبَيدةَ مُسلِمُ بنُ أبي كريمةَ الذي تَعتَبِرُه
الإباضيَّةُ من خِيرةِ أسلافِها وعُلَمائِها الأجلَّاءِ.
فأخذ نَجمُ
الإباضيَّةِ في الظُّهورِ على يدَيْ أبي الخَطَّابِ عبدِ الأعلى بنِ السَّمْحِ المعافِريِّ الذي كان مقيمًا بطَرابُلُسَ، وكانت البَيعةُ له في غَربِ طَرابُلُسَ في مكانٍ يُسَمَّى (صياد) واتَّفَقوا فيه على وَضعِ خُطَّةٍ للقَبضِ على زمامِ السُّلطةِ في طرابُلُسَ، وهي أن يوضَعَ الرِّجالُ في جواليقَ مربوطةٍ من أسفَلِها على جِمالٍ كُلُّ رَجُلينِ على جمَلٍ ثُمَّ يَدخُلون طرابُلُسَ فلا يَفطِنُ النَّاسُ إلى ما بها، وعندما يتوسَّطون المدينةَ يَخرُج
الإباضيَّةُ الذين بها مُصلِتين سُيوفَهم ثُمَّ تُفتَحُ الجواليقُ فيَخرُجُ الرِّجالُ على هيئةٍ حَربيَّةٍ كُلُّ رَجُلٍ يَحمِلُ سلاحَه، ثُمَّ جاء الموعِدُ، ونجحَت الخُطَّةُ وحِينَ خرَجَوا كانوا ينادُون: لا حُكمَ إلَّا للهِ، ولا طاعةَ إلَّا لأبي الخَطَّابِ، وتمَّ الاستيلاءُ على المدينةِ، فعُيِّن عبدُ الرَّحمنِ الرُّستُميُّ -وهو أحَدُ حَمَلةِ العِلمِ الخَمسةِ- أيضًا على طَرابُلُسَ قاضيًا
[992] يُنظر: ((الخلافة والخوارج في المغرب)) لفوزي (ص: 108). .
فأخذ هذا الرَّجُلُ بما أوتيَ مِن قُوَّةِ فِكرٍ ونفاذِ بصيرةٍ في تجميعِ
الإباضيَّةِ مِن حَولِه وأحَلَّ التَّعصُّبَ للمَذهَبِ بَدَل التَّعصُّبِ القَبَليِّ، حتَّى نجَح بهم في إقامةِ دولةٍ للإباضيَّةِ استمَرَّت ما يقارِبُ مائةً وخمسةً وعِشرين عامًا.
ومنذُ أن تَمَّ النَّصرُ للإباضيَّةِ في طرابُلُسَ، بدؤوا يَنظُرون إلى ما حولَهم فحَشَدوا الجيوشَ للاستيلاءِ على القَيروانِ لإنقاذِها من بَغيِ وَرْفَجومةَ
[993] وَرْفَجومةُ: هم قبيلةٌ من قبائِلِ البربرِ. يُنظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) لمعمر (1/51). الذين عاثوا فيها فسادًا، وسارت الحملةُ إليهم في سِتَّةِ آلافِ رَجُلٍ، وعَرَضوا في طريقِهم على قابِسَ فاحتَلُّوها، ثُمَّ واصلوا السَّيرَ إلى القَيروانَ فحاصَروها مُدَّةً، ثُمَّ خدَعوا وَرْفَجومةَ وأوهموهم أنَّهم مُنهَزِمون منهم، فلمَّا خرجوا في لَحاقِهم عطَفَ
الإباضيَّةُ عليهم فقَتَلوهم قتلًا ذريعًا عِندَ مكانٍ يُسَمَّى رَقَّادةَ. ثُمَّ خرج أبو الخطَّاب عن القيروانِ بَعدَ أن ولَّى عليها عبدَ الرَّحمنِ بنَ رُستُمٍ.
