المَبحَثُ الأوَّلُ: أوائِلُ المُتَصَوِّفةِ وعَلاقَتُهم بالتَّشَيُّعِ
يَظهَرُ لمَن تَتَبَّعَ أحداثَ التَّاريخِ واطَّلعَ على العَقائِدِ والمَذاهِبِ -وخُصوصًا مَنشَأَها ومَولِدَها- أنَّ كُلَّ فِتنةٍ ظَهَرَت في تاريخِ الإسلامِ، وكُلَّ طائِفةٍ بَرَزَت منَ العَدَمِ إلى الوُجودِ، كان رَأسُها أو مُنشِئُها أحَدَ الشِّيعةِ، وكَذلك كان أمرُ الصُّوفيَّةِ.
فإنَّ منَ الذينَ اشتَهَروا في التَّاريخِ الإسلاميِّ باسمِ الصُّوفيِّ ولقَبِه بادِئَ ذي بَدءٍ كان اثنانِ منهم منَ الشِّيعةِ أو مُتَّهَمينِ بالتَّشَيُّعِ، ومن مَوطِنِ الشِّيعةِ آنَذاكَ، وهو الكوفةُ، وهما:
1- جابِرُ بنُ حَيَّانَ: وقد ذَكرَه المُستَشرِقُ ماسينيون بقَولِه: (ورَدَ لفظُ الصُّوفيِّ لقَبًا مُفرَدًا لأوَّلِ مَرَّةٍ في التَّاريخِ في النِّصفِ الثَّاني منَ القَرنِ الثَّامنِ الميلاديِّ؛ إذ نُعِتَ به جابرُ بنُ حَيَّانَ، وهو صاحِبُ كيمياءَ شيعيٌّ من أهلِ الكوفةِ، له في الزُّهدِ مَذهَبٌ خاصٌّ)
[111] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية- أردو)) (6/ 419)، ((التصوف لماسينيون ترجمة عربية)) (ص: 26). .
وذَكرَه نيكِلسون بقَولِه: (جابرُ بنُ حَيَّانَ الكيميائيُّ المَعروفُ كان يُدعى جابِر الصُّوفيَّ، وأنَّه تَقَلَّدَ كما تقلَّد ذو النُّونِ المِصريُّ عِلمَ الباطِنِ الذي يُطلِقُ عليه القِفطيُّ مَذهَبَ المُتَصَوِّفينَ من أهلِ الإسلامِ)
[112] يُنظر: كتاب في ((التصوف الإسلامي وتاريخه)) ترجمة العفيفي (ص: 11). .
وذَكَرَ بَعضُ المُستَشرِقينَ أنَّ (جابِرَ بنَ حَيَّانَ كان منَ الشِّيعةِ الغُلاةِ، ولعَلَّه كان منَ القَرامِطةِ أوِ الإسماعيليَّةِ، وكان يُرَجِّحُ -مِثلَ النُّصَيريَّةِ- سَلمانَ على مُحَمَّدٍ، كما كان يَعتَقِدُ مِثلَ الغُلاةِ والنُّصَيريَّةِ عَقيدةَ تَناسُخِ الأرواحِ)
[113] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية- أردو)) (7/ 6). .
وهذان المُستَشرِقانِ يَنقُلانِ عن جابِرِ بنِ حَيَّانَ نَفسِه أنَّه أخَذَ جَميعَ عُلومِه عن جَعفرٍ الصَّادِقِ مَعدِنِ الحِكمةِ، وأنَّه ليس إلَّا النَّاقِلَ المَحضَ والمُرَتبَ
[114] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية- أردو)) (7 /6). . وبمِثلِ ذلك قال هولمياردُ الإنجِليزيُّ الذي نَشَرَ عَدَدًا من كُتُبِ جابِرِ بنِ حَيَّانَ
[115] يُنظر: مقدمة كتاب ((الرحمة المنشور)). .
