المَبحَثُ الثَّالِثُ: أبرَزُ أعلامِ طائِفةِ الحَشَّاشينَ
أوَّلًا: الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ:وُلِدَ بالرَّيِّ عامَ 430هـ ونَشَأ نَشأةً شيعيَّةً، ثُمَّ اتَّخَذَ الطَّريقةَ الإسماعيليَّةَ الفاطِميَّةَ وعُمرُه 17 سَنةً، وفي عامِ 471هـ ذَهَبَ إلى المُستَنصِرِ باللهِ، وعادَ بَعدَ ذلك ليَنشُرَ الدَّعوةَ في فارِسَ، وقدِ احتَلَّ عددًا مِنَ القِلاعِ أهَمُّها قَلعةُ أَلَمُوتَ في سَنةِ 483هـ واتَّخَذَها عاصِمةً لدَولَتِه||hamish||3075||/hamish||.
قال
الذَّهَبيُّ: (كان من كِبارِ الزَّنادِقةِ، ومِن دُهاةِ العالَمِ... يُغوي الخَلقَ ويُضِلُّ الجَهَلةَ، إلى أن صارَ منه ما صارَ، وكان قويَّ المُشارَكةِ في الفَلسَفةِ والهَندَسةِ، كثيرَ المَكرِ والحيَلِ، بَعيدَ الغَورِ، لا بارَكَ اللهُ فيه)
[3076] ((ميزان الاعتدال)) (1/ 500). .
وفي عَهدِه ماتَ المُستَنصِرُ باللهِ سَنةَ 487هـ، وقامَ الوَزيرُ بَدرٌ الجَماليُّ بقَتلِ وليِّ العَهدِ والابنِ الأكبَرِ "نِزار" ليَنقُلَ الإمامةَ إلى الابنِ الأصغَرِ "المُستَعلي"، فأخَذَ الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ يَدعو إلى إمامةِ نِزارٍ، مدَّعيًا أنَّ الإمامةَ قدِ انتَقَلَت إلى ابنٍ له اسمُه عَليُّ بنُ نِزارٍ.
وقد توَفِّي الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ عامَ 518هـ
[3077] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/ 775) و(8/ 384)، ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 156)، ((المختصر في أخبار البشر)) لأبي الفداء (2/ 159)، ((الأعلام)) للزركلي (2/ 193، 194). .
ثانيًا: كِيا بُزُرْك أميدكان يُعاوِنُ الحَسَنَ بنَ الصَّبَّاحِ في مُهِمَّاتِه السِّياسيَّةِ، وهو أحَدُ أعيانِ الفُرسِ القُدَماءِ الذين انتَسَبوا إلى الإسماعيليِّينَ النِّزاريِّينَ مَعَ قَبيلَتِه، وقد تدَرَّب على يَدِ الحَسَنِ بنِ الصَّبَّاحِ، ثُمَّ تَسَلَّم الحُكمَ من بَعدِه
[3078] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 93). . فعِندَما ماتَ الحَسَنُ عامَ 518هـ كان قد عَيَّنَ كيا بُزُرك أميدَ خلَفًا له فاستَمَرَّ في حُكمِ القِلاعِ حتَّى وفاتِه عامَ 532هـ، وفي عَهدِه استَقَرَّت أوضاعُ الإسماعيليِّينَ، وعَظُمَ أمرُ الإسماعيليِّينَ وشَأنُ دَولَتِهم، وأصبَحَ لهم مُؤَيِّدونَ وأنصارٌ في جَميعِ المُدُنِ الفارِسيَّةِ
[3079] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 94). .
