الفَصلُ الأوَّلُ: بيانُ مُخالفةِ المذهَبِ الأشعريِّ لمذهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ
تبيَّن مِن عَرضِ المذهَبِ الأشعَريِّ بالتَّفصيلِ من خلالِ أقوالِهم مِن كُتُبِهم، وردودِ أهلِ العِلمِ عليها: أنَّ المذهبَ الأشعَريَّ مذهَبٌ مُحدَثٌ، وأنَّ
أبا الحسَنِ الأشعريَّ الذي أحدَثه وانتسَب إليه
الأشاعِرةُ كان مُعتَزِليًّا ثمَّ رجع عن الاعتزالِ، وسلَك سبيلَ عبدِ اللهِ بنِ سَعيدِ بنِ كُلَّابٍ، وكِلاهما كان مُتأثِّرًا بعِلمِ الكلامِ، وكانا ينتَسِبانِ إلى السُّنَّةِ، ولهما ردودٌ كثيرةٌ على
المُعتَزِلةِ، وتبيَّن بالأدِلَّةِ الواضِحةِ تأثُّرُ المذهَبِ الأشعريِّ بالجهميَّةِ و
المُعتَزِلةِ، وأنَّه حصَل له تطوُّرٌ كبيرٌ بواسطةِ بعضِ أعلامِه الذين تأثَّروا بعلمِ الكلامِ والفلسفةِ وغيرِها، وأنَّه يوجَدُ خِلافاتٌ كثيرةٌ بَينَ عُلَماءِ
الأشاعِرةِ لا سيَّما المُتقَدِّمين منهم والمُتأخِّرين، وأنَّ كثيرًا من أعلامِ المذهَبِ الأشعريِّ رجَع عن عقيدةِ
الأشاعِرةِ إلى مذهَبِ السَّلفِ، وأنَّ كثيرًا من
الأشاعِرةِ لم يفهَموا مذهَبَ السَّلَفِ في مسائِلِ الصِّفاتِ، وظنُّوا أنَّ مذهَبَ السَّلفِ هو التَّفويضُ لمعاني الصِّفاتِ.
ومن أعظَمِ المسائِلِ التي خالف فيها مُعظَمُ
الأشاعِرةِ مذهَبَ السَّلفِ الصَّالحِ إنكارُهم عُلُوَّ اللهِ على خَلقِه، وصِفةَ الاستواءِ على عَرشِه كما يليقُ بجلالِه، وابتدعوا القولَ بأنَّه سُبحانَه لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، ولا فوقَ ولا تحتَ، قال
الذَّهبيُّ: (فأمَّا القولُ الثَّالثُ المتوَلِّدُ أخيرًا من أنَّه تعالى ليس في الأمكنةِ ولا خارِجًا عنها، ولا فوقَ عَرشِه، ولا هو متَّصِلٌ بالخَلقِ ولا بمنفصِلٍ عنهم، ولا ذاتُه المُقدَّسةُ متحيِّزةٌ، ولا بائنةٌ عن مخلوقاتِه، ولا في الجهاتِ ولا خارجًا عن الجهاتِ، فهذا شيءٌ لا يُعقَلُ ولا يُفهَمُ، مع ما فيه من مخالفةِ الآياتِ والأخبارِ، ففِرَّ بدينِك، وإيَّاك وآراءَ المتكلِّمينَ، وآمِنْ باللهِ وما جاء عن اللهِ على مرادِ اللهِ، وفوِّضْ أمرَك إلى اللهِ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ)
[978] ((العلو للعلي الغفار)) (ص: 596) باختصارٍ وتصرُّفٍ يسير. .
وإنَّ بعضَ النَّاسِ يظُنُّ أنَّ
الأشاعِرةَ إنَّما يخالِفونَ السَّلفَ الصَّالحَ في تأويلِ الصِّفاتِ فقط، وليس الأمرُ كذلك، ولو كان خلافُهم مع أهلِ السُّنَّةِ في هذه المسألةِ فقط لكان الأمرُ أهوَنَ؛ فإنَّ من عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ مَن قد يرى تأويلَ بعضِ نُصوصِ الصِّفاتِ التي ليست دلالتُها واضحةً على إثبات الصِّفةِ، كما تقدَّم، وإنَّما شنَّع العُلَماءُ على
الأشاعِرةِ بسبَبِ دُخولهم في عِلمِ الكلامِ، وتأثُّرِهم بالفلاسفةِ، وتوسُّعِهم في تأويلِ الصِّفاتِ مِثلَ تأويلاتِ
المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ، حتَّى أنكر بعضُهم صِفةَ العُلُوِّ لله سُبحانَه التي أجمَع عليها أهلُ الإسلامِ ما عدا المُتكَلِّمينَ والمُتأثِّرين بهم، ولم يُثبِتِ
الأشاعِرةُ إلَّا سَبعَ صِفاتٍ للهِ سُبحانَه لدلالةِ العَقلِ عليها، وهي الحياةُ والإرادةُ والقُدرةُ والعِلمُ والسَّمعُ والبَصَرُ والكلامُ، ثمَّ قالوا في كلامِ اللهِ: إنَّه كلامٌ نفسيٌّ لا يُسمَعُ، وقال بعضُهم ك
الرَّازيِّ: إنَّ رُؤيةَ اللهِ تكونُ بالانكشافِ في القَلبِ، فقارَبوا
المُعتَزِلةَ في إنكارِ الرُّؤيةِ بالعَينِ، وقالوا بأنَّ أخبارَ الآحادِ وإن كانت صحيحةً لا يُعتمَدُ عليها في إثباتِ مَسائِلِ العقيدةِ، وتابَعوا
المُرجِئةَ في القولِ بأنَّ الإيمانَ مجرَّدُ التَّصديقِ، وأنَّ الأعمالَ ليست من الإيمانِ، ووافَقوا الجَبريَّةَ في نَفيِ قُدرةِ العبدِ، ولم يُفرِّقوا بَينَ الإرادةِ الكونيَّةِ والإرادةِ الشَّرعيَّةِ، ولا يُثبِتونَ لأفعالِ اللهِ سُبحانَه حِكمةً، ثمَّ صار المذهَبُ الأشعريُّ عِندَ المُتأخِّرينَ مُمتزِجًا بالتصَوُّفِ، فتوسَّعوا جِدًّا في إثباتِ كراماتِ الأولياءِ، وتهاوَنوا كثيرًا في توحيدِ الأُلوهيَّةِ، حتَّى وقَع بعضُهم في تسويغِ الاستغاثةِ بغيرِ اللهِ سُبحانَه، وتبريرِ وسائِلِ الشِّركِ، ك
التوسُّلِ بأصحابِ القُبورِ!
قال
ابنُ تيميَّةَ: (
الأشعريَّةُ الأغلَبُ عليهم أنَّهم مُرجِئةٌ في بابِ الأسماءِ والأحكامِ، جبريَّةٌ في بابِ القَدَرِ، وأمَّا في الصِّفاتِ فليسوا جَهميَّةً محْضةً، بل فيهم نوعٌ من التجَهُّمِ، وهم في الجُملةِ أقرَبُ المتكَلِّمينَ إلى مذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ)
[979] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 55) باختصار. .