المَبحَثُ الخامِسُ: وسائِلُ القَرامِطةِ في الدَّعوةِ
اتَّخَذَ القَرامِطةُ كُلَّ وسيلةٍ يُمكِنُ أن تَجمَعَ النَّاسَ حَولَهم، سَواءٌ أكانتِ الوَسيلةُ شَريفةً أم غَيرَ ذلك، بل رُبَّما كانتِ الوَسائِلُ الخَبيثةُ هي التي أفادوا منها أكثرَ من غَيرِها؛ فالغايةُ عِندَهم تُبَرِّرُ الوَسيلةَ، كما أنَّ النُّفوسَ قد جُبِلَت على حُبِّ المَصالِحِ والرَّغبةِ في المَحظوراتِ، ومِن أهمِّ تلك الوَسائِلِ:
1- الزُّهدُ:أظهَرَ القَرامِطةُ في بدايةِ أمرِهم الزُّهدَ حتَّى يُقبِلَ النَّاسُ عليهم، فالمُجتَمَعُ الذي وُجِدوا فيه لا يَخضَعُ إلَّا لمَن عُرِفَ بتَقواه، ولَكِن إذا ما دانَ لهم أتباعُهم ووَثِقوا بهم أخضَعوهم لمَرحَلةٍ بَعدَ مَرحَلةٍ حتَّى إذا وصَلوا إلى المَرحَلةِ الأخيرةِ رَفَعوا عنهم التَّكاليفَ الشَّرعيَّةَ وأعلَنوا لهم أنَّ هذه التَّكاليفَ إنَّما وُضِعَت وفُرِضَت على المُغَفَّلينَ، وقد عَدَّ الباحِثونَ تِسعَ مَراحِلَ يَخضَعُ لها أتباعُ القَرامِطةِ حتَّى يَصِلوا إلى كُلِّ ما يُريدُه منهم زُعَماءُ هذه الحَركةِ.
2- النِّساءُ:كانتِ النِّساءُ مَصيَدةً استَعمَلَها القَرامِطةُ في بَعضِ المَناطِقِ، وقد أمر (قِرْمِط) دُعاتَه بأن يَجمَعوا النِّساءَ في لَيلةٍ عَيَّنَها ويخلِطوهنَّ بالرِّجالِ حتَّى يَتَراكَبْنَ، وقال: هذا من صِحَّةِ الوُدِّ والأُلفةِ! كما أنَّ أبا سَعيدٍ الجَنَّابيَّ قد أدخَلَ زَوجَه على ضَيفِه وطَلَبَ منها ألَّا تَمنَعَه من نَفسِها، كما أباحَ القَرامِطةُ للمُقاتِلينَ أن يَرْووا غَرائِزَهم من نِساءِ أهلِ المُدُنِ والقُرى والقَوافِلِ التي يَستَبيحونَها.
3- المالُ:أقامَ (قِرْمِط) في كُلِّ قَريةٍ رَجُلًا مُختارًا مِنَ الثِّقاتِ عِندَه، وأمَر كُلَّ واحِدٍ منهم أن يَجمَعَ عِندَه أموالَ قَريَتِه ويَجعَلَها اشتِراكيَّةً بَينَ أبناءِ القَريةِ جَميعِها؛ وذلك ليَحصُلَ الدُّعاةُ الذين لا يَعمَلونَ والكُسالى والمزاوِدون على لُقمةِ العَيشِ، بل ويَحصُلون على زيادةٍ يَتَصَرَّفونَ بها لصِفَتِهم القياديَّةِ وتَحمُّلِهم المسؤوليَّةَ!
