المَطلبُ الثَّالثُ: التَّشابُهُ بَيْنَ اليهودِ والشِّيعةِ الإماميَّةِ في الوصيَّةِ بالإمامةِ
ورَدت عِدَّةُ نُصوصٍ في التَّوراةِ وغَيرِها مِن أسفارِ اليهودِ تُبَيِّنُ أنَّ اللهَ تعالى طَلب مِن موسى عليه السَّلامُ أن يوصيَ ليُوشَعَ بنِ نونٍ قَبلَ مَوتِه؛ ليكونَ مرشِدًا لبَني إسرائيلَ مِن بَعدِه، فجاءَ في التَّوراةِ ما نَصُّه: (فقال الرَّبُّ لموسى: خُذ يَشوعَ بنَ نونٍ رجلًا فيه روحُ الرَّبِّ، وضَعْ يدَك عليه، وأوقِفْه قُدَّامَ العازِرِ الكاهنِ، وقُدَّامَ كُلِّ الجَماعةِ، وأوصِه أمامَ أعيُنِهم... ففعَل موسى كما أمَرَه الرَّبُّ، أخَذَ يشوعَ وأوقَفه قُدَّامَ العازِرِ الكاهنِ، وقُدَّامَ كُلِّ الجَماعةِ، ووَضَع يدَه عليه، وأوصاه كما تَكلَّمَ الرَّبُّ)
[1947] ((سفر العدد)) الإصحاح السابع والعشرون، فقرة 18 - 23. .
فهذا النَّصُّ يدُلُّ على ضَرورةِ تَنصيبِ وصيٍّ بَعدَ موسى عليه السَّلامُ في عَقيدةِ اليهودِ، ويُعرَفُ هذا مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: طَلبُ اللهِ تعالى مِن موسى أن يوصيَ قَبل مَوتِه.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ مِمَّا يدُلُّ على أهَمِّيَّةِ هذا المَنصِبِ أنَّ اللهَ تعالى لم يترُكِ الاختيارَ لموسى أو لبَني إسرائيلَ في اختيارِ الوصيِّ بَعدَ موسى، بل نَصَّ عليه سُبحانَه وتعالى بنَفسِه.
ومِن هذا النَّصِّ يُمكِنُ استِنباطُ نَظرةِ اليهودِ إلى الوصيِّ والوصيَّةِ، والتي تَتَلخَّصُ في التَّالي:
1- وُجوبُ تَعيينِ الوصيِّ عِندَ اليهودِ.
2- أنَّ اللهَ تعالى هو الذي يتَولَّى تَعيينَ الوصيِّ بنَفسِه.
3- أنَّ للوصيِّ عِندَ اليهودِ مَنزِلةً عَظيمةً تُعادِلُ مَنزِلةَ النَّبيِّ.
4- أنَّه يُمكِنُ أن يوحيَ اللهُ تعالى إلى الوصيِّ كما يوحي إلى النَّبيِّ.
وهذا هو مُعتَقدُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ في عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه والأئِمَّةِ مِن بَعدِه، وهو يتَلخَّصُ في التَّالي:
1- اعتِقادُهم أنَّ الوصيَّ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وأنَّ اللهَ تعالى هو الذي اختارَه لذلك.
رَوَوا عن أبي عَبدِ اللهِ قال: (عُرِجَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه إلى السَّماءِ مِائةً وعِشرينَ مَرَّةً، ما مِن مَرَّةٍ إلَّا وقد أوصى اللهُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ بوِلايةِ عَليٍّ والأئِمَّةِ مِن بَعدِه أكثَرَ مِمَّا أوصاه بالفرائِضِ)
[1948] يُنظر: ((بصائر الدرجات)) للصفار (ص: 99). .
2- اعتِقادُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ أنَّ اللهَ تعالى ناجى عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه، فقد رَوتِ الشِّيعةُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ أنَّه قال: (إنَّ اللهَ ناجى عليًّا يومَ الطَّائِفِ ويومَ عَقَبةِ تَبوكَ، ويومَ خَيبَرَ)
[1949] يُنظر: ((الاختصاص)) للمفيد (ص: 328). .
