المبحَثُ الثَّالِثُ: واقِعُ القُبوريَّةِ في العالَمِ الإسلاميِّ
ثَمَّةَ شَبَكةٌ واسِعةٌ مِنَ القُبورِ والأضرِحةِ التي انتَشَرَت وعَمَّت مُعظَمَ أنحاءِ العالَمِ الإسلاميِّ. بل إنَّ بَعضَ الباحِثينَ يُقَدِّرُ عَدَدَ الأضرِحةِ في القُطرِ الذي يَعيشُ فيه بما لا يَقِلُّ عَن عَدَدِ المُدُنِ والقُرى في هذا القُطرِ؛ حَيثُ قال: (وأضرِحةُ الأولياءِ التي تَنتَشِرُ في مُدُنِ مِصرَ ونَحوِ سِتَّةِ آلافِ قَريةٍ هيَ مَراكِزُ لإقامةِ المَوالِدِ للمُريدينَ والمُحِبِّينَ، ويُمكِنُنا القَولُ: إنَّه مِنَ الصَّعبِ أن نَجِدَ يَومًا على مَدارِ السَّنةِ ليس فيه احتِفالٌ بمَولِدِ وَليٍّ في مَكانٍ ما بمِصرَ!)
[347] ((موالد مصر)) لعلي (ص: 7). .
بَل أصبَحَتِ القُرى التي تَخلو مِنَ الأضرِحةِ مَثارَ تَنَدُّرِ وتَهَكُّمِ سَدَنةِ الأضرِحةِ؛ فقد ذَكَرَ الدُّكتورُ زَكَريَّا سُلَيمان بَيُّومي أنَّ القُرى التي تَخلو مِن أضرِحةِ الأولياءِ أطلَقَ المَشايِخُ أمثِلةً شَعبيَّةً على بُخلِ هذه القُرى وخُلوِّها مِنَ البَرَكةِ ما زالَت ساريةً بَينَ النَّاسِ
[348] يُنظر: ((الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة)) (ص: 126). !
وذكر صاحِبُ عَلي باشا مُبارَك أنَّ المَوجودَ في زَمَنِه في القاهرةِ وحدَها مِئَتانِ وأربَعةٌ وتِسعونَ ضَريحًا
[349] يُنظر: ((الخطط التوفيقية)) (1/244). .
وأمَّا خارِجَ القاهرةِ فيوجَدُ على سَبيلِ المِثالِ في مَركَزِ فُوَّةَ 81 ضَريحًا، وفي مَركَزِ طلخا 54، وفي مَركَزِ دُسوق 84، وفي مَركَزِ تَلا 133، وهيَ الأضرِحةُ التَّابعةُ للمَجلِسِ الصُّوفيِّ الأعلى، بخِلافِ الأضرِحةِ التَّابعةِ للأوقافِ، أو غَيرِ المُقَيَّدةِ بالمَجلِسِ الصُّوفيِّ، كما يوجَدُ في أسوانَ أحَدُ المَشاهدِ يُسَمَّى مَشهَدَ (السَّبعةِ وسَبعينَ وليًّا).
ومِنَ الأضرِحةِ الكُبرى في القاهرةِ: ضَريحُ الحُسَينِ، وضَريحُ السَّيِّدةِ زَينَبِ، وضَريحُ السَّيِّدةِ عائِشةَ، وضَريحُ السَّيِّدةِ سَكينةَ، وضَريحُ السَّيِّدةِ نَفيسةَ، وضَريحُ الإمامِ الشَّافِعيِّ، وضَريحُ اللَّيثِ بنِ سَعدٍ، وخارِجَ القاهرةِ تَشتَهرُ أضرِحةُ: البَدَويِّ بطَنطا، وإبراهيمَ الدُّسوقيِّ بدُسوق، وأبي العَبَّاسِ المُرسي بالإسكَندَريَّةِ، وأبي الدَّرداءِ بها أيضًا، وأبي الحَسَنِ الشَّاذِليِّ بقَريةِ حميثرةَ بمُحافظةِ البَحرِ الأحمَرَ، وأحمَد رِضوان بقَريةِ البَغداديِّ بالقُربِ مِنَ الأقصَرِ، وأبي الحَجَّاجِ الأقصُريِّ بالأقصُرِ أيضًا، وعَبدِ الرَّحيمِ القِنائيِّ بقِنا.
