المبحَثُ الثَّاني: دعوى الإماميَّةِ أنَّ المذاهِبَ الأربعةَ تجري وَفْقَ هوى السُّلطانِ
من افتراءاتِ الشِّيعةِ أنَّهم يدَّعون أنَّ مذاهِبَ الأئِمَّةِ الأربعةِ توافِقُ أهواءَ الحُكَّامِ.
قال الشِّيعيُّ هاشم معروف الحُسَينيُّ: (قد تبَيَّنَ من هذا العَرضِ الموجَزِ لتاريخِ المذاهِبِ الأربعةِ: أنَّ من أقوى الأسبابِ التي ساعدَت على انتشارِها، ومكَّنَتْها من البقاءِ الطَّويلِ: أنَّ السُّلطاتِ الحاكمةَ في جميعِ الأدوارِ كانت السَّنَدَ المتينَ للمذاهِبِ الأربعةِ منذ أن ظهَرَت هذه المذاهِبُ حتَّى العُصورِ المتأخِّرةِ)
[825] ((المبادئ العامة للفقه الجعفري)) (ص: 385). .
وقال مُرتضى العَسكَريُّ: (أصبَح ما تبنَّاه الحكَّامُ قانونًا يُعمَلُ به، ومِثلَ الإسلامِ الرَّسميِّ، وأهمِلَ ما خالفَه، ونُبِذ المخالِفُ... وأخيرًا ارتأت السُّلطاتُ أن تَقْسِرَ الأمَّةَ على الأخذِ بفتاوى أحدِ أئِمَّةِ المذاهِبِ الأربعةِ في الفِقهِ... ولمَّا كان النَّاسُ على دينِ ملوكِهم رأوا الإسلامَ متمَثِّلًا بحُكَّامِهم وما تَبَنَّوه من حُكمٍ وعقيدةٍ وسُنَّةٍ منسوبةٍ إلى النَّبيِّ، وسمَّوا مَن تابَع الحُكَّامَ بأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ)
[826] ((أصل الشيعة وأصولها)) (ص: 59، 60). .
والشِّيعةُ الاثنا عَشْريَّةُ يعتَبِرون أئِمَّتَهم أئِمَّةَ الثَّورةِ، ودينَهم دينًا ثوريًّا قائمًا على منازعةِ من ولَّاهم اللَّهُ أمرَ المُسلِمين؛ لأنَّهم يعتَبِرون جميعَ وُلاةِ المُسلِمين غاصِبين لحَقِّ أهلِ البيتِ، وبعدَ مَوتِ الحَسَنِ العَسكريِّ الإمامِ الحادِيَ عَشَرَ عِندَهم صاروا ينتَظِرون خروجَ المَهديِّ المزعومِ الإمامِ الثَّاني عَشَرَ والأخيرِ عِندَهم، إلى أن جاء الخُمينيُّ في العصرِ الحديثِ فابتدع لهم ولايةَ الفقيهِ؛ ليقومَ مقامَ المَهديِّ إلى أن يخرُجَ
[827] يُنظر: ((ثورة الحسين)) لمحمد مهدي شمس الدين، ((الشيعة والحاكمون)) لمحمد جواد مغنية، ((الثورة البائسة)) لموسى الموسوي. .
وقال حُسَين آل عصفور: (لمَّا انتهت النَّوبةُ إلى أميرِ المُؤمِنين عليه السَّلامُ من رَبِّ العالَمين فهَدَم بعضَ قواعِدِهم المبتَدَعةِ في الدِّينِ، وبَقِيَ كثيرٌ لم يقدِرْ على إزالتِه لكثرةِ المخالِفين، حتَّى ظهرت الدَّولةُ الأمويَّةُ، فأجَّجوا نيرانَ البِدَعِ الشَّنيعةِ، وأظهروا الباطِلَ والأحوالَ الفظيعةَ، فزادوا على تلك القواعِدِ وهَلُمَّ جَرًّا، فشادوا ما أسَّس أولئك، وزادوا في الطُّنبورِ نَغمةً أُخرى، فارتبك الأمرُ على النَّاسِ، ولا بَرِحوا مُشتَمِلين على هذا اللِّباسِ، حتى انتَهَت الرِّياسةُ إلى أرجاسِ بني العبَّاسِ، أهلِ القِيانِ والمزامِرِ والكاسِ. وأكثَرُ الفُقَهاءِ من العامَّةِ في أيَّامِهم، فرفعوا مكانَهم، وأمَروا النَّاسَ بالأخذِ بفُتياهم، كان أقرَبُ الفُقَهاءِ إليهم أشَدَّهم عداوةً لآلِ الرَّسولِ، وأظهَرَهم لهم خلافًا في الفُروعِ والأصولِ، كمالكٍ، و
أبي حنيفةَ، و
الشَّافعيِّ، و
ابنِ حنبَلٍ، ومن حذا حَذْوَهم في تلك المذاهِبِ السَّخيفةِ، وكان في زمانهم من الفُقَهاءِ من هو أعلَمُ، ولكِنِ اشتَهَر هؤلاء لأنَّهم لآلِ مُحمَّدٍ أبغَضُ وأظلَمُ، ولِما فيهم من التَّلبيسِ الذي حملهم عليه إبليسُ أظهروا الزُّهدَ والبُعدَ عن الملوكِ؛ طلَبًا لدُنيا لا تُنالُ إلَّا بتركِها ظاهرًا، ومرآةٍ لهم في السُّلوكِ؛ فمالت إليهم القلوبُ، ودانت لهم عقولُ مَن هم في الضَّلالةِ كالأنعامِ، روَّجت أسواقَهم الكاسدةَ أقوامٌ أيُّ أقوامٍ، فسَتَروا ما أبدعوا في الدِّينِ بإصلاحٍ مُمَوَّهٍ، وتأويلٍ غيرِ مُبينٍ)
[828] ((المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية)) (ص: 12). .
وقال مُحمَّد التَّيجانيُّ: (بهذا نفهَمُ كيف انتشَرَت المذاهِبُ التي ابتدعَتْها السُّلُطاتُ وسمَّتْها بمذاهِبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ... والذي يُهِمُّنا في هذا البحثِ أن نُبَيِّنَ بالأدِلَّةِ الواضحةِ بأنَّ المذاهِبَ الأربعةَ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ هي مذاهِبُ ابتدعَتْها السِّياسةُ)
[829] ((الشيعة هم أهل السنة)) (ص: 104-109). .
ومعلومٌ لكُلِّ مَن عَرَف أحوالَ الأئِمَّةِ الأربعةِ أنَّهم لم يكونوا قَطُّ آلةً بأيدي الحكَّامِ حتَّى يُقالَ: إنَّ فتاويهم تجري وَفْقَ أهوائِهم، بل سِيَرُهم تَزخَرُ بخِلافِ ذلك.
ف
أبو حنيفةَ حُبِس إلى أن مات في سِجنِه بسَبَب امتناعِه عن تولِّي القضاءِ
[830] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (13/324، 328)، ((الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)) لابن عبد البر (ص: 171). .
ومالِكٌ ضُرِب وطِيفَ به في أرجاءِ المدينةِ بسَبَبِ فتواه المُخالِفةِ لهوى الأميرِ
[831] يُنظر: ((الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)) لابن عبد البر (ص: 43-44)، ((شذرات الذهب)) لابن العماد (1/290). .
و
أحمدُ بنُ حَنبَلٍ أصابته تلك المحنةُ العظيمةُ بسَبَبِ ثباتِه على الحَقِّ في مسألةِ خَلقِ القرآنِ، ولم يتابِعِ السُّلطانَ على هواه
[832] يُنظر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (9/195 - 204)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/393 - 405). .
أمَّا ما ذهب إليه هؤلاء الأئِمَّةُ من عَدَمِ التَّشهيرِ بوُلاةِ الأمرِ، أو منازعتِهم السُّلطةَ، أو تحريضِ النَّاسِ عليهم؛ حِرصًا على جَمْعِ الكَلِمةِ، وعَدَمِ مفارقةِ الجماعةِ، فليس هذا بهوًى منهم، ولا لمصلحةٍ شَخصيَّةٍ لأحدٍ منهم، وإنَّما ذلك هو مقتضى سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال:
((دعانا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبايعْناه، فقال فيما أَخَذ علينا: أن بايَعَنا على السَّمعِ والطَّاعةِ في مَنشَطِنا ومَكرَهِنا، وعُسرِنا ويُسرِنا، وأَثَرةٍ علينا، وألَّا ننازِعَ الأمرَ أهلَه، إلَّا أن تَرَوا كُفْرًا بَواحًا عِندَكم من اللَّهِ فيه برهانٌ)) [833] أخرجه البخاري (7055، 7056) واللفظ له، ومسلم (1709). .
وعن عَوفِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((ألَا مَن وَلِيَ عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصيةِ اللَّهِ، فلْيَكرَهْ ما يأتي من معصيةِ اللَّهِ، ولا ينزِعَنَّ يدًا من طاعةٍ)) [834] أخرجه مسلم (1855). .