تمهيدٌ: بين الإسماعيليةِ والقرامطةِ
تُعتَبَرُ الإسماعيليَّةُ جِذرًا أساسيًّا مِنَ الجُذورِ المُغَذِّيةِ للحَركةِ القِرْمِطيَّةِ؛ فإنَّ زُعَماءَ القَرامِطةِ استَمَدُّوا تَعاليمَهم وأفكارَهم من أئِمَّةِ الحَركةِ الإسماعيليَّةِ ودُعاتِها.
فالقَرامِطةُ لم يَبتَدِعوا عَقيدةً خاصَّةً أو رفعـوا مَبادئَ فِكريَّةً تَختَلِفُ مَعَ العَقيدةِ الإسماعيليَّةِ حتَّى فى فترةِ الخِلافِ والتَّوَتُّرِ، إضافةً إلى ذلك فإنَّ زُعَماءَ الحَركةِ القِرْمِطيَّةِ كحَمدانَ وزكرَوَيهِ والجَنَّابيِّ وعَليِّ بنِ الفَضلِ، جَميعُ هؤلاء تَرَبَّوا وتَعَلَّموا الدَّعوةَ على أيدي دُعاةِ الحَركةِ الإسماعيليَّةِ وأئِمَّتِها؛ لذا فإنَّ مُعتَقَداتِ القَرامِطةِ تَلتَقي مَعَ مُعتَقَداتِ فِرقَتِهم الأمِّ التي خَرَجوا من رَحِمِها، سَواءٌ في الإلَهيَّاتِ أوِ النُّبوَّاتِ أو في اليَومِ الآخِرِ أو في شَأنِ الإمامةِ أوِ الفَرائِضِ والأحكامِ الشَّرعيَّةِ وغَيرِ ذلك
[3144] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (ص: 8)، ((التنبيه والرد على أهل البدع)) للملطي (ص: 20)، ((فضائح الباطنية)) للغزالي (ص: 38، 40، 42، 44، 46)، ((المنتظم)) لابن الجوزي (12/ 295-297). .
ومِنَ المَعروفِ أنَّ إنتاجَ القَرامِطةِ في المَجالِ الفِكريِّ قَليلٌ جِدًّا، وما عُرِفَ منه فهو مَفقودٌ وغَيرُ مَعروفٍ، ومِنَ المُرَجَّحِ أنَّه لم يَبقَ منه شَيءٌ||hamish||3145||/hamish||.
أمَّا المَصادِرُ الأصليَّةُ للحَركةِ الأمِّ -الإسماعيليَّةِ- فكَثيرةٌ جِدًّا؛ حَيثُ نُشِرَتِ العَديدُ مِنَ المَخطوطاتِ السِّرِّيَّةِ التي تُمَثِّلُ المَبادِئَ والمُعتَقَداتِ المُشتَرَكةَ لكِلتا الحَركَتَينِ، الإسماعيليَّةِ والقَرامِطةِ. إذًا فالحَديثُ عن عَقائِدِ القَرامِطةِ يُمَثِّلُ تَمامًا عَقائِدَ الإسماعيليَّةِ.
وقبلَ الحَديثِ عن أصولِ القَرامِطةِ بالتَّفصيلِ لا بُدَّ مِنَ الإشارةِ إلى عِدَّةِ حَقائِقَ:أوَّلًا: أنَّ هذه العَقائِدَ مَزيجٌ عَجيبٌ مُتَعَدِّدُ الأصولِ؛ حَيثُ تَأثَّروا في الغالِبِ بالفَلسَفاتِ التي سَبَقَتهم والنَّظَريَّاتِ التي عاصَرتهم، مَعَ التِقاطِهم لبَعضِ النُّصوصِ الإسلاميَّةِ والاستِفادةِ منها شكلًا لا مضمونًا.
قال الشَّهْرَستانيُّ مبيِّنًا هذه الحَقيقةَ: (ثُمَّ إنَّ الباطِنيَّةَ القديمةَ قد خَلَطوا كلامَهم ببَعضِ كلامِ الفَلاسِفةِ، وصَنَّفوا كُتُبَهم على هذا المنهاجِ)
[3146] ((الملل والنحل)) (1/ 192، 193). .
وأكَّدَ البغداديُّ هذه الحَقيقةَ من خِلالِ نَقلِه الرِّسالةَ المُتَبادَلةَ بَينَ أبي طاهِرٍ القِرْمِطيِّ والإمامِ العُبَيديِّ، ومِنَ الوَصايا في هذه الرِّسالةِ: (وإذا ظَفِرتَ بالفَلسَفيِّ فاحتَفِظْ به؛ فعلى الفَلاسِفةِ مُعَوَّلُنا، وإنَّا وإيَّاهم مُجمِعونَ عَلي إنار نَواميسِ الأنبياءِ، وعلى القَولِ بقِدَمِ العالَمِ)||hamish||3147||/hamish||.
وقال ابنُ تيميَّةَ: (... أواخِرَ المِائةِ الثَّانيةِ وقُبَيلَها وبَعدَها اجتُلِبَت كُتُبُ اليونانِ وغَيرِهم مِنَ الرُّومِ من بلادِ النَّصارى وعُرِّبَت وانتَشَرَ مَذهَبُ مُبَدِّلةِ الصَّابِئةِ، مِثلُ أَرِسْطو وذَويِه، وظَهَرَ في ذلك الزَّمانِ الخُرَّمِيَّةُ، وهم أوَّلُ القَرامِطةِ الباطِنيَّةِ الذين كانوا في الباطِنِ يَأخُذونَ بَعضَ دينِ الصَّابِئينَ المُبَدِّلينَ وبَعضَ دينِ المَجوسِ، كما أخَذوا عن هؤلاء كلامَهم في العَقلِ والنَّفسِ، وأخَذوا عن هؤلاء كلامَهم في النُّورِ والظُّلمةِ، وكَسَوا ذلك عِباراتٍ وتَصَرَّفوا فيه وأخرَجوه إلى المُسلِمينَ، وكان مِنَ القَرامِطةِ الباطِنيَّةِ في الإسلامِ ما كان، وهم كانوا كثيرًا يَميلونَ إلى طَريقةِ الصَّابِئةِ المُبدِّلينَ)
[3148] ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 473، 474). .
وقال أيضًا: (لمَّا عُرِّبَت كُتُبُ الفُرسِ والرُّومِ ظَهَرَ التَّشَبُّهُ بفارِسَ والرُّومِ، وكُتُبُ الهِندِ انتَقَلَت بتَوَسُّطِ الفُرسِ إلى المُسلِمينَ، وكُتُبُ اليونانِ انتَقَلَت بتَوَسُّطِ الرُّومِ إلى المُسلِمينَ، فظَهَرَتِ المَلاحِدةُ الباطِنيَّةُ الذين رَكَّبوا مَذهَبَهم من قَولِ المَجوسِ واليونانِ، مَعَ ما أظهَروه مِنَ التَّشَيُّعِ، وكانت قَرامِطةُ البَحرينِ أعظَمَ تعطيلًا وكفرًا، كُفرُهم من جِنسِ كُفرِ فِرعَونَ، بل شَرٌّ منه)
[3149] ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 478، 479). .
والإسماعيليَّةُ أخَذوا تلك الآراءَ والمُعتَقداتِ وأخضَعوها لفِكرَتِهم عن الإمامةِ بَعدَ أن صَبَغوها بالصِّبغةِ الإسلاميَّةِ، حتَّى إنَّ الباحِثَ يَستَطيعُ أن يَتَعَقَّبَ أكثَرَ عَقائِدِ الإسماعيليَّةِ ويَرُدَّها إلى أصولِها القديمةِ
[3150] يُنظر: ((طائفة الإسماعيلية)) لحسين (ص: 174). .
ومِن مَقامِ التَّبَجُّحِ يُثبِتُ أحَدُ دُعاةِ الإسماعيليَّةِ هذه الحَقيقةَ بقَولِه: (إنَّ الإسماعيليِّينَ مِن أنجَبِ التَّلاميذِ الذين دَرَسوا الفَلسَفةَ اليونانيَّةَ دِراسةً واقِعيَّةً، وأخَذوا منها الأفكارَ والنَّظَريَّاتِ وطَبَّقوها وحَوَّروها في مُجتَمَعِهم، وليست جُمهوريَّةُ أفلاطونَ إلَّا أحَدَ الكُتُبِ المُفَضَّلةِ القَيِّمةِ التي دَرَسوها بعِنايةٍ وطَبَّقوها بإمعانٍ)||hamish||3151||/hamish||.