وهكذا الحالُ في السُّودانِ؛ فالقِبابُ والأضرِحةُ فيها على قِسمَينِ: قِبابٌ تُبنى في مَقابرِ المُسلمينَ العامَّةِ؛ حَيثُ تَبدو القُبَّةُ شاهِقةً وسَطَ القُبورِ، وقِبابٌ تُبنى في المَساجِدِ، أو تُبنى عليها المَساجِدُ، وقد تَكونُ في قِبلةِ المَسجِدِ، أو في الخَلفِ، أو في أحَدِ جَوانِبِه.
ومِن أشهَرِ القِبابِ والأضرِحةِ في السُّودانِ: قُبَّةُ الشَّيخِ مُحَمَّد عُثمان عَبدُه البُرهانيِّ "شَيخِ الطَّريقةِ البُرهانيَّةِ" بالخرطومِ، السُّوقِ الشَّعبيِّ.
وقُبَّةُ الشَّيخِ قَريب اللهِ، بأُمِّ دِرمانَ، ودنوباوي. وقُبَّةُ الشَّيخِ دَفع اللهِ الصَّائِمِ ديمة، بأُمِّ دِرمانَ أمبدة. وقُبَّةُ الشَّيخِ حَسَن ود حسُّونة، بالخرطومِ بَحري. وقُبَّةُ الشَّيخِ دَفع اللهِ الفُرقان، بأُمِّ دِرمانَ، جَنوبَ السُّوقِ. وقُبَّةُ الشَّيخِ أبي زَيدٍ، بأُمِّ دِرمانَ، سوقِ ليبيا. وقُبَّةُ الشَّيخِ حَمَد النِّيل، بأُمّ دِرمانَ. وقُبَّةُ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللَّهِ كَريم الدِّينِ (شَيخِ الطَّريقةِ المُحَمَّديَّةِ الأحمَديَّةِ الإدريسيَّةِ)، وقُبَّةُ الشَّيخِ إبراهيمَ ود بلال، بالقَطينةِ، وقُبَّةُ الشَّيخِ الطَّيِّبِ ود السَّايحِ، بأبي شنيبٍ، قُربَ الحداحيدِ، وقُبَّةُ الشَّيخِ حَمَد ود أمِّ مريوم، بالخرطومِ بَحري، حَيِّ حلَّةِ حَمَد. وقُبَّةُ الشَّيخِ خوجلي أبو الجاز، بالخرطومِ بَحري، حُلَّة خوجلي. وقُبَّةُ الشَّيخِ صِدِّيقِ ود بساطي، غَربَ النِّيلِ الأبيَضِ. وقُبَّةُ الشَّيخِ طَه الأبيَضِ البطحانيِّ، بشَمالِ الجَزيرةِ. وقُبَّةُ الشَّيخِ الطَّريفي ود الشَّيخِ يوسُفَ، بأبي حِرازٍ. وقُبَّةُ الشَّيخِ عَبدِ الرَّحيمِ ود الشَّيخِ مُحَمَّد يونُسَ، بأبي حرازٍ. وقد لوحِظَ على بَعضِ القِبابِ أنَّها حَظيَت برِعايةِ بَعضِ القادةِ السِّياسيِّينَ، مِثلُ قُبَّةِ الشَّيخِ يوسُف أبو سُترة، التي شُيِّدَت برِعايةِ الرَّئيسِ السُّودانيِّ الأسبَقِ جَعفَر مُحَمَّد نُمَيري، وكَذلك قُبَّةُ الشَّيخِ مَدَني السُّنِّيِّ، بود مَدَني.
