المَطلَبُ الثَّاني: مَراتِبُ الأئِمَّةِ
أعطى الإسماعيليَّةُ الإمامةَ أهَمِّيَّةً كُبرى سَواءٌ مِنَ النَّاحيةِ الاعتِقاديَّةِ أوِ الجانِبِ التَّنظيميِّ؛ فقد أطلَقوا على هذه المَراتِبِ أسماءً مُختَلِفةً، وقَسَّموها إلى دَرَجاتٍ مُتَعَدِّدةٍ؛ فمِنَ الأسماءِ التي أطلَقوها ما يُعرَفُ عِندَهم بالأدوارِ والأكوارِ، والمُرادُ من ذلك: فتَراتٌ زَمَنيَّةٌ مُعَيَّنةٌ يَكونُ في كُلٍّ منها ناطِقٌ، أي: نَبيٌّ، وسَبعةُ أئِمَّةٍ، وقد ذَكَرَ السِّجِستانيُّ -وهو أحَدُ عُلَمائِهم- أنَّ الدَّورَ على نَوعَينِ:
دَورٌ كبيرٌ ودَورٌ صَغيرٌ؛ فالدَّورُ الكَبيرُ يَتَعَلَّقُ بالأنبياءِ، ويُطلَقُ عليهم اسمُ النُّطَقاءِ، وهو الفَترةُ الزَّمَنيَّةُ التي تَكونُ بَينَ كُلِّ نَبيٍّ ونَبيٍّ.
أمَّا الدَّورُ الصَّغيرُ فهو يَتَعَلَّقُ بالأئِمَّةِ الذين بَينَ كُلِّ ناطِقٍ وناطِقٍ، وهو الفَترةُ الزَّمَنيَّةُ بَينَ كُلِّ إمامٍ وإمامٍ، ويَتَخَلَّلُ الدَّورَ سَبعةُ أئِمَّةٍ مُستَقِرِّينَ إلَّا في الفَتَراتِ التي تَحدُثُ لعِلَلٍ وأسبابٍ
[2911] يُنظر: ((إثبات النبوات)) (ص: 181). ؛ ففي الظُّروفِ الطَّارِئةِ والاستِثنائيَّةِ عِندَهم يُمكِنُ أن يُزادَ في عَدَدِ الأئِمَّةِ المُستَودَعَينَ عن سَبعةٍ، وذلك عِندَما يَقَعُ السَّترُ على الأئِمَّةِ المُستَقِرِّينَ
[2912] يُنظر: ((الخلفية العقائدية)) لفضيلة الشامي (ص: 319). .
ويُحَدِّدُ الإسماعيليَّةُ هذه الأدوارَ -كما قال السِّجِستانيُّ- على النَّحوِ الآتي: إنَّ آدَمَ هو النَّاطِقُ الأوَّلُ للدَّورِ الأوَّلِ، وأساسُه الصَّامِتُ شِيثُ، وبَعدَه سِتَّةُ أئِمَّةٍ. وبَعدَه نوحٌ صاحِبُ الدَّورِ الثَّاني، وأساسُه الصَّامِتُ سامٌ، وبَعدَه سِتَّةُ أئِمَّةٍ. وبَعدَه إبراهيمُ صاحِبُ الدَّورِ الثَّالِثِ، وأساسُه الصَّامِتُ إسماعيلُ، وبَعدَه سِتَّةُ أئِمَّةٍ، وبَعدَه موسى صاحِبُ الدَّورِ الرَّابِعِ، وأساسُه هارونُ، وبَعدَه سِتَّةُ أئِمَّةٍ. وبَعدَه عيسى صاحِبُ الدَّورِ الخامِسِ، وأساسُه شَمعونُ الصَّفا، ومِن بَعدِه سِتَّةُ أئِمَّةٍ. ومِن بَعدِه مُحَمَّدٌ صاحِبُ الدَّورِ السَّادِسِ، وأساسُه عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ، ومِن بَعدِه أئِمَّةٌ كثيرونَ إلى ظُهورِ القائِمِ الذي هو صاحِبُ الدَّورِ السَّابِعِ، وصاحِبُ الكَشفِ والظُّهورِ
[2913] يُنظر: ((إثبات النبوات)) للسجستاني (ص: 193). .