وفي اشتِراكيَّةِ المالِ والنِّساءِ تَحقيقٌ لمَبادِئِ (مَزدَك) الذي يَرتَبِطونَ مَعَه بصِلةِ العَقيدةِ المَجوسيَّةِ ديانةِ الفُرسِ القديمةِ التي هم أتباعٌ لها ويَتَعَصَّبونَ لها ولأهلِها، ويَتَطَرَّفونَ في تَعظيمِ رِجالاتِ الفُرسِ، ويُغالونَ في رَفعِهم، ويَرى (مَزدَك) أنَّ النِّساءَ والمالَ سَبَبُ المُخالَفةِ والمُباغَضةِ؛ لذلك أباحَهما.
4- إثارةُ الأحقادِ:أثارَ القَرامِطةُ الحِقدَ في نُفوسِ الفُقَراءِ، فمَنَّوهم بامتِلاكِ تلك الأراضي وأغرَوهم باستِباحةِ أموالِ النَّاسِ، وأمَّلوهم بأخذِ ما يَرغَبونَ مِنَ النِّساءِ.
لذا كان الشَّبابُ ذَوو الطَّاقاتِ والفُقَراءُ أصحابُ الإمكاناتِ والأعرابُ المُتَقَلِّبونَ مَعَ الجَهلِ الذي يَجمَعُهم جَميعًا، كانوا هم عِمادَ الحَركةِ القِرْمِطيَّةِ، بل أساسَ كُلِّ ثَورةٍ تُمَنِّيهم وتَلوحُ لهم بالحاجاتِ التي يَسعَونَ إليها؛ فهي العَلَفُ الذي يُقدَّمُ لهم ويَركُضونَ وراءَه ويَسيرونَ حَسَبَ حَركَتِه كالسَّوائِمِ مِنَ القَطيعِ تَتَحَرَّكُ وراءَ قَبضةِ العُشبِ، وما على المُستَغِلِّينَ إلَّا أن يوَجِّهوهم.
5- الإرهابُ:اتَّخَذَ القَرامِطةُ طَريقةَ إخافةِ النَّاسِ، بما فعَلوه من جَرائِمَ وما ارتَكَبوه من أعمالٍ؛ لذا فقدَ سارَ وراءَهم كثيرونَ وهم لَيسوا منهم وأظهَروا لهم أنَّهم مَعَ رَأيِهم، وما هم كذلك، وبهذا كثُرَ عَدَدُهم، وأفادوا من جُموعِهم حتَّى إذا فشِلوا في حَركَتِهم كانت كثرَتُهم وبالًا عليهم؛ إذِ انتَفَضَ المُنتَفِعونَ من حَولِهم وهم غالِبيَّتُهم، وتَركوهم وحدَهم في المَيدانِ؛ حتَّى يَنالوا جَزاءَهم وما اقتَرَفَت أيديهم، بل وأحيانًا كثيرةً كانوا هم الذين يُسَلِّمونَهم لخُصومِهم ليَحموا أنفُسَهم أو يَنقَلِبوا عليهم في السَّاعاتِ الحَرِجةِ؛ ليَحصُلوا على الأمانِ إذ شارَكوهم في جَرائِمِهم.
6
- دِقَّةُ التَّنظيمِ:إنَّ التَّنظيمَ الدَّقيقَ الذي قامَت عليه الدَّعوةُ الإسماعيليَّةُ في النِّصفِ الثَّاني مِنَ القَرنِ الثَّالِثِ هو الذي جَعَلَها تُحرِزُ بَعضَ النَّجاحِ في بَعضِ المَناطِقِ، هذا بالإضافةِ إلى الخَوفِ الذي أصابَ النَّاسَ من كثرةِ جَرائِمِها ووَحشيَّةِ أتباعِها.