أمَّا في إريتريا: فمِن أشهَرِ الأضرِحةِ التي يَرتادُها النَّاسُ ضَريحُ الشَّيخِ بن عَليٍّ بقَريةِ (أم بيرَم) القَريبةِ مِن مَدينةِ مصوع؛ الميناءِ الرَّئيسِ لإريتريا، وضَريحُ هاشِم الميرغَنيِّ وبِنتِه السِّتِّ عُلويَّة بمَدينةِ مصوعٍ، وعَلى كُلٍّ مِن هَذَينِ القَبرَينِ مَبنًى مُستَقِلٌّ على شَكلِ مُكَعَّبٍ ومُغَطًّى بالقُماشِ مِثلَ الكَعبةِ، وفي كُلِّ زاويةٍ مِنه خَشَبةٌ مُستَديرةُ الشَّكلِ يُتَبَرَّكُ بها بَعدَ الانتِهاءِ مِنَ الطَّوافِ بالقَبرِ!
وهناكَ ضَريحُ الشَّيخِ جَمالِ الأنصاريِّ، ولَه وقتٌ مُخَصَّصٌ لزيارَتِه، وإن كانت أهَمِّيَّتُه لَدى النَّاسِ أقَلَّ مِن سابقيه، وضَريحُ جَعفَرٍ، وقد بُنيَ عليه مَسجِدٌ، ويَقومُ المُصَلُّونَ في المَسجِدِ بزيارَتِه بَعدَ كُلِّ صَلاةٍ مَفروضةٍ، وضَريحُ الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ، وهو ضَريحٌ وهميٌّ في قَريةِ (حوطيت) بالقُربِ مِن مَدينةِ جندعَ على ساحِلِ البَحرِ الأحمَرِ. وضَريحُ الشَّيخِ الأمينِ المُقامُ في أحَدِ مَساجِدِ مَدينةِ (أسمَرا) العاصِمةِ، وضَريحُ سَيِّدي هاشِم في مَدينةِ (كرن) التي تَقَعُ على السَّاحِل الجَنوبيِّ مِن إريتريا، وهو يُعتَبَرُ مِن أكبَرَ المَشاهِدِ التي يَقصِدُها النَّاسُ مِن أنحاءٍ عَديدةٍ في البلادِ، بَل ومِنَ الدُّولِ المُجاوِرةِ كالسُّودانِ، وضَريحُ أحمَدَ النَّجاشيِّ في (عدي قرات) التي تَقَعُ على الحُدودِ الإريتريَّةِ الإثيوبيَّةِ، وله يَومٌ مُحَدَّدٌ (مَولِدٌ) يَقصِدُه النَّاسُ فيه مِن أنحاءِ إريتريا وإثيوبيا.
أمَّا في الشَّامِ: فقد أحصى عَبدُ الرَّحمَنِ بك سامي سَنةَ 1890م في دِمَشقَ وحدَها 194 ضَريحًا ومَزارًا، بَينَما عَدَّ نُعمانُ قسطالي المَشهورَ مِنها 44 ضَريحًا، وذَكَر أنَّه مَنسوبٌ للصَّحابةِ أكثَرُ مِن سَبعةٍ وعِشرينَ قَبرًا، لكُلٍّ واحِدٍ مِنها قُبَّةٌ، ويُزارُ ويُتَبَرَّكُ به، وفي إسطنبول كان يوجَدُ 481 جامِعًا لا يَكادُ يَخلو جامِعٌ مِنها مِن ضَريحٍ! أشهَرَها الجامِعُ الذي بُنيَ على القَبرِ المَنسوبِ إلى أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه. وفي الهندِ توجَدُ ضَرائِحُ كَثيرةٌ مَشهورةٌ يَؤُمُّها الآلافُ مِنَ النَّاسِ. وفي بَغدادَ كان يوجَدُ أكثَرُ مِن مِئةٍ وخَمسينَ جامِعًا في أوائِلِ القَرنِ الرَّابعَ عَشَرَ الهِجريِّ، وقَلَّ أن يَخلو جامِعٌ مِنها مِن ضَريحٍ.
