المَسألةُ الأولى: هَل الشَّعائِرُ الحُسَينيَّةُ كانت مَوجودةً في عَهدِ الأئِمَّةِ؟
إنَّ ما يفعَلُه الشِّيعةُ في المَآتِمِ والحُسَينيَّاتِ، مِثلُ اللَّطمِ والنِّياحةِ والضَّربِ حتَّى الإدماءِ، وغَيرِ ذلك: لم يكُنْ على عَهدِ الأئِمَّةِ باعتِرافِ عُلماءِ الشِّيعةِ أنفُسِهم، وقد ذَكرَ الحليُّ أنَّ الجُلوسَ للتَّعزيةِ لم يُنقَلْ عن أحَدٍ مِنَ الأئِمَّةِ، وأنَّ اتِّخاذَه مُخالِفٌ لسُنَّةِ السَّلَفِ
[1269] يُنظر: ((المعتبر)) (ص: 94). .
وجَواد التَّبريزيُّ عِندَما وُجِّهَ له هذا السُّؤالُ: ما هو رَأيُكم في الشَّعائِرِ الحُسَينيَّةِ؟ وما هو الرَّدُّ على القائِلينَ بأنَّها طُقوسٌ لم تَكُنْ على عَهدِ الأئِمَّةِ الأطهارِ عليهم السَّلامُ، فلا مَشروعيَّةَ لها؟ أجابَ بقَولِه: (كانتِ الشِّيعةُ على عَهدِ الأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ تَعيشُ التَّقيَّةَ، وعَدَمُ وُجودِ الشَّعائِرِ في وقتِهم لعَدَمِ إمكانِها لا يدُلُّ على عَدَمِ المَشروعيَّةِ في هذه الأزمِنةِ، ولو كانتِ الشِّيعةُ في ذاك الوقتِ تَعيشُ مِثلَ هذه الأزمِنةِ مِن حَيثُ إمكانيَّةُ إظهارِ الشَّعائِرِ وإقامَتِها لفعَلوا كما فعَلْنا، مِثلُ نَصبِ الأعلامِ السَّوداءِ على أبوابِ الحُسَينيَّاتِ بل الدُّورِ؛ إظهارًا للحُزنِ)
[1270] يُنظر: ((صراط النجاة)) للخوئي (2/562). .
وقال عليٌّ الحُسَينيُّ الأصفهانيُّ: (ليسَ كُلُّ جَديدٍ بدعةً؛ إذ البدعةُ المَبغوضةُ عِبارةٌ عن تَشريعِ حُكمٍ اقتِراحيٍّ لم يكُنْ في الدِّينِ، ولا مِنَ الدِّينِ، والرِّواياتُ الوارِدةُ في ذَمِّ البدعةِ والمُبتَدِعِ ناظِرةٌ إلى التَّشريعِ في الدِّينِ، بل هي وارِدةٌ مَورِدَ حُكمِ العَقلِ بقُبحِ التَّشريعِ مِن غَيرِ المُشَرِّعِ، بعُنوانِ أنَّه شَرعٌ إلهيٌّ، ومُستَمَدٌّ مِنَ الوحيِ السَّماويِّ، وإلَّا فأينَ مَحَلُّ الشُّبُهاتِ الحُكميَّةِ التي ورَدَتِ الرِّواياتُ بالبَراءةِ فيها، وحَكَم العَقلُ بقُبحِ العِقابِ عليها؟ وبَديهيٌّ أنَّ الشَّعائِرَ الحُسَينيَّةَ ليست كذلك، كيف والإبكاءُ مَأمورٌ به؟ وهو فِعلٌ تَوليديٌّ يحتاجُ إلى سَبَبٍ، وهو إمَّا قَوليٌّ، كذِكرِ المَصائِبِ، وإنشاءِ المَراثي، أو عَمَليٌّ، كما في عَمَلِ الشَّبيهِ
[1271] أي: تمثيلُ مسرحيَّةٍ لملحَمةِ كَربَلاءَ. ، فللفقيهِ أن يحكمَ بجَوازِ تلك الشَّعائِرِ لِما يتَرَتَّبُ عليها مِنَ الإبكاءِ الرَّاجِحِ البَتَّةَ، كما أنَّ التَّعزيةَ عُنوانٌ قَصديٌّ، ولا بُدَّ له مِن مُبَرِّرٍ، ونَرى أنَّ مُبَرِّراتِ العَزاءِ في المِلَلِ المُختَلفةِ مُختَلَقةٌ، وما تَعارَف عِندَ الشِّيعةِ ليس مِمَّا نَهى عنه الشَّرعُ أو حَكمَ بقُبحِه العَقلُ، وعلى المُشَكِّكِ أن يفهَمَ المُرادَ مِنَ البدعةِ، ثُمَّ يُطابقَها على ما يشاءُ إن أمكنَ)
[1272] يُنظر: ((مقتل الحسين)) لمرتضى عياد (ص: 192). .
