المَبحَثُ الأوَّلُ: النَّشأةُ وأبرَزُ الشَّخصيَّاتِ ومَناطِقُ الانتِشارِ
الشَّيخيَّةُ تُنسَبُ إلى الشَّيخِ أحمَد زَينِ الدِّينِ إبراهيمَ الأحسائيِّ، المَولودِ سَنةَ 1166ه في قَريةِ المُطيرفِ شَرقَ الجَزيرةِ العَرَبيَّةِ، والمُتَوفَّى سَنةَ 1241ه، ويُلقِّبُه أنصارُه بالشَّيخِ الأوحَدِ، تَنقَّل في حَياتِه بَينَ إيرانَ والعِراقِ وبلادِ الخَليجِ.
وقد تَتَلمَذَ واستَفادَ مِن عَدَدٍ مِن عُلماءِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ في عَصرِه؛ مِنهم: جَعفرٌ كاشِفُ الغِطاءِ، وحُسَينٌ العصفوريُّ، وعَلي الطَّبَاطبائيُّ، ومَهدي بَحرُ العُلومِ، ومُحَمَّد باقِرِ البَهبَهانيُّ.
وقد عاشَ كاتِبًا ومُدَرِّسًا في مُدُنِ الشِّيعةِ الهامَّةِ، مِثلُ كَربَلاءَ وطُوسٍ وغَيرِهما مِن البُلدانِ، وسَكنَ في البَحرَينِ، ونَشرَ أفكارَه ومُعتَقَداتِه وآراءَه، حتَّى مَهَّد السَّبيلَ لظُهورِ مَلاحِدةٍ جاؤوا بَعدَه كالبَّابيَّةِ والبَهائيَّةِ، وله أتباعٌ مِن الشِّيعةِ يمَجِّدونَه، وأطلقوا عَليه تُرجُمانَ الحُكماءِ، ولسانَ العُرَفاءِ، وغُرَّةَ الدَّهرِ، وفيلسوفَ العَصرِ، وعَمَدَ خُصومُه إلى حَملِ كِتابِه «شَرح الزِّيارةِ الجامِعةِ» إلى والي بَغدادَ وأطلعوه على مَواضِعَ فيها تَعريضٌ ب
أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وغَيرِهم رَضِيَ اللهُ عنهم، فوجَّه جَيشًا إلى كربَلاءَ وخَرَجَ الأحسائيُّ خائِفًا يتَرَقَّبُ وفَرَّ إلى مَكَّةَ للنَّجاةِ بنَفسِه، فوافاه الأجَلُ بقُربِ المَدينةِ النَّبَويَّةِ سَنةَ 1241ه، وحُمِل إليها فدُفِنَ في البَقيعِ.
ومِن مُؤَلَّفاتِ الأحسائيِّ: شَرحُ (الزِّيارة الجامِعة الكبيرة) وهي نُصوصٌ رَواها الصَّدوقُ و
الطُّوسيُّ عن أئِمَّتِهم يزورُ بها الشِّيعةُ أئِمَّتَهم ويتلونَها في مَشاهدِهم وحُسَينيَّاتِهم وغَيرِها، و(شَرحُ العَرشيَّةِ) لصَدرِ الدِّينِ الشِّيرازيِّ، وشَرحُ (المَشاعِرِ) للشِّيرازيِّ أيضًا، وكِتابُ (الفوائِدِ).
وبَعدَ مَوتِ الأحسائيِّ خَلَفه تِلميذُه كاظِمٌ الرَّشتيُّ الذي قيل: إنَّه وُلدَ سَنةَ 1205هـ، وقيل: سَنةَ 1212ه في بَلدةِ رَشتٍ في إيرانَ، وكان كاظِمٌ مُقَرَّبًا مِن شَيخِه الأحسائيِّ جِدًّا.
