الفصلُ الثَّالثُ: بيانُ مَذهَبِ السَّلفِ في حُكمِ مُرتكِبِ الكبيرةِ وإنكارُهم على المُرجِئةِ في جَعلِهم مُرتكِبَ الكبيرةِ كامِلَ الإيمانِ
1- قال مَعقِلٌ العَبسيُّ: (قدِمْتُ المدينةَ، فجلسْتُ إلى نافِعٍ، فقلْتُ له: يا أبا عبدِ اللهِ: إنَّ لي إليك حاجةً، قال: أسِرٌّ أم علانيَةٌ؟ فقلْتُ: لا، بل سِرٌّ، قال: رُبَّ سِرٍّ لا خيرَ فيه، فقلْتُ له: ليس مِن ذاك، فلمَّا صلَّينا العَصرَ قام وأخَذ بيَدي، وخرَج مِن الخَوْخةِ، ولم ينتظِرِ القاصَّ، فقال: ما حاجتُك؟ قلْتُ: أَخْلِني مِن هذا، قال: تنحَّ يا عمرُو، فذكرْتُ له بُدُوَّ قولِهم، فقال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أُمِرْتُ أن أضِرَبهم بالسَّيفِ حتَّى يقولوا لا إلهَ إلَّا اللهُ، فإذا قالوا لا إلهَ إلَّا اللهُ، عصَموا منِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحقِّه، وحِسابُهم على اللهِ )) [601])) أخرجه عبدِ اللهِ بن أحمد في ((السنة)) (831) واللَّفظُ له، والخلال في ((السنة)) (1105)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1101) باختلافٍ يسيرٍ. والحديثُ أصلُه في صحيح البخاري (2946)، ومسلم (21) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلمٍ: ((أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا لا إلهَ إلَّا اللهُ. فمَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقد عصَمَ مني نفسَه ومالَه إلَّا بحَقِّه، وحسابُه على اللهِ)). ، قُلْتُ: إنَّهم يقولونَ: نحن نُقِرُّ بأنَّ الصَّلاةَ فريضةٌ ولا نُصلِّي، وأنَّ الخَمرَ حرامٌ ونحن نشرَبُها، وأنَّ نِكاحَ الأمَّهاتِ حرامٌ ونحن نفعَلُ، قال: فنتَر يدَه مِن يَدي، ثُمَّ قال: مَن فعَل هذا فهو كافِرٌ)
[602] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/383). .
2- عن ابنِ أبي مُلَيكةَ قال: (لقد أتى عليَّ بُرهةٌ مِن الدَّهرِ، وما أراني أدرِكُ قومًا يقولُ أحدُهم: إنِّي مُؤمِنٌ مُستكمِلُ الإيمانِ، ثُمَّ ما رضِي حتَّى قال: إنَّ إيماني على إيمانِ
جِبريلَ و
ميكائيلَ، ثُمَّ ما زال بهم
الشَّيطانُ حتَّى قال أحدُهم: إنَّه مُؤمِنٌ، وإن نكَح أمَّه وأختَه وابنتَه، ولقد أدركْتُ كذا وكذا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما مات رجُلٌ منهم إلَّا وهو يخشى على نَفسِه النِّفاقَ!)
[603] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/1026). .
3- سُئِل
أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ عن المُصِرِّ على الكبائِرِ يطلُبُها بجُهدِه إلَّا أنَّه لم يترُكِ الصَّلاةَ والزَّكاةَ والصَّومَ، هل يكونُ مُصِرًّا مَن كانت هذه حالَه؟ قال: (هو مُصِرٌّ، مِثلُ قولِه:
((لا يَزني حينَ يَزني وهو مُؤمِنٌ )) [604] أخرجه البخاري (6810)، ومسلم (57) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، يخرُجُ مِن الإيمانِ، ويقعُ في الإسلامِ...)
[605] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 527). .
4- قال القصَّابُ: (إنَّ المُؤمِنَ ببعضِ أجزاءِ الإيمانِ قد يدخُلُ الجنَّةَ بعَفوِ اللهِ، بل بمِثقالِ خَردَلةٍ معَ الشَّهادةِ، وليس في دُخولِه النَّارَ قَبلَ دُخولِه الجنَّةَ -بَعدَ إخراجِه منها- ما يَكسِرُ قولَنا في تجزِئةِ الإيمانِ وتسميةِ العَملِ به.