وقال حَسَن مُغنية: (جاءَ العَهدُ البُوَيهيُّ في القَرنِ الرَّابعِ الهِجريِّ فتَحَرَّرَ هذا اليومَ
[1273] أي: أنَّ المآتمَ والحُسَينيَّاتِ في يومِ عاشوراءَ لم يُعرَفْ إلَّا في عهدِ البُوَيهيِّين الشِّيعةِ في القَرنِ الرَّابعِ الهِجريِّ. ، وتَجَلَّى كما ينبَغي حَزينًا في بَغدادَ والعِراقِ كُلِّه وخُراسانَ وما وراءَ النَّهرِ والدُّنيا كُلِّها، إذ أخَذت تَتَوشَّحُ البلادُ بالسَّوادِ، ويخرُجُ النَّاسُ بأتَمِّ ما تُخرِجُ الفجيعةُ الحَيَّةُ أهلَها الثَّاكِلينِ، وكذلك الحالُ في العَهدِ الحَمدانيِّ في حَلبٍ والموصِلِ وما والاهم، أمَّا في العُهودِ الفاطِميَّةِ فكانتِ المَراسيمُ الحُسَينيَّةُ في عاشوراءَ تَخضَعُ لمَراسيمِ بَغدادَ، وتَقتَصِرُ على الأُصولِ المُبَسَّطةِ التي تَجري الآنَ في جَميعِ الأقطارِ الإسلاميَّةِ والعَرَبيَّةِ، وخاصَّةً في العِراقِ وإيرانَ والهند وسوريا والحِجازِ، فتُقامُ المَآتِمُ والمَناحاتُ، وتُعقدُ لتُسكَبَ العَبَراتُ، وأصبَحت إقامةُ الشَّعائِرِ الحُسَينيَّةِ مَظهَرًا مِن مَظاهرِ خِدمةِ الحَقِّ، وإعلانِ الحَقيقةِ)
[1274] ((آداب المنابر)) (ص: 192). .
وقال حَسَنٌ الشِّيرازيُّ: (الشِّيعةُ لم يقدِروا على هذا التَّعبيرِ الجَريءِ عِندَما كانوا يرزَحونَ في ظُلُماتِ بَني أُميَّةَ وبَني العَبَّاسِ، وإنَّما اختَلفت عليهم الظُّروفُ القاسيةُ والرَّخيَّةُ اختِلافَ الفُصولِ على مَشاتِلِ الوردِ؛ فاختَلفت تَعبيراتُهم باختِلافِها)
[1275] ((الشعائر الحسينية)) (ص: 97). .
ثُمَّ ذَكرَ الشِّيرازيُّ خَمسةَ أدوارٍ:
الدَّورُ الأوَّلُ: دَورُ الأئِمَّةِ.
