المَطلبُ الثَّاني: قُدرةُ الأنبياءِ والأولياءِ واختياراتُهم
زَعم البَريلَويَّةُ أنَّ الأنبياءَ والصُّلَحاءَ والأولياءَ انتَقَلت إليهم قُدرةُ اللهِ ومُلكُه وتَدبيرُه، ولم يَبقَ عِندَه شَيءٌ! وبهذا المُعتَقَدِ جَعَلوا اللَّهَ مُعَطَّلًا مَعزولًا -عياذًا باللهِ- لأنَّ على النَّاسِ أن يَرجِعوا إليهم ويراجِعوهم، ويَستَغيثوا بهم ويَستَعينوا بهم ويَسألوهم، وكأنَّ اللهَ فوَّضَ إليهم أمورَه فهم مُلَّاكُ الأرضِ ومَن فيها وما فيها، وهم حُكَّامُ السَّماءِ ولهمُ الكَلِمةُ المُطلَقةُ النَّافِذةُ؛ فهمُ الذينَ يَرزُقونَ، ويُعطَونَ ويُمنَعونَ، وهمُ الذينَ يُحيونَ ويُميتونَ، وهمُ الذينَ يُدَبِّرونَ الأمرَ، ومنهمُ النَّصرُ والمَدَدَ، الشِّفاءُ والعَطاءُ!
وقد قال البَريلَويُّ: (إنَّ كُلَّ مَفاتيحِ الكَونِ في يَدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مالِكُ الكُلِّ، وإنَّه النَّائِبُ الأكبَرُ للقادِرِ، وهو الذي يَملِكُ كَلمةَ «كُنْ»)
[1485] ((الاستمداد على أجيال الارتداد)) (ص: 32). . وأمَّا ابنُه فكَتَبَ تَحتَ هذا الكَلامِ تَأييدًا لأبيه نَقلًا عن واحِدٍ مِمَّن كان على منوالِ أبيه وطائِفتِه، وهو: (كُلُّ ما ظَهَرَ في العالمِ فإنَّما يُعطيه سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي بيَدِه المَفاتيحُ، فلا يَخرُجُ منَ الخَزائِنِ الإلهيَّةِ شَيءُ إلَّا على يَدَيه، وإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا رامَ الأمرَ لا يَكونُ خِلافُه، وليس لذلك الأمرِ في الكَونِ صارِفٌ)
[1486] يُنظر: ((الاستمداد على أجيال الارتداد)) للبريلوي (ص: 32- 33). .
وقال البَريلَويُّ أيضًا: (إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المُبَرِئُ منَ السَّقَمِ والآلامِ، والكاشِفُ عنِ الأمَّةِ كُلَّ خَطبٍ، وهو المُحيي، وهو الدَّافِعُ عنِ المُعضِلاتِ، والنَّافِعُ للخَلقِ، والرَّافِعُ للمَراتِبِ، وهو الحافِظُ والنَّاصِرُ، وهو دافِعُ البلاءِ أيضًا، وهو الذي أبرَدَ على الخَليلِ النَّارَ، وهو الذي يَهَبُ ويُعطي، وحُكمُه نافِذٌ وأمرُه جارٍ في الكونَينِ)
[1487] ((الاستمداد على أجيال الارتداد)) (ص: 29- 30). .
وقال أيضًا ناقِلًا عن واحِدٍ من أئِمَّتِه: (هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خِزانةُ السِّرِّ، ومَوضِعُ نُفوذِ الأمرِ، فلا يَنفُذُ أمرٌ إلَّا منه، ولا يُنقَلُ خَيرٌ إلَّا عنه)
[1488] ((الأمن والعلى)) (ص: 105). .
وقال أيضًا:
(منه الرَّجا منه العَطا منه المَدَد
في الدِّينِ والدُّنيا والأُخرى للأبَد)
[1489] ((الفتاوى الرضوية)) (1/577). .