وبَعدَ القَضاءِ على وَرْفَجومةَ رَجَع أبو الخطَّابِ إلى طَرابُلُسَ، ولكِنْ حَدَث أن ذهَبَ أحَدُ أتباعِه ويُسَمَّى جميلَ السَّدراتيَّ -لمنافَرةٍ وَقَعت بَينَه وبَينَ أبي الخطَّابِ- إلى
أبي جَعفَرٍ المنصورِ الخليفةِ العبَّاسيِّ طالبًا منه إنقاذَ ذلك الجزءِ من المغرِبِ من حُكمِ أبي الخطَّابِ، فبعث إليهم أبو جعفَرٍ الجيشَ بَعدَ الجيشِ، وهم يَنهَزِمون أمامَ
الإباضيَّةِ، ولكِنَّ
الإباضيَّةَ عادوا فانهزموا أخيرًا على يَدِ محمَّدِ بنِ الأشعَثِ، وانتصر عليهم انتصارًا حاسمًا
[994] يُنظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) لمعمر (1/53). ويُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/317). ، فقُتِل أبو الخطَّابِ وكُلُّ من كان معه أثناءَ المعركةِ، وتفَرَّقَت
الإباضيَّةُ في الجبالِ والأماكِنِ النَّائيةِ.
ثمَّ جاء مُؤَسِّسُ الدَّولةِ
الإباضيَّةِ الحقيقيُّ، وهو عبدُ الرَّحمنِ بنُ رُستُمٍ، وهو الذي إليه (يُعزى الفَضلُ في تكوينِ دولةِ
الخَوارِجِ الإباضيَّةِ، وكان حُكمَها في أسرتِه مِن بَعدِه)
[995] ((الخلافة والخوارج في المغرب العربي)) لفوزي (ص: 107). ، وهو فارسيُّ الأصلِ من طَبَقةِ حُكَّامِ الفُرسِ الأكاسِرةِ، وقد انتقل بَعدَ مَقتَلِ أبي الخطَّابِ إلى مدينةِ تاهَرْتَ الجزائريَّةِ التي صارت فيما بَعدُ عاصمةَ
الإباضيَّةِ، فاجتمعت عليه كَلِمةُ
الإباضيَّةِ وسَلَّموا عليه بالخلافةِ سَنةَ 160هـ، وكان جُلُّ أتباعِه من قبائِلِ البَربَرِ.
وقد سار عبدُ الرَّحمنِ في حُكمِه سيرةً ارتضاها
الإباضيَّةُ وتوالتْ عليه الإعاناتُ المعنويَّةُ والماديَّةُ من إباضيَّةِ المَشرِقِ، وكان على اتِّصالٍ في قضاياها المُهِمَّةِ بعُلَماءِ المَشرِقِ الإباضيِّ.
واستطاع عبدُ الرَّحمنِ بتلك المعوناتِ تسليحَ رِجالِه من
الإباضيَّةِ، وتمكَّن من بَسطِ سيادةِ الدَّولةِ على سائِرِ قبائِلِ البربرِ
[996] ((الخوارج في بلاد المغرب العربي)) لمحمود إسماعيل (ص: 113). .
وكان يجاوِرُ دولتَه دولةُ الصُّفْريَّةِ التي اتَّخَذت مدينةَ سِجِلْماسةَ المغربيَّةَ عاصمةً لها حينَ تكَوَّنت سَنةَ 140هـ، وقد تمَّت بَينَ عبدِ الرَّحمنِ ومَلِكِ الصُّفْريَّةِ علاقةُ مُصاهَرةٍ؛ إذ تزوَّج ابنُ مَلِكِ الصُّفْريَّةِ -ويُسَمَّى مدارا- بكريمةِ عبدِ الرَّحمنِ، وبذلك أمِنَ ذلك الجانِبَ، ولولا تلك المُصاهَرةُ لجرى بَينَهم من الحُروبِ والفِتَنِ الشَّيءُ الكثيرُ.
وقد استمرَّ الحالُ ب
الإباضيَّةِ هناك في هدوءٍ واستقرارٍ إلى أن تُوفِّيَ عبدُ الرَّحمنِ الرُّستُميُّ سَنةَ 171ه تقريبًا، (وكي يَضمَنَ استِمرارَ ذلك الاستقرارِ لدولتِه أوصى قَبلَ وفاتِه بتعيينِ مجلِسِ شورى يُختارُ إمامُ الدَّولةِ مِن بَينِ أعضائِه)
[997] ((الخوارج في بلاد المغرب العربي)) لإسماعيل (ص: 114). .