وفي الموصِلِ يوجَدُ أكثَرُ مِن سِتَّةٍ وسَبعينَ ضَريحًا مَشهورًا، كُلُّها داخِلَ جَوامِعَ، وهذا كُلُّه بخِلافِ الأضرِحةِ المَوجودةِ في المَساجِدِ، والأضرِحةِ المُفرَدةِ.
وهكذا كان الأمرُ في جَزيرةِ العَرَبِ قَبلَ دَعوةِ مُحَمَّدِ بنِ عَبد الوهَّابِ. وفي مُعظَمِ مَناطِقِ أوزبَكِستانَ كَثيرٌ مِنَ الأضرِحةِ المَنسوبةِ إلى الصَّحابةِ والمَشايِخِ ورِجالِ العِلمِ والأولياءِ، وأصبَحَت هذه القُبورُ مَزاراتٍ يَفِدُ إليها مُريدوها جَماعاتٍ وأفرادًا، ومِن أهَمِّ تلك المَزاراتِ: ضَريحُ قُثَمَ بنِ العَبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنهما في سَمَرقَندَ، وضَريحُ البُخاريِّ في قَريةِ خرتنك.
ولا تَختَلفُ الصُّورةُ كَثيرًا في شَرقِ العالَمِ الإسلاميِّ؛ حَيثُ تَنتَشِرُ الأضرِحةُ و(المَزاراتُ)؛ ففي بَنغَلاديشَ، خاصَّةً في المُدُنِ دكا "العاصِمة" وشيتاغونج وسلهت وخولنا، ولَكِن مِنَ الغَريبِ ارتيادُ النَّاسِ لمَزاراتٍ يوجَدُ بها سَلاحِفُ وتَماسيحُ يَعتَقِدُ فيها بَعضُ الجُهَلاءِ النَّفعَ والضَّرَّ، فيُقدِّمونَ الأكلَ لَها أمَلًا في الحُصولِ على وظيفةٍ أو لتَفريجِ كُربةٍ، وتَحرِصُ بَعضُ النِّساءِ على مَسِّ هذه الحَيَواناتِ أمَلًا في حُدوثِ الحَملِ والرِّزقِ بالذَّرِّيَّةِ! وقد نَتَجَت هذه الاعتِقاداتُ والمُمارَساتُ عَنِ الزَّعمِ بأنَّ هذه الحَيَواناتِ تَحَوَّلَت إلى هذه الصُّورةِ بَعدَ أن كانت مِنَ الأولياءِ الصَّالحينَ! وهناكَ أيضًا مَزاراتٌ تَحتَوي على أشجارٍ يُعتَقَدُ فيها وتُعَلَّقُ على أغصانِها الخُيوطُ والخِرَقُ.
وقَبْرُ هودٍ عليه السَّلامُ في حَضرَمَوتَ يُعتَبَرُ مِن أشهَرِ قُبورِ ومَزاراتِ العالَمِ الإسلاميِّ التي يَحُجُّونَ إلَيها، وقد جَعَلَ الصُّوفيَّةُ له مَناسِكَ زَمانيَّةً ومَكانيَّةً وطُقوسًا، وقد بولغَ في تَقديسِ هذا الضَّريحِ، فتَراهم يَشُدُّونَ الرِّحالَ لزيارَتِه، ويَتَّجِهونَ إليه؛ لقَضاءِ الحاجاتِ، واستِنزالِ البَرَكاتِ، ودَفعِ الكُرُباتِ.