المَبحَثُ الثَّاني: أسبابُ نَشأةِ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ
لا تَختَلِفُ الصُّوفيَّةُ في أسبابِ نَشأتِها عَنِ الفِرَقِ الأخرى، وتَرجِعُ نَشأتُها لعَوامِلَ كَثيرةٍ ومُتَنَوِّعةٍ، يَختَلِفُ الباحِثونَ في تَقسيمِها أو تَعدادِها
[380] يُنظر: ((دراسات في الأهواء والفرق والبدع)) للعقل (ص: 291)، ((دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي)) للألوسي (ص: 80)، ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) للحربي (ص: 22). .
ومَعلومٌ افتِراقُ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ عن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وابتِداعُهم، وضابِطُ الافتِراقِ هو: (الخُروجُ عَنِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في أصلٍ أو أكثَرَ مِن أصولِ الدِّينِ الاعتِقاديَّةِ منها أوِ العَمَليَّةِ أوِ المُتَعَلِّقةِ بالمَصالِحِ العُظمى للأمَّةِ، ومِنه الخُروجُ على أئِمَّةِ المُسلِمينَ وجَماعَتِهم بالسَّيفِ)
[381] ((دراسات في الأهواء والفرق والبدع)) للعقل (ص: 23). .
وكانت مُفارَقةُ الطُّرُقيَّةِ لأئِمَّةِ المُسلِمينَ وجَماعَتِهم في الخُروجِ عَنِ السُّنَّةِ في أصولِ الدِّينِ الاعتِقاديَّةِ منها والعَمَليَّةِ، (والبِدعةُ التي يُعَدُّ بها الرَّجُلُ مِن أهلِ الأهواءِ ما اشتَهَرَ عِندَ أهلِ العِلمِ بالسُّنَّةِ مُخالَفَتُها للكِتابِ والسُّنَّةِ)
[382] ((مجموع الفتاوى)) (35/414). كما قال ابنُ تيميَّةَ.
فمِن أسبابِ نَشأةِ الفِرَقِ عُمومًا والطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ منها: كَثرةُ البِدَعِ وانتِشارُها، والجِدالُ والمِراءُ والخُصومةُ في الدِّينِ، ومُجالَسةُ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ ومُخالَطَتُهم، والجَهلُ، ويَشمَلُ الجَهلَ بمَذهَبِ السَّلَفِ، والجَهلَ باللُّغةِ العَرَبيَّةِ، والجَهلَ بمَقاصِدِ الشَّريعةِ
[383] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/87)، ((درء التعارض)) (8/313-314) كلاهما لابن تيميَّةَ. .
وهناك أسبابٌ أُخرى، مِن أهَمِّها:أوَّلًا: أخذُ الدِّينِ مِن غَيرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وآثارِ السَّلَفِ:فهناك مَصادِرُ أخرى يُعَوِّلونَ عليها في تَلَقِّي العَقائِدِ والعِباداتِ والأحكامِ والآراءِ، مِن أهَمِّها:
1- التَّلَقِّي عن أهلِ الكِتابِ وغَيرِهم:سَواءٌ بقِراءةِ كُتُبِهم، أوِ الأخذِ مُباشَرةً عنهم، خاصَّةً ما يُخالِفُ شَرعَنا، وهذا الخَلَلُ المَنهَجيُّ ظاهرٌ عِندَ الصُّوفيَّةِ، حَتَّى إنَّه لا يُمكِنُ حَصرُ ما نَقَلَه أبو طالِبٍ المَكِّيُّ مَثَلًا -صاحِبُ كِتابِ القُوتِ- عن أهلِ الكِتابِ
[384] يُنظر: ((السالمية منهجها وآراؤها في العقيدة والتصوف)) للسهلي (1/162، 163). ، وغالِبُه يُخالِفُ ما جاءَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما نَقَلوا عن غَيرِ أهلِ الكِتابِ مِنَ الدِّياناتِ الأُخرى!
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما قال: (كَيفَ تَسألونَ أهلَ الكِتابِ عن شَيءٍ، وكِتابكُمُ الذي أُنزِلَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدَثُ، تَقرَؤونه مَحضًا لم يُشَبْ؟ وقَد حَدَّثَكُم أنَّ أهلَ الكِتابِ بَدَّلوا كِتابَ اللهِ وغَيَّروه، وكَتَبوا بأيديهمُ الكِتابَ!)