والأئِمَّةُ عِندَهم يَحمِلونَ صِفاتِ من سَبقَهم مِنَ الأنبياءِ الذين يُسَمُّونَهم بالنُّطَّاقِ، وأوَّلُ هؤلاء الأئِمَّةِ بَينَ كُلِّ ناطِقينِ يُعرَفُ بالأساسِ، وهو كما يَقولونَ: البابُ إلى عِلمِ النَّاطِقِ في حَياتِه، والوَصيُّ بَعدَ مَماتِه، والإمامُ لمَن هم في زَمانِه
[2914] يُنظر: ((قرامطة العراق)) لعليان (ص: 187، 188). .
ويُلاحَظُ في أدوارِ الأئِمَّةِ أنَّها تَتِمُّ بسَبعةٍ، وهو إشارةٌ إلى أصلٍ من أصولِهم الاعتِقاديَّةِ التي يَدينونَ بها؛ ولذا يُطلِقُ عليهم بَعضُ العُلَماءِ اسمَ السَّبعيَّةِ؛ لاعتِقادِهم أنَّ أدوارَ الإمامةِ سَبعةٌ، وأنَّ الانتِهاءَ إلى السَّابِعِ هو آخِرُ الدَّورِ، وهو المُرادُ بالقيامةِ
[2915] يُنظر: ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 16). .
ومراتِبُ الأئِمَّةِ على النَّحوِ الآتي:1- الإمامُ المُقيمُ:وهو الذي يُقيمُ الرَّسولَ النَّاطِقَ، ويُعلِّمُه ويُرَبِّيه، ويُدرِجُه في مَراتِبِ رِسالةِ النُّطقِ، ويُنعِمُ عليه بالإمداداتِ، ويُطلَقُ عليه أحيانًا اسمُ (رَبِّ الوَقتِ)، وصاحِبِ القَصرِ، وتُعتَبَرُ هذه الرُّتبةُ أعلى مَراتِبِ الإمامةِ وأرفَعَها وأكثَرَها دِقَّةً وسِرِّيَّةً.
2- الإمامُ الأساسيُّ:وهو الذي يُرافِقُ النَّاطِقَ في كافَّةِ مَراحِلِ حَياتِه، ويَكونُ ساعِدَه الأيمَنَ وأمينَ سِرِّه، والقائِمَ بأعمالِ الرِّسالةِ الكُبرى، والمُنفِّذَ للأوامِرِ العُليا؛ فمِنه يَتَسَلسَلُ الأئِمَّةُ المُستَقِرُّونَ في الأدوارِ الزَّمَنيَّة، وهو المسؤولُ عن شُؤونِ الدَّعوةِ الباطِنيَّةِ القائِمةِ على الطَّبَقةِ الخاصَّةِ مِمَّن عَرَفوا التَّأويلَ، ووَصَلوا إلى العُلومِ الإلَهيَّةِ العُليا.
3- الإمامُ المُتِمُّ:وهو الذي يُتِمُّ أداءَ الرِّسالةِ في نِهايةِ الدَّورِ، والدَّورُ يَقومُ به سَبعةٌ مِنَ الأئِمَّةِ، فالإمامُ المُتِمُّ يَكونُ سابعًا ومتِمًّا لرِسالةِ الدَّورِ، ويَزعُمونَ أنَّ قوَّتَه تَكونُ مُعادِلةً لقوَّةِ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ الذين سَبَقوه في الدَّورِ نَفسِه بمَجموعِهم، ومِن جِهةٍ ثانيةٍ يُطلَقُ عليه اسمُ ناطِقِ الدَّورِ أيضًا، أي: أنَّ وُجودَه يُشبِهُ وُجودَ النَّاطِقِ بالنِّسبةِ للأدوارِ، أمَّا الإمامُ الذي يَأتي بَعدَه فيَكونُ قائمًا بدَورٍ جَديدٍ، ومُؤَسِّسًا لبُنيانٍ حَديثٍ.
4- الإمامُ المُستَقِرُّ:هو الذي يملِكُ صَلاحيةَ تَوريثِ الإمامِ لوَلَدِه، كما أنَّه صاحِبُ النَّصِّ على الإمامِ الذي يَأتي بَعدَه، وهو المُتَسَلِّمُ شُؤونَ الإمامةِ بَعدَ النَّاطِقِ مُباشَرةً، والقائِمُ بأعباءِ الإمامِ أصالةً
[2916] يُنظر: ((الإمامة في الإسلام)) لتامر (ص: 143- 144). .
