المَبحَثُ الأوَّلُ: مُؤَسِّسُ الطَّائِفةِ الخَتميَّةِ ونَشأتُها
مُؤَسِّسُ الطَّريقةِ هو مُحَمَّد عُثمان بنُ مُحَمَّد أبو بكر بن عَبدِ اللَّهِ الميرغَنيُّ المَحجوبُ، ويُلقَّبُ (بالخَتمِ) إشارةً إلى أنَّه خاتَمُ الأولياءِ، ومنه اشتُقَّ اسمُ الطَّريقةِ الخَتميَّةِ، كما تُسَمَّى الطَّريقةُ أيضًا (بالميرغنيَّةِ) رَبطًا لها بطَريقةِ جَدِّ المُؤَسِّسِ عَبدِ اللَّهِ المِيرغَنيِّ المَحجوبِ.
تَعودُ طائِفةُ الخَتميَّةِ في أصولِها القَريبةِ إلى مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيِّ (الخَتْم)، والذي يَنحَدِرُ من أسرةٍ منَ الأشرافِ يُقالُ إنَّها هاجَرَت منَ الحِجازِ في أزمانٍ سابقةٍ إلى تُركستانَ ثمَّ إلى الهندِ، وعادَت أخيرًا حَيثُ استَقَرَّ بها المُقامُ في الحِجازِ.
ولِدَ مُحَمَّد عُثمان بمَكَّةَ عامَ 1793م وتوُفِّيَت والدَتُه في اليَومِ السَّابعِ من وِلادَتِه، ورَبَّاه والدُه إلى أن بلغَ العاشِرةَ، وعَهدَ بتَربيَتِه قُبَيلَ وفاتَه إلى عَمِّه مُحَمَّد ياسين.
دَرَسَ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ وتَلقَّى العِلمَ على يَدِ عَدَدٍ من عُلماءِ مَكَّةَ، من بَينِهم عَمُّه مُحَمَّد ياسين، وحَصَّل في وقتٍ مُبكِّرٍ عُلومَ العَرَبيَّةِ والشَّريعةِ الإسلاميَّةِ؛ حَيثُ دَرَسَ الفِقهَ والحَديثَ والتَّفسيرَ واللُّغةَ، وألَّف وصَنَّف في هذه الفُنونِ، وكَتَبَ كِتابَ (تاجُ التَّفاسيرِ)، وبَعضَ الرَّسائِلِ.
غَلبَ عليه الاهتِمامُ بالتَّصَوُّفِ، فدَرس عُلومَ الصُّوفيَّةِ وسَلك طَريقَهم عِبادةً وسُلوكًا، وغَلبَ على مُؤَلَّفاتِه نَثرًا وشِعرًا هذا النَّهجُ الصُّوفيُّ؛ إذ دَفعَه التَّطَلُّعُ إلى مَعرِفةِ أسرارِ التَّصَوُّفِ إلى الوُقوفِ على العَديدِ منَ الطُّرُقِ، فأخَذَ الطَّريقةَ النَّقشَبَنْديَّةَ من عِدَّةِ مَشايِخَ وبأسانيدَ مُتَنَوِّعةٍ، وانخَرَطَ في سِلك الطَّريقةِ القادِريَّةِ، وتَأدَّب بأدَبِ الطَّريقةِ الجُنديَّةِ، كما تَلقَّى الطَّريقةَ الميرغنيَّةَ طَريقةَ جَدِّه عَبدِ اللَّهِ الميرغَنيِّ، والطَّريقَة الشَّاذِليَّةَ على يَدِ أحمَدَ بنِ إدريسَ، حتَّى صارَ من أقطابِها، واستَطاعَ في النِّهايةِ أنَّ يُؤَسِّسَ طَريقةً خاصَّةً به جَمع فيها من كُلِّ هذه الطُّرُقِ واعتَبَرَها خاتِمةَ الطُّرُقِ جَميعِها، وعُرِفت بالطَّريقةِ (الخَتميَّةِ).
