المبحَثُ الأوَّلُ: مَوقِفُ الإباضيَّةِ من سائِرِ المُخالِفين
يَنسُبُ عُلَماءُ الفِرَقِ في الجُملةِ إلى
الإباضيَّةِ أنَّ مُعامَلتَهم تتَّسِمُ باللِّينِ والمُسامحةِ، وأنَّهم جوَّزوا تزويجَ المُسلِماتِ من مُخالِفيهم، والبَعضُ يَنسُبُ إليهم غيرَ ذلك.
فبَعضُ العُلَماءِ يَذكُرون عنهم أنَّهم يَعتَبِرون المُخالِفين لهم من أهلِ القبلةِ كُفَّارَ نِعمةٍ غيرَ كامِلي الإيمانِ، ولا يَحكُمون بخُروجِهم من المِلَّةِ، إلَّا أنَّ هذا المدحَ ليس بالاتِّفاقِ بَينَ العُلَماءِ؛ فهناك من يَذكُرُ عن
الإباضيَّةِ أنَّهم يَرَون أنَّ مُخالِفيهم محارِبون للهِ ولرَسولِه، وأنَّهم يُعامِلون المُخالِفين لهم أسوَأَ المعامَلةِ.
والقارِئُ لكتُبِ عُلَماءِ الفِرَقِ يجِدُ أنَّهم متعارِضون في النَّقلِ عنهم، إلَّا أن يُقالَ: إنَّ طائفةً من
الإباضيَّةِ مُعتَدِلون، وآخَرون متشَدِّدون. ولهذا وَجَد علي يحيى مَعمَر ثَغرةً في كلامِ عُلَماءِ الفِرَقِ ليَصِفَهم بالتَّناقُضِ والاضطِرابِ في النَّقلِ إلى آخِرِ ما أورد من انتقاداتٍ لا تَسلَمُ له على إطلاقِها.
وذلك أنَّك تجِدُ في بعضِ كلامِ عُلَماءِ
الإباضيَّةِ أنفُسِهم الشِّدَّةَ في الحُكمِ على المُخالِفين لهم، ووصَفوهم بأنَّهم الكُفَّارُ وأنَّهم من أهلِ النَّارِ ما لم يدينوا بالمَذهَبِ الإباضيِّ، وتجِدُ آخَرينَ يتسامَحون في معامَلةِ المُخالِفين لهم، ويبدو عليهم اللِّينُ تِجاهَهم.
وتجِدُ التَّعَصُّبَ في حكمِهم على المُخالِفين ظاهِرًا قويًّا من قراءتِك لكتابِ (مُقَدِّمةُ التَّوحيدِ) لابنِ جُمَيعٍ، وكتابِ (الحُجَّةُ في بيانِ المحَجَّةِ في التَّوحيدِ بلا تقليدٍ) للعِيزابيِّ، ورسالةٍ في فِرَقِ
الإباضيَّةِ بالمغرِبِ للمارغينيِّ، وكتابِ (الدَّليلُ لأهلِ العُقولِ) للوَرْجلانيِّ، وكذا (العقودُ الفِضِّيَّةُ)، و(كَشفُ الغُمَّة الجامِعُ لأخبارِ الأُمَّة)؛ فإنَّ القارئَ لهذه الكُتُبِ
الإباضيَّةِ يجِدُ التَّشدُّدَ تجاهَ المُخالِفين قائمًا على أشُدِّه كما تشهَدُ بذلك مصادِرُهم المذكورةُ.
ومع هذا فإنَّ العُلَماءَ المُتقَدِّمين وكثيرًا من المتأخِّرين يَذكُرون عباراتٍ كثيرةً تَصِفُ
الإباضيَّةَ بالتَّسامُحِ واللِّينِ تجاهَ المُخالِفين ممَّن يَدَّعون الإسلامَ إلَّا مُعسكَرَ السُّلطانِ؛ فإنَّه دارُ بَغيٍ وحِرابةٍ، ومع ذلك نفى علي يحيى مَعمَر أن يكونَ من مَذهَبِ
الإباضيَّةِ أنَّهم يَرَون أنَّ مُعسكَرَ السُّلطانِ مُعسكَرَ بَغيٍ وحِرابةٍ، ولكِنَّه -وهو يُقَسِّمُ حُكَّامَ المُسلِمين في كتابِه (
الإباضيَّةُ بَينَ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ)- جعل هذا الوَصفَ ينطَبِقُ على الحاكِمِ الذي يخرُجُ عن العدلِ ولا يُطَبِّقُ أحكامَ الإسلامِ كامِلةً
[1020] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 27- 28). .
ومن خلالِ الأمثلةِ الآتيةِ من كلامِ العُلَماءِ حَولَ مَوقِفِ
الإباضيَّةِ من المُخالِفين لهم، تجِدُ مِصداقَ ما تقدَّم إجمالُه فيما يلي:
أوَّلًا: اللِّينُ والتَّسامُحُ مع المُخالِفين:1- ما قاله عنهم عُلَماءُ (الفِرَقِ):فمثلًا نجِدُ أنَّ
الأشعَريَّ يقولُ: (وأمَّا السَّيفُ فإنَّ
الخَوارِجَ جميعًا تقولُ به وتراه، إلَّا أنَّ
الإباضيَّةَ لا ترى اعتراضَ النَّاسِ بالسَّيفِ)
[1021] ((المقالات)) (1/204). .
وقال أيضًا: (وجمهورُ
الإباضيَّةِ يتولَّى المُحَكِّمةَ كُلَّها إلَّا من خَرَج، ويَزعُمون أنَّ مُخالِفيهم من أهلِ الصَّلاةِ كُفَّارٌ ليسوا بمُشرِكين)
[1022] ((المقالات)) (1/184). .