وكانت فترةُ حُكمِه تواكِبُ بزَعمِهم الإمامَ المَستورَ عَلي الهادي بنَ نِزارِ بنِ المُستَنصِرِ، إمامَهم العِشرينَ والذي قالوا بأنَّه توُفِّيَ سَنةَ 530هـ. والفَترةُ التي قادَ فيها بُزُرْك حَركةَ الحَشَّاشينَ كانت فترةً خِصبةً بعَمَليَّاتِ الاغتيالِ لشَخصيَّاتٍ بارِزةٍ كالخَليفةِ الفاطِميِّ الآمِرِ بأحكامِ اللَّهِ، والخَليفةِ العَبَّاسيِّ المُستَرشِدِ باللهِ، بالإضافةِ إلى عَدَدٍ مِنَ الوُلاةِ والعُلَماءِ
[3080] يُنظر: ((حركة الحشاشين)) لخشت (ص: 113، 114). .
ثالثًا: محمَّد كِيا بُزُرْك أميدتَوَلَّى الأمرَ من بَعدِ أبيه من سَنةِ 532هـ، إلى سَنةِ 557هـ. وكان كبيرَ الدُّعاةِ وقائِدَ الجُيوشِ في عَهدِ الإمامِ المَستورِ بزَعمِهم مُحَمَّد المُهتَدي بنِ عَليِّ بنِ نِزارِ بنِ المُستَنصِر، إمامِهم الواحِدِ والعِشرينَ المُتَوَفَّى بزَعمِهم سَنةَ 552ه وخَلفَه ابنُه حَسَن القاهِرُ بقوَّةِ اللَّهِ الإمامُ المُستَتِرُ الثَّاني والعِشرونَ، وكان قائِدُ جُيوشِه حَسَن بنَ مُحَمَّد كِيا بُزُرْك
[3081] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 93). .
ومِن أبرَزِ العَمَليَّاتِ التي قامَ بها فِدائيُّو الحَركةِ في عَهدِه اغتيالُ الخَليفةِ العَبَّاسيِّ المَخلوعِ الرَّاشِدِ باللهِ، وذلك في أصفَهانَ بإيرانَ سَنةَ 532ه، واغتيالُ السُّلطانِ السُّلجوقيِّ داوُودَ سَنةَ 538ه
[3082] يُنظر: ((حركة الحشاشين)) لخشت (ص: 114، 118)، ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 93). .
وبوَفاةِ الحَسَنِ القاهِرِ سَنةَ 557ه انتَهى دَورُ السَّترِ الأوَّلِ عِند النِّزاريَّةِ، ومِن بَعدِها بَدَأ دَورُ الظُّهورِ للأئِمَّةِ المَزعومينَ من وَلَدِ نِزارٍ، وأوَّلُ أئِمَّتِهم في هذا الدَّورِ هو الحَسَنُ الثَّاني بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَليِّ بنِ نِزارِ بنِ المُستَنصِرِ، وصارَ الإمامُ هو نَفسُه داعيَ الدُّعاةِ للطَّائِفةِ بَعدَ أن كان كبيرُ الدُّعاةِ هو المُتَوَلِّيَ لقيادةِ الطَّائِفةِ نيابةً عن الإمامِ المَستورِ بزَعمِهم، أمَا وقد ظَهَرَ الإمامُ فلا حاجةَ لمَن يَنوبُ عنه في حَياتِه، فيَكونُ زَعيمُ الطَّائِفةِ هو كبيرَ دُعاتِها ومُتَوَلِّيَ شُؤونِها
[3083] يُنظر: ((الإسماعيلية وفرقها)) للمجاهد (ص: 297)، ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 94). .
رابعًا: الحَسَنُ الثَّاني والمَعروفُ بـ (حَسَنَ على ذِكرِه السَّلامُ)أُعلِنَت إمامَتُه في سَنةِ 557هـ، إلى أن اغتيلَ في سَنةِ 561هـ. وهو الإمامُ الثَّالِثُ والعِشرونَ، وأوَّلُ أئِمَّةِ دَورِ الظُّهورِ عِندَ الإسماعيليَّةِ النِّزاريَّةِ.
