تَمهيدٌ: نَظرةٌ إجماليَّةٌ
بَينَ يَدَيِ الكَلامِ عنِ الصُّوفيَّةِ وأبرَزِ طُرُقِها وأفكارِها ومَبادِئِها، لا بُدَّ من إيضاحِ المَقصودِ بالصُّوفيَّةِ والتَّصَوُّفِ
[1] يُنظر لهذا الباب: ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام)) لعواجي (3/861)، ((التصوف المنشأ والمصادر)) لظهير. ويُنظر أيضًا: ((الاتجاهات العقدية عند الصوفية)) للسهلي. .
إنَّ الصُّوفيَّةَ التي تُبحَثُ هنا هي الصُّوفيَّةُ التي خَرَجَت عنِ الحَقِّ إلى الغُلوِّ، مُتَأثِّرةً بشَتَّى الأفكارِ المُنحَرِفةِ التي هي في الواقِعِ أفكارٌ بِدعيَّةٌ طَرَأت على المُسلمينَ في غيابِ العِلمِ؛ حَيثُ فشا الجَهلُ، وظَهر عُلماءُ السُّوءِ المُغرَمونَ بالخُرافاتِ أو حُبِّ الزَّعامةِ، وهي ذاتُ مَفاهيمَ خاطِئةٍ مُضطَرِبةٍ تَأثَّرَت بمَسالكَ مُنحَرِفةٍ، وبالغَت فيها إلى حَدِّ الهَوسِ والاضطِرابِ الفِكريِّ الشَّنيعِ. ولقد تَجَرَّأ بَعضُ أصحابِ هذه الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ على القَولِ على اللهِ بغَيرِ عِلمٍ، كما كَذَبوا على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لتَقويةِ مَبادِئِهمُ الكَثيرةِ وتَأييدِها، وبالغوا في الكَذِبِ وزُخرُفِ القَولِ، وتَفنَّنوا في الآراءِ، حتَّى ليُخَيَّلُ للشَّخصِ أنَّهم على شَيءٍ، وهم في فراغٍ وجَهلٍ شَديدٍ! وطَرَقوا مَسائِلَ ليست منَ الإسلامِ في شَيءٍ، ولم يَقُلْ بها أحَدٌ منَ المُسلمينَ، وأظهَروا بزُخرُفِهم أنَّها منَ الإسلامِ
[2] يُنظر: ((التصوف المنشأ والمصادر)) لظهير (ص: 6). .
وقد بَيَّنَ العُلماءُ الذينَ أدرَكوا التَّصَوُّفَ حالَه وحالَ أهلِه، ومنهم:
الشَّافِعيُّ الذي أدرَكَ بداياتِ التَّصَوُّفِ، وكان مُنكِرًا على بَعضِ المُتَصَوِّفةِ. وممَّا قاله: (لو أنَّ رَجُلًا تَصَوَّف أوَّلَ النَّهارِ لا يَأتي الظُّهرُ حتَّى يَصيرَ أحمَقَ)
[3] يُنظر: ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (2/ 207). .
وقال أيضًا: (ما لزِمَ أحَدٌ الصُّوفيِّينَ أربَعينَ يَومًا فعادَ عَقلُه أبَدًا)
[4] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 371). .
وقال أيضًا عِندَما سافرَ إلى مِصرَ: (خَلَّفتُ في العِراقِ شَيئًا يُسَمَّى "التَّغبيرَ"
[5] قال الأزهَريُّ: وقد سَمَّوا ما يُطَرِّبونَ فيه منَ الشِّعرِ في ذِكرِ اللهِ تَغبيرًا، كأنَّهم إذا تَناشَدوها بالألحانِ طرَّبوا فرَقَصوا وأرهَجوا، فسُمُّوا مُغَبِّرةً لهذا المَعنى. وقال الزَّجَّاجُ: سُمُّوا مُغَبِّرينَ لتزهيدِهم النَّاسَ في الفانيةِ، وهي الدُّنيا، وتَرغيبِهم في الآخِرةِ الباقيةِ. يُنظر: ((اللسان)) لابن منظور (6/ 107). وضَعَته الزَّنادِقةُ، يَشتَغِلونَ به عنِ القُرآنِ)
[6] يُنظر: ((مناقب الشافعي) للبيهقي (1/ 283). . يَعني الغِناءَ والرَّقصَ الذي ابتَدَعَه الصُّوفيَّةُ في القَرنِ الثَّاني، وما زال مَسلَكَهم إلى اليَومِ.