وأمَّا الشِّيعةُ فيَعُدُّونَه من أعيانِهم؛ فقد كَتَبَ مُحسِن الأمينُ في تَرجَمَتِه أكثَرَ من ثَلاثينَ صَفحةً في كِتابِه (أعيان الشِّيعة) فقال: (أبو عَبدِ اللَّهِ، ويُقالُ: أبو موسى جابِرُ بنُ حَيَّانَ بنِ عَبدِ اللَّهِ الطَّرطوسيُّ الكوفيُّ المَعروفُ بالصُّوفيِّ... كان حَكيمًا رياضيًّا فيلسوفًا عالِمًا بالنُّجومِ طَبيبًا منطقيًّا رصديًّا مُؤَلِّفًا مُكثِرًا في جَميعِ هذه العُلومِ وغَيرِها: كالزُّهدِ والمَواعِظِ، من أصحابِ الإمامِ جَعفرٍ الصَّادِقِ عليه السَّلامُ، وأحَدُ أبوابِه، ومن كِبارِ الشِّيعةِ، وما يَأتي عِندَ تَعدادِ مُؤَلَّفاتِه يَدُلُّ على أنَّه كان من عَجائِبِ الدُّنيا ونَوادِرِ الدَّهرِ، وإنَّ عالِمًا يُؤَلِّفُ ما يَزيدُ على 3900 كِتابٍ في عُلومٍ جُلُّها عَقليَّةٌ وفلسَفيَّةٌ لهو حَقًّا من عَجائِبِ الكَونِ، فبَينا هو فيلسوفٌ حَكيمٌ ومُؤَلِّفٌ مُكثِرٌ في الحِيَلِ والنَّرنجيَّاتِ والعَزائِمِ ومُؤَلِّفٌ في الصَّنائِعِ وآلاتِ الحَربِ، إذا هو زاهدٌ واعِظٌ مُؤَلِّفٌ كُتُبًا في الزُّهدِ والمَواعِظِ)
[116] ((أعيان الشيعة)) (15/ 87، 88). .
وقال أيضًا: (يُستَفادُ ممَّا سَلف أمورٌ، وهي: تَشَيُّعُه، وعِلمُه بصِناعةِ الكيمياءِ، وتَصَوُّفُه، وفلسَفتُه، وتَلمَذَتُه على الصَّادِقِ عليه السَّلامُ، واشتِهارُه عِندَ أكابرِ العُلماءِ، واشتِهارُ كُتُبِه بَينَهمُ اشتِهارًا لا مَزيدَ عليه)
[117] ((أعيان الشيعة)) (15/ 102). .
وجابِرُ بنُ حَيَّانَ كان -كما قال القِفطيُّ-: (مُشرِفًا على كَثيرٍ من عُلومِ الفلسَفةِ ومُتَقَلِّدًا للعِلمِ المَعروفِ بعِلمِ الباطِنِ، وهو مَذهَبُ المُتَصَوِّفينَ من أهلِ الإسلامِ، كالحارِثِ المُحاسِبيِّ، وسَهلِ بنِ عَبدِ اللَّهِ التُّستَريِّ ونُظَرائِهم)
[118] ((أخبار الحكماء)) للقفطي (ص: 111). .
و(إنَّه ادَّعى مَذهَبًا خاصَّا في الزُّهدِ)
[119] ((تاريخ العرب)) للهتي (2/ 22). .
فهذا هو أوَّلُ الثَّلاثةِ الذينَ لُقِّبوا بالصُّوفيَّةِ، والذي توُفِّيَ بَينَ 160 إلى 200 هجريَّة على اختِلافٍ في الأقوالِ.
2- عبدُ اللهِ الصُّوفيُّ: ذَكَرَه كُلٌّ منَ المُستَشرِقِ ماسينيون والباحِثِ الإيرانيِّ الشِّيعيِّ الدُّكتورِ قاسِم غَني، والشِّيعيِّ العِراقيِّ الدُّكتور مُصطَفى الشِّيبيِّ، وغَيرِهم، شاهدينَ بأنَّه كان شيعيًّا مُغاليًا.
فيَقولُ ماسينيون: (أمَّا صيغةُ الجَمعِ "الصُّوفيَّةِ" التي ظَهَرَت عامَ 199ه "814م" في خَبَرِ فِتنةٍ قامَت بالإسكَندَريَّةِ، فكانت تَدُلُّ -قُرابةَ ذلك العَهدِ فيما يَراه المُحاسِبيُّ والجاحِظُ- على مَذهَبٍ من مَذاهِبِ التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ يَكونُ شيعيًّا نَشَأ في الكوفةِ، وكان عَبْدَك الصُّوفيُّ آخِرَ أئِمَّتِه، وهو منَ القائِلينَ بأنَّ الإمامةَ بالتَّعيينِ، وكان لا يَأكُلُ اللَّحمَ، وتوفِّيَ ببَغدادَ حَوالَي عامَ 210ه "825م". وإذَن فكَلِمةُ صوفيٍّ كانت أوَّلَ أمرِها مَقصورةً على الكوفةِ)
[120] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية أردو)) (6/ 419). ويُنظر: ((التصوف)) لماسينيون ترجمة (ص: 27). .