وهذا الحَسَنُ الثَّاني قيلَ هو ابنُ مُحَمَّدِ بنِ عَليِّ بنِ نِزار بنِ المُستَنصِر، ويُقالُ بأنَّه هو ابنُ مُحَمَّد كِيا بُزُرْك أميد، وذلك رَغبةً في إبرازِ شَخصيَّةٍ ظاهِرةٍ للنَّاسِ تُمثِّلُ الأئِمَّةَ المَستورينَ بزَعمِهم أوِ استِغلالًا للوَضعِ القائِمِ لتَصَدُّرِ الزَّعامةِ، واللهُ تَعالى أعلَمُ
[3084] يُنظر: ((طائفة الإسماعيلية)) لحسين (ص: 81-82). .
وكان لظُهورِه أثَرٌ كبيرٌ في نُفوسِ الإسماعيليِّينَ، وبخاصَّةٍ عِندَما أعلَن عن القيامةِ الرُّوحيَّةِ التي هَدَفَت إلى تَقدُّمِ الإسماعيليِّينَ الرُّوحيِّ وسُموِّهم في مَجالِ المَعرِفةِ بالحَقيقةِ، وعِندَما أخَذَ الحَسَنُ يَنتَقِلُ من قَلعةٍ إلى أخرى في بلادِ فارِسَ يَشرَحُ لأتباعِه طَريقَتَه الرُّوحيَّةَ ليُمَكِّنَهم من إدراكِ أهدافِه، كان سِنان راشِد الدِّينِ يُطَبِّقُ التَّعاليمَ نَفسَها في قِلاعِ بلادِ الشَّامِ. وقد قيلَ بأنَّ الحَسَنَ الثَّانيَ أمَرهم بطَرحِ جَميعِ التَّكاليفِ الدِّينِيَّةِ، والامتِناعِ عن إقامةِ الفَرائِضِ الإسلاميَّةِ، لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّ راعٍ مَسؤولٌ عن رَعيَّتِه)) [3085] أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظِ: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه)). ، فالإمامُ هو المَسؤولُ الأوَّلُ عن أتباعِه، وهو الذي يَتَحَمَّلُ بَدَلَهم الحِسابَ يَومَ القيامةِ، إن أطاعوه إطاعةً تامَّةً واعتَقدوا إمامَتَه على هذا النَّحوِ. وبذلك دَخَلَتِ الدَّعوةُ الإسماعيليَّةُ الشَّرقيَّةُ في دَورٍ جَديدٍ من أدوارِ عَقائِدِ هذه الطَّائِفةِ وتَقاليدِها، وهو دَورُ عَدَمِ القيامِ بالفَرائِضِ الدِّينِيَّةِ من صَلاةٍ وصَومٍ وحَجٍّ... إلخ، وعَدَمِ التَّقَيُّدِ بما كان عِندَ الإسماعيليَّةِ فى دَورِ الظُّهورِ الأوَّلِ أو في العَصرِ الفاطِميِّ مِنَ الاعتِقادِ بالظَّاهِرِ والباطِنِ. وقد قَبِلَ الإسماعيليَّةُ الشَّرقيَّةُ هذه الآراءَ الجَديدةَ طاعةً لإِمامِهم، ولأنَّ النَّفسَ البَشَريَّة تُرحِّبُ عادةً بما يُحَرِّرُها من قُيودِ التَّقاليدِ والأحكامِ
[3086] يُنظر: ((طائفة الإسماعيلية)) لحسين (ص: 81، 82). !
وكان الحَسَنُ قد تزَوَّج امرَأةً من عائِلةِ المُلوكِ البويهيِّينَ، وقد تَمَكَّنَ بَعضُ أعدائِه من استِمالةِ حَسَنِ بنِ نامورَ، وهو شَقيقُ زَوجةِ الحَسَنِ، ودَفَعوا له الهَدايا والأموالَ، فدَخل على الحَسَنِ وهو في قَلعةِ لمسترَ، واغتالَه بطَعنةٍ من خِنجَرِه سَنةَ 561هـ. وكان قد نَصَّ على تَوليةِ ابنِه المُلَقَّبِ بـ(أعَلا مُحَمَّد)
[3087] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 95). .