وقال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ عِندَما بَدَأ الحارِثُ المُحاسِبيُّ بالتَّكَلُّمِ في الخَطَراتِ ونَحوِها: (ما تَكَلَّمَ فيها الصَّحابةُ ولا التَّابعونَ)
[7] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 113). .
وحَذَّرَ من مُجالسةِ الحارِث المُحاسِبيِّ، وقال لصاحِبٍ له: (لا أرى لك أن تُجالسَهم)
[8] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 150). .
وقال أيضًا: (حَذروا منَ الحارِثِ أشَدَّ التَّحذيرِ! الحارِثُ أصلُ البَلبَلةِ -يَعني في حَوادِثِ كَلامِ جَهمٍ- ذاكَ جالسَه فُلانٌ وفُلانٌ وأخرَجَهم إلى رَأيِ جَهمٍ، ما زال مَأوى أصحابِ الكَلامِ. حارِثٌ بمَنزِلةِ الأسَدِ المُرابِطِ، انظُرْ أيَّ يَومٍ يَثِبُ على النَّاسِ!)
[9] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 63)، ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 166، 167). .
وقال أبو زُرعةَ عن كُتُبِ الحارِثِ المُحاسِبيِّ، وقد سَأله سائِلٌ عنها: (إيَّاكَ وهذه الكُتُبَ، هذه كُتُبُ بِدَعٍ وضَلالاتٍ. عليك بالأثَرِ؛ فإنَّك تَجِدُ فيه ما يُغنيك عن هذه الكُتُبِ. قيل له: في هذه الكُتُبِ عِبرةٌ. فقال: بلغَكُم أنَّ مالِكَ بنَ أنَسٍ، وسُفيانَ الثَّوريَّ، والأوزاعيَّ، والأئِمَّة المُتَقدِّمينَ صَنَّفوا هذه الكُتُبَ في الخَطَراتِ والوساوِسِ وهذه الأشياءِ؟!)
[10] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 167). .
وكَتَبَ ابنُ الجَوزيِّ كِتابًا سَمَّاه (تَلبيسُ إبليسَ) خَصَّ الصُّوفيَّةَ بمُعظَمِ فُصولِه، وبَيَّنَ تَلبيسَ الشَّيطانِ عليهم، وكان ممَّا قاله فيه: (وكان أصلُ تَلبيسِه عليهم أنَّه صَدَّهم عنِ العِلمِ، وأراهم أنَّ المَقصودَ العَمَلُ؛ فلمَّا أطفأ مِصباحَ العِلمِ عِندَهم تَخَبَّطوا في الظُّلُماتِ؛ فمنهم مَن أراه أنَّ المَقصودَ من ذلك تَركُ الدُّنيا في الجُملةِ، فرَفضوا ما يُصلِحُ أبدانَهم. وشَبَّهوا المالَ بالعَقارِبِ، ونَسُوا أنَّه خُلِقَ للمَصالحِ، وبالغوا في الحَملِ على النُّفوسِ حتَّى إنَّه كان فيهم مَن لا يَضطَجِعُ! وهؤلاء كانت مَقاصِدُهم حَسَنةً، غَيرَ أنَّهم على غَيرِ الجادَّةِ، وفيهم مَن كان لقِلَّةِ عِلمِه يَعمَلُ بما يَقَعُ إليه منَ الأحاديثِ المَوضوعةِ وهو لا يَدري، ثمَّ جاءَ أقوامٌ يَتَكَلَّمونَ لهم في الجوعِ والفقرِ والوساوِسِ والخَطَراتِ، وصَنَّفوا في ذلك، مِثلُ الحارِثِ المُحاسِبيِّ. وجاءَ آخَرونَ فهَذَّبوا مَذهَبَ التَّصَوُّفِ وأفرَدوه بصِفاتٍ مَيَّزوه بها منَ الاختِصاصِ بالمَرقعةِ والسَّماعِ والوَجدِ والرَّقصِ والتَّصفيقِ، وتَمَيَّزوا بزيادةِ النَّظافةِ والطَّهارةِ، ثمَّ ما زال الأمرُ يَنمي والأشياخُ يَضَعونَ لهم أوضاعًا ويَتَكَلَّمونَ بواقِعاتِهم، ويَتَّفِقُ بُعدُهم عنِ العُلماءِ، لا، بل رُؤيَتُهم ما هم فيه أوفى العُلومِ حتَّى سَمَّوه العِلمَ الباطِنَ، وجَعَلوا عِلمَ الشَّريعةِ العِلمَ الظَّاهِرَ.
ومنهم مَن خَرَجَ به الجوعُ إلى الخَيالاتِ الفاسِدةِ، فادَّعى عِشقَ الحَقِّ والهَيمانَ فيه... ثمَّ تَشَعَّبَت بأقوامٍ منهمُ الطُّرُقُ، ففسَدَت عَقائِدُهم، فمن هؤلاء مَن قال بالحُلولِ، ومنهم مَن قال بالاتِّحادِ. وما زال إبليسُ يخبِطُهم بفُنونِ البِدَعِ حتَّى جَعَلوا لأنفُسِهم سُنَنًا، وجاءَ أبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميُّ فصَنَّف لهم كِتابَ السُّنَنِ، وجَمع لهم حَقائِقَ التَّفسيرِ، فذَكَرَ عنهم فيه العَجَبَ في تَفسيرِهمُ القُرآنَ بما يَقَعُ لهم من غَيرِ إسنادِ ذلك إلى أصلٍ من أصولِ العِلمِ. وإنَّما حَمَلوه على مَذاهِبِهم. والعَجَبُ من ورَعِهم في الطَّعامِ، وانبساطِهم في القُرآنِ! وقد أخبَرَنا أبو مَنصورٍ عبدُ الرَّحمنِ القَزَّازُ، قال: أخبَرنا أبو بكرٍ الخَطيبُ قال: قال لي مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ القَطَّانُ النَّيسابوريُّ، قال: كان أبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميُّ غَيرَ ثِقةٍ، ولم يَكُنْ سَمِع منَ الأصَمِّ إلَّا شَيئًا يَسيرًا، فلمَّا ماتَ الحاكِمُ أبو عَبدِ اللهِ بنُ البَيِّعِ حَدَّثَ عنِ الأصَمِّ بتاريخِ يَحيى بنِ مَعينٍ، وبأشياءَ كَثيرةٍ سِواه. وكان يَضَعُ للصُّوفيَّةِ الأحاديثَ.
وصَنَّف لهم أبو نَصرٍ السَّرَّاجُ كِتابًا سَمَّاه "لُمَع الصُّوفيَّة" ذَكَرَ فيه منَ الاعتِقادِ القَبيحِ والكَلامِ المَرذولِ... وصَنَّف لهم أبو طالبٍ المَكِّيُّ "قوت القُلوبِ"، فذَكَر فيه الأحاديثَ الباطِلةَ وما لا يُستَنَدُ فيه إلى أصلٍ من صَلَواتِ الأيَّامِ واللَّيالي، وغَيرَ ذلك منَ المَوضوعِ، وذَكَرَ فيه الاعتِقادَ الفاسِدَ...