وقال البَريلَويُّ: (إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَليفةُ اللهِ الأعظَمُ، وإنَّه مُتَصَرِّفٌ في الأرضِ والسَّماءِ)
[1490] ((الفتاوى الرضوية)) (6/155). .
ونُقِل عنِ البَريلَويِّ أنَّه قال: (إنَّ رَسولَ اللهِ مالِكُ الأرَضينَ ومالِكُ النَّاسِ ومالِكُ الأمَمِ ومالِكُ الخَلائِقِ، وبيَدِه مَفاتيحُ النَّصرِ والمَدَدِ، وبيَدِه مَفاتيحُ الجَنَّةِ والنَّارِ، وهو الذي يُعِزُّ في الآخِرةِ، ويَكونُ صاحِبَ القُدرةِ والاختيارِ يَومَ القيامةِ، وهو الذي يَكشِفُ الكُروبَ ويَدفعُ البلاءَ، وهو حافِظٌ لأمَّتِه وناصِرٌ لها، وإليه تُرفَعُ الأيدي بالاستِجداءِ)
[1491] يُنظر: ((أنوار رضا)) مقال إعجاز البريلوي (ص: 240). .
وصَحابةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كذلك، كما رَوى البَريلَويُّ رِواياتٍ مَوضوعةً في ذلك؛ منها: (إذا كان يَومُ القيامةِ جَمَع اللهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ ويُؤتى بمِنبَرَينِ من نورٍ، فيُنصَبُ أحَدُهما عن يَمينِ العَرشِ، والآخَرُ عن يَسارِه، ويَعلوهما شَخصانِ، فيُنادي الذي عن يَمينِ العَرشِ: مَعاشِرَ الخَلائِقِ، مَن عَرَفني فقد عَرَفني، ومَن لم يَعرِفْني فأنا رِضوانُ خازِنُ الجَنَّةِ، إنَّ اللهَ أمَرَني أنَّ أُسَلِّمَ مَفاتيحَ الجَنَّةِ إلى مُحَمَّدٍ، وأنَّ مُحَمَّدًا أمَرَني أن أسَلِّمَها إلى أبي بكرٍ وعُمَرَ ليُدخِلا مُحِبِّيهما الجَنَّةَ؛ ألَا فشاهِدوا.
ثمَّ يُنادي الذي عن يَسارِ العَرشِ: مَعاشِرَ الخَلائِقِ! مَن عَرَفني فقد عَرَفني، ومَن لم يَعرِفْني فأنا مالكٌ خازِنُ النَّارِ، إنَّ اللهَ أمَرَني أنَّ أُسلِّمَ مَفاتيحَ النَّارِ إلى مُحَمَّدٍ، ومُحَمَّدٌ أمَرَني أن أسَلِّمَها إلى أبي بكرٍ وعُمَرَ ليُدخِلا مُبغِضيهما النَّارَ؛ ألَا فاشهَدوا)
[1492] يُنظر: ((الأمن والعلى)) (ص: 57). .
وأيضًا روى: (أنَّ رَسولَ اللهِ قال: إنَّ عَليًّا قَسيمُ النَّارِ، يُدخِلُ أولياءَه الجَنَّةَ، وأعداءَه النَّارَ)
[1493] يُنظر: ((الأمن والعلى)) (ص: 57). .
وأمَّا عَبدُ القادِرِ الجيلانيُّ عِندَهم فإنَّه غَوثُ المُغيثينَ وغياثُ المُستَغيثينَ؛ فإنَّ البَريلَويَّ قال فيه: (إنَّ الشَّيخَ عَبدَ القادِرِ مُتَصَرِّفٌ في العالمِ ومَأذونٌ له ومُختارٌ، وهو المُدَبِّرُ لأمورِ العالمِ)
[1494] ((حدائق بخشش)) (ص: 26). . و(يا غَوثي أنتَ المُحيي وأنتَ المُميتُ، وأنَّ النَّبيَّ هو القاسِمُ وأنتَ المُوصِلُ)
[1495] ((حدائق بخشش)) (ص: 125- 126). .