خامسًا: مُحَمَّد الثَّاني بنُ الحَسَنِ الثَّاني المُلَقَّبُ بـ (أعَلا مُحَمَّد)حَكَم من سَنةِ 561هـ، إلى 607هـ.
وقد اشتَهَرَ بَينَ أتباعِه بحُبِّه للعُمرانِ، فذُكِرَ أنَّه بَنى العَديدَ مِنَ المَساجِدِ والمَدارِسِ وغَيرِها، كما عَبَّدَ العَديدَ مِنَ الطُّرُقاتِ وأصلَح البُروجَ، والجُدرانَ في قِلاعِه وجَعَلَها صالِحةً في كُلِّ وقتٍ للوُقوفِ بوَجهِ الغُزاةِ.
وفي عَهدِه ظَهَرَ التَّتَرُ من وراءِ ما بَينَ النَّهرِ كقوَّةٍ عَظيمةٍ، وقد أرادوا أن يَتَحالَفوا مَعَه وعِندَما أرسَلَ سَفيرَه إلى ما وراءَ النَّهرِ، ووَقَفَ على حَقيقةِ أمرِهم، عادَ وهو يَنفُضُ يَدَه من كُلِّ تَحالُفٍ مَعَهم، ومِمَّا يُؤَكِّدُ ذلك أنَّه تَحالَفَ مَعَ جَلالِ الدِّينِ خَوارِزم شاه عِندَما غَزا جَنكيز خان بلادَ فارِسَ فتَمَكَّنا من رَدعِه، وهكذا استَطاعَ إنقاذَ بلادِه وأتباعِه من هذا الخَطَرِ العَظيمِ.
وفي عَهدِه تمَكَّنَ الدُّعاةُ الإسماعيليُّونَ من تَحقيقِ انتِصاراتٍ كُبرى في مُقاطَعاتِ أذرَبيجانَ، وجيلانِ ومازندران وقَزوينَ وخوزستانَ وردستانَ ورمانَ وشِيرازَ، وتَبريزَ، وفي حَلَبٍ، ومِصرَ، وبَغدادَ. وزَوجَتُه هي إحدى الأميراتِ من جيلانَ، ووَليُّ عَهدِه هو ابنُه الحَسَنُ المُلَقَّبُ بـ (جَلال الدِّينِ)
[3088] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 95، 96). .
سادسًا: جَلالُ الدِّينِ الحَسَنُ الثَّالِثُ بنُ مُحَمَّدٍ الثَّاني، المُلَقَّبُ بـ (نو مسلمان)حَكَم من سَنةِ 607هـ، إلى 618هـ.
وقد أظهَرَ رَفضَ عَقائِدِ آبائِه في القيامةِ ولَعَنَهم وكَفَّرَهم، وأحرَقَ كُتُبَهم وجاهَرَ بإسلامِه، وقامَ بوَصلِ حِبالِه مَعَ العالَمِ الإسلاميِّ، فقد أرسَلَ إلى الخَليفةِ العَبَّاسيِّ النَّاصِرِ لدينِ اللهِ وإلى السُّلطانِ السُّلجوقيِّ خَوارِزم شاه والمُلوكِ والأمَراءِ يُؤَكِّدُ لهم صِدقَ دَعوَتِه إلى التَّعاليمِ الإسلاميَّةِ وإقامةِ شَعائِرِ الدِّينِ، ففَرِحَتِ البِلادُ الإسلاميَّةُ بذلك وصارَ أتباعُه يُعرَفونَ بالمُسلِمينَ الجُدُدِ
[3089] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (10/ 371)، حاشية ((أخبار سلاجقة الروم، لمجهول)) لجمال الدين (1/ 183). .