وقالت إحدى الباحِثاتِ: (إنَّنا إذا تَتَبَّعْنا دِراسةَ عَقائِدِ باقي الفِرَقِ الإسلاميَّةِ فإنَّنا لا نَجِدُ فِرقةً إسلاميَّةً -على حَدِّ قَولِها- تَأثَّرَت بالفَلسَفةِ تَأثُّرَ القَرامِطةِ الإسماعيليَّةِ؛ لهذا فيُمكِنُ القَولُ: إنَّ عَقيدَتَها ما هي إلَّا سِلسِلةُ أفكارٍ فلسَفيَّةٍ دينيَّةٍ أو حَركةُ تَجميعٍ وصَهيرٍ بَينَ الاثنَينِ)||hamish||3152||/hamish||.
وقال المُستَشرِقُ اليَهوديُّ جولد زِيهَر: (إنَّ الإسماعيليَّةَ صَبَغَتِ الآراءَ الدِّينِيَّةَ في الإسلامِ بعَناصِرِ الغنوصيَّةِ والأفلاطونيَّةِ الحَديثةِ)||hamish||3153||/hamish||.
وأكَّدَ بَعضُ الباحِثينَ على أنَّ الإسماعيليَّةَ اقتَبَسوا مِنَ الأفلاطونيَّةِ الحَديثةِ كُلَّ فلسَفةِ الفَيوضاتِ وتَرتيبَها بحَيثُ إذا قَرَأنا كُتُبَ الحَقيقةِ الإسماعيليَّةِ نَجِدُ أنفَسَنا أمامَ الفَلسَفةِ الأفلاطونيَّةِ الحَديثةِ، وذلك كالإبداعِ، وظُهورِ النَّفسِ الكُلِّيَّةِ عن العَقلِ الكُليِّ... إلى غَيرِ تلك النَّظَريَّاتِ||hamish||3154||/hamish||.
بل إنَّ الإسماعيليَّةَ والقَرامِطةَ طَوَّروا هذه النَّظَريَّاتِ إلى أسلوبٍ أكثَرَ تطرُّفًا وأشَدَّ غُلوًّا. فذَكرَ جولد زِيهَر أنَّ الإسماعيليَّةَ بدؤوا بنَظَريَّةِ الفَيضِ الأفلاطونيَّةِ تلك التي بَنَت عليها جَماعةُ إخوانِ الصَّفا البَصَريَّةُ فلسَفَتَها الدِّينِيَّةَ في مَوسوعَتِها المُصَنَّفةِ، وأنَّ الإسماعيليَّةَ استَنبَطَت من هذه الفَلسَفةِ أعمَقَ نَتائِجِها وأشَدَّها تطرُّفًا||hamish||3155||/hamish||.
والحَركةُ القِرْمِطيَّةُ نَشَأت وظَهَرَت في فترةٍ من أشَدِّ الفَتَراتِ خَلطًا واضطِرابًا للفِكرِ الإسلاميِّ؛ فحَركةُ التَّرجَمةِ في كُتُبِ الفَلاسِفةِ أخَذَت في الذُّيوعِ والانتِشارِ بَين ظَهَرانَي المُسلِمينَ، ونَشَأ من جَرَّاءِ ذلك مِحَنٌ ومَصائِبُ، وانتَشَرَتِ الشُّبَهُ الفَلسَفيَّةُ، وأخَذَت في الذُّيوعِ والانتِشارِ في أيَّامِ ظُهورِ القَرامِطةِ انتشارًا هائلًا لم يَكُنْ له مَثيلٌ||hamish||3156||/hamish||.