[385] أخرجه البخاري (7363) .
2- اعتِمادُ الأحلامِ والمَناماتِ والحِكاياتِ والإسرائيليَّاتِ:تَأتي الرُّؤى الصَّادِقةُ مِنَ اللهِ تعالى مُبَشِّراتٍ ومُنذِراتٍ للمُؤمِنينَ، بخِلافِ الأحلامِ التي تأتي مِنَ الشَّياطينِ.
وقد اعتَمَدَ عَدَدٌ مِنَ الصُّوفيَّةِ على الأحلامِ، ومِن اهتِمامِهم بها أنَّهم عَقَدوا لها أبوابًا في مُصَنَّفاتِهم وساقوا تَحتَها جُملةً منها
[386] مثل: القشيري في ((الرسالة في علم التصوف)) قال: (رؤيا القوم) (ص: 364-377). . وكَذا الحِكاياتُ التي لا أصلَ لها.
قال ابنُ تيميَّةَ في بَيانِ مَصادِرِ التَّلَقِّي أنَّها: (الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، وبِإزائِه لقَومٍ آخَرينَ: المَناماتُ والإسرائيليَّاتُ والحِكاياتُ)
[387] ((مجموع الفتاوى)) (19/5). .
وقال الشَّاطِبيُّ: (وأضعَفُ هؤلاء احتِجاجًا قَومٌ استَنَدوا في أخذِ الأعمالِ إلى المَناماتِ، وأقبَلوا وأعرَضوا بسَبَبِها! فيَقولونَ: رَأينا فُلانًا -الرَّجُلَ الصَّالِحَ-، فقال لنا: اترُكوا كَذا واعمَلوا كَذا. ويَتَّفِقُ مِثلُ هذا للمُتَمَرِّسينَ برَسمِ الصُّوفيَّةِ، ورُبَّما قال بَعضُهم: رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّومِ، فقال كَذا، وأمَرَني بكَذا، فيَعمَلُ بها ويَترُكُ بها مُعرِضًا عَنِ الحُدودِ المَوضوعةِ في الشَّريعةِ، وهو خَطَأٌ)
[388] ((الاعتصام)) للشاطبي (1/260). .
3- الاعتِمادُ على الأحاديثِ الضَّعيفةِ والمَوضوعةِ:السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ هي المَصدَرُ الثَّاني مِن مَصادِرِ الدِّينِ؛ ولذا حَرَصَ عُلَماءُ الأمَّةِ وساداتُها على خِدمَتِها، كما حَرَصَ أهلُ الأهواءِ والبِدَعِ على الرُّجوعِ إليها والاستِنادِ إليها، ولِجَهلِ بَعضِ الطَّوائِفِ وعَدَم تَمييزِهم بَينَ الضَّعيفِ والصَّحيحِ استَدَلُّوا بأحاديثَ مَوضوعةٍ وضَعيفةٍ ظنًّا منهم أنَّها صَحيحةٌ أو مَقبولةٌ، ومِن هذه الطَّوائِفِ: الصُّوفيَّةُ. وقد ذَكَرَ أبو طالِبٍ المَكِّيُّ كَثيرًا مِنَ الأحاديثِ المَوضوعةِ؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (أبو طالِبٍ أكثَرُ اعتِصامًا بالكِتابِ والسُّنَّةِ مِن هؤلاء، ولَكِن يَذكُرُ أحاديثَ كَثيرةً ضَعيفةً بل مَوضوعةً مِن جِنسِ أحاديثِ المَسبَّعاتِ التي رَواها عَنِ الخَضِرِ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو كَذِبٌ مَحضٌ... وذَكَروا صَلَواتِ الأيَّامِ واللَّيالي، وكُلُّها كَذِبٌ مَوضوعةٌ)
[389] ((مجموع الفتاوى)) (10/403، 404). ويُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 169). .
