المَبحَثُ الأوَّلُ: التَّعريفُ بمُرجِئةِ الفُقَهاءِ
هي إحدى فِرَقِ
المُرجِئةِ التي ظهرَت في الكوفةِ في أواخِرِ عَهدِ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم، على يدِ طائِفةٍ مِن فُقَهاءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ومنهم فقيهُ الكوفةِ حمَّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ (ت 120 هـ).
وسببُ ظُهورِ مَذهَبِ الإرجاءِ ردَّةُ فِعلٍ مُقابِلَ مَذهَبِ
الخوارِجِ و
المُعتزِلةِ، كما قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّما أحدَثه قومٌ قَصدُهم جَعلُ أهلِ القِبلةِ كُلِّهم مُؤمِنينَ ليسوا كُفَّارًا، قابَلوا
الخوارِجَ و
المُعتزِلةَ؛ فصاروا في طَرَفٍ آخَرَ)
[25] ((مجموع الفتاوى)) (17/446). .
وقال أيضًا: (حدثَت
المُرجِئةُ، وكان أكثَرُهم مِن أهلِ الكوفةِ، ولم يكنْ أصحابُ عبدِ اللهِ
[26] يعني عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. مِن
المُرجِئةِ، ولا
إبراهيمُ النَّخعيُّ وأمثالُه، فصاروا نقيضَ
الخوارِجِ و
المُعتزِلةِ، فقالوا: إنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ)
[27] ((مجموع الفتاوى)) (13/38). .
وسُمُّوا مُرجِئةَ الفُقَهاءِ؛ لأنَّهم مِن فُقَهاءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ومُرجِئةً؛ لأنَّهم وقَعوا في شيءٍ مِن الإرجاءِ، وهو تأخيرُ العملِ عن مُسمَّى الإيمانِ، وبِدعتُهم ليست كبيرةً، لكنَّها مَبدَأُ بِدعةِ
المُرجِئةِ التي هي مِن أعظَمِ البِدَعِ الشَّنيعةِ
[28] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 155). .
فقد تطوَّر الانحِرافُ في الإرجاءِ إلى أن وصَل إلى القولِ بأنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ فقط، وصار الإرجاءُ بابًا واسِعًا للتَّفلُّتِ مِن أحكامِ الشَّريعةِ، وتبريرِ الفِسقِ والفُجورِ، وتهوينِ المعاصي، ومِن فِقهِ السَّلفِ أنَّهم تنبَّهوا لخطرِ الإرجاءِ مُنذُ بدايةِ ظُهورِه، واشتدَّ إنكارُهم على مُرجِئةِ الفُقَهاءِ
[29] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/38)، ((تسرب المفاهيم الإرجائية في الواقع المعاصر)) لسعد العتيبي (ص: 5). .
قال
ابنُ تيميَّةَ عن مُرجِئةِ الفُقَهاءِ: (كان أكثَرُهم مِن أهلِ الكوفةِ...، قالوا: إنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ، وكانت هذه
البِدعةُ أخَفَّ البِدَعِ؛ فإنَّ كثيرًا مِن النِّزاعِ فيها نِزاعٌ في الاسمِ واللَّفظِ دونَ الحُكمِ؛ إذ كان الفُقَهاءُ الذين يُضافُ إليهم هذا القولُ -مِثلُ حمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ، و
أبي حَنيفةَ، وغَيرِهما- هم معَ سائِرِ أهلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقينَ على أنَّ اللهَ يُعذِّبُ مَن يُعذِّبُه مِن أهلِ الكبائِرِ بالنَّارِ، ثُمَّ يُخرِجُهم بالشَّفاعةِ، كما جاءت الأحاديثُ الصَّحيحةُ بذلك، وعلى أنَّه لا بُدَّ في الإيمانِ أن يتكلَّمَ بلِسانِه، وعلى أنَّ الأعمالَ المفروضةَ واجِبةٌ، وتارِكَها مُستحِقٌّ للذَّمِّ والعِقابِ؛ فكان في الأعمالِ: هل هي مِن الإيمانِ، وفي الاستِثناءِ ونَحوِ ذلك، عامَّتُه نِزاعٌ لفظيٌّ؛ فإنَّ الإيمانَ إذا أُطلِق دخلَت فيه الأعمالُ)
[30] ((مجموع الفتاوى)) (13/38). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (وفي الجُملةِ: الذين رُموا بالإرجاءِ مِن الأكابِرِ، مِثلُ طَلقِ بنِ حَبيبٍ، وإبراهيمَ التَّيميِّ، ونَحوِهما؛ كان إرجاؤُهم مِن هذا النَّوعِ، وكانوا أيضًا لا يَستَثنونَ في الإيمانِ، وكانوا يقولونَ: الإيمانُ هو الإيمانُ الموجودُ فينا، ونحن نقطَعُ بأنَّا مُصدِّقونَ، ويرَونَ الاستِثناءَ شكًّا)
[31] ((مجموع الفتاوى)) (13/40). .