قال عنه
ابنُ كثيرٍ:
((كان قد أظهَرَ في قَومِه شَعائِرَ الإسلامِ، وحَفِظ الحُدودَ والمُحَرَّماتِ والقيامَ فيها بالزَّواجِرِ الشَّرعيَّةِ)) [3090] ((البداية والنهاية)) (17/ 109). .
وقال القَلْقَشَنديُّ: (... جَلالُ الدِّينِ قد أظهَرَ شَعائِرَ الإسلامِ، وكَتَبَ بذلك إلى سائِرِ بلادِ الإسماعيليَّةِ بالعَجَمِ والشَّامِ، فأقيمَت فيها، ثُمَّ توُفِّيَ بقَلعةِ أَلَمُوتَ المَذكورةِ في سَنةِ ثَماني عَشرةَ وسِتّمِائةٍ، فاستَولى ابنُه عَلاءُ الدِّينِ هذا على قَلعةِ أَلَمُوتَ المَذكورةِ، وخالَفَ رَأيَ أبيه المَذكورَ إلى مَذهَبِ النِّزاريَّةِ، وصارَ رَأسًا من رُؤوسِهم)
[3091] ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) (13/ 248، 249). ، وغَيرُهم ذَكَرَ نَحوَه
[3092] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (10/ 371)، ((عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان)) للعيني (4/ 72)، ((شذرات الذهب في أخبار من ذهب)) لابن العماد (7/ 148)، حاشية ((أخبار سلاجقة الروم، لمجهول)) لمحمد سعيد جمال الدين (1/ 183). .
سابعًا: مُحَمَّدٌ الثَّالِثُ بنُ الحَسَنِ الثَّالِثِ (عَلاءُ الدِّينِ مُحَمَّد) حَكَم سَنةَ 618ه، وتوُفِّيَ في سَنةِ 653ه.
وعِندَ وفاةِ والِدِه كان في التَّاسِعةِ من عُمُرِه؛ ولهذا فقدَ تسلَّمت والِدَتُه شُؤونَ الدَّولةِ، وفي الوَقتِ نَفسِه أناطَت بالدُّعاةِ أمرَ تَعليمِه وإعدادِه وتَربيَتِه، وعِندَما بَلَغَ الخامِسةَ عَشرةَ تَسَلَّم شُؤونَ الإمامةِ.
وأصيبَتِ الدَّولةُ النِّزاريَّةُ الإسماعيليَّةُ في عَهدِه بالوَهنِ والانهيارِ، على عكسِ الازدِهارِ الذي حَصَلَ في عَهدِ والِدِه، فلَم يَعُدْ للإِسماعيليَّةِ ذلك الدَّورُ المُهمُّ أوِ العَلاقاتُ الوُدِّيَّةُ القائِمةُ مَعَ الدُّوَلِ المُجاوِرةِ؛ ففي عَهدِه نَكَثَ السُّلطانُ أحمَدُ السُّلجوقيُّ عُهودَه مَعَهم وأعلَنَ عَداءَه للإِسماعيليِّينَ ولإِمامِهم، وفَعَل مِثلَه السُّلطانُ خَوارِزم، وأرسَلا الحَسَنَ المازندرانيَّ إلى أَلَمُوتَ فتَمَكَّنَ مِنَ الوُصولِ إلى مَكانِ إقامةِ عَلاء الدِّينِ، فطَعَنَه بخِنجَرِه عِدَّةَ طَعَناتٍ فماتَ
[3093] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 98). .
ومِنَ الأمورِ البارِزةِ التي أقدَمَ عليها اتِّخاذُه
الفَيلَسوفَ نَصيرَ الدِّينِ الطُّوسيَّ وزيرًا لدَولَتِه
[3094] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 98). .