قال الباحِثُ الشِّيعيُّ مُحَمَّدُ حَسَن آل الطَّالقانيِّ: (ولم يُعهَدْ عن الأحسائيِّ أنَّه نَصَّ على الرَّشتيِّ؛ ولذلك فمِن الغَريبِ جِدًّا ما رَواه مُحَمَّدٌ الزُّرَنديُّ مِن أنَّه استَخلفه ونَصَّ عَليه بقَولِه لأتباعِه: «لا يوجَدُ سِوى السَّيِّدِ كاظِم الرَّشتيِّ الذي يَعرِفُ مَقصَدي، ولا يقدِرُ أن يفهَمَه أحَدٌ خِلافَه، فاطلُبوا عُلومي مِن السَّيِّدِ؛ فقد تَلقَّاها مِنِّي مُباشَرةً، وهي التي تَلقَّيتُها مِن الأئِمَّةِ الذين تَلقَّوها مِن رَسولِ اللهِ، فهو وحدَه الذي يعرِفُ مَغزى كلامي»
[3717] ((مطالع الأنوار)) (ص: 12). ، وقال مُرتَضى الجهاردهيُّ قَريبًا مِن ذلك، ولم يقُلْ بمَقالتِهما أحَدٌ. وإذا صَحَّ ما يُروى مِن أنَّ الأحسائيَّ أوصى الرَّشْتيَّ بأن يكونَ يقِظًا يتَرَقَّبُ ظُهورَ الإمامِ الغائِبِ ويُمَهِّدُ أذهانَ النَّاسِ له، فقد انتَفت الحاجةُ إلى استِخلافِه)
[3718] ((الشَّيخيَّة)) (ص: 177، 178). .
ومِن مُؤَلَّفاتِ الرَّشْتيِّ: (مَجموعةُ الرَّسائِل)، و(شَرحُ الخُطبةِ التطنجيَّةِ)، وهي خُطبةٌ مَنسوبةٌ لعَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، و(شَرحُ القَصيدةِ اللَّاميَّةِ)، و(أُصولُ العَقائِدِ). وصارَ له أتباعٌ ينتَسِبونَ إلى اسمِه، وهم الرَّشتيَّةُ.
وللرَّشتيِّ لدى الشَّيخيَّةِ مَكانةٌ كبيرةٌ؛ فعُلماءُ الشَّيخيَّةِ يُعَبِّرونَ في مُؤَلَّفاتِهم عن الأحسائيِّ بالشَّيخِ الأوحَدِ، وعن الرَّشْتيِّ بالشَّيخِ الأرشَدِ أو الأمجَدِ.
وقد سارَ كاظِمٌ الرَّشْتيُّ على نَفسِ طَريقةِ أُستاذِه الأحسائيِّ، وزادَ عَليه أقوالًا أُخرى، كانت هي النَّواةَ الأولى لظُهورِ البابيَّةِ؛ فمن تَلاميذِ الرَّشْتيِّ: عَلي مُحَمَّد الشِّيرازيُّ المُلقَّبُ بالبابِ، وهو الذي تُنسَبُ إليه الفِرقةُ البابيَّةُ أو البَهائيَّةُ نِسبةً لتِلميذِ الشِّيرازيِّ: حُسَين عَلي المازَنْدرانيِّ المُلقَّبِ بالبَهاءِ، والذي صارَ على رَأسِ الفِرقةِ البابيَّةِ بَعدَ مَوتِ أُستاذِه، وأضاف إليها عَدَدًا مِن الأفكارِ حتَّى صارَت تُعرَفُ بالبَهائيَّةِ نِسبةً إليه.
وقد نُسِبَ إلى كاظِمٍ الرَّشْتيِّ القَولُ بالتَّناسُخِ، فادَّعى أنَّه حَلَّ فيه روحُ البابِ كما حَلَّ في الأحسائيِّ، وأنَّه آنَ الأوانُ لانقِطاعِ الأبوابِ، ومَجيءِ المَهديِّ نَفسِه، فبشَّرَ بظُهورِ المَهديِّ، ويَحتَرِمُ البابيُّونَ والبهائيُّونَ الأحسائيَّ والرَّشْتيَّ احتِرامًا عَظيمًا، ويُسَمُّونَهما النُّورينِ.
وبَعدَ وفاةِ الرَّشْتيِّ سَنةَ 1259هـ أعلنَ البابُ الشِّيرازيُّ دَعوتَه نيابةً عن أُستاذِه، وأعلنَ أنَّه المَهديُّ المُنتَظَرُ، وآمَنَ به عَدَدٌ مِن تَلاميذِ الرَّشْتيِّ كان أوَّلَهم حُسَينٌ البَشروئيُّ، إلَّا أنَّ جِهاتٍ عَديدةً قاومَت أفكارَ البابِ، مِنها الدَّولةُ القاجاريَّةُ، وبَعضُ طُلَّابِ الرَّشْتيِّ، وأئِمَّةُ الشِّيعةِ، إضافةً إلى أهلِ السُّنَّةِ. وقد أعدمَ الشَّاهُ القاجاريُّ البابَ سَنةَ 1265هـ.
قال الآلوسيُّ: (قال العَلَّامةُ الجَدُّ عَليه الرَّحمةُ: قد ظَهَرَت في هذه الأعصارِ مِن الاثنَي عَشريَّةِ طائِفةٌ يُقال لهم: الشَّيخيَّةُ، وقد يُقالُ لهم: الأحمَديَّةُ، وهم أصحابُ الشَّيخِ أحمَدَ الأحسائيِّ، تَرشَحُ كلماتُهم بأنَّهم يعتَقِدونَ في الأميرِ -كرَّمَ اللهُ تعالى وجهَه- نَحوَ ما يعتَقِدُ الفلاسِفةُ في العَقلِ الأوَّلِ، بَل أدهى وأمَرَّ.
وطائِفةٌ أُخرى يُقال لها: الرَّشتيَّةُ، وكثيرًا ما يُقالُ لها: الكشفيَّةُ، وهو لقَبٌ لقَّبهم به بَعضُ وُزَراءِ الزَّوراءِ أعلى اللهُ تعالى دَرَجَتَه في أعلى عِلِّيِّينَ، وهم أصحابُ السَّيِّدِ كاظِمٍ الحُسَينيِّ الرَّشْتيِّ، وهو تِلميذُ الأحسائيِّ وخِرِّيجُه، لكِن خالفه في بَعضِ المَسائِلِ، وكلماتُه تَرشَحُ بما هو أدهى وأمَرُّ مِمَّا تَرشَحُ به كلماتُ شَيخِه، حتَّى إنَّ الاثنَي عَشريَّةِ يعُدُّونَه مِن الغُلاةِ، وهو يبرَأُ مِمَّا تُشعِرُ به ظَواهرُ كلماتِه. قال عَليه الرَّحمةُ: وقد عاشَرتُه كثيرًا، فلم أدرِكْ فيه ما يقولُ فيه مُكَفِّروه مِن عُلماءِ الاثنَي عَشريَّةِ، نَعَم، عِندَه على التَّحقيقِ غَيرُ ما عِندَهم في الأئِمَّةِ وغَيرِهم مِمَّا يتَعَلَّقُ بالمَبدَأِ والمَعادِ، ولقد وجَدتُ أكثَرَ ما يُقَرِّرُه ويُحَرَّرُه مِمَّا لا بُرهانَ له سِوى سَرابٍ يحسَبُه الظَّمآنُ ماءً، ولا أظُنُّ أنَّ مُخالفاتِه لشَيخِه تَجعَلُه وأصحابَه القائِلينَ بقَولِه فِرقةً غَيرَ الشَّيخيَّةِ)
[3719] ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) (1/ 22). .
وعن أماكِنِ انتِشارِهم وأوضاعِهم في العالَمِ الإسلاميِّ قال مُحَمَّد زكي إبراهيم: (إنَّ المَرءَ يستَطيعُ أن يعثُرَ دونَ شَكٍّ على تَجَمُّعاتٍ شيخيَّةٍ واضِحةٍ، في مَناطِقَ مُختَلفةٍ مِن العالمِ الإسلاميِّ، ولا سيَّما المُحيطةِ بمِنطَقةِ الخَليجِ، غَيرَ أنَّ مِن الصَّعبِ تَمييزَ هذه التَّجَمُّعاتِ عن سِواها مِن السُّكَّانِ الشِّيعةِ لاتِّحادِها في الشَّعائِرِ والمُناسَباتِ والعِباداتِ، والفُروضِ وسِواها مِن مَظاهرِ السُّلوكِ الدِّينيِّ المَعروفةِ، ولا توجَدُ عِندَ الشَّيخيِّينَ أعيادٌ خاصَّةٌ ولا مُناسَباتٌ استِثنائيَّةٌ، وليسَت لدَيهم أماكِنُ عِبادةٍ مُختَلِفةٌ عن تلك التي يمتلِكُها الشِّيعةُ، غَيرَ أنَّ مِن المُعتادِ أن يستَقِلُّوا عن سِواهم بمَساجِدَ وحُسَينيَّاتٍ تَحمِلُ اسمَ طائِفتِهم. ورُبَّما جاءَ استِقلالُهم على هذا النَّحوِ بسَبَبِ ابتِعادِ الآخَرينَ عنهم أكثَرَ مِن حِرصِهم على العُزلةِ، وهناك سِماتٌ مُعَيَّنةٌ تَجعَلُهم مُتَمَيِّزينَ إلى حَدٍّ ما، وخُصوصًا فيما يتَعَلَّقُ بالأحوالِ الشَّخصيَّةِ؛ فهم يتَزاوجونَ فيما بَينَهم إلَّا فيما نَدَرَ. وسَبَبُ ذلك امتِناعُ الآخَرينَ عن مُصاهَرَتِهم والارتِباطِ بهم برَوابطَ عائِليَّةٍ.