ومِمَّا يُمَيِّزُ الإمامَ المُستَقِرَّ مِنَ المُستَودَعِ أنَّ استِقرارَ الإمامةِ لا تَكونُ إلَّا بأبناءِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه روحيًّا وجِسميًّا، كما أنَّ للمُستَقِرِّ الحَقَّ في تَفويضِ الإمامةِ لأحَدِ دُعاتِه الثِّقاتِ ليَبُثَّ الدِّعايةَ باسمِه، بَينَما هو يَبقى بعيدًا عن الخَطَرِ.
قال المُستَشرِقُ بِرْنارد لويس: (إنَّه بموجِبِ هذا المَبدَأِ انتَحَلَ بَعضُ الدُّعاةِ ألقابَ الإمامةِ ووَظائِفَها، فكانوا يُدَبِّرونَ الحَركاتِ، ويُخبِرونَ باتِّجاهِ الرَّأيِ العامِّ دونَ أن يَتَعَرَّضَ الإمامُ المُستَقِرُّ لخَطَرٍ، ومِن هذا ما نَقرَؤه في عِدَّةِ كُتُبٍ إسماعيليَّةٍ بأنَّ الإمامَ أحمَدَ -الذي يُنسَبُ له تَأليفُ رَسائِلِ إخوانِ الصَّفا- أذِنَ للدَّاعي التِّرمِذيِّ أن يَظهَرَ بَينَ النَّاسِ إمامًا، ويَتَقَبَّلَ المَوتَ بهذه الصِّفةِ، وذلك للتَّأكُّدِ مِمَّا إذا كانتِ الظُّروفُ مُلائِمةً لإِظهارِ أمرِه)
[2917] ((أصول الإسماعيلية)) (ص: 127). .
5- الإمامُ المستودَعُ:هو الذي يَتَسَلَّمُ الإمامةَ في الظُّروفِ والأحوالِ الاستِثنائيَّةِ، وفي الفَتَراتِ المُظلِمةِ التي يُخَيِّمُ فيها الظَّلامُ على النُّورِ -بزَعمِهم- عِندَ احتِجابِ الإمامِ الأصليِّ، فيَقومُ عِندَئذٍ بمُهِمَّاتِ الإمامةِ نيابةً عن الإمامِ المُستَقِرِّ بنَفسِ الصَّلاحيَّاتِ، ولكِنَّه لا يَستَطيعُ تَوريثَ الإمامةِ لأحَدٍ من وَلَدِه، بل تَبقى مُستَودَعةً عِندَه لحينِ انجِلاءِ الظُّلمةِ، وعِندَئذٍ يَعودُ الحَقُّ إلى نِصابِه، والإمامةُ إلى أصحابِها الشَّرعيِّينَ، ومن إطلاقاتِ الإسماعيليَّةِ على هذا الإمامِ المُستَودَعِ: نائِبُ غَيبةٍ
[2918] يُنظر: ((الخلفية العقائدية)) لفضيلة الشامي (ص: 329). .
إنَّ وضعَ الأئِمَّةِ في مَراتِبَ على هذا النَّحوِ تَخطيطٌ مُبتَدَعٌ يَخدُمُ أهدافًا وأغراضًا باطِنيَّةً؛ فمَثَلًا فِكرةُ الإمامِ المُستَقِرِّ والإمامِ المُستَودَعِ اتَّخَذَها الإسماعيليَّةُ وسيلةً لتَبريرِ إمامةِ القداحيِّينَ، وكَأنَّ هناك سِلسِلةً مِنَ الأئِمَّةِ المُستَقِرِّينَ من أبناءِ مُحَمَّدِ بنِ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ، بَينَما في حَقيقةِ الأمرِ لا وُجودَ لهؤلاء الأئِمَّةِ المَزعومينَ؛ حَيثُ ماتَ مُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ دونَ عَقِبٍ، ومِن ثَمَّ أصبَحَ القداحيُّون هم أئِمَّةَ الإسماعيليَّةِ، وخُلَفاءَ الدَّولةِ الفاطِميَّةِ، وحتَّى لا تَنكَشِفَ هذه الحَقيقةُ ابتَدَعوا فِكرةَ الاستِقرارِ والاستيداعِ الإماميِّ، فمَرَّت فترةٌ تاريخيَّةٌ عُرِفَت عِندَ المُؤَرِّخينَ بفَترةِ الاستِتارِ أو دَورِ الأئِمَّةِ المَستورينَ
[2919] يُنظر لمراتب الأئمة: ((أصول الإسماعيلية)) للسلومي (ص: 322-326). .