قال ابنُ تيميَّةَ عن تلك الفَترةِ: (ثُمَّ حَدَثَ بَعدَ هذا في الإسلامِ المَلاحِدةُ مِنَ المُتَفَلسِفةِ وغَيرِهم، حَدَثوا وانتَشَروا بَعدَ انقِراضِ العُصورِ المُفَضَّلة، وصارَ كُلُّ زَمانٍ ومَكانٍ يَضعُفُ فيه نورُ الإسلامِ يَظهَرونَ فيه، وكان من أسبابِ ظُهورِهم أنَّهم ظَنُّوا أنَّ دينَ الإسلامِ ليس إلَّا ما يَقولُه أولئك المُبتَدِعونَ، ورَأوا ذلك فسادًا في العَقلِ، فرَأوا دينَ الإسلامِ المَعروفَ فاسِدًا في العَقلِ، فكان غُلَاتُهم طاعِنينَ في دينِ الإسلامِ بالكُلِّيَّةِ -باليَدِ واللِّسانِ- كالخُرَّمِيَّةِ أتباعِ بابِكَ الخُرَّمِيِّ
[3157] بابِكُ الخُرَّميُّ من زُعَماءِ الباطِنيَّةِ من أتباعِ الخُرَّميَّةِ (أوِ الخرمدينيَّةِ)، ومِن أتباعِ أبي مُسلِمٍ الخُراسانيِّ، وقد ظَهَرَ في جَبَلِ البَدين بناحيةِ أذرَبيجانَ وكَثُرَ أتباعُه، واستَحَلُّوا المُحَرَّماتِ، وأباحوا وقَتَلوا الكَثيرَ مِنَ المُسلِمينَ، وحارَبَته جُيوشُ المُعتَصِمِ مُدَّةً طَويلةً إلى أن أسرَتْه فصَلَبَتْه وقَتَلَتْه سَنةَ 223هـ بسُرَّ مَن رَأى. يُنظَرُ: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 161، 171)، ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 342- 344)، ((تاريخ الطبري)) (9/11- 55))، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/216). ، وقَرامِطةِ البَحرينِ أتباعِ أبي سَعيدٍ الجَنَّابيِّ
[3158]أبو سَعيدٍ الحَسَنُ بنُ بهرامَ الجَنَّابيُّ رَأسُ القَرامِطةِ وداعيَتُهم، كان دَقَّاقًا من أهلِ فارِسَ، ونُفيَ منها، فأقامَ في البَحرينِ تاجِرًا، وأقامَه حَمدان قِرْمِط داعيةً في فارِسَ الجَنوبيَّةِ. وقد حارَبَ الجَنَّابيُّ الدَّولةَ العَبَّاسيَّةَ واستَولى على هَجَرَ والأحساءِ والقَطيفِ وسائِرِ بلادِ البَحرينِ، وأحرَقَ المَصاحِفَ والمَساجِدَ. ثُمَّ اغتيلَ في عامِ 301ه. يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 169، 174)، ((المنتظم)) لابن الجوزي (6/121- 122)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (11/121)، ((الأعلام)) للزركلي (2/99)، ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) للنشار (2/437 - 439، 465). ، وغَيرِهم)
[3159] ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 316). .
وقال
المَقريزيُّ: (وبتَعريبِ
المَأمونِ لكُتُبِ الفَلسَفةِ انتَشَرَت مَذاهِبُ الفَلاسِفةِ في النَّاسِ واشتَهَرَت مَذاهِبُ الفِرَقِ مِنَ القدَريَّةِ والجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ والأشعَريَّةِ والكَرَّاميَّةِ والخَوارِجِ والرَّوافِضِ والقَرامِطةِ والباطِنيَّةِ حتَّى مَلَأتِ الأرضَ، وما منهم إلَّا من نَظَرَ في الفَلسَفةِ وسَلكَ من طُرُقِها ما وقَعَ عليه اختيارُه؛ فانجَرَّ بذلك على الإسلامِ وأهلِه من عُلومِ الفَلاسِفةِ ما لا يوصَفُ مِنَ البَلاءِ والمِحنةِ في الدِّينِ)
[3160] ((الخطط)) (2/ 358). .
ثانيًا: أنَّ العَقائِدَ الإسماعيليَّةَ القِرْمِطيَّةَ تَأثَّرَت إلى حَدٍّ ما بالأفكارِ اليَهوديَّةِ والمَسيحيَّةِ، ولا أدَلَّ على ذلك من مُؤَلَّفاتِهم؛ فالسِّجِستانيُّ -وهو من كِبارِ عُلَمائِهم- اعتَرَفَ بصَلبِ المَسيحِ، وقال: إنَّ عيسـى عليه السَّلامُ أخبَرَ عن إمامِهم القائِمِ وأنَّه يُعتَبَرُ عَلَامةً ودَليلًا لعيسى عليه السَّلامُ، كما أنَّه عَقدَ مُقارَنةً بَينَ الشَّهادةِ (لا إلَهَ إلا اللَّهُ) والصَّليبِ، واعتَقدَ بالاتِّفاقِ بَينَهما! ومِمَّا قال: إنَّ الشَّهادةَ أربَعُ كَلِماتٍ، كذلك الصَّليبُ له أربَعةُ أطرافٍ، والشَّهادةُ مَبنيَّةٌ على النَّفيِ والإثباتِ؛ فالابتِداءُ بالنَّفيِ والانتِهاءُ إلى الإثباتِ، وكَذلك الصَّليبُ خَشَبَتانِ: خَشَبةٌ ثابِتةٌ لذاتِها وخَشَبةٌ أُخرى ليس لها ثَباتٌ إلَّا بثَباتِ الأخرى، إلى آخِرِ تلك السَّخافاتِ||hamish||3161||/hamish||!