ثانيًا: خَوارِقُ ظَنُّوها آياتٍ وهي مِن أحوالِ الشَّياطينِ:وهي مِن جِنسِ ما كانت تَفعَلُه الشَّياطينُ في الجاهليَّةِ لإضلالِ النَّاسِ، كدُخولِها في الأصنامِ وتَكليمِها النَّاسَ، ومِثلُ إخبارِ الشَّياطينِ للكُهَّانِ بأمورٍ غائِبةٍ
[390] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/315). ، وعلى هذا النَّمَطِ عَدَدٌ مِنَ الحِكاياتِ التي يَذكُرُها الصُّوفيَّةُ، مِثلُ رُؤيةِ الخَضِرِ عليه السَّلامُ وغَيرِه. وليس مَعَهم دَليلٌ على ذلك؛ لا مَعقولٌ صَريحٌ ولا مَنقولٌ صَحيحٌ، وإذا تَكَلَّموا بمَنقولٍ فإمَّا أن يَكونَ صَحيحًا لكِنْ لا يَدُلُّ على باطِلِهم، أو يَكونَ مَكذوبًا
[391] يُنظر: ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (2/315، 316). .
ثالثًا: الطَّمَعُ المادِّيُّ في الثَّراءِ والعَيشِ الرَّغيدِ:فبَعضُ مَشايِخِ الطُّرُقِ تُصرَفُ لهم رَواتِبُ مِن عِدَّةِ دُوَلٍ مُتَعاقِبةٍ مُنذُ أيَّامِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وتبقى هذه المُخَصَّصاتُ للوَرَثةِ بَعدَ وفاةِ شَيخِ الطَّريقةِ! فمَثَلًا سَدَنةُ قَبرِ البَدَويِّ بمِصرَ يَحصُلونَ على أموالٍ كَثيرةٍ، فليس للحُكومةِ مِن صُندوقِ النُّذورِ سِوى 39 % والباقي للسَّدَنةِ، ومَعَ ذلك يَعمِدُ بَعضُهم للتَّلاعُبِ والتَّزويرِ فيه لأجلِ مَزيدٍ مِنَ الأموالِ
[392] يُنظر: ((الله توحيد وليس وحدة)) للبلتاجي (ص: 302- 308). ، وما يَصِلُ إلى ضَريحِ الجِيلانيِّ في السَّنةِ مِن أموالِ الزَّائِرينَ يَفوقُ ما كانت تُنفِقُه الدَّولةُ العُثمانيَّةُ على الحَرَمَينِ الشَّريفَينِ في السَّنةِ الواحِدةِ أضعافًا مُضاعَفةً
[393] يُنظر: ((الطرق الصوفية)) لبيومي (ص: 129). ! ولِهذا ذَكَرَ الجَبرتيُّ وغَيرُه أنَّ سَدَنةَ الأضرِحةِ مِن أغنى النَّاسِ، حَتَّى إنَّ بَعضَ مَشايِخِ الطُّرُقِ يَتَنافَسونَ في خِدمةِ ضَريحِ لأجلِ ما يَحصُلونَ عليه مِن أموالٍ ضَخمةٍ في بلادٍ فقيرةٍ
[394] يُنظر: ((الطرق الصوفية)) لبيومي (ص: 99-108، 127)، ((تاريخ الطرق الصوفية في مصر)) لفريد دي ديونج (ص: 15-17، 83، 84). .
رابعًا: هَيمَنةُ الصُّوفيَّةِ في بَعضِ البِلادِ الإسلاميَّةِ على الجامِعاتِ والمَراكِزِ العِلميَّةِ:!
فمَثَلًا في مِصرَ في زَمَنِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ لم يَكُنْ يُعَيَّنُ شَيخُ الأزهَرِ إلَّا بموافَقةِ شَيخِ مَشايِخِ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ في مِصرَ، وهذا أدَّى إلى انخِراطِ بَعضِ مَشايِخِ الأزهَرِ في الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ [395] يُنظر: ((الطرق الصوفية)) لبيومي (ص: 83، 84)، ((تاريخ الطرق الصوفية في مصر)) لفريد دي ديونج (ص: 20). ؛ ولذا كان فيما بَعدُ أداةً لنَشرِ الصُّوفيَّةِ.