وقد ذَكَرَ
ابنُ القَيِّمِ في سياقِ حَديثِه عن القَرامِطةِ الباطِنيَّةِ
نَصيرَ الدِّينِ الطُّوسيَّ، فقال: (ولمَّا انتَهَتِ النَّوبةُ إلى نَصيرِ الشِّركِ والكُفرِ المُلحِدِ، وزيرِ المَلاحِدةِ،
النَّصيرِ الطُّوسيِّ، وزيرِ هُولاكو، شَفى نَفسَه من أتباعِ الرَّسولِ وأهلِ دينِه، فعَرَضَهم على السَّيفِ، حتَّى شَفى إخوانَه مِنَ المَلاحِدةِ، واشتَفى هو، فقَتَلَ الخَليفةَ والقُضاةَ والفُقَهاءَ والمُحَدِّثينَ، واستَبقى الفَلاسِفةَ والمُنَجِّمينَ والطبائعيِّينَ والسَّحَرةَ، ونَقَلَ أوقافَ المَدارِس والمَساجِدِ والرُّبُطِ إليهم، وجَعَلَهم خاصَّتَه وأولياءَه، ونَصَرَ في كُتُبِه قِدَمَ العالَمِ، وبُطلانَ المَعادِ، وإنكارَ صِفاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُه من عِلمِه وقُدرَتِه وحَياتِه وسَمعِه وبَصَرِه، وأنَّه لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، وليسَ فوقَ العَرشِ إلهٌ يُعبَدُ البَتَّةَ، واتَّخَذَ للمَلاحِدةِ مَدارِسَ، ورامَ جَعلَ إشاراتِ إمامِ المُلحِدينَ
ابنِ سِينا مَكانَ القُرآنِ، فلم يَقدِرْ على ذلك، فقال: هي قُرآنُ الخَواصِّ، وذاك قُرآنُ العَوامِّ، ورامَ تَغييرَ الصَّلاةِ وجَعْلَها صَلاتَينِ فلم يتِمَّ له الأمرُ، وتَعلَّم السِّحرَ في آخِرِ الأمرِ، فكان ساحِرًا يعبُدُ الأصنامَ)
[3095] ((إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان)) (2/ 1032). .
ثامنًا: ركنُ الدِّينِ خورشاه بنُ عَلاء الدِّينِ:حَكَم من سَنةِ 653ه إلى 656ه.
قادَ هولاكو حَملةً قَصد فيها قِلاعَ الإسماعيليَّةِ، وما زالَ يَتَقدَّمُ حتَّى استَسلَمَ له رُكنُ الدِّينِ وسَلَّمَه قَلعة أَلَمُوتَ وأربَعينَ قَلعةً وحِصنًا كُلُّها سوِّيَت بالأرضِ.
قال ابنُ واصِلٍ: (... انتَهى الأمرُ إلى آخِرِهم، وهو رُكنُ الدِّينِ خورشاه بنُ عَلاءِ الدِّينِ مُحَمَّد بنِ الحَسَن، فحاصَرَه هلاووا
[3096] كذا في المصدر، والمقصود به «هولاكو». مَلِكُ التَّتارِ -خَذَلَهم اللهُ تعالى- سَنةَ خَمسٍ وخَمسينَ وسِتّمِائةٍ، ثُمَّ ظَفِرَ به هلاووا فقَتَلَه، وقَتَلَ من مَعَه مِنَ الباطِنيَّةِ المَلاحِدةِ، وبَقيَت لهم حُصونٌ بالشَّامِ، ففَتَحَها السُّلطانُ المَلِك الظَّاهِرُ رُكنُ الدِّينِ بيِبَرْس مَلِكُ الإسلامِ والمُسلِمينَ، وطَهَّرَ البِلادَ منهم كما طَهَّرَها من سائِرِ الشِّركِ)
[3097] ((مفرج الكروب في أخبار بني أيوب)) (1/ 209). .
