المَبحَثُ الرَّابعُ: مِن معالِمِ منهَجِ السُّلوكِ والأخلاقِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: مراعاةُ أحوالِ المُكَلَّفين وقُدراتِهم فلا غُلُوَّ ولا تشديدَ
قال اللهُ تعالى:
لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] .
قال
ابنُ جرير: (لا تُكَلَّفُ إلَّا ما يتَّسِعُ لها بَذْلُ ما كُلِّفَت بَذْلَه، فلا يَضِيقُ عليها ولا يَجْهَدُها)
[201] ((تفسير ابن جرير)) (5/ 153). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((سَدِّدوا وقارِبوا، واغدُوا ورُوحوا، وشَيءٌ من الدُّلْجةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغوا )) [202] أخرجه البخاري (6463) واللَّفظُ له، ومسلم (2816). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قولُه: «سَدِّدوا» معناه: اقصِدوا السَّدادَ، أي: الصَّوابَ، وقولُه: «وقارِبوا» أي: لا تُفْرِطوا فتُجِهدوا أنفُسَكم في العبادةِ؛ لئلَّا يُفضِيَ بكم ذلك إلى المَلالِ فتَتْرُكوا العَمَلَ فتُفَرِّطوا)
[203] ((فتح الباري)) (11/297) باختصارٍ. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غلَبَه؛ فسَدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا، واستَعينوا بالغَدوةِ والرَّوحةِ وشَيءٍ من الدُّلجةِ )) [204] أخرجه البخاري (39) واللَّفظُ له، ومسلم (2816) بنحوه. .
قال
ابنُ الجوزيِّ: (يحتَمِلُ وَجهَينِ: أحَدُهما: أنَّ الشَّريعةَ سَهلةٌ فلا ينبغي التَّشديدُ على النَّفسِ. والثَّاني: أن يكونَ المعنى: إنَّما يُنالُ الدِّينِ بالتَّلطُّفِ، ويدُلُّ على هذا الوَجهِ قَولُه: «ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غلَبَه». وقولُه: «فسَدِّدوا» أي: استَعمِلوا السَّدادَ والصَّوابَ، وقارِبوا ذلك إذا عجَزْتُم عنه. والدُّلجةُ: سَيرُ اللَّيلِ. وذِكْرُ الغَدوةِ والرَّوحةِ والدُّلجةِ مَثَلٌ للتلَطُّفِ؛ فإنَّ المسافِرَ لو قطَع اللَّيلَ والنَّهارَ بالسَّيرِ انقَطَع، وإنَّما يسيرُ الغَدوةَ والرَّوحةَ وشيئًا من اللَّيلِ ليجمَعَ بَينَ قَطعِ الطَّريقِ والتَّلطُّفِ بالرَّواحِلِ... المعنى: اقتَصِدوا في العبادةِ ولا تَحمِلوا منها ما لا تُطيقونَه)
[205] ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (3/ 531). .
قال
الحَسَنُ البَصريُّ: (إنَّ هذا الدِّينَ دِينٌ واصِبٌ، وإنَّه من لا يَصبِرْ عليه يَدَعْه، وإنَّ الحَقَّ ثقيلٌ، وإنَّ الإنسانَ ضعيفٌ، وكان يُقالُ: لِيَأخُذْ أحَدُكم من العَمَلِ ما يُطيقُ؛ فإنَّه لا يدري ما قَدْرُ أجَلِه، وإنَّ العبدَ إذا رَكِبَ بنَفسِه العُنفَ، وكَلَّف نَفْسَه ما لا يُطيقُ، أوشك أن يُسيِّبَ ذلك كُلَّه، حتى لعَلَّه لا يقيمُ الفريضةَ! وإذا رَكِبَ بنَفسِه التَّيسيرَ والتَّخفيفَ، وكَلَّف نفسَه ما تُطيقُ، كان أكيَسَ، أو قال: كان أكثَرَ العامِلين، وأمنَعَها من هذا العَدُوِّ)
[206] يُنظر: ((الزهد)) لابن المبارك (ص: 468). .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (كان الصَّحابةُ أقَلَّ الأمَّةِ تكَلُّفًا، اقتداءً بنبيِّهم صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم. قال اللهُ تعالى:
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] . وقال
عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: "مَن كان منكم مُستَنًّا فلْيَستَنَّ بمن قد مات؛ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتنةُ، أولئك أصحابُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانوا أبَرَّ هذه الأمَّةِ قُلوبًا، وأعمَقَها عِلمًا، وأقَلَّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم اللهُ عزَّ وجلَّ لصُحبةِ نبيِّه، وإقامةِ دينِه، فتشبَّهوا بأخلاقِهم وطرائِقِهم؛ فإنَّهم كانوا على الهُدى المُستقيمِ". وقال
أنسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: "كنَّا عِندَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، فسَمِعْتُه يقولُ: نُهينا عن التَّكَلُّفِ)
[207] ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) (1/ 159). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ أيضًا: (لَمَّا كان العبدُ لا ينفَكُّ عن الهوى ما دام حَيًّا، فإنَّ هواه لازِمٌ له، كان الأمرُ بخروجِه عن الهوى بالكُلِّيَّةِ كالممتَنِعِ، لكِنَّ المقدورَ له والمأمورَ به أن يَصرِفَ هواه عن مراتِعِ الهَلَكةِ إلى مواطِنِ الأمنِ والسَّلامةِ، مثالُه: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لم يأمُرْه بصَرْفِ قَلْبِه عن هوى النِّساءِ جُملةً، بل أمرَه بصَرفِ ذلك إلى نِكاحِ ما طاب له منهُنَّ من واحدةٍ إلى أربَعٍ، ومن الإماءِ ما شاء، فانصرَف مجرى الهوى من محَلٍّ إلى محَلٍّ، وكانت الرِّيحُ دَبورًا فاستحالت صَبًا، وكذلك هوى الظَّفَرِ والغَلَبةِ والقَهرِ، لم يأمُرْ بالخروجِ عنه، بل أمر بصَرْفِه إلى الظَّفَرِ والقَهرِ والغَلَبةِ للباطِلِ وحِزبِه، وشَرَع له من أنواعِ المُغالَباتِ بالسِّباقِ وغيرِه ممَّا يُمَرِّنُه ويُعِدُّه للظَّفَرِ)
[208] ((روضة المحبين)) (ص: 11). ويُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/156)، ((الاعتصام)) للشاطبي (1/273). .
وقد أعرَض طائفةٌ من الصُّوفيَّةِ عن ذلك، فلم يَلتفِتوا إلى نوازِعِ الإنسانِ وغرائِزِه، وخالَفوا الفِطرةَ السَّوِيَّةَ؛ ولذا تعذَّر عليهم قَمْعُ تلك الغرائِزِ، ثمَّ انتكَسوا إلى الإغراقِ في الشَّهوَاتِ والإباحةِ.
قال
ابنُ الجوزيِّ: (إنَّ قومًا منهم وقَع لهم أنَّ المرادَ رياضةُ النُّفوسِ لِتخلُصَ من أكدارِها المُرْديةِ، فلمَّا راضوها مُدَّةً ورأوا تعذُّرَ الصَّفاءِ، قالوا: ما لنا نُتعِبُ أنفُسَنا في أمرٍ لا يحصُلُ لبَشَرٍ؟ فتركوا العَمَلَ، وكَشْفُ هذا التَّلبيسُ أنَّهم ظَنُّوا أنَّ المرادَ قَمعُ ما في البواطِنِ من الصِّفاتِ البَشَريَّةِ، مِثلُ قَمعِ الشَّهوةِ والغَضَبِ وغيرِ ذلك، وليس هذا مرادَ الشَّرعِ، ولا يُتصَوَّرُ إزالةُ ما في الطَّبعِ بالرِّياضةِ، وإنَّما خُلِقَت الشَّهَواتُ لفائِدةٍ؛ إذ لولا شهوةُ الطَّعامِ هَلَك الإنسانُ، ولولا شَهوةُ النِّكاحِ انقَطَع النَّسلُ، ولولا الغَضَبُ لم يَدفَعِ الإنسانُ عن نفسِه ما يُؤذيه، وكذلك حُبُّ المالِ مركوزٌ فِي الطِّباعِ؛ لأنَّه يوصِلُ إِلَى الشَّهَواتِ، وإنَّما المرادُ من الرِّياضةِ كَفُّ النَّفسِ عمَّا يؤذي من جميعِ ذلك، وردُّها إلى الاعتدالِ فيه، وقد مدحَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ من نهى النَّفسَ عَنِ الهَوى، وإنَّما تنتهي عمَّا تَطلُبُه، ولو كان طلَبُه قد زال عن طَبْعِها ما احتاج الإنسانُ إلى نَهْيِها، وقد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: 134] ، وما قال: والفاقِدين الغَيظَ، والكَظْمُ رَدُّ الغيظِ)
[209] ((تلبيس إبليس)) (ص: 415). .