المطلَبُ الأوَّلُ: التَّعريفُ بالسَّبَئيَّةِ ومُؤَسِّسِها
السَّبَئيَّةُ هم أتباعُ
عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ اليهوديِّ. قيل: إنَّه من الحِيرةِ بالعِراقِ
[95] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 235). ، وقيل: أصلُه روميٌّ
[96] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/173). ، وقيل: إنَّه من أهلِ اليَمَنِ مِن صَنعاءَ، وهذا هو القَولُ الرَّاجِحُ
[97] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (4/340). .
وقد كان يهوديًّا فأظهَر الإسلامَ في زَمَنِ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه نِفاقًا وخديعةً ومكرًا، وبدأ بَعدَ إظهارِه الإسلامَ ينشُرُ آراءه متظاهِرًا بالغَيرةِ على الدِّينِ، وكان من أشَدِّ المحَرِّضين على عثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وطالَب بإسقاطِه مِن الخِلافةِ حتَّى وقعت الفِتنةُ، وهو أوَّلُ مَن أظهَرَ الغُلُوَّ في أهلِ البَيتِ، وأسَّس أصولَ التَّشيُّعِ، وادَّعى الوصيَّةَ لعَليٍّ؛ لأنَّه -كما زَعَم- ما من نبيٍّ إلَّا وله وصيٌّ، ثُمَّ طعَن في الصَّحابةِ لأنَّهم -كما زَعَم- لم يُنَفِّذوا وصيَّةَ رَسولِ اللَّهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتوليةِ عَليٍّ الخلافةَ بَعدَ موتِه.
وقد تنَقَّل من بلدٍ إلى بلدٍ؛ الحِجازِ والبَصرةِ والكوفةِ والشَّامِ ومِصرَ
[98] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (4/340، 341)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (29/ 3). ، ووَجَد آذانًا صاغيةً لبثِّ سُمومِه ضِدَّ الخليفةِ عُثمانَ والغُلُوِّ في عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، ونشاطُه في نَشرِ أفكارِه يدُلُّ على أنَّ اليهودَ كانوا يموِّلونَه؛ إذ كلَّما طُرِد من بلَدٍ انتَقَل إلى آخَرَ بكُلِّ نشاطٍ، ولا شَكَّ أنَّه يحتاجُ في تنقُّلِه هو وأتباعِه إلى من يُمَوِّلهم وينشُرُ آراءَهم، فغالِبُ الظَّنِّ أنَّ اليهودَ هم الذين كانوا يُعينونه لإتمامِ خُطَّتِه؛ ليَجْنوا بَعدَ ذلك ثمارَ الفُرْقةِ بَيْنَ المسلِمين وإفسادِ دينِهم، كما أفسَد بُولَسُ اليهوديُّ دينَ النَّصارى، بَعدَ أن ادَّعى ترْكَ اليهوديَّةِ.
قال
الذَّهبيُّ: (
عبدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ مِن غُلاةِ الزَّنادِقةِ. ضالٌّ مُضِلٌّ. أحسَبُ أنَّ عَليًّا حَرَقه بالنَّارِ. وقد قال الجُوزَجانيُّ: زَعَم أنَّ القُرآنَ جُزءٌ من تسعةِ أجزاءٍ وعِلمُه عِندَ عليٍّ، فنهاه عَليٌّ بَعدَ ما هَمَّ به)
[99] ((ميزان الاعتدال)) (2/ 426). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قال ابنُ عساكِرَ في تاريخِه: كان أصلُه من اليَمَنِ، وكان يهوديًّا فأظهر الإسلامَ وطاف بلادَ المُسلِمين ليَلفِتَهم عن طاعةِ الأئمَّةِ ويُدخِلَ بَيْنَهم الشَّرَّ، ودخَل دِمَشقَ لذلك في زمَنِ عُثمانَ. ثُمَّ أخرَجَ من طريقِ سَيفِ بنِ عُمَرَ التَّميميِّ في الفُتوحِ له قِصَّةً طويلةً لا يَصِحُّ إسنادُها. ومن طريقِ ابنِ أبي خَيثمةَ: حَدَّثنا محمَّدُ بنُ عَبَّادٍ، حدَّثنا
سفيانُ، عن عمَّارٍ الدَّهنيِّ: سَمِعتُ أبا الطُّفَيلِ يقولُ: رأيتُ المُسَيَّبَ بنَ نَجَبةَ أتى به مُلَبِّبَه، وعليٌّ على المِنبَرِ، فقال: ما شأنُه؟ فقال: يَكذِبُ على اللَّهِ وعلى رَسولِه.