وكذا قولُنا في حديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، فله الجنَّةَ وإن زنى وإن سرَق )) [606] أخرجه ابن منده في ((الإيمان)) (80) وصحَّحه من حديثِ أبي ذر، قال: (كنا مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مسيرٍ له، فلمَّا كان بعضُ اللَّيلِ تنحَّى فلَبِث طويلًا، ثُمَّ أتانا، فقال: أتاني آتٍ من رَبِّي فأخَبَرني أنَّه: من مات يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ فإنَّ له الجنَّةَ، فقُلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم). والحديثُ أصلُه في صحيح البخاري (5827)، ومسلم (94) بلفظ: (ما من عبدٍ قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، ثُمَّ مات على ذلك إلَّا دخل الجنَّةَ. قُلتُ: وإن زنى وإن سَرَق؟ قال: وإن زنى وإن سَرَق، قُلتُ: وإن زنا وإن سَرَق؟ قال: وإن زنى وإن سَرَق -ثلاثًا-، ثُمَّ قال في الرَّابعةِ: على رَغمِ أنفِ أبي ذَرٍّ. قال: فخرج أبو ذرٍّ وهو يقولُ: وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذَرٍّ). ، أي: يدخُلُ الجنَّةَ بَعدَما يخرُجُ مِن النَّارِ، فتكونُ الجنَّةُ دارَه أبدًا؛ إذ ليس في هذا الحديثِ: (مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ لم يدخُلِ النَّارَ)، إنَّما هو:
((فله الجنَّةُ))، والجنَّةُ له في أيِّ وَقتٍ دخَلها، فتأويلُنا في هذا أحسَنُ مِن تأويلِ مَن قال: كان هذا قَبلَ نُزولِ الفرائِضِ؛ لأنَّه وإن كان حَسنًا، فلا يُدرَكُ إلَّا بخَبرٍ، وقولُنا مَطوِيٌّ في نَفسِ الكلامِ لمَن ميَّزه)
[607] ((نكت القرآن)) (4/234). .
5- قال
ابنُ تيميَّةَ: (حدَثَت
المُرجِئةُ وكان أكثَرُهم مِن أهلِ الكوفةِ، ولم يكنْ أصحابُ عبدِ اللهِ مِن
المُرجِئةِ، ولا
إبراهيمُ النَّخعيُّ وأمثالُه، فصاروا نقيضَ
الخوارِجِ و
المُعتزِلةِ، فقالوا: إنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ، وكانت هذه
البِدعةُ أخَفَّ البِدَعِ؛ فإنَّ كثيرًا مِن النِّزاعِ فيها نِزاعٌ في الاسمِ واللَّفظِ دونَ الحُكمِ؛ إذ كان الفُقَهاءُ الذين يُضافُ إليهم هذا القولُ -مِثلُ حمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ و
أبي حَنيفةَ وغَيرِهما- هم معَ سائِرِ أهلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقينَ على أنَّ اللهَ يُعذِّبُ مَن يُعذِّبُه مِن أهلِ الكبائِرِ بالنَّارِ، ثُمَّ يُخرِجُهم بالشَّفاعةِ، كما جاءت الأحاديثُ الصَّحيحةُ بذلك، وعلى أنَّه لا بُدَّ في الإيمانِ أن يتكلَّمَ بلِسانِه، وعلى أنَّ الأعمالَ المفروضةَ واجِبةٌ، وتارِكُها مُستحِقٌّ للذَّمِّ والعِقابِ، فكان في الأعمالِ: هل هي مِن الإيمانِ وفي الاستِثناءِ ونَحوِ ذلك، عامَّتُه نِزاعٌ لفظيٌّ؛ فإنَّ الإيمانَ إذا أُطلِق دخَلَت فيه الأعمالُ)
[608] ((مجموع الفتاوى)) (13/38). .