وقال: (إنَّ عَبدَ القادِرِ فرَشَ فِراشَه على العَرشِ، وأنزَل العَرشَ على الفَرشِ)
[1496] ((حدائق بخشش)) (ص: 184). .
وقال: (إنَّ عَبدَ القادِرِ مُغيثٌ لأهلِ الدِّينِ)
[1497] ((حدائق بخشش)) (ص: 179). . و(إنَّ الشَّيخَ الجيلانيَّ هو الغَوثُ الذي حَصَلت له قُدرةُ كَلِمةِ «كُنْ فيَكونُ»)
[1498] ((حدائق بخشش)) (ص: 122). .
ونَقلَ البَريلَويُّ عن أئِمَّتِه في الضَّلالِ: (إنَّ الشَّيخَ عَبدَ القادِرِ كان يَمشي في الهَواءِ على رؤوسِ الأشهادِ في مَجلسِه، ويَقولُ: ما تَطلُعُ الشَّمسُ حتَّى تُسَلِّمَ علَيَّ)
[1499] يُنظر: ((الأمن والعلى)) (ص: 109). .
ويَكذِبونَ عليه أنَّه قال: (إنَّ أزِمَّةَ أمرِ أهلِ الزَّمانِ على قَلبي، وهو مُتَصَرِّفٌ في عَطائِهم ومَنعِهم)
[1500] يُنظر: ((خالص الاعتقاد)) (ص: 49). .
وقال آخَرُ: (إنَّ الشَّيخَ الجيلانيَّ هو غَوثُ الأغواثِ، وإنَّ له حَقَّ التَّثبيتِ في اللَّوحِ المَحفوظِ، وإنَّه يَملِكُ أن يَجعَلَ المَرأةَ رَجُلًا)
[1501] يُنظر: ((باغ فردوس)) لرضوي البريلوي (ص: 26). .
وأيضًا أنَّه: (أزال مَوتَ شَخصٍ كان مَكتوبًا في اللَّوحِ المَحفوظِ بأنَّه يَموتُ، وهكذا غَيَّرَ قَضاءَه وقدَرَه)
[1502] يُنظر: ((باغ فردوس)) لرضوي البريلوي (ص: 26). .
فما دامَ عَبدُ القادِرِ مَأذونًا مُختارًا، مُتَصَرِّفًا مُحييًا مُميتًا، مُغيثًا مُعطيًا موصِلًا، فلماذا دُعاءُ اللهِ، ولماذا الاستِغاثةُ والاستِعانةُ به والتَّوكُّلُ عليه؟! فكُلُّ ما يُريدُه الإنسانُ يُطلَبُ منَ الشَّيخِ الجيلانيِّ إذًا!
ثمَّ ليس هذا كُلُّه مُختَصًّا بالجيلانيِّ والصَّحابةِ والأنبياءِ وسَيِّدِ الرُّسُلِ، بل إنَّ عامَّةَ الأولياءِ والصَّالحينَ والمُتَصَوِّفةِ ومَشايِخِ الطُّرُقِ يملِكونَ كُلَّ هذه الأشياءِ ويَقدِرونَ عليها، وإنَّ الأرضَ في قَبضَتِهم، وإنَّ السَّماءَ في مِلكِهم! كما نَقَل البَريلَويُّ عن أحَدِهم أنَّه قال: (إنَّ أئِمَّةَ الفُقَهاءِ والصُّوفيَّةَ كُلُّهم يَشفعونَ في مُقَلِّديهم، ويُلاحِظونَ أحَدَهم عِندَ طُلوعِ روحِه وعِندَ سُؤالِ مُنكَرٍ ونَكيرٍ له، وعِندَ الحَشرِ والنَّشرِ والحِسابِ والميزانِ والصِّراطِ، ولا يَغفُلونَ عنهم في مَوقِفٍ منَ المَواقِفِ... وجَميعُ الأئِمَّةِ المُجتَهدينَ يَشفعونَ في أتباعِهم ويُلاحِظونَهم في شَدائِدِهم في الدُّنيا والبَرزَخِ ويَومَ القيامةِ حتَّى يُجاوِزوا الصِّراطَ)
[1503] ((الاستمداد)) (ص: 35- 36). .