وقال أيضًا: (لهذا لم يُكفِّرْ أحدٌ مِن السَّلفِ أحدًا مِن مُرجِئةِ الفُقَهاءِ، بل جعَلوا هذا مِن بِدَعِ الأقوالِ والأفعالِ، لا مِن بِدَعِ العقائِدِ؛ فإنَّ كثيرًا مِن النِّزاعِ فيها لفظيٌّ، لكنَّ اللَّفظَ المُطابِقَ للكتابِ والسُّنَّةِ هو الصَّوابُ، فليس لأحدٍ أن يقولَ بخِلافِ قولِ اللهِ ورسولِه؛ لا سيَّما وقد صار ذلك ذَريعةً إلى بِدَعِ أهلِ الكلامِ مِن أهلِ الإرجاءِ وغَيرِهم، وإلى ظُهورِ الفِسقِ؛ فصار ذلك الخطأُ اليَسيرُ في اللَّفظِ سببًا لخطأٍ عظيمٍ في العقائِدِ والأعمالِ؛ فلهذا عَظُم القولُ في ذمِّ الإرجاءِ)
[32] ((مجموع الفتاوى)) (7/394). .
وقال أيضًا: (إنَّ السَّلفَ والأئمَّةَ اشتدَّ إنكارُهم على هؤلاء، وتبديعُهم وتغليظُ القولِ فيهم، ولم أعلَمْ أحدًا منهم نطَق بتكفيرِهم، بل هم مُتَّفِقونَ على أنَّهم لا يُكفَّرونَ في ذلك، وقد نصَّ
أحمَدُ وغَيرُه مِن الأئمَّةِ على عَدمِ تكفيرِ هؤلاء
المُرجِئةِ [33] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/574). ، ومَن نقَل عن
أحمَدَ أو غَيرِه مِن الأئمَّةِ تكفيرًا لهؤلاء، أو جَعلَ هؤلاء مِن أهلِ البِدَعِ المُتنازَعِ في تكفيرِهم؛ فقد غلِط غَلطًا عظيمًا، والمحفوظُ عن
أحمَدَ وأمثالِه مِن الأئمَّةِ إنَّما هو تكفيرُ
الجَهْميَّةِ والمُشبِّهةِ وأمثالِ هؤلاءِ...، وأمَّا
المُرجِئةُ فلا يختلِفُ قولُه في عَدمِ تكفيرِهم، معَ أنَّ
أحمَدَ لم يُكفِّرْ أعيانَ
الجَهْميَّةِ...، ويُنكِرُ ما أحدَثوا مِن القولِ الباطِلِ الذي هو كُفرٌ عظيمٌ، وإن لم يعلَموا هم أنَّه كُفرٌ، وكان يُنكِرُه ويُجاهِدُهم على ردِّه بحسَبِ الإمكانِ؛ فيجمَعُ بَينَ طاعةِ اللهِ ورسولِه في إظهارِ السُّنَّةِ والدِّينِ، وإنكارِ بِدَعِ
الجَهْميَّةِ المُلحِدينَ، وبَينَ رعايةِ حُقوقِ المُؤمِنينَ مِن الأئمَّةِ والأمَّةِ، وإن كانوا جُهَّالًا مُبتدِعينَ وظَلَمةً فاسِقينَ)
[34] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 507). .
والنِّزاعُ يكونُ لفظيًّا في مسألةِ الإيمانِ في حالِ تسليمِ المُخالِفِ بأنَّ الإيمانَ الذي في القلبِ يستلزِمُ الأعمالَ الظَّاهِرةَ مِن الأقوالِ والأعمالِ، ثُمَّ يُنازِعُ في كونِ هذا العَملِ الظَّاهِرِ جُزءًا مِن الإيمانِ الباطِنِ، ويرى أنَّه لازِمٌ له؛ فالنِّزاعُ في هذه الحالِ يُعَدُّ لفظيًّا
[35] يُنظر: ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) للملطي (ص: 43)، ((أصول الدين)) للغزنوي (ص: 263)، ((مجموع الفتاوى)) (7/250،507، 575)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 191) كلاهما لابن تيميَّةَ، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 459، 796)، ((المواقف)) للإيجي (3/ 527)، ((آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام بن تيمية)) لعبد الله السند (ص:540). .
وأمَّا إن كان المُخالِفُ يقولُ بحُصولِ الإيمانِ الواجِبِ في القلبِ دونَ عَملِ أيِّ شيءٍ مِن الواجِباتِ الظَّاهِرةِ، فتلك هي بِدعةُ الإرجاءِ التي اشتدَّ كلامُ السَّلفِ في أهلِها
[36] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/218)، ((آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام بن تيمية)) لعبد الله السند (ص: 541). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (يمتنِعُ أن يكونَ الرَّجلُ لا يفعَلُ شيئًا ممَّا أُمِر به مِن الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ، ويفعَلُ ما يقدِرُ عليه مِن المُحرَّماتِ، مِثلُ الصَّلاةِ بلا وُضوءٍ، وإلى غَيرِ القِبلةِ، ونِكاحِ الأمَّهاتِ، وهو معَ ذلك مُؤمِنٌ في الباطِنِ، بل لا يفعَلُ ذلك إلَّا لعَدمِ الإيمانِ الذي في قَلبِه)
[37] ((مجموع الفتاوى)) (7/218، 621). .