المبحَثُ الأوَّلُ: مذهَبُ الأشاعِرةِ في مسألةِ العادةِ والأسبابِ
ذهب
الأشاعِرةُ إلى أنَّ أخَصَّ وَصفٍ للإلهِ هو القُدرةُ على الاختراعِ، فأرادوا أن يحافِظوا على أخصِّ وَصفٍ للهِ تعالى، فلم ينسُبوا لغيرِه صفةَ الفاعليَّةِ ولا الإحداثِ؛ لأنَّ كُلَّ ذلك لا يليقُ إلَّا باللهِ سُبحانَه، فبالغوا في ذلك حتَّى أنكَروا الأسبابَ التي خلَقها اللهُ بمشيئتِه وقُدرتِه، وقرَّروا أنَّه لا أثَرَ لشَيءٍ في شَيءٍ أبدًا، وذهبوا إلى أنَّ من أثبت الأسبابَ فقد وقع في الشِّركِ، على خلافٍ بينهم في تكفيرِه أو تضليلِه.
أقوالُ الأشاعِرةِ في تقريرِ مذهبِهم في مسألةِ العادةِ والأسبابِ:1- قال الشَّهرَستانيُّ: (قال
أبو الحسَنِ عليُّ بنُ إسماعيلَ الأشعَريُّ: إذا كان الخالِقُ على الحقيقةِ هو الباريَ تعالى لا يشارِكُه في الخَلقِ غيرُه، فأخصُّ وَصفِه تعالى هو القُدرةُ على الاختراعِ)
[938] ((الملل والنحل)) (1/ 100). .
2- قال
الغزاليُّ: (مذهَبُ الطَّبائعيَّةِ: أنَّ النَّارَ مُحرِقةٌ بطَبعِها، والماءَ مُرْوٍ بطَبعِه، والخُبزَ مُشبِعٌ بطبعِه،... وقِسْ عليه جميعَ الأسبابِ، ومذهَبُ أهلِ الحقِّ
[939] يعني بهم الأشاعرة. أنَّ المؤثِّرَ هو قُدرةُ اللهِ تعالى، وأنَّ الأسبابَ لا أثَرَ لها، واللهُ أعلَمُ)
[940] ((مجموعة رسائل الإمام الغزالي)) (ص: 130) باختصارٍ وتصرُّفٍ يسيرٍ. .
وقال أيضًا: (لزِمَ الخوضُ في هذه المسألةِ لإثباتِ المُعجِزاتِ، ولأمرٍ آخَرَ وهو نُصرةُ ما أطبَق عليه المُسلِمونَ من أنَّ اللهَ قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ... الاقترانُ بَينَ ما يُعتقَدُ في العادةِ سَبَبًا وما يُعتقَدُ مُسَبَّبًا ليس ضروريًّا عِندَنا، بل كلُّ شيئينِ ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثباتُ أحَدِهما متضَمِّنٌ لإثباتِ الآخَرِ، ولا نَفيُه متضَمِّنٌ لنَفيِ الآخَرِ، فليس من ضرورةِ وُجودِ أحَدِهما وجودُ الآخَرِ، ولا من ضَرورةِ عَدَمِ أحَدِهما عدَمُ الآخَرِ، مِثلُ الرَّيِّ والشُّربِ، والشِّبَعِ والأكلِ، والاحتراقِ ولقاءِ النَّارِ، والنُّورِ وطُلوعِ الشَّمسِ، والموتِ وجَزِّ الرَّقَبةِ، والشِّفاءِ وشُربِ الدَّواءِ، وإسهالِ البَطنِ واستِعمالِ المُسَهِّلِ، وهَلُمَّ جَرًّا إلى كُلِّ المُشاهَداتِ من المُقتَرِناتِ في الطِّبِّ والنُّجومِ والصِّناعاتِ والحِرَفِ، وإنَّ اقترانَها لِما سبَقَ من تقديرِ اللهِ سُبحانَه، يخلُقُها على التَّساوُقِ لا لكونِه ضروريًّا في نفسِه غيرَ قابِلٍ للفَرقِ، بل في المقدورِ خَلْقُ الشِّبَعِ دونَ الأكلِ، وخلْقُ الموتِ دونَ جزِّ الرَّقَبةِ، وإدامةُ الحياةِ مع جَزِّ الرَّقَبةِ، وهَلُمَّ جَرًّا إلى جميعِ المُقتَرِناتِ ... فلنُعَيِّنْ مثالًا واحدًا، وهو الاحتراقُ في القُطنِ مثلًا مع ملاقاةِ النَّارِ، فإنَّا نُجوِّزُ وقوعَ الملاقاةِ بينهما دونَ الاحتراقِ، ونُجوِّزُ حُدوثَ انقلابِ القُطنِ رَمادًا مُحترقًا دونَ ملاقاةِ النَّارِ ... فاعِلُ الاحتراقِ بخَلقِ السَّوادِ في القُطنِ، والتفَرُّقِ في أجزائِه، وجَعلِه حُراقًا أو رَمادًا: هو اللهُ، إمَّا بواسطةِ الملائكةِ أو بغيرِ واسِطةٍ، فأمَّا النَّارُ وهي جمادٌ فلا فِعلَ لها)
[941] ((تهافت الفلاسفة)) (ص: 236 - 238). .
3- قال البَغداديُّ: (أجاز
الأشاعِرةُ أن يجمَعَ الإنسانُ بَينَ النَّارِ والقُطنِ فلا تُحرِقَها، على نقضِ العادةِ، كما أجرى العادةَ بألَّا يُخلَقَ الوَلَدُ إلَّا بَعدَ وَطءِ الوالِدَينِ، ولو أراد خلَقَ ذلك)
[942] ((أصول الدين)) (ص: 138) باختصارٍ وتصرُّفٍ يسير. .
4- قال
الرَّازيُّ: (فإن قيل: فما خاصيَّةُ الإلهِ؟ قُلْنا: خاصيَّتُه اقتدارُه على الاختراعِ)
[943] ((الإشارة في علم الكلام)) (ص: 272). .
5- قال الدُّسوقيُّ: (اعلَمْ أنَّ العُقلاءَ على أربعةِ أقسامٍ:
فمنهم مَن اعتقَد أنَّ الأسبابَ العاديَّةَ تؤثِّرُ في مُسبِّباتِها بطَبعِها وذاتِها، والتَّلازُمَ بينهما عَقليٌّ، وهذا كافِرٌ إجماعًا.
ومنهم من اعتقَد أنَّ الأسبابَ العاديَّةَ تُؤثِّرُ في مُسبِّباتِها بقُوَّةٍ أودعها اللهُ فيها، والتَّلازُمَ بينهما عادِيٌّ، وهذا في كُفرِه قولانِ، والصَّحيحُ عَدَمُ كُفرِه، ومِن هذا يُعلَمُ أنَّ الصَّحيحَ عَدَمُ كُفرِ
المُعتَزِلةِ؛ لأنَّهم يقولونَ: إنَّ العبدَ يخلُقُ أفعالَ نَفسِه الاختياريَّةَ بقُوَّةٍ أودعها اللهُ فيه، وهي القُدرةُ الحادِثةُ التي خلَقها فيه.
ومنهم من يعتَقِدُ أنَّ المُؤثِّرَ في المُسَبَّباتِ العاديَّةِ، كالإحراقِ والرِّيِّ والشِّبَعِ هو اللهُ وَحدَه، إلَّا أنَّه يعتَقِدُ أنَّ المُلازمةَ بَينَ الأسبابِ والمُسَبَّباتِ عَقليَّةٌ لا يمكِنُ تخلُّفُها، فمتى وُجِدت النَّارُ وُجِد الإحراقُ، ومتى وُجِد الأكلُ وُجِد الشِّبَعُ، وهذا غيرُ كافرٍ إجماعًا، إلَّا أنَّ هذا الاعتقادَ جَهلٌ، ورُبَّما جرَّه ذلك الجَهلُ إلى الكُفرِ؛ لأنَّه يلزَمُه إنكارُ ما خالف العادةَ، فرُبَّما أنكر البَعثَ وإحياءَ الموتى، فيَكفُرُ، وذلك لأنَّ العادةَ أنَّ الميِّتَ إذا مات يوضَعُ في القَبرِ ولا يحيا بَعدَ ذلك، فربَّما اعتَقَد أنَّه لا يمكِنُ تخلُّفُ ذلك، فيُنكِرُ البَعثَ وإحياءَ الموتى، فيَكفُرُ.