ورَغمَ أنَّ مُحَمَّد عُثمان تَلقَّى العِلمَ الصُّوفيَّ وأخَذَ الطَّريقةَ على العَديدِ منَ المَشايِخِ فإنَّه مَدينٌ من بَينِ هؤلاء جَميعًا لأحمَدَ بنِ إدريسَ، الذي أخَذَ منه ولازَمَه كَأخلصِ ما يَكونُ التِّلميذُ لشَيخِه، حتَّى وفاتِه عامَ 1837م، وكان مُحَمَّد عُثمان من ألمَعِ تَلاميذِ أحمَدَ بنِ إدريسَ وأقواهم مَنطِقًا وأكثَرِهم قَبولًا لدى العامَّةِ؛ ولذلك انتَدَبَه شَيخُه إلى السُّودانِ لكَي يُبَشِّرَ بالإسلامِ ويَدعوَ إلى الطَّريقةِ الإدريسيَّةِ الشَّاذِليَّةِ، فأبحَرَ مُحَمَّد عُثمان من مَكَّةَ إلى مَدينةِ سَواكِن في شَرقِ السُّودانِ، ولكِنَّه وجَد الطَّريقَ إلى الدَّاخِلِ عَبرَ الجِبالِ غَيرَ مُؤتَمَنٍ، ومن ثَمَّ رَكِبَ البَحرَ الأحمَرَ إلى بلدةِ قصيرٍ المِصريَّةِ السَّاحِليَّةِ، ودَخَل إلى أسوانَ داعيًا إلى الطَّريقةِ، ولكِنَّ دَعوتَه لم تَجِدْ قَبولًا فدَخل بلادَ النُّوبةِ جَنوبًا حَيثُ صادَف نَجاحًا كَبيرًا، ومنها سارَ إلى مِنطَقةِ المَحسِ ثمَّ دُنقُلا. وفي تلك المَناطِقِ السُّودانيَّةِ وجَدَ منَ النَّاسِ قَبولًا لدَعوتِه وتَرحيبًا بالدُّخولِ في الطَّريقةِ والولاءِ لها.
ورَأى مُحَمَّد عُثمان أن يَتَوغَّلَ برِسالتِه إلى أعماقِ السُّودانِ، فاتَّجَهَ غَربًا إلى شَمالِ كردفانَ وأقامَ فترةً في تلك المَناطِقِ يُبَشِّرُ بالإسلامِ بَينَ القَبائِلِ الوثَنيَّةِ، ويَدعو أهالي كردفانَ إلى طَريقةِ شَيخِه أحمَدَ بنِ إدريسَ. وقد وجَدَ استِجابةً مُحَدَّدةً لدَعوتِه في منطَقةِ بارا، وتَزَوَّجَ من قَبيلةِ الفونجِ الأمَويَّةِ، وأنجَبَ الحَسَنَ الميرغَنيَّ عامَ 1816م، والذي نَشَرَ الطَّريقةَ فيما بَعدُ في السُّودانِ على أوسَعِ نِطاقٍ.
ومن شَمالِ كردفانَ توجَّه مُحَمَّد عُثمان إلى مَدينةِ سنارَ عاصِمةِ دَولةِ الفونجِ، في عامِ 1817م، وقابل حُكَّامَها ودَعا النَّاسَ إلى أخذِ الطَّريقةِ، فلم يَأخُذْها عنه إلَّا القَليلُ، وأرسَل حُكَّامُ سنارَ إلى الفقيهِ إبراهيمَ بنِ بقادي ليُناظِرَ المَذكورَ ويَختَبرَه، فمَرِضَ حالَ وُصولِه إلى سنارَ وتوفِّيَ فيها قَبل أن يَجتَمِعَ به، ثمَّ خَرَجَ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ من سنارَ وكان عُمرُه إذ ذاكَ 25 سَنةً. ومنها سارَ إلى البَحرِ الأحمَرِ، ومن هناكَ إلى الحِجازِ.