ويُمكِنُ القَولُ: إنَّ ما تَبَقَّى مِن خَصائِصِ الشَّيخيينَ سائِرٌ إلى الزَّوالِ بحُكمِ قِلَّةِ عَدَدِهم ورَغبَتِهم المُستَمِرَّةِ في الاندِماجِ في مُحيطِهم الشِّيعيِّ. ولا توجَدُ إحصاءاتٌ عن عَدَدِ الأتباعِ الشَّيخيِّينَ سَواءٌ مِنهم أولئك الذين يُشايِعونَ شيخيَّةَ الكويتِ، أو الذين يُشايِعونَ شيخيَّةَ كَرْمانَ. ولكِن مِن المُحتَمَلِ جِدًّا أن يبلُغوا زُهاءَ المِليونِ؛ ففي العِراقِ مَثَلًا، حَيث يسودُ الاتِّجاهُ الكَرْمانيُّ، ومَركزُه البَصرةُ، فإنَّ عَدَدَهم رُبَّما يصِلُ إلى رُبعِ مِليونِ إنسانٍ، موزَّعين في مُحافظاتٍ عَديدةٍ، أبرَزُها البَصرةُ، والنَّاصِريَّةُ وكَربَلاءَ. ولدَيهم مَسجِدٌ كبيرٌ فخمٌ في حَيِّ الجَزائِرِ في البَصرةِ؛ حَيثُ مَقَرُّ زَعيمِهم الرُّوحيِّ عَلي الموسَوي وكيلِ إمامِ شيخيَّةِ كَرْمانَ. ومِن المُتَوقَّعِ أن يكونَ عَدَدُهم في إيرانَ أكثَرَ مِن ذلك بحُكمِ وُجودِ الفِئَتَينِ مَعًا؛ فإمامُ شيخيَّةِ الكويتِ هو ذاتُه إمامُ شيخيَّةِ أسكوءٍ «إحدى مُدُنِ تِبْريزَ» وله هناك مَقَرٌّ كبيرٌ. وأتباعٌ كثيرونَ. وفي الغالِبِ يحِلُّ وكيلُ الإمامِ في أسكوءٍ مَحَلَّ الإمامِ عِندَ وفاتِه، وهذا ما حَدَثَ عِندَ وفاةِ الشَّيخِ موسى، والشَّيخِ حَسَنٍ، والشَّيخِ عَبدِ الرَّسولِ «الأسكوئيِّينَ» أمَّا إمامُ شيخيَّةَ كَرْمانَ فإنَّ مَقَرَّه كان وما يزالُ في إيرانَ، وهو يُديرُ هناك مَدرَسةً كُبرى للفِقهِ والأُصولِ والحِكمةِ وله أتباعٌ في مُختَلِفِ المُدُنِ الإيرانيَّةِ. وهناك شَيخيُّونَ كثيرونَ في مِنطَقةِ الخَليجِ يتَّبعونَ كِلتا الطَّائِفتَينِ. وهناك أنباءٌ غَيرُ مُؤَكَّدةٍ عن وُجودِ شَيخيِّينَ في الهندِ وباكِستانَ. ومِمَّا يجعَلُ مُستَقبَل الشَّيخيَّةِ غامضًا أنَّها لا تَختَلفُ عن سِواها مِن الإماميَّةِ إلَّا في مَسائِلَ كلاميَّةٍ وفلسَفيَّةٍ يغلبُ عَلها الطَّابَعُ الأُخرَويُّ في حينِ أنَّها تَتَّفِقُ مَعَها في الفِقهِ والأُصولِ. وهذه الصِّفةُ تَجعَلُ مِن عَوامِّهم مُتَساوينَ مَعَ عَوامِّ الشِّيعةِ تَمامًا. ومِن المُحتَمَلِ أن يُؤَدِّي هذا بمُرورِ الوقتِ إلى عَودةِ الشَّيخيِّينَ ثانيةً إلى أحضانِ الإماميَّةِ)
[3720] يُنظر: ((المدرسة الشَّيخيَّة)) (ص: 241-243). .