وجاءَ أبو نُعَيمٍ الأصبَهانيُّ، فصَنَّف لهم كِتابَ "الحِليةِ". وذَكَرَ في حُدودِ التَّصَوُّفِ أشياءَ مُنكَرةً قَبيحةً...
وجاءَ أبو حامِدٍ الغَزاليُّ، فصَنَّف لهم كِتابَ "الإحياءِ" على طَريقةِ القَومِ، ومَلأه بالأحاديثِ الباطِلةِ، وهو لا يَعلمُ بُطلانَها...
وكان السَّبَبُ في تَصنيفِ هؤلاء مِثلَ هذه الأشياءِ قِلَّةَ عِلمِهم بالسُّنَنِ والإسلامِ والآثارِ، وإقبالَهم على ما استَحسَنوه من طَريقةِ القَومِ، وإنَّما استَحسَنوها لأنَّه قد ثَبَتَ في النُّفوسِ مَدحُ الزُّهدِ، وما رَأوا حالةً أحسَنَ من حالةِ هؤلاء القَومِ في الصُّورةِ، ولا كَلامًا أرَقَّ من كَلامِهم)
[11] ((تلبيس إبليس)) (ص: 163-167). .
وكان ابنُ تيميَّةَ من أكثَرِ العُلماءِ تَحَدُّثًا عنِ التَّصَوُّفِ، فتَعقَّب أقوالَهم في كُتُبِه وفتاويه، ومن ذلك: كِتابُه (الفُرقانُ بَينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيطانِ)؛ فقد فصَّل فيه القَولَ في الوِلايةِ الرَّحمانيَّةِ وبَيانِ صِفاتِها منَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وأقوالِ السَّلَفِ الصَّالحِ، وفرَّقَ بَينَ ذلك والوِلايةِ الشَّيطانيَّةِ التي تَعتَمِدُ على الشَّعوذةِ والدَّجَلِ والكَذِبِ، وأكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، والسَّماعِ والغِناءِ والرَّقصِ والبدَعِ المُنكَرةِ، والتَّظاهُرِ بالصَّلاحِ والتَّقوى، وتَكَلَّمَ في بَيانِ الكَرامةِ الرَّحمانيَّةِ التي هي حَقٌّ لوليِّ اللهِ تعالى، والكَرامةِ الشَّيطانيَّةِ التي تَجري أحيانًا على أيدي هؤلاء، كتَظاهُرِهم بالدُّخولِ في النِّيرانِ، وزَعمِهم أنَّها لا تَضُرُّهم، وحَملِهمُ الحَيَّاتِ والثَّعابينَ، وضَربِهم أنفُسَهم بالسُّيوفِ والسِّهامِ، وغَيرِ ذلك من أنواعِ المخاريقِ التي يَزعُمونَ أنَّها من كَراماتِهم، وقد قامَ ابنُ تيميَّةَ نَفسُه بتَحَدِّي هؤلاء الصُّوفيَّةِ منَ الرِّفاعيَّةِ البطائِحيَّةِ الذينَ يَزعُمونَ هذه الكَراماتِ، وأنَّه يَدخُلُ مَعَهمُ النَّارَ التي يَزعُمونَ دُخولَها، وأنَّها تُحرِقُهم -إن شاءَ اللهُ- ولا تُحرِقُه، شَريطةَ أن يَغسِلوا أنفُسَهم أوَّلًا بالخَلِّ لإزالةِ دُهنِ الضَّفادِعِ الذي يَدهُنونَ به أنفُسَهم حتَّى لا تُؤَثِّرَ فيهمُ النَّارُ. فلمَّا كَشَف حِيَلَهم وتَحَدَّاهم -وكان ذلك بمَحضَرِ السُّلطانِ- تَراجَعوا عن ذلك، وظَهَرَ كَذِبُهم ودَجَلُهم
[12] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 445-476). .