وعن حمرانَ بنِ أعيَنَ قال: قُلتُ لأبي عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ: بَلغَني أنَّ الرَّبَّ تَبارَك وتعالى قد ناجى عَليًّا عليه السَّلامُ فقال: (أجَلْ، قد كانت بَينَهما مُناجاةٌ بالطَّائِفِ، نَزَل بَينَهما جِبريلُ)
[1950] يُنظر: ((الاختصاص)) للمفيد (ص: 327). .
3- اعتِقادُهم نُزولَ الوحيِ على الأوصياءِ؛ فقد رَوى الصَّفَّارُ عن سماعةَ بنِ مهرانَ قال: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ يقولُ: (إنَّ الرُّوحَ خَلقٌ أعظَمُ مِن جِبريلَ وميكائيلَ كان مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ يُسَدِّدُه ويُرشِدُه، وهو مَعَ الأوصياءِ مِن بَعدِه)
[1951] يُنظر: ((بصائر الدرجات)) (ص: 476). .
ورَوَوا عن أبي عَبدِ اللهِ أنَّه قال: (إنَّ مِنَّا لمَن يُنكَتُ في أُذُنِه، وإنَّ مِنَّا لمَن يرى في مَنامِه، وإنَّ مِنَّا لمَن يسمَعُ الصَّوتَ مِثلَ صَوتِ السِّلسِلةِ التي تَقَعُ على الطَّستِ)
[1952] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (26/ 55). .
4- اعتِقادُهم أنَّ الأئِمَّةَ بمَنزِلةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، فجاءَ عن مُحَمَّدِ بنِ مُسلمٍ قال: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ يقولُ: (الأئِمَّةُ بمَنزِلةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ إلَّا أنَّهم ليسوا بأنبياءَ، ولا يحِلُّ لهم مِنَ النِّساءِ ما يحِلُّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، فأمَّا ما خَلا ذلك فهم فيه بمَنزِلةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه)
[1953] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/ 270). .
وقد جَعَلوا الإمامةَ عِندَهم رُكنًا مِن أركانِ الإسلامِ، لا يتِمُّ إيمانُ المَرءِ إلَّا بالإتيانِ بها؛ فقد رَوَوا عن أبي جَعفرٍ الباقِرِ أنَّه قال: (بُنيَ الإسلامُ على خَمسٍ: على الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصَّومِ، والحَجّ، والوِلايةِ، ولمَ يُنادَ بشَيءٍ كما نوديَ بالوِلايةِ)
[1954] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (2/ 18). .
وعن زُرارةَ عن أبي جَعفرٍ قال: (بُنيَ الإسلامُ على خَمسةِ أشياءَ: على الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والحَجِّ، والصَّومِ، والوِلايةِ. قال زُرارةُ: فقُلتُ: وأيُّ شَيءٍ مِن ذلك أفضَلُ؟ فقال: الوِلايةُ)
[1955] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (2/ 18). ؛ ولذا فمَن أتى بجَميعِ أركانِ الإسلامِ ولم يأتِ بالوِلايةِ فإنَّ تلك الأعمالَ لا تُقبَلُ منه، ولا تُنجيه مِن عَذابِ اللهِ يومَ القيامةِ كما تَعتَقِدُ الإماميَّةُ!
وزَعَموا أنَّ الأرضَ لا يُمكِنُ أن تَبقى بدونِ إمامٍ، ولو بَقِيَت بدونِ إمامٍ ولو لساعةٍ واحِدةٍ لساخت بأهلِها، وهي الآنَ في اعتِقادِهم لا تَسيخُ؛ لأنَّ الإمامَ الثَّاني عَشَر ما زال حَيًّا، وقد عَقدَ الصَّفَّارُ في كِتابِه (بَصائِر الدَّرَجات) بابًا كاملًا في هذا المَعنى عنونَ له بقَولِه: (بابُ أنَّ الأرضَ لا تَبقى بغَيرِ إمامٍ ولو بَقِيَت لساخت)، ومِمَّا أورَدَ تَحتَه مِنَ الرِّواياتِ ما رَواه عن أبي جَعفرٍ قال: (لو أنَّ الإمامَ رُفِعَ مِنَ الأرضِ ساعةً لساخت بأهلِها كما يموجُ البَحرُ بأهلِه)
[1956] يُنظر: ((بصائر الدرجات)) (ص: 508). .