ورَغمَ أنَّ مُحَمَّد عُثمان لم يُصادِفْ نَجاحًا كَبيرًا في دَعوتِه في السُّودانِ باستِثناءِ منطَقةِ شَمالِ السُّودانِ وغَربِه، فإنَّه استَطاعَ أن يُكَوِّنَ له رابطةً بالسُّودانِ وأن يُلقيَ بُذورًا للمُستَقبَلِ ويَضَعَ النَّواةَ لطائِفةِ الخَتميَّةِ في تلك البلادِ.
وفي الحِجازِ استَمَرَّ مُحَمَّد عُثمان في خِدمةِ شَيخِه أحمَدَ بنِ إدريسَ وصَحِبَه إلى مَنفاه في مُحافظةِ (صبيا) من منطَقةِ جيزانَ، ولازَمَه حتَّى وفاتِه في سَنةِ 1253هـ
[1224] يُنظر: مقدمة ((العقد النفيس في نظم جواهر التدريس)) لأحمد بن إدريس (ص: 7). (1837م)، وبَعدَ وفاةِ الشَّيخِ أحمَدَ بنِ إدريسَ تَنافسَ على وِراثةِ الطَّريقةِ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ ومُحَمَّدُ بنُ عليٍّ السَّنوسيُّ، ونَتَجَ عن هذه المُنافَسةِ أن أسَّسَ كُلٌّ منهما طَريقةً خاصَّةً به. واستَطاعَ مُحَمَّد عُثمان أن يَفوزَ بتَأييدِ أشرافِ مَكَّةَ ضِدَّ السَّنوسيِّ، ومِن ثَمَّ أسَّسَ زاويةً لطَريقَتِه في (دار الخَيزُرانِ) بمَكَّةَ مَعَ زَوايا فرَعيَّةٍ في مَكَّةَ وجُدَّةَ والمَدينةِ والطَّائِفِ. ونَتيجةً لهذا التَّحَوُّلِ الذي تَبعَه تَغَيُّرٌ في الأورادِ وأسُسِ السُّلوكِ، أوفدَ مُحَمَّد عُثمان أبناءَه للأقطارِ المُختَلِفةِ للتَّبشيرِ والدَّعوةِ للطَّريقةِ الخَتميَّةِ. فأرسَل أكبَرَ أبنائِه (مُحَمَّد سِرُّ الخَتمِ) إلى اليَمَنِ وحَضرَمَوتَ، ثمَّ أوفدَ ابنَه الحَسَن إلى شَرقِ السُّودانِ؛ حَيثُ اكتَسَبَ ثِقةَ قَبائِلِ البجا والبني عامِرٍ والحلنقةِ وغَيرِهم منَ القَبائِل التي سَبَقَ أن زارَها والدُه في رِحلتِه السَّابقةِ إلى السُّودانِ. وفي هذه المَناطِقِ لقيَ الحَسَنُ قَبولًا وكَوَّن أتباعًا، الأمرُ الذي دَفعَه في همَّةٍ ونَشاطٍ إلى مواصَلةِ سَيرِه إلى سنارَ ثمَّ إلى كردفانَ مَوطِنِ خُؤولتِه، ثمَّ طاف شَمالَ السُّودانِ من مُلتَقى النِّيلينِ مُرورًا بمَناطِقِ قَبائِلِ الجَعلِيِّين والرِّباطَابِ والشَّايقِيَّةِ والدَّنَاقلةِ والمحَسِ وبلادِ النُّوبةِ، ورَغمَ أنَّ الحَسَنَ لم يَلقَ نَجاحًا مَلحوظًا في المنطَقةِ الوُسطى منَ السُّودانِ فإنَّ دَعوتَه لقيَت نَجاحًا كَبيرًا في الشَّمالِ والشَّرقِ
[1225] يُنظر: ((موسوعة أهل الذكر بالسودان)) بإشراف طه الباقر (1/ 142- 144)، ((الدعوة في السودان وتأثرها بالدعوة السلفية: دراسة تاريخية وثائقية)) لعمر سالمٍ بابكور ((مجلة جامعة أم القرى)) (العدد: 22)، ((الأعلام)) للزركلي (6/ 262)، ((الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة)) بإشراف الجهني (1/ 291- 293). .