وفي حَوادِثِ سَنةِ 655هـ ذَكَر ابنُ دُقْماقَ: (وفيها أرسَلَ منكو خانَ أخاه هولاكو لفَتحِ بلادِ العِراقِ، فسارَ بمَن مَعَه مِنَ الجُيوشِ إلى بلادِ الإسماعيليَّةِ، وهم يُسَمَّونَ عِندَ العَجَمِ ومُسلِمةِ التَّتارِ "المَلاحِدةَ"، فاستَولى عليها وأبادَ أهلَها قَتلًا وأسرًا وسَبيًا)
[3098] ((نزهة الأنام فى تاريخ الإسلام)) (ص: 213). .
وبقَتلِ خورشاه وتَحطيمِ حُصونِ أتباعِه انتَهى عَهدُ الإسماعيليَّةِ بإيرانَ، ولم تَبقَ منهم إلَّا بَقيَّةٌ لا وزنَ لها
[3099] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (5/ 512). .
تاسعًا: شَمسُ الدِّينِ مُحَمَّد بنُ رُكنِ الدِّينِوُلِدَ شَمسُ الدِّينِ مُحَمَّد في قَلعةِ أَلَمُوتَ سَنةَ 643هـ، وقيلَ: إنَّه الوَحيدُ الذي استَطاعَ أن يَنجوَ من بَطشِ المَغولِ، وتوَفِّيَ سَنةَ 711هـ.
وتَقولُ رِواياتُ الإسماعيليِّينَ بأنَّ رُكنَ الدِّينِ قد أخفى ابنَه شَمسَ الدِّينِ مُحَمَّد الذي هَرَبَ من بَطشِ هولاكو مُتَنَكِّرًا إلى جِهةٍ ما بجَنوبِ القوقازِ، ثُمَّ استَقَرَّ في قَريةِ (أنجِدان) على الطَّريقِ بَينَ أصفَهانَ وهَمدانَ، وبَقيَ فيها إلى أن ماتَ في النِّصفِ الأوَّلِ مِنَ القَرنِ الثَّامِنِ للهِجرةِ وكان من عَقِبِه سِلسِلةٌ مِنَ الأئِمَّةِ في القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، ومنهم ظَهَرَت أسرةُ أغاخانَ
[3100] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 100، 101)، ((موجز دائرة المعارف الإسلامية)) (3/ 772، 773). .
عاشَ متنقِّلًا بَينَ أذرَبيجانَ وتركستانَ وبَغدادَ وحَلَب، وكان يُحاوِلُ أن يَلُمَّ شَملَ أتباعِه الذين فرَّقَتهم الحُروبُ، ولَكِن عُيونُ الأعداءِ كانت تُراقِبُه وتُلاحِقُه وتَحُدُّ من نَشاطِه، وتَسُدُّ عليه المَنافِذَ. وأقامَ في «قونية» فترةً طَويلةً، وعُرِفَ بأنَّه كان يَمتَهِنُ مِهنةَ التَّطريزِ.
وُلِدَ لشَمسِ الدِّينِ ثَلاثةُ أولادٍ هم: قاسِم شاه، ومُؤمِن شاه، وكيا شاه. وبَعدَ مَوتِه انتَقَلَ بَعضُ أفرادِ أسرَتِه إلى مُقاطَعةِ «جيلان» وأقامَت في إحدى القُرى الصَّغيرةِ النَّائيةِ «مآهيانا» وقد أُطلِقَ عليهم في ذلك العَهدِ «السَّادة الخداونديَّة».
وبَعدَ مَوتِ شَمسِ الدِّينِ مُحَمَّد تَسَلَّم شُؤونَ الإمامةِ ابنُه قاسِم شاه، وهو الذي وقَعَ عليه النَّصُّ، وإليه تَعودُ أسرةُ الأئِمَّةِ الحاليِّينَ للإِسماعيليِّينَ. بَينَما تَقولُ النِّزاريَّةُ المؤمنيَّةُ بأنَّ الذي تسلَّم الإمامةَ وَلَدُه مُؤمِن شاه
[3101] يُنظر: ((تاريخ الإسماعيلية)) لتامر (4/ 101، 102). .