تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
إنَّ أوَّلَ ما عُرِفَت فِكرةُ القَرامِطةِ في البَحرينِ، وإن لم تُسَمَّ بهذا الاسمِ؛ إذ لم يَكُنْ حَمدان بنُ الأشعَثِ القِرْمِطيُّ قد عُرِفَ بَعدُ، وأصبَحَ رَأسَ جَماعةٍ نُسِبَت إليه. وأوَّلَ ما عُرِفَت تلك الفِكرةُ كانت على يَدِ شَخصٍ نَزَلَ البَحرينِ وأعطى نَفسَه اسمَ يَحيى بنِ المَهديِّ، فأظهَرَ التَّشَيُّعَ في بدايةِ الأمرِ، ثُمَّ أعلَنَ أنَّه المَهديُّ المُنتَظَرُ، فظَهَرَ أمرُه وأجابَه عَدَدٌ كبيرٌ؛ إذِ انضَمَّ إليه السُّوقةُ ومَن ساءَت حالَتُهم المَعاشيَّةُ، وعَدَدٌ مِنَ الشَّبابِ الذي أغراهم بالنِّساءِ التي جَعَلَها مُباحةً بَينَهم، كما مَنَّاهم بالمالِ وامتِلاكِ الأرضِ، فزادَ عَددُ أتباعِه وبَدا لهم أنَّهم أصبَحوا جَماعةً يُخشى جانِبُها، وكانتِ الدَّولةُ العَبَّاسيَّةُ قد بَدَأت في مَراحِلِ ضَعفِها وشُغِلَت بمُشكِلاتِها الكَثيرةِ، وكان الجُنودُ هم الذين يُسَيطِرونَ عليها ولا يُهِمُّهم سِوى مَصلَحَتِهم الخاصَّةِ وتَأمينِ أهوائِهم والسَّيرِ وراءَها، والنَّاسُ في تَرَفٍ فِكريٍّ بعِلمِ الكَلامِ، وزادَ تَرَفَهم القُعودُ عن الجِهادِ وإهمالُ الحُكمِ لهم؛ لذا كان العَوامُّ يَسيرونَ وراءَ كُلِّ مَن يُحَقِّقُ لهم مَصالِحَهم أو يَدَّعي أنَّه يَعمَلُ لذلك. وكان مِنَ الذين اتَّبَعوا يَحيى بنَ المَهديِّ رَجُلٌ اشتَهَرَ أمرُه كثيرًا وهو (الحَسَنُ بنُ بهرامَ) الذي عُرِفَ باسمِ (أبو سَعيدٍ الجَنَّابيُّ)، ويَعودُ في أصلِه إلى فارِسَ أيضًا، وقد نَزَلَ البَحرينِ مَنفيًّا من بلادِه، وكان يَنتَقِلُ مِنَ البَحرينِ إلى سَوادِ الكوفةِ، وصَحِبَ عَبدانَ أو حَمدانَ وتَأثَّر به وعِندَما عادَ إلى مِنطَقَتِه بَدَأ يَدعو إلى القَرامِطةِ كأنصارٍ لرِفاقِهم في جَنوبي العِراقِ، وعِندَما تَجمَّع حَولَه عَدَدٌ مِنَ الأتباعِ بَدَأ يَعيثُ ورِفاقُه في الأرضِ الفَسادَ، فقَتَلوا وسَبَوا في بلادٍ هَجَرَ كثيرًا عامَ 286هـ، ثُمَّ سارَ إلى القَطيفِ فقَتَلَ مَن بها وأظهَرَ أنَّه يُريدُ البَصرةَ، فجَهَّزَ إليهم الخَليفةُ العَبَّاسيُّ جَيشًا كثيفًا جَعَلَ عليه العَبَّاسَ بنَ عُمَرَ الغَنَويَّ، فانتَصَرَ عليه القَرامِطةُ وأسَروا الجَيشَ كُلَّه، واستَمَرَّ نَشاطُهم حتَّى عامَ 301هـ؛ حَيثُ قُتِلَ أبو سَعيدٍ الجَنَّابيُّ [3191] يُنظر: ((تاريخ أخبار القرامطة)) لابن سنان (ص: 36). . ويَبدو أنَّ أبا سَعيدٍ الجَنَّابيَّ وقَرامِطةَ البَحرينِ كافَّةً كانوا من أنصارِ عَبدانَ وحَمدانَ؛ لذا لم يُساعِدوا أبناءَ زكرَوَيهِ عِندَما قاموا بحَركاتِهم، وإنَّما اقتَصَروا على عَمَلِهم مُنفَرِدينَ كدَعوةٍ خاصَّةٍ؛ لذا فهم أولى من غَيرِهم بالنِّسبةِ إلى حَمدان قِرْمِط. وكان أبو سَعيدٍ الجَنَّابيُّ قد عَهِدَ من بَعدِه لابنِه الأكبَرِ سُلَيمانَ الذي يُكَنَّى بأبي طاهِرٍ، ودَخل أبو طاهِرٍ البَصرةَ عامَ 311هـ في ألفَينِ وسَبعِمِائةِ رَجُلٍ فقَتَلَ مِن أهلِها خَلقًا كثيرًا وبَقيَ فيها ثَمانيةَ عَشَرَ يَومًا يَحمِلُ منها ما يَقدِرُ على حَملِه مِنَ الأموالِ والأمتِعةِ والنِّساءِ والصِّبيانِ، ثُمَّ رَجَعَ إلى بَلَدِه وقَطَعَ عامَ 312هـ على الحُجَّاجِ طَريقَ عَودَتِهم، فأخَذَ منهم أزوادَهم وأمتعَتَهم، وتَركَ مَن بَقيَ منهم بلا ماءٍ ولا طَعامٍ، فماتَ أكثَرُهم، ثُمَّ دَخَلَ الكوفةَ عامَ 313هـ وبَقيَ فيها سِتَّةَ أيَّامِ نَقلَ خِلالَها أكثَرَ ما فيها، ثُمَّ عادَ ودَخَلَها في العامِ التَّالي وفَعَلَ فيها ما فعَلَه في عامِه السَّابِقِ! كما استَولى على مَدينةِ الأنبارِ وعَينِ التَّمرِ. وهَجَمَ القِرْمِطيُّ أبو طاهِرٍ عامَ 317هـ على الحُجَّاجِ يَومَ التَّرويةِ 8 ذي الحِجَّةِ في مِنًى ونَهبَ أموالَ الحَجيجِ، وقَتلَ الحُجَّاجَ حتَّى في المَسجِدِ الحَرامِ وفي البَيتِ نَفسِه، ورَمى القَتلى في بئرِ زَمزَمَ حتَّى امتَلَأت بالجُثَثِ، وخَلَعَ بابَ الكَعبةِ ووَقَفَ يَلعَبُ بسَيفِه على بابِها، وخَلَعَ الحَجَرَ الأسوَدَ وأخَذَه مَعَه إلى بَلَدِه هَجَرَ! واختَلَفَ بَعضُ القَرامِطةِ مَعَ بَعضٍ عامَ 326هـ إلَّا أنَّ أبا طاهِرٍ قدِ استَطاعَ الحِفاظَ على وضعِه وتَخلَّص من خُصومِه، وهذا ما جَعَلَهم يَتَمَسَّكونَ في مِنطَقَتِهم ويُحافِظونَ عليها ويَمكُثونَ فيها مُدَّةً. وفي عامِ 332هـ ماتَ أبو طاهِرٍ سُلَيمانُ بنُ أبي سَعيدٍ الجَنابيُّ زَعيمُ القَرامِطةِ، فخَلفَه إخوَتُه الثَّلاثةُ سَعيدٌ أبو القاسِمِ، وأحمَدُ أبو العَبَّاسِ، ويوسُفُ أبو يَعقوبَ، وكانت كلِمَتُهم مُتَّفِقةً، وفي عامِ 339هـ رَدَّ القَرامِطةُ الحَجَرَ الأسوَدَ إلى مَكانِه بَعدَ أن بَقيَ اثنَينِ وعِشرينَ عامًا! وقدِ امتَدَّ نُفوذُ قَرامِطةِ البَحرينِ إلى نَجدٍ كما أخضَعوا الحِجازَ لهم ووَصَلوا إلى بلادِ الشَّامِ عامَ 357هـ، وكان أمرُهم آنَذاكَ إلى الحَسَنِ بنِ الحَسَنِ بنِ بهرامَ، وقد دَخَلَ دِمَشقَ ووَليَ عليها وشاحٌ السُّلميُّ، ثُمَّ عادوا إليها عامَ 360هـ، وسارَ القِرْمِطيُّ إلى الرَّملةِ، ومنها اتَّجَهَ نَحوَ القاهِرةِ إلَّا أنَّ جَوهَرَ الصِّقِلِّيَّ قد رَدَّهم عنها وأخَذَ منهم دِمَشقَ. وماتَ الحَسَنُ عامَ 366هـ وقامَ على أمرِ القَرامِطةِ من بَعدِه ابنُ عَمِّه جَعفَرٌ، وبَدَأ وضعُ القَرامِطةِ يَضعُفُ تَدريجيًّا، ولَولا ضَعفُ الدَّولةِ العَبَّاسيَّةِ لانتَهى أمرُهم مُنذُ مُنتَصَفِ القَرنِ الرَّابِعِ الهِجريِّ، إلَّا أنَّ التَّفَكُّكَ الذي أصابَ الدَّولةَ قد جَعَلَ أمرَهم يَطولُ، ولَكِنَّ أوضاعَهم كانت مُهَلهَلةً والمَناطِقُ التي سَيطَروا عليها قد تَجَزَّأت وقامَ في النِّهايةِ بالبَحرَينِ أحَدُ زُعَماءِ قَبيلةِ بَني عَبدِ القَيسِ المَشهورةِ، وهو عبدُ اللهِ بنُ عَليٍّ العُيونيُّ، فاستَعانَ بالخَليفةِ العَبَّاسيِّ القائِمِ بأمرِ اللَّهِ، وقد وجَدَ تَجاوُبًا كبيرًا في نَفسِه لِما يَعلَمُه من أعمالِ القَرامِطةِ وتاريخِهم الحافِلِ بالفَسادِ، كما استَعانَ بالسُّلطانِ السُّلجوقيِّ (ملكشاه) الذي وجَدَ عِندَه التَّجاوُبَ نَفسَه، بل كان هذا ضِمنَ مُخَطَّطِه، وجاءَتِ القوَّاتُ العَبَّاسيَّةُ وساعَدَت عبدَ اللهِ بنَ عَليٍّ العُيونيَّ، وقَضَت على القَرامِطةِ نِهائيًّا عامَ 467هـ.