فبايع
الإباضيَّةُ بَعدَه ابنَه عبدَ الوَهَّابِ بنَ عَبدِ الرَّحمنِ الرُّستُميَّ في هذا التَّاريخِ، واجتمعت عليه كَلِمةُ
الإباضيَّةِ وأحَبُّوه لِما امتاز به من الصَّلاحِ والحَزمِ، ولم يَنقِموا عليه أمرًا إلَّا ما كان من ابنِ فُنْدِينَ، وهو ممَّن بايعه ثُمَّ خرج عنه غاضِبًا؛ لأنَّه لم يَشرَكْه في حُكمِه ولم يُسنِدْ إليه مَنصِبًا، وهذا تعليلُ
الإباضيَّةِ لخُروجِه عن طاعةِ عبدِ الوهَّابِ، ولكِنَّ هذا التَّعليلَ ينفيه بعضُهم ويرى أنَّه مِن صُنعِ
الإباضيَّةِ لِتَشويهِ مَطلَبِ ابنِ فُنْدِينَ في حملِ الإمامِ على اتِّخاذِ مجلِسِ شورى يأخُذُ برأيِه، وأسبابٍ أُخرى غيرِ هذا
[998] يُنظر: ((الخوارج في بلاد المغرب)) لإسماعيل (ص: 117). .
ثمَّ انضَمَّ إلى ابنِ فُنْدِينَ ثائرٌ آخَرُ من
الإباضيَّةِ، وهو شُعَيبٌ المِصريُّ حَسَبَ ما تقولُ مصادِرُ
الإباضيَّةِ، ويقولُ غيرُهم بأنَّ هذا الحُكمَ على شُعَيبٍ (مُبالَغٌ فيه، والأقرَبُ للتَّصديقِ أنَّه توجَّه لنُصحِ عبدِ الوَهَّابِ وإنهاءِ الخِلافِ في تاهَرْتَ، فلمَّا لم يُجِبْه انضَمَّ إلى ابنِ فُنْدِينَ)
[999] ((الخوارج في بلاد المغرب)) لإسماعيل (ص: 117). .
وحينذاك دَبَّر هذا الرَّجُلانِ الثَّورةَ لنَزعِ الحُكمِ من عبدِ الوَهَّابِ فأنشَبوا معركةً على أبوابِ عاصِمةِ
الإباضيَّةِ بتاهَرْتَ انهزم فيها الثُّوارُ، وقُتِل ابنُ فُنْدِينَ؛ وهرب شُعَيبٌ إلى طَرابُلُسَ ناقِمًا على الإمامِ ومُظهِرًا البراءةَ منه، فلمَّا وصلت هذه الأخبارُ إلى عُلَماءِ الشَّرقِ من
الإباضيَّةِ أجمعوا على البراءةِ منه ومِن ابنِ فُنْدِينَ.
وبموتِ ابنِ فُنْدِينَ اختفت المشاكِلُ التي كانت شاغِلةً لعبدِ الوهَّابِ وهدأت الأمورُ، ولكِنَّ هذا الهدوءَ كَدَّرَته ثورةٌ أخرى قام بها قبائِلُ من البربَرِ تدينُ بالاعتزالِ، وأكثَرُهم من قبيلةِ زَناتةَ، التَحَموا معه في معركةٍ طُلِب فيها من الثَّائِرين عَقدُ هُدنةٍ للنَّظَرِ في الأصلَحِ من الأمورِ، فعُقِدت الهُدنةُ، وهنا كتب الإمامُ إلى أهلِ جَبَلِ نَفُوسةَ طالبًا منهم المدَدَ، ولَمَّا جاءه ما طلَب التَحم معهم في معركةٍ أُخرى انتصَرَ فيها الإمامُ وظَفِر بتلك الطَّائفةِ من الواصليَّةِ من
المُعتَزِلةِ وأذعَنوا بالطَّاعةِ، وكانت تنشَأُ بَينَ الحينِ والآخَرِ بَعضُ الانشقاقاتِ، فلا تلبَثُ أن تنتهيَ. وامتَدَّ سُلطانُ إمامِهم إلى طرابُلُسَ وما حولها، وقد دامت خلافتُه 19 سَنةً؛ إذ تُوفِّيَ في سَنةِ 190هـ تقريبًا، تاركًا وراءَه ثورةَ خَلَفِ بنِ السَّمحِ في اشتِعالٍ.