7- إظهارُ الإسلامِ وإبطانُ الكُفرِ:فهم يَتَسَتَّرونَ بالإسلامِ وبقِراءةِ القُرآنِ وبالصَّلاةِ والصِّيامِ، ويُظهِرونَ حُبَّ آلِ البَيتِ، والعَفافَ والزُّهدَ، وتَركَ الدُّنيا والإعراضَ عن الشَّهَواتِ، ويَأمُرونَ بالصِّدقِ والأمانةِ والمعـروفِ، وفـي حقيقـةِ الأمـرِ هم على خـلافِ ذلك؛ إذ يُبطِنونَ الكُفرَ والزَّندَقةَ والتَّعطيلَ وبُغضَ الأنبياءِ والرُّسُلِ، ويَميلونَ إلى المُجونِ والخَلاعةِ والانغِماسِ في اللَّذَّاتِ والشَّهَواتِ.
وفي كُلِّ ذلك قد أوثَقوا أمورَهم بالسِّرِّيَّةِ، وبأخذِ الأيمانِ والعُهودِ على مَن أجابَهم بكِتمانِ ما يَبوحونَ له به من أسرارِهم، ولا يَكشِفونَ أمرَهم إلَّا بالتَّدريجِ على قَدْرِ طَمَعِهم في الشَّخصِ.
8- الاستدراجُ والحِيلةُ:فكانوا يَتَّصِلونَ بالنَّاسِ سرًّا، ويَنقُلونَهم عن الإسلامِ بالحيَلِ والأيمانِ الخادِعةِ، ويَستَدرِجونَهم إلى مَذهَبِهم شـيئًا فشـيئًا، ويُخاطِبونَ كُلَّ أحَدٍ بما يوافِقُ رَأيَه بَعدَ أن يَظفَروا منه بالانقيادِ لهم والموالاةِ لإِمامِهم؛ إذ يوصونَ دُعاتَهم فيَقولونَ للدَّاعيةِ: إذا وجَدتَ مَن تَدعوه فاجعَلِ التَّشَيُّعَ دينَك، وادخُلْ عليه من جِهةِ ظُلمِ الأمَّةِ لعَليٍّ، وقَتلِهم الحُسَينَ وسَبيِهم لأهلِه، والتَّبرِّؤِ من تَيمٍ وعَديٍّ وبَني أميَّةَ وبَني العَبَّاسِ، وقُلْ بالرَّجعةِ، وأنَّ عليًّا يَعلَمُ الغَيبَ. فإذا تَمَكَّنتَ منه أوقَفتَه على مَثالِبِ عَليٍّ ووَلَدِه، ثُمَّ بَيَّنتَ له بُطلانَ ما عليه أهلُ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ وغَيرِه مِنَ الرُّسُلِ.
وإن كان يهوديًّا فادخُلْ عليه من جِهةِ انتِظارِ المَسيحِ، وأنَّ المَسيحَ هو مُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ، وهو المَهديُّ، واطعَنْ في النَّصارى والمُسلِمينَ، وإن كان نصرانيًّا فاعكِسْ، وإن كان صابئيًّا فتَعظيمُ الكَواكِبِ، وإن كان مجوسيًّا فتَعظيمُ النَّارِ والنُّورِ، وإن وجَدتَ فيلسوفًا فهم عُمدَتُنا؛ لأنَّنا نَتَّفِقُ وهم على إبطالِ النَّواميسِ والأنبياءِ، وعلى قِدَمِ العالَمِ.
ومَن رَأيتَه زيديًّا أو إماميًّا فأظهِرْ له بُغضَ
أبي بَكرٍ وعُمَرَ، ثُمَّ أظهِرْ له العَفافَ والتَّقَشُّفَ وتَركَ الدُّنيا والإعراضَ عن الشَّهَواتِ، ومُرْ بالصِّدقِ والأمانةِ، فإذا استَقَرَّ عِندَه ذلك فاذكُرْ له ثَلبَ
أبي بَكرٍ وعُمَرَ، وإن كان سُنِّيًّا فاعكِسْ، وإن كان مائلًا إلى المُجونِ والخَلاعةِ فقَرِّر عِندَه أنَّ العِبادةَ بَلَهٌ والوَرَعَ حَماقةٌ، وإنَّما الفِطنةُ في اتِّباعِ اللَّذَّةِ وقَضاءِ الوَطَرِ مِنَ الدُّنيا الفانيةِ.