وكَتَبَ قاسِم غَني عنه: (كان رَجُلًا مُعتَزِلًا النَّاسَ، زاهدًا، وكان أوَّلَ مَن لُقِّبَ بلقَبِ الصُّوفيِّ... وهذا اللَّفظُ كان يُطلَقُ في تلك الأيَّامِ على بَعضِ زُهَّادِ الشِّيعةِ منَ الكوفيِّينَ، وقد أُطلقَت هذه الكَلِمةُ أيضًا في سَنةِ 199ه على بَعضِ النَّاسِ مِثلُ ثوَّارِ الإسكَندَريَّةِ، ولأنَّ عَبدَك كان لا يَأكُلُ اللَّحمَ عَدَّه بَعضُ المُعاصِرينَ منَ الزَّنادِقةِ. وكَذلك يَقولُ ماسينيون: لم يَكُنِ السَّالكونَ في القُرونِ الأولى يُعرَفونَ باسمِ الصُّوفيَّةِ، وقد عُرِف الصُّوفيُّ في القَرنِ الثَّالثِ، وأوَّلُ مَنِ اشتَهَرَ في بَغدادَ بهذا الاسمِ هو عَبدَك الصُّوفيُّ الذي كان من كِبارِ شُيوخِهم وأقطابِهم، وهو سابقٌ على بِشرِ بنِ الحارِثِ الحافي المُتَوفَّى سَنةَ مِائَتَينِ وسَبعٍ وعِشرينَ، وأيضًا قَبلَ السَّريِّ السَّقَطيِّ المُتَوفَّى في سَنةِ مِائَتَينِ وخَمسٍ وعِشرينَ.
وبناءً على ذلك نالت كَلمةُ الصُّوفيِّ شُهرةً في بادِئِ الأمرِ في الكوفةِ، ثمَّ أصبَحَت أهَمِّيَّتُها كَبيرةً بَعدَ نِصفِ قَرنٍ في بَغدادَ، وصارَ المَقصودُ من كَلمةِ الصُّوفيَّةِ جَماعةَ عُرَفاءِ العِراقِ بإزاءِ جَماعةِ الملامتيَّةِ الذينَ كانوا من عُرَفاءِ خُراسانَ، وتَجاوزَ الإطلاقُ حَدَّه مُنذُ القَرنِ الرَّابعِ وما بَعدَه. وأصبَحَ المَقصودُ من إطلاقِ كَلمةِ الصُّوفيَّةِ جَميعَ عَرَفاءِ المُسلمينَ، وارتِداءَ الصُّوفِ -أي الجُبَّةِ البَيضاءِ الصُّوفيَّةِ- الذي كان حَوالَي أواخِرِ القَرنِ الأوَّلِ من عادةِ الخَوارِج والمَسيحيِّينَ)
[121] ((تاريخ التصوف في الإسلام)) (ص: 64، 65). .
وقال الشِّيبيُّ: (وهَكَذا يَبدو عَبدَك جامِعًا لاتِّجاهاتٍ عَديدةٍ مُختَلفةٍ نابعةٍ منَ التَّشَيُّعِ، المُمتَزِجةِ بالزُّهدِ المُتَأثِّرِ بظُروفِ الكوفةِ التي انتَقَل منها كَثيرٌ من سُكَّانِها إلى بَغدادَ، بَعدَ أن صارَت عاصِمةً للدَّولةِ الجَديدةِ، والمُهمُّ في شَأنِ عَبدَك أنَّه أوَّلُ كوفيٍّ يُطلَقُ عليه اسمُ صوفيٍّ بَعدَ انتِقالِه إلى بَغدادَ... وقد رَأينا أنَّ لُبسَ الصُّوفِ قد نَبَعَ من بيئةِ الكوفةِ التي عُرِفت بتَمَسُّكِها بالتَّشَيُّعِ ومُعارَضَتِها وحَربِها بالسَّيفِ أو بالقَولِ أو بالقَلبِ لمَن نَكَّل بالأئِمَّةِ العَلَويِّينَ، وذلك إذا صَحَّ يَقطَعُ بأنَّ التَّصَوُّفَ في أصولِه الأولى كان مُتَّصِلًا بالتَّشَيُّعِ)
[122] ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (1/ 293). .