ونُقِلَ عن الدَّاعي حَميد الدِّينِ الكرمانيِّ
[3162] أحَدُ الدُّعاةِ الكِبارِ في المَذهَبِ الإسماعيليِّ ومُؤَلِّفُ كِتاب "راحة العَقلِ" الذي يُعتَبَرُ من أصولِهم المَذهَبيَّةِ. أنَّه استَفادَ كثيرًا مِنَ التَّوراةِ والانجيلِ، واستَشهَدَ بنُصوصٍ منهما، وفي بَعضِ مُؤَلَّفاتِه: (إنَّ آياتِ التَّوراةِ تُشيرُ إلى إمامِ الإسماعيليَّةِ)||hamish||3163||/hamish||.
ثالثًا: أنَّ العَقائِدَ الإسماعيليَّةَ القِرْمِطيَّةَ مَجموعةُ آراءٍ مُختَلِفةٍ ومُتَبايِنةٍ تَطَوَّرَت من بَلَدٍ إلى آخَرَ، ومِن زَمَنٍ إلى زَمَنٍ، بحَيثُ يصعُبُ دِراسَتُها ومَعرِفَتُها، فكانوا يَقولونَ بآراءٍ في بَلَدٍ ويَقولونَ بغَيرِها في بَلَدٍ آخَرَ، أو يَأتونَ بنَقيضِها بَعدَ فترةٍ مِنَ الزَّمَنِ||hamish||3164||/hamish||.
والأمثِلةُ على هذه الحَقيقةِ كثيرةٌ؛ منها: ما ذَكرَه الكرمانيُّ أنَّ العَقلَ هو المَعروفُ في الشَّريعةِ باسمِ القَلَمِ، وفي مَوضِعٍ آخَرَ من نَفسِ الكِتابِ، قال: إنَّ المُنبَعِثَ الأوَّلَ الذي هو العَقلُ المُسَمَّى بالقَلَمِ مَوجودٌ ثانٍ، وإنَّه في الكَمالِ كالأوَّلِ||hamish||3165||/hamish||.
قال مُحَمَّد حُسَين مُعَلِّقًا على هذا التَّناقُضِ والاختِلافِ: (فلا أستَطيعُ أن أوَفِّقَ بَينَ الرَّأيَينِ لرَجُلٍ واحِدٍ في كِتابٍ واحِدٍ)||hamish||3166||/hamish||.
ولقد تَنَبَّهَ الشَّهْرَستانيُّ إلى هذا الاختِلافِ والتَّبايُنِ في عَقائِدِ الإسماعيليَّةِ والقَرامِطةِ، وعَبَّرَ عن ذلك بقَولِه: (ولهم دَعوةٌ في كُلِّ زَمانٍ، ومَقالةٌ جَديدةٌ بكُلِّ لسانٍ)
[3167] ((الملل والنحل)) (1/ 192). .
إنَّ هذه الحَقائِقَ الأربَعَ تَدلُّ دَلالةً واضِحةً على فِقدانِ الأصالةِ الفِكريَّةِ للقَرامِطةِ، كما تَدُلُّ على عَدَمِ ثَباتِهم والتِزامِهم بمَنهَجٍ واحِدٍ، ولا يَخفى ما يَتَرَتَّبُ على هَذَينِ الاعتبارينِ من صُعوبةِ الوُصولِ إلى صورةٍ دَقيقةٍ وواضِحةٍ لمُعتَقداتِ القَرامِطةِ وأفكارِهم، وإرجاعِ هذه المُعتَقَداتِ والأفكارِ إلى مَنابِعِها الأصليَّةِ وأصحابِها الحَقيقيِّينَ.