وبَعدَ وفاةِ عَبدِ الوهَّابِ بايَعَ
الإباضيَّةُ ابنَه أفلَحَ بنَ عبدِ الوهَّابِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الرُّسْتُميَّ، فأمر أبو عُبَيدةَ -وكان واليًا من قِبَلِ عبدِ الوهَّابِ على طرابُلُسَ- بمحاربةِ خَلَفٍ، وبَعدَ مُراسَلاتٍ بَينَهما لم تُجْدِ نفعًا التَحموا في معركةٍ انتصر فيها أبو عُبَيدةَ، وكانت تلك المعركةُ في سَنةِ 221هـ، إلَّا أنَّها لم تُنْهِ عِصيانَ خَلَفٍ بل ثار مرَّةً ثانيةً بَعدَ وفاةِ أبي عُبيدةَ وتوليةِ العبَّاسِ بنِ أيُّوبَ مَكانَه، فراسل خَلَفًا لإعادتِه إلى الطَّاعةِ، ولَمَّا لم تُفلِحْ معه المُراسَلةُ تقابَلوا في معركةٍ انهزم فيها خَلَفٌ وتفَرَّق جمعُه، ومات بَعدَ ذلك
[1000] يُنظر: ((الخوارج في بلاد المغرب) لإسماعيل (ص: 123). .
وبَعدَ خَلَفٍ جاء ثائِرٌ آخَرُ، هو فَرَجُ بنُ نَصرٍ النَّفُوسيُّ المعروفُ (بنفَّاثٍ) والذي تُنسَبُ إليه فِرقةُ النَّفَّاثيَّةِ من
الإباضيَّةِ، وكان له اطِّلاعٌ في العِلمِ، إلَّا أنَّه أخرَجه الغَضَبُ لكونِه لم يُوَلَّ وِلايةً في دولةِ أفلَحَ حَسَبَ ما تقولُ مصادِرُ
الإباضيَّةِ، وهذا لا ينفي أن تكونَ ثَورتُه انتقامًا من حُكمِ الرُّستُميِّين الذين جعلوا الخلافةَ وراثيَّةً، ولكِنَّه لم تكُنْ له شوكةٌ أو مُنازلةٌ مع جَيشِ أفلَحَ، بل كان خُروجُه مجَرَّدَ كلامٍ فقط، ثُمَّ غَمُض أمرُه وانتهى دورُه إلى أن حانت وفاةُ الإمامِ أفلَحَ، وكان المرشَّحُ لتولِّيها بَعدَه ابنَه ابنَ اليَقظانِ محمَّدَ بنَ أفلَحَ، إلَّا أنَّه حينَ وفاةِ والِدِه كان مسجونًا في بغدادَ، وذلك أنَّه كان قد اختُطِف في حَجِّه وأودِعَ سِجنَ بَغدادَ، فبايع النَّاسُ بَعدَ وفاةِ أفلَحَ ابنَه أبا بكرِ بنَ أفلَحَ، إلَّا أنَّه لم يكُنْ مَرضِيًّا من جميعِ النَّاسِ، ووقَعَت فِتَنٌ في عهدِه وحروبٌ أهليَّةٌ.
وقد عاد ابنُ اليقظانِ من بغدادَ إثرَ إطلاقِه من السِّجنِ، فنَظَّم الأمورَ وأحَبَّه النَّاسُ، فتمَّت بيعتُه سَنةَ 241هـ، واجتمعت عليه الكَلِمةُ وأتته وفودُ البيعةِ من كُلِّ أرجاءِ مملكتِه، واستتَبَّ الأمنُ، وكَثُر الرَّخاءُ، إلى أن تُوفِّيَ سَنةَ 281هـ.