ثمَّ قال عنهم كذلك: (وزَعَموا أنَّ الدَّارَ -أي: دار مُخالِفيهم- دارُ توحيدٍ إلَّا مُعسكَرَ السُّلطانِ فإنَّه دارُ كُفرٍ -يعني عِندَهم) إلى أن قال: (وفي المعركةِ لا يَقتُلون النِّساءَ ولا الأطفالَ على عَكسِ ما يفعَلُه الأزارِقةُ)
[1023] ((المقالات)) (1/185). .
أمَّا البَغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ فيَذكُرانِ عن
الإباضيَّةِ أنَّهم يَرَون أنَّ مُخالِفيهم بُرآءُ من الشِّرْكِ والإيمانِ، وأنَّهم ليسوا مُؤمِنين ولا مُشرِكين، ولكِنَّهم كُفَّارٌ
[1024] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 103)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/134). .
2- ما قالوه هم في كُتُبِهم عن أنفُسِهم:فصاحِبُ (كتاب الأديان) الإباضيُّ، وهو يُعَدِّدُ آراءَ الأخنَسِ -زعيمِ فِرقةِ الأخنسيَّةِ- قال: (وجوَّز تزويجَ نِساءِ أهلِ الكبائِرِ من قَومِهم على أصولِ أهلِ الاستقامةِ)
[1025] ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 105). .
وهو كذلك يؤكِّدُ على أنَّه لا يجوزُ من أهلِ القِبلةِ إلَّا دماؤُهم في حالةِ قيامِ الحَربِ بَينَهم وبَينَ
الإباضيَّةِ [1026] ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 99). .
وأبو زكريَّا الجَناونيُّ يؤكِّدُ أنَّه يجوزُ مُعاملةُ المُخالِفين معاملةً حَسَنةً، غيرَ أنَّه ينبغي أن يُدْعَوا إلى تَركِ ما به ضَلُّوا، فإن أصَرُّوا ناصَبَهم إمامُ المُسلِمين الحَربَ حتَّى يُذعِنوا للطَّاعةِ، ولا يحِلُّ منهم غيرُ دِمائِهم.
وهناك نصوصٌ في مُسامحةِ
الإباضيَّةِ للمُخالِفين لهم من حُسنِ المعامَلةِ، وعَدَمِ اغتيالِهم أو استِعراضِهم، وتحريمِ أموالِهم.
يَذكُرُها عنهم علي يحيى مَعمَر مع عَزْوِها إلى قائِليها في كتابِه (
الإباضيَّةُ بَينَ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ)، في نَقدِه لكلامِ عُلَماءِ الفِرَقِ عن
الإباضيَّةِ [1027] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 335، 385). .
ثانيًا: الشِّدَّةُ على المُخالِفين: 1- ما قاله عنهم عُلَماءُ الفِرَقِ: قال البَغداديُّ عنهم: (إنَّهم يَرَون أنَّ المُخالِفين لهم كُفَّارٌ، وأجازوا شهادتَهم، وحَرَّموا دماءَهم في السِّرِّ واستحَلُّوها في العلانيةِ... وزعَموا أنَّهم في ذلك محارِبون للهِ ولرسولِه ولا يَدينون دينَ الحقِّ، وقالوا باستِحلالِ بعضِ أموالِهم دونَ بعضٍ، والذي استحَلُّوه الخيلُ والسِّلاحُ، فأمَّا الذَّهَبُ والفِضَّةُ فإنَّهم يردُّونَها على أصحابِها عِندَ الغنيمةِ)
[1028] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 103). .
وقد سَبَق قولُ
الأشعَريِّ عنهم: وقالوا جميعًا: إنَّ الواجِبَ أن يَستَتيبوا من خالفَهم في تنزيلٍ أو تأويلٍ، فإن تاب وإلَّا قُتِل، كان ذلك الخِلافُ فيما يَسَعُ جَهلُه وفيما لا يَسَعُ
[1029] ((المقالات)) (1/186). .
2- ما قالوه هم في كُتُبِهم عن أنفُسِهم: روى الجيطاليُّ الإباضيُّ عن الإمامِ عبدِ الوَهَّابِ أنَّه قال: (سَبعونَ وَجهًا تحِلُّ بها الدِّماءُ، فأخبَرتُ منها لأبي مرداسٍ بوَجهَينِ، فقال: مِن أين هذا؟ مِن أين هذا؟)، وفي كتابِ "سِيَر المشائِخِ" أنَّ الإمامَ كان يقولُ: (عندي أربعةٌ وعِشرون وجهًا تحِلُّ بها دماءُ أهلِ القبلةِ، ولم تكُنْ منهم عِندَ أبي مِرداسٍ إلَّا أربعةُ أوجُهٍ، وقد شَدَّد عَلَيَّ فيهم)
[1030] ((قواعد الإسلام)) (ص: 105). .
وقال المارْغِينيُّ: (قالت المشائِخُ: إنَّ هذا الدِّينَ الذي دان به الوَهَبيَّةُ من
الإباضيَّةِ من المُحَكِّمةِ: دينُ المُصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هو الحَقُّ عِندَ اللهِ، وهو دينُ الإسلامِ، مَن مات مستقيمًا عليه فهو مُسلِمٌ عِندَ اللهِ، ومن شَكَّ فيه فليس على شيءٍ منه، ومن مات على خلافِه أو مات على كبيرةٍ مُوبِقةٍ فهو عِندَ اللهِ من الهالِكين أصحابِ النَّارِ)
[1031] ((رسالة في فرق الإباضية)) للمغربي (ص: 13). .