والبَريلَويُّ قال: (إنَّ نِظامَ الخَلقِ قائِمٌ بوساطةِ الأولياءِ)
[1504] ((الأمن والعلى)) (ص: 24). .
و(إنَّ الأولياءَ يُحيونَ الأمواتَ ويُبرِئون الأكمَهَ والأبرَصَ، ويطؤون الأرضَ كُلَّها بقدَمٍ واحِدةٍ)
[1505] يُنظر: ((الحكايات الرضوية)) للبركاتي (ص: 44). .
و(لا يَخلو زَمانٌ منَ الغَوثِ، ولا تَقومُ السَّماواتُ والأرضُ إلَّا به)
[1506] يُنظر: ((الحكايات الرضوية)) للبركاتي (ص: 102). .
وقال آخَرُ منهم: (إنَّ أولياءَ اللهِ يَنصُرونَ أولياءَهم ويُدَمِّرونَ أعداءَهم)
[1507] يُنظر: ((رسول الكلام)) لديدار علي (ص: 129). .
و(إنَّ للأولياءِ قُدرةً واختيارًا أن يُرجِعوا السَّهمَ المُطلَقَ منَ الرَّميَّةِ إليها)
[1508] يُنظر: ((جاء الحق)) لأحمد يار (ص: 197). .
و(إنَّ الوهَّابيِّينَ يَقولونَ: إنَّ أولياءَ اللهِ لا يَستَطيعونَ دَفعَ الذُّبابِ عن قُبورِهم، ولكِنَّهم لا يَعلمونَ أنَّ لهم قُدرةً أن يَقلِبوا العالمَ كُلَّه ولكِنَّهم لا يَتَوجَّهونَ إلى ذلك)
[1509] يُنظر: ((جاء الحق)) لأحمد يار (ص: 213). .
و(إنَّ أولياءَ اللهِ لهم تَأثُّرٌ في تَغييرِ القَضاءِ المُعَلَّقِ)
[1510] يُنظر: ((بهار شريعت)) (1/ 6). .
و(إنَّ تَصَرُّفَ الأولياءِ يَزدادُ بَعدَ وفاتِهم)
[1511] يُنظر: ((الفتاوى النعيمية)) (249). . ومِثلُ هذا كَثيرٌ.
فتلك هي مُعتَقَداتُ القَومِ في الأنبياءِ والمُرسَلينَ وفي الأولياءِ والصَّالحينَ كمُعتَقَداتِ النَّصارى واليهودِ في المَسيحِ وعُزَيرٍ والكَليمِ، وكعَقيدةِ المُشرِكينَ والوثَنيِّينَ القُدامى في اللَّاتِ وهُبَلَ والعُزَّى ومَناةَ ويَغوثَ ويَعوقَ ونَسرٍ!
وما دامَ أنَّ أنبياءَ اللهِ ورُسُلَه وأولياءَ اللهِ وصُلَحاءَه يَملكونَ هذه القُدرةَ والاختيارَ فلا بُدَّ إذًا أن يَكونَ لمُؤَسِّسِ هذه الطَّائِفةِ نَصيبٌ منها. فنَسَبَ أنصارُه ومُناصِروه إليه أكثَرَ ممَّا نَسَبَه هو والآخَرونَ إلى المَشايِخِ والصَّالحينَ والأولياءِ، فقالوا فيه إنَّه مالِكٌ ورَزَّاقٌ وسَيِّدٌ مُرشِدٌ، ومالِكٌ وشافِعٌ ومُغيثٌ، وغَيرُ ذلك
[1512] يُنظر: ((مدائح أعلى حضرة)) لرضوي (ص: 4- 5). .