وبَعدَ وفاتِه بايعَ
الإباضيَّةُ ابنَه أبا حاتمٍ يوسُفَ بنَ محمَّدٍ باتِّفاقِ الكافَّةِ، ولم ينكِرْ أحَدٌ في الظَّاهِرِ أيَّ أمرٍ، إلَّا أنَّه كان في نفوسِ بعضِ النَّاسِ مَيلٌ عنه، ومنهم عمُّه يعقوبُ بنُ أفلَحَ، إلَّا أنَّه لم يُحَرِّكْ ساكِنًا حينَئذٍ، ثُمَّ حدَثَت فتنةٌ بَعدَ ذلك بقيادةِ بعضِ المشايخِ المسموعي الكَلِمةِ، وتطَوَّر الخلافُ حتَّى بلغ درجةً لا يمكِنُ معها حَلُّه إلَّا بمعركةٍ، وجمعَ كُلُّ فريقٍ ما عِندَه من قوَّةٍ استعدادًا لخوضِ الحَربِ، فابتدأت رحاها بَينَ الإمامِ وعَمِّه، فأُهرِقَت الدِّماءُ وتقطَّعت السُّبُلُ، وعاش النَّاسُ في أشَدِّ الضِّيقِ، إلى أن توسَّط بعضُ أهلِ الإصلاحِ بَينَ الإمامِ وعَمِّه لعَقدِ هُدنةٍ وصُلحٍ على أن يَتوقَّفَ كُلٌّ منهما عن منازعةِ الآخَرِ مُدَّةَ أربعةِ أشهُرٍ حتَّى يَنظُرَ النَّاسُ في أمورِهم، ورجاءَ ما يَمُنُّ اللهُ به من حُسنِ تدبيرِه.
وقد حدَث في أثناءِ هذه المدَّةِ أن استمال الإمامُ كثيرًا من النَّاسِ ووَعَدهم ومنَّاهم إلى أن مال إليه أكثَرُ أهلِ مدينةِ تاهَرْتَ، فرأى يعقوبُ ومن معه مِن خاصَّتِه أنَّ الخَطَرَ قد أحدق بهم، وهنا قَرَّروا الهَرَبَ إلى طَرابُلُسَ التي كانت الفِتنةُ فيها وفي جَبَلِ نفوسةَ على أشُدِّها؛ ليَكونوا على بُعدٍ من الإمامِ.
وهنا دخل الإمامُ المدينةَ بَعدَ أن كان مقيمًا خارِجَها في أثناءِ تلك الأربَعةِ الأشهُرِ، وصفا له الجَوُّ في تاهَرْتَ وما حولها، باستثناءِ طَرابُلُسَ ونفوسةَ وما حولَهما؛ فقد وقعت فيها بعضُ الفِتَنِ الدَّاخليَّةِ، ثُمَّ أعقَبَهم نزولُ جَيشِ إبراهيمَ بنِ الأغلَبِ التَّابعِ للخِلافةِ العبَّاسيَّةِ، فقُتِل أهلُ نفوسةَ قتلًا ذريعًا، وانهزموا شَرَّ هزيمةٍ.
ومِن هنا بدأ نَجمُ دَولةِ
الإباضيَّةِ الرُّستُميَّةِ في الأفولِ شَيئًا فشيئًا إلى أن تُوفِّيَ أبو حاتمٍ سَنةَ 294هـ مقتولًا على يدِ أبناء أخيه باتِّفاقٍ تمَّ بَينَهم للاستيلاءِ على الحُكمِ، وشايَعَهم على هذا بعضُ النَّاسِ فقَتَلوه، ثُمَّ تولى بَعدَه اليَقظانُ بنُ أبي اليَقظانِ، وهو ابنُ أخيه، وبمجَرَّدِ توَلِّيه بدأ انقراضُ دولةِ بني رُستُمَ على يَدِ الشِّيعةِ، وذلك على يَدِ عُبَيدِ اللهِ الشِّيعيِّ، وظُهورِ دَعوتِه في المغرِبِ، فقد احتَلَّ مولاه -ويُكنى بأبي عبدِ اللهِ الحَجانيِّ- تاهَرْتَ العاصمةَ
الإباضيَّةَ، وقضى على أُسرةِ بني رُستُمَ، وانتهى أمرُهم، وذلك في سَنةِ 296هـ، فرَثاهم عُلَماءُ
الإباضيَّةِ بالمراثي المُحزِنةِ، ورَثَوا تاهَرْتَ وما أصابها من خَرابٍ بَعدَ بني رُستُمَ.