ومنهم مَن يعتَقِدُ أنَّ المُؤثِّرَ في المُسَبَّباتِ العاديَّةِ هو اللهُ وَحدَه، وأنَّ المُلازمةَ والمقارَنةَ بَينَ الأسبابِ والمُسَبَّباتِ عاديٌّ يمكِنُ تخلُّفُه بأن يُوجَدَ السَّبَبُ دونَ المُسَبَّبِ، وهذا الاعتقادُ هو المُنجي عِندَ اللهِ، وهو اعتقادُ أهلِ السُّنَّةِ)
[944] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 40). .
6- قال السُّنوسيُّ: (قال ابنُ دهاقٍ في شَرحِ الإرشادِ حينَ تعرَّض لأصنافِ الشِّركِ:... الثَّاني: ما أُضيفَ من أفعالِ بَعضٍ إلى بعضٍ، من أنَّ النارَ تُحرِقُ، والطَّعامَ يُشبِعُ، والثَّوبَ يَستُرُ، إلى غيرِ ذلك من رَبطِ المعتاداتِ حتَّى ظنُّوها واجبةً، وتلك ضلالةٌ تَبِع الفيلسوفيَّ فيها كثيرٌ من عامَّةِ المُسلِمينَ. قُلتُ: بل وكثيرٌ من المُتفقِّهينَ المُشتغِلينَ بما لا يَعنيهم من العُلومِ، وعن مَراشِدِهم عَمِينَ، قال: وهم فيها على اعتقاداتٍ؛ فمن قال: بطَبعِها تفعَلُ، فلا خِلافَ في كُفرِه، ومن قال: بقُوَّةٍ جعَلَها اللهُ فيها، كان مُبتدِعًا، وقد اختلف النَّاسُ في كُفرِه. قُلتُ: وهذا القِسمُ هو اعتقادُ أكثَرِ عامَّةِ المُتفَقِّهةِ في زمانِنا، ومَن في معناهم من جَهَلةِ المُقَلِّدينَ قال: ومن قال: إنَّ الأكلَ دليلٌ عقليٌّ على الشِّبَعِ دونَ أن يكونَ مُعتادًا، كان جاهِلًا بمعنى الدَّلالةِ العقليَّةِ، ومن عَلِم أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ربَط بعضَ أفعالِه ببعضٍ، وكُلَّما فَعَل هذا فَعَل هذا باختيارِه، وإذا شاء خَرْقَ هذه العادةِ فَعَل، فهذا هو المؤمِنُ الذي سَلِم من هذه الآفةِ بفَضلِه سُبحانَه وتعالى)
[945] ((حواش على شرح الكبرى للسنوسي)) (ص: 183). .
7- قال الباجوريُّ: (من اعتَقد أنَّ الأسبابَ العاديَّةَ -كالنَّارِ والسِّكينِ، والأكلِ والشُّربِ- تُؤثِّرُ في مُسَبَّباتِها -كالحَرقِ والقَطعِ، والشِّبَعِ والرِّيِّ- بطَبعِها وذاتِها، فهو كافِرٌ بالإجماعِ، أو بقُوَّةٍ خَلقَها اللهُ فيها، ففي كُفرِه قولانِ، والأصَحُّ أنَّه ليس بكافرٍ، بل فاسِقٌ مُبتَدِعٌ)
[946] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 167). .
وقد كَثُرت رُدودُ العُلماءِ على
الأشاعِرةِ في نفيِهم تأثيرَ الأسبابِ مُطلقًا، وإنكارِهم أن يكونَ اللهُ جَعَل الأسبابَ تُؤثِّرُ في مُسَبَّباتِها بإذنِه.