ويُناديه أحَدُ أتباعِه ويَدعوه بقَولِه: (يا سَيِّدي يا رَزَّاقُ أعطِني مِن نوالِك؛ لأنَّ كَلبَك هذا راجٍ لعَطائِك مُنذُ مُدَّةٍ، فانظُرْ إلى عُبَيدِك هذا بنَظرةِ الكَرَمِ؛ لأنه مَهما ارتَكَبَ منَ الأخطاءِ والذُّنوبِ فإنَّه كَلبُك)
[1513] يُنظر: ((مدائح أعلى حضرة)) لرضوي (ص: 4- 5). .
وأيضًا: (إن تَرَكْنا بابَك يا أحمَد رِضا فمن أينَ نَسألُ ونَستَجدي؟ لم يَخِبْ أحَدٌ من بابِك؛ فإنَّك يا أحمَد رِضا تُعطي السَّائِلينَ كُلَّ ما يَطلُبونَه)
[1514] يُنظر: ((مدائح أعلى حضرة)) لرضوي (ص: 4- 5). .
وقيل في قَبرِه: (إنَّ قَبرَه ومَزارَه دارُ الشِّفاءِ للمَرضى، وإنَّه حَلَّالُ المَشاكِلِ ومُسَهِّلُ الأمورِ وقاضي الحاجاتِ)
[1515] يُنظر: ((مدائح أعلى حضرة)) لرضوي (ص: 9) وما بعدها. .
و(إنَّ المَرضى كانوا يَستَشفُونَ من عيسى، ولكِنَّ أحمَد رِضا يُحيي الأمواتَ)
[1516] يُنظر: ((مدائح أعلى حضرة)) لرضوي (ص: 25). .
و(إنَّ أحمَد رِضا هو المُبَصِرُ للقُلوبِ والأعيُنِ، وهو مُعطي الإيمانِ، وهو المُنَجِّي في الكونَينِ)
[1517] يُنظر: ((نغمة الروح)) لعبدالستار البريلوي (ص: 42). .
و(إنَّ أحمَد رِضا هو الرَّزَّاقُ وهو مُجيبُ الدَّعَواتِ، وهو حَلَّالُ المَشاكِلِ، وهو الغَوثُ وقُطبُ الأولياءِ، وهو الذي يَكونُ له الظِّلُّ في الحَشرِ يَومَ لا يَكونُ هناكَ الظِّلُّ، وتَحصُلُ مَعيَّتُه في القَبرِ والحَشرِ والنَّشرِ، وإنَّه هو الرَّزَّاقُ ونَحنُ فُقَراءُ إليه)
[1518] يُنظر: ((نغمة الروح)) لعبدالستار البريلوي (ص: 46). .
فهؤلاء همُ القَومُ وتلك هي مُعتَقَداتُهمُ المُخالِفةُ تَمامًا لتَعاليمِ الإسلامِ التي بَيَّنَها في القُرآنِ، وتَعاليمِ الرَّسولِ الكَريمِ التي ثَبَتَت بالأحاديثِ الصَّحيحةِ الثَّابتةِ عنه صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، بل هي عَينُ تلك العَقائِدِ التي كان مُشرِكو قُرَيشٍ وغَيرُهم يَعتَقِدونَها ويُؤمنونَ بها، ولم يَأتِ نَبيُّ اللهِ تَبارَكَ وتعالى وصَلواتُه وسَلامُه عليه إلَّا للقَضاءِ عليها وإبطالِها.
قال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا مَن قال: ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ لا يُستَغاثُ فيه إلَّا به، فقد قال الحَقَّ، بل لو قال كما قال أبو يَزيدَ: استِغاثةُ المَخلوقِ بالمَخلوقِ كاستِغاثةِ الغَريقِ بالغَريقِ، وكما قال الشَّيخُ أبو عَبدِ اللَّهِ القُرَشيُّ: استِغاثةُ المَخلوقِ بالمَخلوقِ كاستِغاثةِ المَسجونِ بالمَسجونِ؛ لكان قد أحسَنَ)
[1519] ((مجموع الفتاوى)) (1/ 106). .