حَدَّثنا عَمرُو بنُ مَروزقٍ، حَدَّثنا شُعبةُ، عن سَلَمةَ بنِ كُهَيلٍ عن زيدِ بنِ وَهبٍ، قال: قال عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ما لي ولهذا الخبيثِ الأسوَدِ، يعني
عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ؟! كان يقَعُ في
أبي بَكرٍ وعُمَرَ.
ومن طريقِ محمَّدِ بنِ عُثمانَ بنِ أبي شَيبةَ: حَدَّثنا محمَّدُ بنُ العلاءِ، حَدَّثنا أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ، عن مجالِدٍ عن الشَّعبيِّ قال: أوَّلُ مَن كَذَب
عبدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ.
وقال أبو يعلى المَوصِليُّ في مُسنَدِه: حَدَّثنا أبو كُرَيبٍ، حَدَّثنا محمَّدُ بنُ الحَسَنِ الأسديُّ، حدَّثَنا هارونُ بنُ صالحٍ عن الحارِثِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عن أبي الجُلاسِ قال: سمِعتُ عَليًّا يقولُ ل
عبد اللَّهِ بن سَبَأٍ: واللَّهِ ما أفضى إليَّ بشيءٍ كتَمه أحدًا من النَّاسِ، ولقد سمِعْتُه يقولُ: إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعةِ ثلاثينَ كَذَّابًا، وإنَّك لأحَدُهم!
وقال أبو إسحاقَ الفَزاريُّ: عن شُعبةَ، عن سَلَمةَ بنِ كُهَيلٍ، عن أبي الزَّعراءِ أو عن زَيدِ بنِ وَهبٍ، أنَّ سُوَيدَ بنَ غَفَلةَ دخَل على عَليٍّ في إمارتِه، فقال: إنِّي مرَرْتُ بنَفَرٍ يَذكُرون
أبا بَكرٍ وعُمَرَ، يَرَون أنَّك تُضمِرُ لهما مِثلَ ذلك، منهم
عبدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ -وكان عبدُ اللَّهِ أوَّلَ مَن أظهر ذلك- فقال عليٌّ: ما لي ولهذا الخبيثِ الأسوَدِ؟! ثُمَّ قال: معاذَ اللَّهِ أن أُضمِرَ لهما إلَّا الحَسَنَ الجَميلَ!
ثُمَّ أرسَل إلى
عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ فسَيَّره إلى المدائِنِ، وقال: لا يُساكِنُني في بَلدةٍ أبدًا، ثُمَّ نهَضَ إلى المِنبَرِ حتَّى اجتمع النَّاسُ. فذكر القِصَّةَ في ثنائِه عليهما بطولِه، وفي آخِرِه: ألَا ولا يَبلُغُني عن أحَدٍ يُفَضِّلُني عليهما إلَّا جلَدْتُه حَدَّ المُفتَري.
وأخبارُ
عَبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ شهيرةٌ في التَّواريخِ، وليست له روايةٌ، ولله الحَمدُ، وله أتباعٌ يُقالُ لهم: السَّبَئيَّةُ، يعتَقِدون إلاهيَّةَ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وقد أحرَقَهم عَليٌّ بالنَّارِ في خِلافتِه)
[100] ((لسان الميزان)) (4/ 484، 485). .
واختلف العُلَماءُ في نهايةِ
عَبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ؛ فبعضُهم ذَكَر أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَتَله في خلافتِه، وبعضُهم ذكَرَ أنَّه نفاه إلى المدائِنِ. وسيأتي بيانُ ذلك.