خامسًا: دَعمُ بَعضِ الحُكوماتِ ودَعمُ الدُّوَلِ الاستِعماريَّةِ لهم:
فمَثَلًا: الدَّولةُ العُثمانيَّةُ سانَدَتِ الطَّريقةَ الخَتميَّةَ، ثُمَّ الاستِعمارُ البِريطانيُّ، وكذلك التِّجانيَّةُ سانَدَها وأغدَقَ عليها الأَعْطياتِ الاستِعمارُ الفَرَنسيُّ، وكانت بريطانيا تَدفَعُ مُخَصَّصاتٍ شَهريَّةً لمُحَمَّد الخَتمِ الميرغَنيِّ مِن شُيوخِ الطَّريقةِ الخَتميَّةِ، وكذلك الميرغَنيُّ الإدريسيُّ في عَسيرٍ [396] يُنظر: ((الطرق الصوفية)) لبيومي (ص: 109). ، ومِنَ الطُّرُقِ التي أنشِئَت في العَصرِ الحاضِر لأجلِ أغراضٍ سياسيَّةٍ: الطَّريقةُ الحامِديَّةُ الشَّاذليَّةُ، والخَليليَّةُ فرعُ البَيوميَّةِ، وكذلك الدُّوياتيَّةُ والحُسَينيَّةُ الشَّاذليَّةُ، ومُؤَسِّسوها أعضاءٌ في الأحزابِ الاشتِراكيَّةِ [397] يُنظر: ((الطرق الصوفية)) لبيومي (ص: 68، 69). ، واعتَمَدَ حِزبُ الوَفدِ في مِصرَ -وهو العَريقُ في العَلمانيَّةِ- على بَعضِ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ لحَشدِ التَّأييدِ الشَّعبيِّ له، فمِن هذه الطُّرُقِ الطَّريقةُ البَغداديَّةُ وشَيخُها سَيِّد عَفيفي البَغداديُّ، والطَّريقةُ العفيفيَّةُ وشَيخُها عَبد العَزيز عَفيفي، وتَوَلَّى مَشيَخةَ العفيفيَّةِ بَعدَ وفاةِ شَيخِها أحَدُ أعضاءِ حِزبِ الوَفدِ!
سادسًا: المَجدُ الشَّخصيُّ لشَيخِ الطَّريقةِ:
مِن ذلك ادِّعاءُ الكَراماتِ والمُبالَغةُ فيها [398] يُنظر: ((التصوف في الإسلام)) لفروخ (ص: 86- 93). ، وادِّعاءُ النَّسَبِ الشَّريفِ؛ فكَثيرٌ مِن شُيوخِ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ لهم نَسَبٌ قُرَشيٌّ هاشِميٌّ! ويَرى الصُّوفيَّةُ أنَّ مِن حَقِّ الشَّيخِ على أتباعِه بناءَ القُبَّةِ على قَبرِه [399] يُنظر: ((الطبقات)) للشعراني (2/125-148)، ((تقديس الأشخاص)) للوح (2/77). .
ومِن أسبابِ نَشأةِ الطُّرُقِ مَزاعِمُهمُ العَظيمةُ بضَمانِ الجَنَّةِ للمُريدِ، وهذا أمرٌ مَشهورٌ عِندَ الصُّوفيَّةِ، كما ذَكَرَه الشَّعْرانيُّ [400] يُنظر: ((الطبقات)) (2/90)، ((تقديس الأشخاص)) للوح (1/345). ، وزَعَمَه التِّجانيُّ [401] يُنظر: ((رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم)) للفوتي (2/47)، بهامش ((جواهر المعاني))، ((الطريقة الختمية)) لجلي (ص: 96). ، والميرغنيُّ شَيخُ الخَتميَّةِ [402] يُنظر: قول الميرغني في ((لؤلؤة الحسن الساطعة)) ضمن ((مجموعة النفحات الربانية)) (ص: 48)، ((الطريقة الختمية)) لجلي (ص: 96). ، وغَيرُهم، ودَعاويهمُ العَريضةُ المُتَضَمِّنةُ أنَّ كُتُبَهم مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو مِنَ اللَّهِ تعالى، وأنَّه أوصى بالطَّريقةِ الفُلانيَّةِ، وكلٌّ يَدَّعي ذلك لنَفسِه، وما يَنسُبونَه لشُيوخِهم مِن أساطيرَ وغَيرِ ذلك.