وقال صِدِّيق حَسَن خان تَحتَ قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [يونس: 49] : (في هذا أعظَمُ واعِظٍ وأبلغُ زاجِرٍ لمَن صارَ دَيدَنُه وهِجِّيراه المُناداةَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والاستِغاثةَ به عِندَ نُزولِ النَّوازِلِ التي لا يَقدِرُ على دَفعِها إلَّا اللهُ سُبحانَه، وكذلك من صارَ يَطلُبُ منَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما لا يَقدِرُ على تَحصيلِه إلَّا اللهُ سُبحانَه، فإنَّ هذا مَقامُ رَبِّ العالمينَ الذي خَلقَ الأنبياءَ والصَّالحينَ وجَميعَ المَخلوقينَ، رَزَقَهم وأحياهم ويُميتُهم، فكَيف يَطلُبُ من نَبيٍّ منَ الأنبياءِ أو مَلَكٍ منَ المَلائِكةِ أو صالحٍ منَ الصَّالحينَ ما هو عاجِزٌ عنه غَيرُ قادِرٍ عليه، ويَترُكُ الطَّلبَ لرَبِّ الأربابِ القادِرِ على كُلِّ شَيءٍ، الخالِقِ الرَّازِقِ المُعطي المانِعِ؟!
وحَسبُك في هذه الآيةِ مَوعِظةً؛ فإنَّ هذا سَيِّدُ ولدِ آدَمَ وخاتَمُ الرُّسُلِ يَأمُرُه اللهُ بأن يَقولَ لعِبادِه: لا أملكُ لنَفسي ضَرًّا ولا نفعًا، فكَيف يَملِكُه لغَيرِه؟ وكَيف يَملِكُه غَيرُه مِمَّن رُتبتُه دونَ رُتبَتِه، ومَنزِلتُه لا تَبلُغُ إلى مَنزِلتِه لنَفسِه، فضلًا عن أن يَملِكَه لغَيرِه؟!
فيا عجبًا لقَومٍ يَعكُفونَ على قُبورِ الأمواتِ الذينَ قد صاروا تَحتَ أطباقِ الثَّرى، ويَطلُبونَ منهم منَ الحَوائِجِ ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، كيف لا يَتَيَقَّظونَ لِما وقَعوا به منَ الشِّركِ ولا يَنتَبهونَ لما حَلَّ بهم منَ المُخالَفةِ لمَعنى «لا إلهَ إلَّا اللهُ»، ومَدلولِ «قُل هو اللهُ أحَدٌ»؟!
وأعجَبُ من هذا اطِّلاعُ أهلِ العِلمِ على ما يَقَعُ من هؤلاء ولا يُنكِرونَ عليهم ولا يَحولونَ بَينَهم وبَينَ الرُّجوعِ إلى الجاهليَّةِ الأولى، بل إلى ما هو أشَدُّ منها؛ فإنَّ أولئِكَ يَعتَرِفونَ بأنَّ اللهَ سُبحانَه هو الخالقُ الرَّازِقُ المُحيي المُميتُ الضَّارُّ النَّافِعُ، وإنَّما يَجعَلونَ أصنامَهم شُفعاءَ لهم عِندَ اللهِ ومُقَرَّبينَ إليه، وهؤلاء يَجعَلونَ لهم قُدرةً على الضَّرِّ والنَّفعِ ويُنادونَهم تارةً على الاستِقلالِ وتارةً مَعَ ذي الجَلالِ، وكَفاك من شَرٍّ سَماعُه! واللهُ ناصِرٌ دينَه ومُظهِرٌ شَريعَتَه من أوضارِ الشِّركِ وأدناسِ الكُفرِ!
ولقد تَوسَّل الشَّيطانُ -أخزاه اللهُ- بهذه الذَّريعةِ إلى ما تَقَرُّ به عَينُه وينثَلِجُ به صَدرُه من كُفرِ كَثيرٍ من هذه الأمَّةِ المُبارَكةِ، وهم يَحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صنعًا، إنَّا للَّهِ وإنَّا إليه راجِعونَ)
[1520] ((فتح البيان)) (4/225). ويُنظر أيضًا: ((فتح القدير)) للشوكاني (2/ 511- 512). .