6- قال
ابنُ القيِّمِ: (لا يُصِرُّ على تركِ الصَّلاةِ إصرارُا مُستمِرًّا مَن يُصدِّقُ بأنَّ اللهَ أمَر بها أصلًا؛ فإنَّه يستحيلُ في العادةِ والطَّبيعةِ أن يكونَ الرَّجلُ مُصدِّقًا تصديقًا جازِمًا أنَّ اللهَ فرَض عليه كُلَّ يومٍ وليلةٍ خمسَ صَلَواتٍ، وأنَّه يُعاقِبُه على تَركِها أشَدَّ العِقابِ، وهو معَ ذلك مُصِرٌّ على تَركِها! هذا مِن المُستحيلِ قَطعًا، فلا يُحافِظُ على تَركِها مُصدِّقٌ بفَرضِها أبدًا؛ فإنَّ الإيمانَ يأمُرُ صاحِبَه بها، فحيثُ لم يكنْ في قلبِه ما يأمُرُ بها فليس في قلبِه شيءٌ مِن الإيمانِ)
[609] ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 49). .
7- قال ابنُ أبي العِزِّ: (قد أجمَعوا على أنَّه لو صدَّق بقلبِه وأقرَّ بلِسانِه، وامتنَع عن العَملِ بجوارِحِه: أنَّه عاصٍ للهِ ورسولِه، مُستحِقٌّ الوعيدَ، لكن فيمَن يقولُ: إنَّ الأعمالَ غَيرُ داخِلةٍ في مُسمَّى الإيمانِ مَن قال: لمَّا كان الإيمانُ شيئًا واحِدًا فإيماني كإيمانِ
أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعُمرَ رضِي اللهُ عنهما! بل قال: كإيمانِ الأنبِياءِ والمُرسَلينَ و
جِبريلَ و
ميكائيلَ عليهم السَّلامُ! وهذا غُلُوٌّ منه؛ فإنَّ الكُفرَ معَ الإيمانِ كالعَمَى معَ البَصرِ، ولا شكَّ أنَّ البُصَراءَ يختلِفونَ في قوَّةِ البَصرِ وضَعفِه)
[610] ((شرح الطحاوية)) (2/ 463). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ أيضًا في شرحِ قولِ
الطَّحاويِّ: (لا نقولُ: لا يضُرُّ معَ الإيمانِ ذَنبٌ لمَن عَمِله)
[611] ((الطحاوية)) (ص: 25). : (ردٌّ على
المُرجِئةِ؛ فإنَّهم يقولونَ: لا يضُرُّ معَ الإيمانِ ذنبٌ، كما لا ينفَعُ معَ الكُفرِ طاعةٌ)
[612] ((شرح الطحاوية)) (2/ 434). .
8- قال
ابنُ رَجبٍ: (قد اختلَف العُلَماءُ في مُرتكِبِ الكبائِرِ: هل يُسمَّى مُؤمِنًا ناقِصَ الإيمانِ، أم لا يُسمَّى مُؤمِنًا؟ وإنَّما يُقالُ: هو مُسلِمٌ، وليس بمُؤمِنٍ؟ على قولَينِ، وهُما رِوايتانِ عن
الإمامِ أحمَدَ؛ فأمَّا مَن ارتكَب الصَّغائِرَ فلا يزولُ عنه اسمُ الإيمانِ بالكُلِّيَّةِ، بل هو مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، يَنقُصُ مِن إيمانِه بحسَبِ ما ارتكَب مِن ذلك.
والقولُ بأنَّ مُرتكِبَ الكبائِرِ يُقالُ له: مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، مَروِيٌّ عن
جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، وهو قولُ
ابنِ المُبارَكِ، و
إسحاقَ، و
أبي عُبَيدٍ، وغَيرِهم.
والقولُ بأنَّه مُسلِمٌ ليس بمُؤمِنٍ، مَروِيٌّ عن أبي جَعفَرٍ مُحمَّدِ بنِ عليٍّ، وذكَر بعضُهم أنَّه المُختارُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ، وقال
ابنُ عبَّاسٍ: الزَّاني يُنزَعُ منه نورُ الإيمانِ، وقال أبو هُرَيرةَ: يُنزَعُ منه الإيمانُ، فيكونُ فَوقَه كالظُّلَّةِ، فإن تاب عاد إليه، وقال عبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ وأبو الدَّرداءِ: الإيمانُ كالقميصِ، يلبَسُه الإنسانُ تارةً، ويخلَعُه تارةً أخرى، وكذا قال
الإمامُ أحمَدُ رحِمه اللهُ وغَيرُه، والمعنى: أنَّه إذا كَمَّل خِصالَ الإيمانِ لَبِسَه، فإذا نقَص منها شيءٌ نزَعَه)
[613] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 303). .