قال الشِّيرازيُّ: (انحَصَرَ فيه تَعبيرُ الشِّيعةِ على تَجَمُّعِ نَفرٍ منهم في بَيتِ أحَدِهم، وإنشادِ فردٍ منهم أبياتًا مِنَ الشِّعرِ، أو تِلاوتِه أحاديثَ في رِثاءِ أهلِ البَيتِ، وبُكاءِ الآخَرينَ بكُلِّ تَكتُّمٍ وإخفاءٍ وتَقيَّةٍ خَوفًا مِنَ الحُكوماتِ الظَّالمةِ أن تَطيشَ بهم في جُنونٍ، فتَطيرَ رؤوسُهم)
[1276] ((الشعائر الحسينية)) (ص: 98) بتصرُّفٍ يسيرٍ. .
الدَّورُ الثَّاني: دَورُ بَني العَبَّاسِ.
وقد اشتَكى الشِّيرازيُّ مِن هذا الدَّورِ إلَّا أنَّه قال: (تَوسَّعت مَجالسُ التَّأبينِ على الإمامِ الشَّهيدِ، وعَلت برِثائِه المَنابرُ، ولكِنْ في إطارٍ مَحدودٍ يفصِلُه عن حَرَكةِ التَّشَيُّعِ)
[1277] ((الشعائر الحسينية)) (ص: 98). .
الدَّورُ الثَّالثُ: دَورُ البُوَيهيِّينَ والدَّيالِمةِ والفاطِميِّينَ.
قال الشِّيرازيُّ: (... وخاصَّةً أيَّامَ مُعِزِّ الدَّولةِ الدَّيلميِّ، الذينَ رَفعوا الإرهابَ، وأطلقوا طاقاتِ الشِّيعةِ، ومَكَّنوهم مِن إخراجِ مَجالِسِ التَّأبينِ عن الدُّورِ إلى المَجامِعِ والشَّوارِعِ والسَّاحاتِ العامَّةِ، وإعلانِ الحِدادِ الرَّسميِّ العامِّ يومَ عاشوراءَ، وإغلاقِ الأسواقِ، وتَنظيمِ المَواكِبِ المُتَجَوِّلةِ في الشَّوارِعِ والسَّاحاتِ)
[1278] ((الشعائر الحسينية)) (ص: 99). .
الدَّورُ الرَّابعُ: دَورُ الصَّفويِّينَ.
قال الشِّيرازيّ: (وخاصَّةً عَهدَ العَلَّامةِ المَجلِسيِّ، الذي شَجَّعَ الشِّيعةَ على مُمارَسةِ شَعائِرِهم بكُلِّ حُرِّيَّةٍ، فأضافوا إليها التَّمثيلَ الذي كان إبداعًا منهم لتَجسيدِ المَأساةِ)
[1279] ((الشعائر الحسينية)) (ص: 99). .
الدَّورُ الخامِسُ: دَورُ الفُقَهاءِ المُتَأخِّرينَ.
قال الشِّيرازيُّ: (وعلى رَأسِهم الشَّيخُ مُرتَضى الأنصاريُّ وآيةُ اللهِ الدَّربنديُّ؛ حَيثُ أكثَرَتِ الشِّيعةُ مِن مَواكِبِ السَّلاسِلِ والتَّطبيرِ
[1280] يعني ما يفعَلُه الشِّيعةُ من ضَربِ أبدانِهم حتى تخرُجَ الدِّماءُ منهم. [1281] ((الشعائر الحسينية)) (ص: 99). .
ثُمَّ قال الشِّيرازيُّ: (ولو أنَّ الشِّيعةَ في عُهودِ الأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ وجَدوا الحُرِّيَّةَ الكامِلةَ لأقاموا هذه الشَّعائِرَ القائِمةَ اليومَ وأكثَرَ، غَيرَ أنَّهم لم يكونوا يجِدونَ الحُرِّيَّةَ الكافيةَ للتَّعبيرِ الكامِلِ عن مَدى انفِعالِهم في كُلِّ العُصورِ)
[1282] ((الشعائر الحسينية)) (ص: 100). .