9- خِداعُ النَّاسِ:اتَّخَذوا التَّظاهُرَ بحُبِّ آلِ البَيتِ والتَّسَتُّرَ بالتَّشَيُّعِ وسيلةً للتَّحايُلِ على النَّاسِ وخِداعِهم أثناءَ دَعوَتِهم لهم.
ومِن أساليبِهم في خِداعِ النَّاسِ اتِّخاذُ الدِّينِ مَطيَّةً لبُلوغِ أهدافِهم، واستِغلالُ ظُروفِ النَّاسِ المَعيشيَّةِ المُتَدَنِّيةِ وعَواطِفِهم المُلتَهِبةِ للإِصلاحِ برَفعِ شِعاراتٍ بَرَّاقةٍ؛ فعِندَما ثارَ القَرامِطةُ سَنةَ 315هـ كانت لهم أعلامٌ بِيضٌ مَكتوبٌ عليها:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص: 5] .
10- إلقاءُ الشُّبُهاتِ على العامَّةِ:ذَكَرَ
ابنُ الجَوزيِّ أنَّهم قد يَستَحِبُّونَ من له صَوتٌ طَيِّبٌ بالقُرآنِ، فإذا قَرَأ تَكَلَّمَ داعيهم ووَعَظَ، وقدَحَ في السَّلاطينِ، وعُلَماءِ الزَّمانِ، وجُهَّالِ العامَّةِ، ويَقولُ: الفَرَجُ مُنتَظَرٌ ببَركةِ آلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ورُبَّما قال: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ في كلِماتِه أسرارٌ لا يَطَّلِعُ عليها إلَّا مَنِ اجتَباه. ومِن مَذاهِبِهم أنَّهم لا يَتَكَلَّمونَ مَعَ عالِمٍ بل مَعَ الجُهَّالِ، ويَجتَهِدونَ في تَزَلزُلِ العَقائِدِ بإلقاءِ المُتَشابِهِ وكُلِّ ما لا يَظهَرُ للعُقولِ مَعناه، فيَقولونَ: ما مَعنى الاغتِسالِ مِنَ المَنيِّ دونَ البَولِ؟ ولمَ كانت أبوابُ الجَنَّةِ ثَمانيةً وأبوابُ النَّارِ سَبعةً؟ وقَولُه:
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] ضاقَتِ القافيةُ؟ ما بَطَنَ هذا إلَّا لفائِدةٍ لا يَفهَمُها كثيرٌ مِنَ النَّاسِ. ويَقولونَ: لمَ كانتِ السَّماواتُ سَبعًا؟ ثُمَّ يُشَوِّقونَ إلى جَوابِ هذه الأشياءِ؛ فإن سَكتَ السَّائِلُ سَكَتوا، وإن ألَحَّ قالوا: عَلَيك العَهدُ والميثاقُ على كِتمانِ هذا السِّرِّ، فإنَّه الدُّرُّ الثَّمينُ. فيَأخُذونَ عليه العُهودَ والميثاقَ على كِتمانِ هذا، ويَقولونَ في الأيمانِ: "وكُلُّ مالِك صَدَقةٌ، وكُلُّ امرَأةٍ لك طالِقٌ ثَلاثًا إن أخبَرتَ بذلك". ثُمَّ يُخبِرونَه ببَعضِ الشَّيءِ ويَقولونَ: هذا لا يَعلَمُه إلَّا آلُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ويَقولونَ: هذا الظَّاهِرُ له باطِنٌ، وفُلانٌ يَعتَقِدُ ما نَقولُ ولَكِنَّه يَستُرُه، ويَذكُرونَ له بَعضَ الأفاضِلِ، ولَكِنَّه ببَلَدٍ بَعيدٍ
[3190] يُنظر: ((المنتظم)) لابن الجوزي (12/ 294). .